الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الحلقة (16) من وحى الحالة الثالثة الحق فى الانسحاب (الرجوع) :

الحلقة (16) من وحى الحالة الثالثة الحق فى الانسحاب (الرجوع) :

 نشرة الإنسان والتطور

بقلم : يحيى الرخاوى

 2001-1980

نشرة يومية من مقالات وآراء ومواقف

 تعتبر امتداداً محدوداً لمجلة الإنسان والتطور

28-7-2009

السنة الثانية

العدد:  697

 image002

الحلقة (16)  من وحى الحالة الثالثة

الحق فى الانسحاب (الرجوع) :

 الحنين إلى “ركنك الخاص” (1 من 2)

 

‏الركن‏ ‏بتاعِى ‏مـتـحـضّـر!!!!‏،‏

هذا ‏ْْْهو أول بيت فى هذه القصيدة، (هذه الحالة)

دع ما سوف يلى بعد ذلك الآن من مظاهر وتجليات وسلبيات الانسحاب من أى علاقة،image004

 ولو حتى العلاقة العلاجية، والذى يبدأ بـ :

 “حارجعله واسيبْكم، ساعتنْ أحسّبْكم“،

 دع ذلك جانبا الآن،  ودعنا نتساءل:

هل هناك أى منا ليس عنده هذا الحنين إلى العودة إلى هذا الركن الغائر فى

 تركيبه البشرى العادى؟؟ وهو هو الذى يسقطه أحيانا إلى خارجه فى صورة

 السعى إلى اللجوء

 إلى موقع سرى خاص،

 إلى دفء غامض خاص،

إلى سكون واعد خاص،

إلى وحدة مختارة خاصة،

إلى صمت مُفْعمٍ خاص،

 (خطر ببالى خاطر لست متأكدا من وجاهته يقول:إن بعض المنقبات، خاصة اللائى يصلين أحيانا، يمارسون التنقب كنوع من اللجوء إلى ركنهم الخاص، “واللى عاجبه!!” ما رأيك؟ لست متأكدا !)

هذه الخواطر كانت بداية هذه الحلقة التى سوف تقلب هذا العمل كله (كما تلاحظ فى تغيير العنوان) من “شرح على المتن“، إلى استلهام من المتن، بعنوان “من وحى..المتن” (كما تلاحظ أيضا من تغيير العنوان)

بصراحة، دعانى هذا التغيير المهم إلى إعادة النظر فى عنوان الجزء الأول من هذا الكتاب “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، والذى صدر منذ ثلاثين عاما، يا ترى : هل كان هو حقا شرحا على المتن، أم أنه كان استلهاما من المتن، غالبا كان استلهاما أكثر منه شرحا، (وقد أغير العنوان فى الطبعة التالية) ، وإن كان المتن (ديوان سر اللعبة) قد أدى وظيفة أخرى، وهى إلزام الكاتب بحدود معينة منعت تداعياته واستطراداته التى لا تتوقف،

 الأمر يختلف فى حالتنا هنا نوعا ما، حيث المتن يتصل بعرض شعر بالعامية أثارته خبرة من واقع معايشة شخص ما، مريضا كان أم سويا، وبالتالى يصبح الشرح تشريح قبيح لتشكيل شعرى هو صورة لا يجوز تشريحها (لعل هذا بعض ما حدث فى الحلقات السابقة، وسوف أراجعها قبل النشر الورقى غالبا)

 بعد هذه الإفاقة التى أرجو ألا تكون قد تأخرت كثيرا، أرى أن الأمر لا بد أن  يختلف:

وقد اختلف فعلاً كما يلى بدءا بـ :

تغيير  العنوان، من “شرح على المتن” إلى “من وحى المتن”

 ثم أن النص المستلهم يسبق المتن،

 وقد يخالفه،

وقد يشرح عكس ما يرد فى التشكيل الشعرى تحديدا ، (مثل ما هو الحال فى هذه الحلقة بالذات)

ثم أن الاستطراد مسموح ، بل مطلوب

مثلا : يحكى المتن هنا عن سلبية الانجذاب إلى الركن الخاص بدرجة لحوح، ومعادة، ومتعلقة بتجنب واضح وحاسم للوعى بأى علاقة بالآخر، خوفا، وعزلة، أو حتى مرضا، ثم إنه يرسم التشكيل الشعرى بما ينبه إلى احتمال استخدام ما يسمى العلاج النفسى لتأكيد هذه الآلية الانسحابية المتكررة فى مواجهة تكوين علاقة إنسانية حقيقية، بما فى ذلك العلاقة العلاجية

استلهمتُ من كل هذا عكسه: بمعنى أن هذا المتن نبهنى إلى ما قدمته حالا، من أن:

 من حق أى منا أن يحترم نزوعه أحيانا إلى العودة إلى ركنه الخاص، بعض الوقت.

هل هى مسألة شخصية أم نموذج محتمل لظاهرة بشرية أساسية؟

استدرجتنى هذه الحلقة إلى النظر فى هذه الظاهرة التى قد تبدو أساسية فى التركيب البشرى، هذه الظاهرة أنا عايشتها، وأعايشها شخصيا بشكل لحوح، وأذكر أننى تناولتها فى كثير من أعمالى، خاصة الشعرية، و عبر ما تيسر من حكى عن السيرة الذاتية، (عبر أدب الرحلات أساسا فى ترحالاتى الثلاثة)، ولم أكن أتصور أنها جوهرية إلى هذه الدرجة، لا فى وجودى، ولا بصفة عامة:

ذلك أننى كنت، وما زلت، أشعر بحنين ملح طول الوقت تقريبا إلى العودة (وليس بالضرورة إلى الانسحاب) إلى ركنٍ ما:

 مكان صغير بعيد فى حضن الطبيعة،

أعلى الجبل ،

على شاطئ خال،

فى عشة منفردة بين الحقول،

فى حجرة مستقلة (بها حمام خاص جدا) فى بيتى (ما أمكن ذلك)،

………….

هذا بالنسبة لحنينى إلى ركن الخارج، أما ركن الداخل فدعه جانبا الآن.

هل ما بالداخل هو ركن واحد غائر بعيد يمكن أن تنتهى إليه كل الأركان؟

 أم أنه أركان متعددة، متتالية أو متكاملة، مثل الاستراحات على الطريق السريع؟

حين أشعر بهذا الحنين لا يحضرنى بالاسم الذى أطلقتـُه عليه حالا “الحق فى الانسحاب”،

هو ليس انسحابا

 ليس ابتعادا،

ليس دفعا للآخر احتماء منه

 هو شىء أشبه:

 بالاستئذان الحاسم،

مع وعد ضمنى بعودة محتملة

(أشعر أنه لو كانت الطمأنينة مطلقة أن العودة مضمونة 100% إذن لانتقص ذلك من حق الرجوع إلى الركن)

فعلا كلمة الرجوع أفضل كثيرا،

رجوع مؤقت، مع تلويح وأمل فى عودة أكثر صدقا وجاهزية.

الأرجح أنها ظاهرة طبيعية، مزروعة فى تركيبنا الحيوى منذ نشأ ما يسمى الإيقاع الحيوى، ليس مهما الآن أن نعرف أن الإيقاع الحيوى عامة، والإيقاع الحيوى البشرى، قد نشأ ليتناغم مع  طبيعة هى فى جوهرها مبنية على إيقاعية الكون الحيوية، أم أنه طبيعة بيولوجية بدئية فى التركيب الحيوى الأساسى، ثم راحت تتناغم مع الإيقاع الحيوى المحيط فى الطبيعة والكون، هذه قضية لم تحسم، لكن نتيجتها واحدة، وهى أننا نعيش فى إيقاع، وبإيقاع حيوى مستمر.

هذا الانسحاب :

إلى الداخل،

إلى الكهف،

إلى الغار،

 إلى النوم،

 إلى البيات الشتوى،..إلخ

 هو الضلع الضرورى الراجع  لاستمرارية حركية الإيقاع الحيوى، وبالذات فى نبضه مع برنامج “الذهاب والعودة”: In-and-Out Program

حين انتبهت إلى هذه الحقيقة تذكرت ما ورد بشأن حالتى الخاصة فى عمل واحد هو الجزء الثانى من الترحالات ” الموت والحنين”،

ثم إنى راجعت فى ذاكرتى، دون أن أرجع إلى أوراقى وكتبتى، إلى بعض مثل ذلك مما ذكره جوستون باشلار، وخاصة فى كتابه “شاعرية المكان”.

يبدو أن الحق فى الانسحاب إلى

 ركن ما

 قبو ما،

 كهف ما،

 هو حق أساسى،

وهو إذا مورس بسلاسة مثل كل الحقوق، فإنه يعفينا من أحد سبيلين:

الأول : الاضطرار إلى انسحاب جبان ومتكرر تعميقا وتثبيتا للموقف الشيزيدى Schizoid Position حيث “لا موضوع”، (وهو الذى جاء فى المتن الشعرى، والذى سوف نعود إليه لاحق)

 والثانى : الاضطرار إلى الاستمرار اضطرادا بالقصور الذاتى، مع التنبيه (تنبيه الواحد لنفسه، أو عدم سماح الآخرين له): بعدم الحنين إلى، أو طلب الحق فى، أو الاعتراف بـ :

 حق للرجوع، ولو المؤقت (أحسن عيب كذا)،

والنتيجة: هى ذلك الوجود المسطح، والعلاقات الزائفة، أو المغتربة، أو المرض. (وهو الرجوع هربا جبنا لا اختيارا: المتن)

تجليات هذا الموقف الشيزيدى بهذه الصورة فى العلاج النفسى بشكل سلبى فى العلاج النفسى، هو نص جاء بالمتن الشعرى الذى لن نناقشه إلا لاحقا، ربما نعود إليه فى الأسبوع القادم.

لا بد أن أعترف فى هذه الحلقة أننى حين عدت إلى جوستان  باشلار شاعرا وناقدا أساسا قبل أن يكون فيلسوفا، سمعته بأذنى يوبخنى توبيخا قاسيا، ومباشرا، على حكاية “شرح على المتن” هذه، لم يكن غاضبا مثل غضب المرحوم إبراهيم عبد الحليم منى حين نظر فى الشرح المبدئى لديوان أغوار النفس، ولا مستبعدا هذا الاحتمال دهشةً مثلما نبهنى  المرحوم  صلاح عبد الصبور بعد مناقشته ديوان سر اللعبة فى البرنانج الثانى، باشلار نهرنى  معقبا ناقدا  ، وقبل أن أقتطف بعض باشلار أوجز نقاط هذا التقديم كما يلى: 

الخلاصة:

  • الحنين إلى الرجوع إلى الركن الخاص فيه شىء من النكوص المشروع.
  • الرغبة فى النكوص وممارسته دوريا هما من ضمن آليات الإيقاع الحيوى
  • النوم هو من أعظم آليات النكوص المشروع،
  • فى المدرسة التحليلية الإنجليزية (ميلانى كلاين- فيربرن- جانتريب)، اعتراف بالأنا ‏ ‏الناكص‏ ‏دائم‏ ‏الجذب‏ ‏إلى ‏وراء‏،
  • نداء الرحم هو وارد فى آليات النمو والعلاقات التى كررنا الإشارة إليها تحت اسم برنامج الدخول والخروج،‏‏In and out program ‏،
  • من أهم “وظائف الذات Ego Functions ” وظيفة أسماها “بللاك Bellack ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ “النكوص‏ ‏فى ‏خدمة‏ ‏الأنا‏ ‏أو‏ ‏النكوص‏ ‏للتكيف‏ ‏الأعلى” Adaptive Regression in the Service of the Ego‏ ، (ARISE)
  • ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الاتجاهات‏ ‏تفسر ذلك النزوع الطبيعى للاحتماء بمرفآ خاص، من أول كوخ صغير أعلى جبل منعزل، إلى إغفاءة محدودة تحت غطاء دافئ حالك. 
  • ‏بمعنى أن‏ ‏يكون‏ ‏لكل‏ ‏فرد‏ “‏مرفأ‏” ‏خاص‏ (‏نفسى ‏أساسا‏) ‏يركن‏ ‏إليه‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏ ‏ليعاود‏ ‏منه‏ ‏الرحلة‏ ‏من‏ ‏جديد‏.‏

بعض خبرتى  الشخصية كما سجلتها بالصدفة سوف تكون موضوع حلقة الغد:

 “تجليات الحنين إلى الركن الخاص فى الجزء الثالث من ترحالات الكاتب، باسم : الموت والحنين

لكن، هنا يقفز إلىّ حرج ما

أليس فى ذلك نوع من “النقد” لعمل إبداعى، ولو كان سيرة ذاتية للكاتب، مع أنه لا يجوز أن ينقد كاتب نفسه؟

يجوز!!

 لكن هذا هو ما كان، لحين يتفضل النقاد بالنظر إن كان الأمر يستأهل. 

أمركم لله

وأمرى لكم، بعد الله.

الملحق:

مقتطفات من باشلار

…. بالنسبة للتأكيد على  النهى  عن هذا “الذى يسمى “شرح على المتن” بالنسبة للشعر: (وقد وضعت نقطا بدل المحذوف، ثم وضعت إضافاتى بين قوسين، فيكون المقتطف هو ما وصلنى، وليس بالضرورة حرفية ما قال باشلار):

“…. الصورة الشعرية قادرة دائما على إنتاج ذاتها بشكل مستمر. هذه الصورة التي بدأت ترتهن بالمتلقي لن تشيخ، لأن الوعي الذاتي والفردي يمكنها دائما من سبل التجديد والحياة”

……….. أما الفكر المفهومي، فهو لا يمكن من تناول الصورة في حركيتها،

………….. كما أن “تناول الصورة في “فضيلة أصالتها” يفرض بأن يتخيل (المتلقى) بدوره، وأن يعيش من جديد مرحلة الإبداع، حيث يؤول الأشكال التي يفرضها الشاعر، بشكل يبقى معه وفيا ليس فقط للصورة، ولكن كذلك إلى ما سماه، مينكوفسكي بـ “رنينها

 إن لعبة المماهاة بالصورة تعطي إمكانية أن تعيش الذات التأمل الشارد من جديد وبالتالي النظر إلى هذه الصورة في كليتها دون اختزالها إلى تجليات أخرى، أى الوقوف عندها في ذاتها ولذاتها.

..(التأكيد) على مسألة حضور الوعي ….. : يجب أن يعايش القارئ من جديد الحدث الإبداعي. (الذى).. يمكنه (من) إحياء وعيه الشعري

….كما أن … الهدف ……… هو جعل عملية الوعي حاضرة، في وقت متوتر إلى أبعد حدود التوتر“.

….. المطلوب ليس هو فهم الصورة، ولكن الأساسي هو معايشة هذه الصورة من جديد، إدراكها في ذاتها دون تحويلها إلى لغة أخرى

….. حتى لا تتم خيانة هذه الصورة، (فإنه ينبغى التركيز)  على صدى ورنين retentissement هذه الصورة التي تعاش من جديد، وترفض أن يعطى لها معنى واحدا.

….. كما أن هذه الصورة غير قابلة للاختزال L’irréductibilité de l’image وهي إحدى المسلمات الأساسية لمنهجية غاستون باشلار.

لقد كانت أولانية الصورة، حداثتها، حركيتها ثم تعددها بالنسبة للوعي الفردي…، (هى التى جعلت باشلار يدعو)  إلى التموضع عند منطلق الصورة، والنظر إليها كبدء مطلق، ومعايشة كينونة الصورة في مباشريتها، حيث تحدث رنينا وصدى في وعي مستقبلها. … من أجل النظر إلى الصورة في انفصال عن كل حتمية تحاول اختزال الصورة إلى كيان مفهومي،

…………. (وبالتالى يمكن للمتلقى:)  “أن يحصل بالإضافة إلى لذة الجمال على ربح للوعي، والذي من الصعب تعريفه، إلا أنه مهم. لأنه في هذا الربح تكمن قيمة … الصورة والتي تظهر كفلسفة، وليس فقط “كمدرسة للسذاجة.

وبعد

هل كان يمكن بعد قراءة هذا الكلام الذى كان يعتمل فى داخلى طول الوقت، أن أكمل فيما أسميته “شرح على المتن”؟؟؟

هذا، وسوف نقتطف بعض باشلار أيضا وهو يسمح لنا بمشروعية الحنين إلى الركن دون مرض ، بعد عرض الخبرة الشخصية للكاتب غدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *