أخبار الأدب
نشرت بتاريخ: 24 فبراير 2013
نبض الناس
الحرية والإبداع والجنون (1)
المخرجة (الفرنسية): ماذا عن الحرية، وما هو موقفك منها؟ نجيب محفوظ: موقفي؟!!!!! الحرية هي المفتاح الذي نهتدي به إلي الإنسانية الحقيقية، هي الأساس في التفكير لمعرفة أي جديد أو أي حسن، لا يمكن أن يحصل أي تقدم في العلم أو الفن أو العلاقات من غير حرية، هي جوهر الإنسان، الإنسان مخلوق ليحقق حريته
المخرجة : هل هناك وضع خاص للكاتب بالنسبة للحرية ؟
نحيب محفوظ : بالنسبة للكاتب، ! هي حياته
المخرجة : إلي أي مدي يمكن أن يصل دفاعك عن الحرية ؟
نحيب محفوظ: مدي ؟!! (ضحك) إلي المدي الذي يجعل ما حدث يحدث (وأشار إلي رقبته)..
هذا المقطع هو من الحديث الذي أجرته المخرجة الفرنسية مع نجيب محفوظ في بيت توفيق صالح ، أثناء تسجيلها لجلسة من لقاءات الحرافيش
من هذا المنطلق، ومع تحذيري المستمر للشباب خاصة ألا يخدعوا كثيرا في الشعارات، وأن يدققوا في مضمونات المطالب، توقفت عند كلمة احريةب التي وردت في شعارات/مطالب مشروع الثورة، وباعتبار أن الثورة إبداع جماعي، وأن الفوضي جنون جماعي، قلت أسارع من خلال هذه النافذة الجديدة الكريمة بقول ما عندي لعله يسهم في قلب الجنون المهدِّد إلي إبداع خلاق والله المستعان.
الطارئ الإشكالي الذي لحق بالإنسان الإنسان: هو أنه أصبح واعيا بذاته بشكل سمح له بأن يميز بين ما هو “ذات”، وما هو ليس كذلك، فراح يمارس حياته فارقا بين ما هوبأناب وما هو ليس “أنا”، هذه النقلة الرائعة هي في نفس الوقت محنة حقيقية، ذلك أنها قد هيأت لهذا الكائن الجديد مساحة غير مسبوقة من الحركة المتنوعة التي عرفت في ظاهر السلوك باسم “الحرية”. من فرط فرحته بها، وأيضا من فرط عماه عن حدودها وخداعها، راح يتغني بما تصور أنها تعنيه حتي قدّسها، وإذ تقدست أصبحت صنـما في ذاتها لذاتها، فحرمَ نفسه من معايشة زخم حركيــتها، وتنويعات جدلها.
هذا الوهم الجميل المسمي “الحرية”، أوقع الإنسان في عدد من المضاعفات، بقدر ما أعطاه قدراًً متزايداً من الفرص للتطور المسئول، الخطِـر في آن. بالَغَ إنسان العصر الحديث بوجه خاص في تقييم معني وقدرات هذه النقلة النوعية حين أصبح هو الكائن الحي الواعي الذي ايستطيع»!، أو الذي ايتصور أنه يستطيعب!!. أليس هو الكائن الوحيد – في حدود ما نعرف- الذي أصبح قادرا أن يقرر لنفسه بنفسه مسارا وتوجـُّها واختيارا، بحيث أصبح عاملا فاعلا في تحديد كثير من تفاصيل سلوكه، بما يمتد إلي مصير نوعه؟
تجلي الانخداع بهذه النقلة النوعية (اكتساب الوعي بالذات، في مواجهة ما ليس ذاتا، وقدرة المشاركة في تقرير المصير/الحرية) في مجالات عدةّ وبآليات متطورة قادرة، إلا أن تلك الآليات، علي حداثتها، قد تمادت في غرورها حتي كادت تنحرف بمسار التطور إلي الهلاك. أهم تلك الآليات هو ما سمي »العقل« (وهو ليس إلا جزءاً حديثاً من تاريخنا الرائع) حيث راح العقل البشري الأحدث يختزل التاريخ الحيوي بكل زخم عطائه وفخر نجاحاته عبر تاريخ التطور الطويل إلي ما يدخل في حدود فهمه ومقاييسه، بما في ذلك اختزال الإيمان إلي منظومات مغلقة، قد تختزل الدين إلي ما هو شريعة ثابتة، وأيضا كاد يختزل زخم الحرية وهيراركية الوعي وتفريعاته إلي ما يسمي »الديمقراطية«. وهكذا أصبحت المعارف حكرا علي ما يقره هذا العقل، كما أصبح تفسير الأديان بنشاط عقول فئة بذاتها من البشر الأوصياء، بديلا مستبعدا غالبا لحركية الإيمان إبداعا إلي وجه الله.