الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى العلاج الجمعى (5) من منظور ثقافة مصرية عربية البحث العلمى فى العلاج الجمعى

الأساس فى العلاج الجمعى (5) من منظور ثقافة مصرية عربية البحث العلمى فى العلاج الجمعى

نشرة “الإنسان والتطور”

الاثنين: 25-2-20134-2-2013_1

السنة السادسة

 العدد: 2005       

كتاب:

الأساس فى العلاج الجمعى (5)

من منظور ثقافة مصرية عربية

البحث العلمى فى العلاج الجمعى

مقدمة:

ترددت وأنا أوصل هذه البداية بمراجعة الكتيب: “مقدمة فى العلاج الجمعى” وخشيت من جديد أن يكون قد سقط بالتقادم، خاصة وقد جمعتُ الأبحاث اللاحقة التى أسهمت فيها فى مجال العلاج الجمعى بما فيها أطروحات الدكتوراة التى أشرفت عليها، فبلغت مئات الصفحات فضلا عن ما كتبته من جلسات فى العشر سنوات الأخيرة، وقد بلغ آلاف الصفحات.

ما العمل؟

هل أتوقف وانتقل إلى الأحدث فالأحدث، أم أواصل بالترتيب الذى لاح لى فى البداية (نشرة الاثنين: 4-2-2013 الجزء الأول (فى البحث العلمى والعلاج الجمعى).

لا أحد يجيب!!

ربنا يجيبنى عادة، ويهدينى للأنفع والأبقى.

شكراً.

رابعا: مادة البحث

مادة هذا البحث – وربما كل بحث يجرى فى مجال العلاج النفسى – مكونة من ثلاثة عناصر اساسية:

1- المرضى والمترددون.

2- المعالج (والمعالجين المساعدين إن وجدوا)

3- الباحث نفسه

ولنتحدث عن كل جانب من مادة هذا البحث على حسده:

أولا: المرضى والمترددون:

بادئ ذى بدء، لابد لنا من وقفة عند تعبير “المرضى”، ففى الوقت الذى أجرى فيه البحث على هذه المجموعة كان عمرها قد بلغ ما يزيد عن عام ونصف لأغلب أفراداها، وكانت معظم الأعراض (أو جميعها) عند أغلبهم قد زال … بحيث ينبغى مراجعة تسميتهم “مرضى”، وقد اشار الباحث إلى أن التشخيصات كانت قد تغيرت فعلا من خلال العملية العلاجية، وأكاد أسمع رداً جاهزاً يقول أنهم ما داموا لا يزالون يترددون على العلاج فهم مرضى، ولن أتطرق هنا إلى مناقشة هذا الادعاء، ولكنى أحيل القارئ إلى نظريتى عن “مستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردى” (وإن كانت تمثل مرحلة سابقة من فكرى مفهوم الصحة النفسية فى كتاب الأساس) وأقول إن مجرد التردد للعلاج لا يعنى المرض بل قد يعنى رؤية أعمق، أو أملا أشمل، أو إصراراً أقوى على الحياة الأفضل. على طريق التطور، ولهذا استعملت لفظ المترددين بجوار المرضى وبينهما حرف عطف لأحدد أن المتردد ليس مريضا بالضرورة، وبالتالى أفتح بابا للتبادل بين صفتى المرضى المترددين لأؤكد أنه طريق ذهاب وإياب، وفى هذه المجموعة بوجه خاص ذكر الباحث أن حضور بعض أفرادها كان بهدف التدريب، ولكن باقترابهم من “المأزق الوجودى العلاجى أو النمائى” ظهرت الأعراض لدرجة أنهم أعلنوا بأنفسهم رغبتهم فى الانتقال إلى صفة المرضى حتى يمارسوا حقهم الطبيعى بكل أبعاده، وكأن المرض أصبح حقاً اختياريا مرحلياً فى الطريق إلى التغيير الواعى.

ثم أنتقل بعد ذلك إلى التعريف بأفراد المجموعة، فبالإضافة إلى ما ذكر الباحث عنهم من معلومات – بعد أن استبدل أسماءهم – فهم بالنسبة لى من أصدق من عرفت، من حيث فضلهم على فكرى، وعلى وجودى، وعلى علمى أيضا، فهؤلاء الناس بكل سلبياتهم وإيجابياتهم وعدوانهم وظلمهم ومحاولاتهم وشقائهم وألمهم وهروبهم .. بشر بحق، وإذا كانت تعريفات الإنسان قد تنوعت بشكل مربك بادئين من أنه حيوان ضاحك إلى أنه حيوان ناطق أو مفكر إلى آخره، فإنى هنا أحب أن أعلن أن هؤلاء الناس قد عملونى أن الإنسان “… هو الكائن دائم المحاولة الواعية إلى الرقى “معا”، برغم وعيه الآنى بضرورة الاستقرار المرحلى”.

ولكنى أقر هنا أن من حق هؤلاء المرضى أن يتصفوا بما هو يخصهم أكثر، بالإضافة إلى ما أورد الباحث من مواصفات وتشخيصات.

1- فهم جميعاً فى عناد عنيد ضد استسهال حل بذاته سواء كان هذا الحل حياة عادية هامدة، أم مرض مزمن مستسلم، أم موقف انسحابى متفرج.

2- وهم جميعا قد قبلوا أن يستمروا فى الحضور، وبالتالى فى ممارسة المحاولة الموجهة فى أن يقبلوا هذا العناد فى مواصلة محاولة التغيير بكل ما يحمل من مخاطر وآلام.

3- وهم جميعا – وربما يرجع ذلك جزئياً إلى تأثير العلاج، قد واصلوا احتكاكهم بالواقع والتكلم باللغة السائدة، رغم مواصلتهم تعرية أنفسهم والتفاهم – مؤقتا – بلغة خاصة فى نفس الوقت.

4- وهم جميعا قد قبلوا التعرى أولا أمام بعضهم البعض وأمام المعالج، وثانيا أمام الباحث، قبلوه فى شجاعة وصراحة، وتفسيرى أنهم وصلوا إلى درجة من الصدق مع أنفسهم، ولأنفسهم لم يعد عندهم معها ما يخشونه من رأى آخر، أو فرجة آخر، أو تسجيل آخر، فضلا عن إدراكهم لاتصال نفعهم الشخصى بالنفع العام كما ذكرت.

ولكل هذا فإنى أعلن شعورى أنهم هم الذين قاموا بهذا البحث أساسا وفعلا، لأنهم واصلوا البحث الصادق فى داخلهم وخارجهم، ثم ساهموا بالموافقة على تسجيل ذلك وتوصيله دون تصنع أو افتعال، ففضلهم على الباحث وعلىّ وعلى العلم وللحقيقة فضل مباشر ليس له جزاء إلا أن تنجح محاولتهم لهم، وهذا ما يضاعف ديْنى – وربما دين الباحث إذْ يدرك حقيقة عطائهم – إليهم وإلى من هم مثلهم، فأنا لا أعنى بوصفى لهم أشخاصهم، بقدر ما أعنى كل من “هم كذلك” سواء كانوا هؤلاء الناس أم أى ناس.

ولنا هنا وقفة، فهناك من سيقول: إذن هؤلاء نوع خاص من الناس، وبالتالى فهذا العلاج لا يصلح إلا لأمثالهم.

والرد المباشر: ولم لا؟ .. والرد التالى: نحن لا نستطيع أن نجزم إن كانوا قد قدموا للعلاج بهذه النوعية أم أن العلاج قد أسهم فى كشف غطائهم فظهرت هذه الإمكانيات الإيجابية العنيدة؟ والرد الأخير: إن أحدا لم يدّع أن هذا العلاج هو العلاج الأوحد، بل بالعكس إنى أقر وأعلن أن لكل نوع من العلاج نوع من المتعالجين.

ثانياً: المعالج

ثم ننتقل إلى مادة البحث الثانية وهى “المعالج” نفسه: وأول ما نبحث هنا هو ما أشار إليه الباحث من أن هناك وجه شبه بين المعالج وبين هؤلاء المرضى، وأنه مجرد فرد فى المجموعة مع تميز خاص من حيث فعالية دوره، ودرجة مسئوليته فى التغيير، واتجاهه ووضعه المهنى الذى يأخذ به أتعابه، وإنى إذْ أقره على ذلك .. أقره أيضا على ما أشار من خلاف .. واضيف إلى هذا وذاك أنى كنت شبه متعاقد معهم عقداً لم يعلن أبداً، وهو الاستجابة من جانبهم لدعوة من جانبى تكاد تقول “… إنى مثلكم .. ولكنى مصر على الاستمرار بلغة الواقع دون التنازل عن اى جوهر رأيته فى نفسى، فهل نحاول – يا جماعة – أن نمارس حياتنا سوياً إلى نهاية عمق وجودنا بكل أبعاده المترامية، لنرى الحكاية ..، بل وقد نوجه المسار من خلال نجاح موقفنا العنيد .. كعينة قادرة على التطور بوعى وألم ودون تناثر أو صراخ”؟ وقد سمعت استجاباتهم واحداً واحدا بالموافقة “من خلال فعل الحضور والاستمرار فيه”، وعزوت هذه الموافقة إلى ضغط داخلى مباشر أعلن بظهور الأعراض، وإغراء خارجى مباشر هو محاولة المعالج الذاتية المستمرة.

ومهما يكن من أمر اضطرارهم لخوض هذه التجربة بسبب أعراضهم، ومهما يكن من أمر وضعى بالنسبة لهم كطبيب وظيفته الأساسية هى تخفيف الألم وإزالة الأعراض، فإن هذه وتلك كانتا الاتفاق الظاهرى فحسب، أما العقد غير المعلن – حسب تصورى – فكان يتعلق بخوض هذه التجربة الكيانية، ومن هنا جاء شعورى بالعرفان تجاههم، وإنى إذ أعترف بهذا البعد الذى لم ترد مناقشته فى البحث بطريق مباشر (وإن كان الباحث قد أشار أنه بتطور المجموعة لم يعد المعالج إلا عضواً فيها) أقول إنى إذْ اعترف بهذا البعد أقرر من وجهة نظرى أنه موجود عند كل معالج رضى أم لم يرض، وعى به أم لم يع، فالعقد فى العلاج النفسى بوجه عام والعلاج الجمعى بوجه خاص هو دائما أبداً عقدان:

العقد الأول: عقد ما بين طبيب (أو معالج) – طرف أول – ومريض – طرف ثان – الأول يرتزق ويمتهن مهنة إنسانية (بالمرّة)، والثانى يشكو من أعراض مرضية أدت إلى أن يذهب إلى الأول ويريد أن يتخفف منها.

أما العقد الثانى: فهو العقد الأعمق غير المعلن بين إنسان وإنسان: الطرف الأول (المعالج) يعيش مرحلة وجود ناجحة نسبيا وبالتالى فله تصور لأبعادها، وسلوكه إنما يمثلها ويبررها حتى ولو ضعفت درجة وعيه بها، والطرف الثانى (المريض) يبحث عن مثل هذا التصور، فينتقى من المعالجين من هو أقرب إلى تصوره ليحققا معاً مرحلة مشتركة بصورة ما.

هذا، ولا يوجد حد فاصل بين العقد الأول والعقد الثانى، لأن العقد الأول هو الديباجة التمهيدية للعقد الثانى، ولأن الثانى هو الوسيلة الفعلية لتحقيق أهداف الأول (زوال الأعراض .. والاسترزاق).

ولابد أن أعترف أنى سمعت هذا التفسير لطبيعة العلاقة بين المريض والطبيب فى موقف العلاج النفسى أول ما سمعته من أستاذنا المرحوم الدكتور يوسف حلمى جنينة أستاذ الأمراض العصبية بكلية طب قصر العينى، حيث كان يقول ما معناه “إن الطبيب (المعالج) النفسى ينتقى من مرضاه من يماثلونه، ليرى نفسه فيهم بالساعات الطوال ويبرر وجوده من خلالهم”، وقد رفضت هذا القول الذى قيل هجوماً على العلاج النفسى سنين طويلة، ولكنى فى النهاية وصلت إلى نفس النتيجة مع تحوير بسيط فى العبارة الأخيرة إذ لابد أن تتعدل – فى بعض الأحيان – من “.. ويبرر وجوده من خلالهم” إلى “…. ليبحثوا سويا عن معنى وجودهم، وعن الطريق إلى إمكان تغييره إن لزم الأمر” وقد قلت “فى بعض الأحيان” لأنى مازلت أتصور أن كثيرا من العلاجات يصدق عليه كلام أستاذنا الدكتور جنينة، وآمل – متحيزاً – أن هذا النوع قيد البحث يصدق عليه التحوير الذى اقترحته.

وأختم هذه النقطة التى ينبغى أن تتضح عند كل ممارس للعلاج النفسى، وكل باحث فيه بأنه “إذا كان الأمر كذلك، وهو عندى كذلك، فإن درجة الوعى التى يتم فيها هذان الاتفاقان ضرورة لازمة لتأمين المسار، والتقليل من المضاعفات، وتأكيد الاختيار”.

فإذا كانت هذه هى العلاقة بين مادتى البحث الأساسيتين (المرضى والمعالج) فإن موقف الباحث يزداد صعوبة فوق الصعوبات القائمة فعلا، لأن المعالج هنا هو المشرف على الباحث ايضا، وهو أستاذ له، ثم هناك علاقتهما العاطفية التى جعلت الباحث يشكره فى مقدمة بحثه باعتباره والده الروحى (!)، ولنا أن نتصور كيف يقوم باحث بعمل بحث مادته (أو ضمن مادته)، والده الروحى … ليبحث عن ضعفه واحتياجه وخطئه والتوائه ..الخ.، وقد ناقشت هذه النقطة سابقا فى عجالة ولكنى أعود إليها هنا بتفصيل لازم:

فقد كنا أمام ثلاث اختيارات: إما أن يقوم بالبحث أحد تلاميذ صاحب المدرسة الناشئة الداعية لفكرة “الطب النفسى التطورى” والمسهمة فى تطبيق هذه الدعوة فى المجالات المتعلقة بهذا الفرع ومن بينها مجال العلاج النفسى، وإما أن يقوم بهذا البحث أحد المنشقين عنها لأن عنده فرصة أعمق ومشاركة أطول لمعرفة عيوبها ونقائصها، وبالتالى فإن موقف المعارضة منها هو موقف يقظ يتيح له أن يحدد ما عليها أكثر مما يحدد مالها، وأخيراً فالاحتمال الثالث أن يقوم بالبحث باحث “آخر” ليس إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء مما يمكن أن يطلق عليه – افتراضاً – باحث موضوعى.

أما الافتراض الأول: وهو الذى تم فعلا – فهو يضعنا فى موضع خاص إذ هو أقرب إلى “عرض” ما يجرى من وجهة نظر مشتركة تقريباً (مشتركة بين الباحث والمعالج)، وإلا ما انضووا سويا تحت لواء هذه المدرسة وهذا العلاج، وبهذا الإعلان يصبح العرض أميناً لو أسميناه “صورة من الداخل.

أما الاحتمال الثانى: فسوف يمنحنا صورة دفاعية كذلك، فهو لا شك خليط بين موضوعية محتملة – حسب درجة تطور الباحث نفسه وأمانته مع وجوده – وبين تحيز مضاد أكيد – هو فى الأغلب مبرر انشقاقه عن المدرسة، وهذا الخليط هو ذاته نفس نتاج الاحتمال الأول وإن كان التميز فى اتجاه مضاد.

أما الاحتمال الثالث: فخبرتى ومشاهدتى واطلاعى على الأبحاث التى يزعم أصحابها الموضوعية، ثم طبيعة مثل هذا العلاج ومحتواه، كل ذلك يجعلنى أجزم أن مثل هذا الباحث المحايد ابتداء سرعان ما سيندرج – خلال دفاعاته الخاصة تحت أحد الاحتمالين السابقين بدرجة أو أخرى، لأنه فى مواجهة هذا انلوع من التفاعل لابد وأن يدافع أى باحث مغامر عن نوع وجوده ابتداءاً، وإذا كنا قد أشرنا إلى أن الباحث قد هرب من هذا المأزق – مؤقتاً – بأن أعلن أنه إنما يبحث فى آليات “العمليات” الجارية لا ” تقييم النتائج”، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن ننفى أنه فى نهاية الأمر، لابد وأن يرتبط شرح هذه العمليات بتقييم النتائج، أو بتعبير آخر إن أبحاث النتائج ما هى إلى نتائج “العمليات الجارية” وليست شيئاً آخر.

ونخلص من هذه المواجهة الضرورية إلى إعلان واقع هذا البحث وهو أننا أمام “عرض وجهة نظر باحث تلميذ فى ما يفعله معالج هو أستاذ له .. لا أكثر ولا أقل”، وهذا الإعلان إنما يعيد وضع الأمر فى نصابه ولا ينقص حق التلميذ الباحث فى ان يقول رأيه فى حدود المستطاع..

أما موقفى الآن كمقدم لهذا البحث فهو أن أضيف للباحث وجهة نظرى فى كونى مادة البحث:

أولا: أنه لابد من اعتبار المعالج ضمن مادة البحث مثل كثير ممن كتب عن أنواع العلاج النفسى، فشخصية الباحث كمادة بحث هى التى تفسر لنا نوع اختياره لمرضاه، ولسنهم، وجنسهم (واختيارهم له كذلك) ثم محتوى العلاج ثم هدفه، وبدرجة هائلة: نتائجه، بل وفى عمق العلاقة: فلسفته فى الحياة ومحتوى نظريته، ولنراجع سوياً فى هدوء – ولو مصطنع – نوع حالات الهستريا والحواز التى عالجها فرويد، ولنراجع اختيار يونج لمرضاه ممن هم فى وسط العمر، ثم ويلهلم رايخ وزبائنه ومن بينهم فردريك بيرلز مؤسس مدرسة الجشتالت .. واختيار أدلر لتوجيه بعض نشاطه للأطفال، ثم نعيد النظر فى شخصية كل معالج لنرى كيف تحدد شخصيته اختياره وفكره النظرى ونتائجه جميعا.

ولست هنا بصدد تحديد وجهة نظرى من هذه المقولة الخطيرة تفصيلا: من أنا؟ ولماذا؟ ولكنى أوافق على انى “شخصياً” .. و”تماما” ينطبق علىّ ما زعمته فى الفقرة السابقة ..، ولكنى أحذر من التمادى فى هذه “الشخصنة” للنظريات العلمية وإلا وقعنا فيما وقع فيه أستاذنا المرحوم الدكتور صبرى جرجس حين عزى كل فكر فرويد إلى ميوله الصهيوينة الخفية…

ثانيا: أن العلاج النفسى إنما يحدث تغييراً فى المريض من خلال التفاعل بين اثنين، لأننا لا يمكن أن نتكلم عن تفاعل يقوم به متفاعل واحد وإلا كان فعلا لا تفاعلا، والمعالج هو الطرف الثانى فى التفاعل ولابد أن نعترف أنه معرض لتغير هو ذاته بل ربما هو ملتزم بالتغير إن كان التفاعل صادقاً فعلا، وفى رأيى أن كل العلاجات التى تدعى أن المعالج “محايد” أو غير متداخل فى التفاعل، إنما تعلن ضمناً أن تدخله أخفى وأخطر، لأن موقف الحياد مستحيل، فإذا كان ممكناً فهو يعلن بشكل ما توقف النمو من الجانبين، لأنه يعنى أن المعالج ثابت مدافع عن ميكانزماته بانسحابه تحت عنوان عدم التداخل، وبالتالى فإن المريض أو المرضى قد يتبعون نفس الأسلوب تحت أى تبرير ظاهر أو خفى، وقد نمى إلى علمى أنه توجد مثل هذه المجموعات – التى تجتمع تحت عنوان العلاج الجمعى ايضاً – تؤكد بطريقة ما – أن هذا ” اللاتغير” هو هو التغير المنشود، وبالتالى فهى تؤدى وظيفة نافعة إذ تزيح عن كاهل المترددين الزعم بضرورة التغير وحتمية الصيرورة ..

ولكن لابد من الاعتراف أن إعلان المعالج لنوعية تحيزه، وطبيعة التزامه وحقيقة مخاوفه وأبعاد احتياجه .. هو السبيل إلى الاقلال من “الاتفاقيات الخفية” بين المعالج والمتردد، وإتاحة الفرصة للتقليل من مخاطر التأثير الذى يختبئ وراء إدعاء الحياد، وكأنى أعلن هنا ضمنا أنه لا حياد فى العلاج النفسى – وأذكر القارئ بلمحة عن العلاج النفسى “المتمركز حول الزبون” Client Centered Psychotherapy والذى ابتدعه روجرز، والذى سمى أيضا العلاج غير الموجهNondirective Psychotherapy قد أعلن روجرز شخصياً – مؤخراً – أنه لا يعرف من أطلق عليه لفظ “غير موجه” هذا واعتذر لفريك فى مقابلة خاصة (فى كتاب عن مقابلات فريك مع الإنسانيين فى علم النفس “مازلو وميرفى وروجرز”) أنه لو كان هو الذى أطلق عليه هذا الاسم فهو آسف، وأنه تراجع لأنه لا يوجد علاج غير موجه .. وإلا لما كان ثم علاج..

فالموقف إذن كالتالى: إما موقف من المعالج معلن وقابل للتغيير والتفاعل والمواجهة، وإما موقف سرى شديد التأثير والمناورة بعيد عن متناول النقاش والجدل الحيوى، وأخطر المواقف السرية ما كان سريا على صاحبه ذاته .. ونقابل تأثير هذه السرية الخفية أكثر ما نقابلها عند أشد المعالجين حماساً للحياد..

فإذا انتقلنا إلى المعالج كمادة لهذا البحث فإننا نقابل تعليق الباحث فى أكثر من موقع بأن المعالج كان يكشف نفسه، ويعلن احتياجه، ويدافع عن حقه فى الضعف .. الخ وقد اعتبر الباحث هذا دليلا على تطور المجموعة من جهة ودليلا كذلك على نمو المعالج من جهة أخرى، ولكن علىّ أن أثير من جانبى هنا عدة نقاط إضافية:

1- إن إعلان المعالج لموقفه لا يعنى بالضرورة أن هذا هو موقفه، بل قد يعنى محاولة علاجية تحددها مسئوليته، والتزامه فى وقت محدد تجاه فرد محدد فى مرحلة بذاتها من تطوره، على انى أتصور أن هذا التكنيك العلاجى لم يكن ليخفى على عديد من أفراد المجموعة، وأعتقد شخصيا أن مرحلة المجموعة قد تخطت مثل هذا الموقف الحِرَفى الصرف.

2- إن إعلان المعالج لموقف ما، قد يخفى عن المعالج نفسه أن هذا ليس موقفه (راجع موقف إعلان الحياد .. وقارنه باحتمال الشبه بينه وبين موقف إعلان التعرى هنا).

3- إن إعلان المعالج لموقف ما قد يكون مناورة من نوع التمويه ذى الدرجتين Double Bluffing، فقد يعلن المعلج أنه يتدخل فى حرية الآخرين، وأنه من واقع مسئوليته ملزم بإعلان أنه يعالجهم لسد احتياجه أساسا، فيبدو بذلك وكأنه أمين وموضوعى. ولكن هذا الإعلان فى ذاته – بما يحمل من مظاهر الأمانة والموضوعية – قد يثير فى الأعضاء احتمال أن هذا ليس صحيحاً وأنهم أحرار حقيقة فى اختيار طريقهم دون تأثير غير مباشر من المعالج، وأن المعالج بإعلانه هذا قد كشف ورقه، والباقى مسئولية المترددين، وقد تحمل هذه الاستجابة فى ذاتها خدعة أعمق لأنها قد تغرى المترددين والمرضى بإلقاء أسلحة حذرهم فى حين أن الأمر يسير فى نفس الاتجاه الذى حذر منه، أو بألفاظ أخرى ” إن كشف ورق المعالج إذ يؤكد تدخله قد يسهله لأنه لا يثير الحذر الواجب ضد ذلك”

ولم يكن الباحث – على قدر تصورى–  فى موقف يسمح له بأن يصل إلى الشك فى نوايا المعالج لهذه الدرجة، ربما لتعداد العلاقات المتشابكة بينهما، لذلك وضعت هذا الأمر بوضوح هكذا من بداية البحث، وحتى لا يكون الحماس الخادع هو نهاية تصور الحقيقة..، فإذا كان لى أن أعترف فأنا لا أعرف عن نفسى أكثر مما ذكره الباحث وإن كنت لا أستبعد هذه الدرجات الأخرى من التمويه، وهو أمر بعيد عن إدراكى حاليا أتركه لاختبار الزمن.. أو لباحث أكثر تشككا وربما أشجع.. وربما أكثر دفاعا وتخوفا.. الخ ولكنى أخشى فى نفس الوقت أننا لو فتحنا باب التشكيك إلى التمويه المزدوج ثم الثلاثى ثم الرباعى.. أن نصل فى النهاية إلى موقف “الشك المطلق” وليس فقط “الشك المنهجى” (1)  وكأن الحقيقة الوحيدة فى كل هذه القضية هى أن الباحث يشك، أما نتاج ما يشك فيه وحقيقته الموضوعية فهى ليست فى متناوله شخصياً (ولا فى متناول أحد بالتالى).

إلى هذا الحد يصل التسلسل الطبيعى إلى الاعتراف بالعجز النسبى أو المطلق عن الموضوعية .. ولكن دون التسليم اليائس بعدم إمكان تحديد حقيقة ما يجرى خارج عقولنا، لأن كل ذلك سيتوقف فى النهاية على من هو “الباحث” الذى يشك، الأمر الذى دعانى إلى أن أضعه هو ذاته كمادة للبحث (وهى الفقرة التالية مباشرة).

ثالثاً: الباحث

تعودنا فى التفكير العلمى السائد فى مجال علمنا هذا ألا ندرج الباحث تحت موضوع “مادة البحث” إلا إذا استخدمنا مقولة الاستبصار Introspection كوسيلة للبحث حيث يكون فيها الملاحظ هو نفسه الظاهرة تحت الملاحظة ولكنى هنا أدرج الباحث تحت مادة البحث من باب آخر وهو أن الباحث فى موقفنا هذا يصدر فى النهاية أحكاما نابعة من إدراكه لمجريات الظواهر، سواء كانت أحكاماً بالنسبة للعينة التى انتقاها ليقدم من خلالها وجهه نظره ويدعمها، أم طريقة سلسلته للأمور، أم تقييمه لما يجرى أم تفسيره لكل ذلك، فهذه الخطوات كلها تشمل أحكاما .. فهى ليست إطلاقا مجرد تسجيل ملاحظات والربط بينها، وهو بمجرد أن يصدر هذا الحكم المتلقى (القارئ أو الطالب أو الباحث الزميل أو المقّيم للبحث) فإنه يصبح بذلك مادة فى بحثه ونتيجة فى نفس الوقت .. ومن حق كل هؤلاء أن يقيموه هو ذاته من خلال ما يقدمه .. وكأنى بهذا أضيف صعوبة جديدة فى موقفنا البحثى هذا وهى ان البحث برمته منذ انتقاء الموضوع إلى انتقاء الطريقة إلى انتقاء عينة المعلومات إلى طريقة عرض النتائج إلى تفسيرها … كل ذلك هو فى مقام مادة البحث التى ينبغى وضعها فى الاعتبار ونحن نتناول البحث .. وإلا فنحن معرضون لخداع مضلل … وما دام الباحث أصبح “أداة البحث” و “مادته” معاً فإن تناول هذا “المتغير” بدقة وتمحيص: بما له من صفات الأمانة العلمية وسعة الأفق، وما عليه من دفاعات ومخاوف داخلية، يعطى للبحث مكانه الدقيق فى الكشف عن جوانب ما يبحث، إذ لا يمكن أن نكون موضوعيين بحال إذا أهملنا موقف الباحث من الحياة، ومدى رؤيته، وطبيعة علاقته بالوجود وبذاته .. بما فى ذلك فلسفته وموقفه من الدين والسياسة والزوجة والأولاد (كما أشرنا) .. لأن كل ذلك يحدد بطريقة أو بأخرى اتجاهاته من البحث من هذا النوع، وقد تكون النتيجة الهامة التى يخرج منها قارئ لمثل هذا البحث أن هذا الباحث عاجز عن الرؤية الشاملة، أو أنه ظالم خائف، أو أنه عادل شجاع إلى آخر هذه الاحتمالات المتنوعة….

وهذا يرجعنا أيضا إلى ضرورة إعداد باحثين لهم كفاءة خاصة، وصفات خاصة، وإلا فنحن أمام باحثين من “المريدين” أو باحثين من “المدافعين الخائفين” لا أكثر ولا أقل..

وكل هذه الاعتبارات تنبهنا ثانية إلى أنه ما دام الباحث “إنسانا” فى مجال “علم انسانى” فلا سبيل إلا بالمغامرة، ولا أمان إلا بالحذر، وحتى إذا تصورنا أننا أمام عقل إلكترونى محكم .. وأننا سوف نترك له الحكم النهائى بحساباته الآلية .. فإننا سنواجه بالتساؤل العملى “من الذى سيغذى هذا العقل بالمعلومات؟ أليس إنسانا له موقفه ومميزاته ..” الخ

****

وبتنوع مادة البحث من المرضى والمترددين إلى المعالج إلى الباحث ذاته نجد أنفسنا مرة أخرى – ربما ليست أخيرة– فى موقف يكثف مرحلة صعبة مرّ بها التفكير العلمى ردحا من الزمن، وأعتقد أنه لم يتحمل غموضها وتشابكها، فإذا به ينتهى فى كثير من الأفكار المعروضة كبدائل عن هذه الصعوبة إلى حلول شائهة وخطيرة، لا أجد مناصا من التلميح إليها:

1- فقد لجأ فريق إلى الاكتفاء بقياس “جزئيات السلوك” ونسوا أثناء ذلك أن انتقاء قياس هذا الجزء من السلوك دون ذاك، وانتقاء هذه الأداة للقياس دون تلك، إلى آخر عمليات الانتقاء والتخطيط، هى جميعاً من ضمن موقف ذاتى قد يكون هروبا من مواجهة مشاكل كلية أعمق مثلما التى طرحناها سابقا، وقد وضعنا هذا الاتجاه فى مأزق تشويه الانسان بتجزيئه دون غائية او عمق شامل، وإن كنت لا أنكر أن إتقان معرفة الجزء هو سبيل لازم لتجميع معالم الكل فى أحيان كثيرة.

2- أما الفريق الآخر فقد لجأ إلى رفض البحث العلمى – فى مجال الإنسانيات – بصورته هذه تاركا الأمر إلى الإنطباع والتأمل الشخصى من خلال التجربة التلقائية وإصدار الأحكام على مسؤولية مصدرها، حتى كادت المسألة أن تصبح – فى تقدير هذا الفريق – أقرب إلى التفكير الفلسفى من موقع التأمل بعد الاستيعاب، وقد هوجم هذا الفريق واتهم أنه يرجع بالعلم إلى ما اسموه “البحث على مقعد وثير”، أى بعيداً عن الممارسة العملية والتجارب وإعادتها إلى آخر هذه القصة..، وفى رأيى أن هذا الفريق قد أضاف إلى علمنا قدراً من التنوير لا يقل عن الفريق الأول .. بل لعله يزيد، وأن اتهامه “بالبحث على مقعد وثير” هو اتهام من لم يعرف معاناة التفكير الخلاق وهو يبحث عن جديد… لا يلتزم فيه إلا بصدق ذاتى يحاول أن يقربه من الصدق الموضوعى، فالمقعد فى رايى ليس وثيراً بل هى معاناة متصلة، يرجع الحكم فيها إلى ضمير يقظ قادر على رفض كل مسلمة مسبقة .. على مسئوليته (دون أن يجن).

3- أما الفريق الأخير فقد اكتفى “بالخبرة الفنية” ورفض البحث فى الجزئيات بزعم أنه تشويه للحقائق الكلية، ثم خاف من إصدار الأحكام الانطباعية، حتى أصبحت المسألة – فى تقدير هذا الفريق – نوعا من سر المهنة، ينتقل من معلم إلى صبى بالمحاكاة فالتقمص فالتعاطف فالتفجر من الداخل، وسار التعليم فى هذ السبيل بكل الوسائل المعروفة فى أى حرفة من الحرف .. وكانت الدلائل تشير إلى ان الأمور تسير فى اتجاه سليم نافع .. هو استمرار نجاح الحرفة فى أداء المطلوب منها، ورغم أن هذا هو الطريق العملى السائد عند أغلب الممارسين حيث تعتبر كل مقابلة للمريض نوع من البحث العلمى، وكل نتيجة للعلاج تقييم لهذا البحث، وكل خبرة من أستاذ لطالب هى إعطاء سر المهنة، إلا أن هذا السبيل يضعنا فى مأزق حقيقى لأنه يبتعد بنا عن معنى العلم التقليدى، مما قد يعرض المهنة إلى النفى بعيدا عن ما هو علم، مؤسسى اللهم إلا إذا وجد هذا الفريق وسيلة أو وسائل ينقل بها الخبرة “العلمية” إلى دوائر أوسع فأوسع، وتدون فى شكل اثبت وأبقى، حتى لا تصبح حكراً على فئة محدودة معرضه للانقراض تحت مسمى سر المهنة.

وبعـد

وهكذا نجد أنفسنا فى هذا البحث وقد التزمنا بشق طريقنا الصعب “بما يمكن” دون استسهال يلبس ثوب الموضوعية، أو تنظير هو أقرب إلى التفلسف (لا الفلسفة) أو صمت يلبس ثوب الحرفية ويكتم سر المهنة.

ولعل تقييمى الأول لما منحنا هذا البحث هو الطمأنينة إلى أنه بإمكاننا أن نخترق كل هذه الصعوبات برغم شدتها، إذ أن تسجيل الملاحظات بهذه الدقة والشجاعة – مهما كانت انتقائية – ثم عرض الآراء صريحة دون شعور بالنقص أو اختباء وراء الأرقام، ثم الحماس الظاهر لهذه الآراء دون تردد .. ثم التفسير ووجهة النظر الشخصية فى جلاء محدد.. كل ذلك هو خطوة لازمة على مسيرة البحث العلمى، وهى خليقة أن تثير حواراً، على الجميع أن يواجهوه بشجاعة، ثم يأتى الزمن يحكم بين الجميع على مراحل متتالية، إذ يصدر حكمه على المدى القصير بمقياس انتشار الفكر وفائدته العاجلة، ثم على المدى الأبعد بمقياس استمرار الفكر وتحديه، ثم على المدى المطلق بمقياس الإسهام فى مسيرة التطور للنوع كله.

وحكم الزمن هو الفيصل النهائى فى كل مبحث يتجرأ ليعلن أنه رأى زاوية من زوايا الحقيقة.

وأعتذر فى النهاية إذا أطلت حتى انتهيت إلى هذه النهاية المزعجة والمسؤولة فى نفس الوقت، ذلك لأنى من أشد الناس إشفاقا على إضاعة وقت الباحثين – وخاصة الشباب منهم – فى توهم موضوعية لا وجود لها إلا بقدر الاعتراف بعجز الباحث ومحاولته هو نفسه التطور للاقتراب من الموضوعية فى كل مناحى حياته، وكذلك فإنى من أشد الناس حرصاً على تذكير كافة الباحثين فى مجالنا هذا بضرورة التسجيل وإبداء الرأى دون مخاوف أو تردد أو تلكؤ، ثم يتواصل التصحيح وتتمادى المراجعات بغير نهاية.

[1] – حتى لنستعمل لغة ديكارت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *