نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 19-8-2015
السنة الثامنة
العدد: 2910
الجزء الثانى:(1)
من أين ينبغى أن نستلهم فروضنا العلمية
(مع إشارة خاصة للتراث وأبحاث الأطفال)
انتهت نشرة أمس بوعد لعرض عدد من الفروض مستمده من ثقافتنا مباشرة بديلا عن استيراد المشاكل والفروض جميعا، لكن قبل تعداد هذه الفروض دعونا نمر بسرعة على مصادرها المحتملة، وبعضها كما يلى:
1 – من واقعنا التلقائى المباشر (بالنسبة للأطباء من واقع الممارسة الإكلينيكية).
2 – من تواتر المشاهدات العامة فى المجتمع الأوسع، وخصوصا مواقع الصعوبات والمضاعفات
3 – من قيم الدين، فالإيمان، والبحث فى كيفية استيعاب إيجابياتها لتطبيقها دون تشويهها بالسلبيات الشائعة.
4 – من التراث الشائع المعاصر (والتراث الشعبى الحاضر خاصة).
5 – من التراث الأدبى المحلى المعاصر.
6 – من تراث الأدب العالمى المقابل لمرحلتنا الحالية.
7 – من إشارات وروح- وليس نص – أبحاث الغرب المعاصرة.
مجرد عناوين الفروض المحتملة:
سوف أورد هنا مجرد عناوين منتقاة مباشرة من أنواع التراث (المعاصر) والمصادر المتعلقة بثقافتنا أساسا، وأعتذر عن عدم الدخول فى التفاصيل حيث يحتاج كل عنوان إلى تفاصيل الفرد المتعلق به حتى يصبح فى صورة تقبل التحقيق فى واقعنا الحالي.
أولا: (فروض) من الدين عامة (والدين الإسلامى خاصة):
1 – بحث المعنى التربوى لحلم الأمر بذبح إبراهيم إسماعيل عليهما السلام، ثم طاعة الأخير لأبيه عليهما السلام، لأنه مأمور من ربه، وليس لأنه مقرِّرٌ بنفسه، ثم فديته بذبح عظيم. (رحمة ربنا تستوعبهما “معا” بديلا عن “عقدة أوديب”)
2 – معنى قتل سيدنا الخضر للطفل الذى كان سيضل أبويه، (ربما يكون الطفل بداخلنا حين يكون ناشزا ناكصا منفصلا يأبى التكامل الجدلى فى الذوات الأخرى).
3 – دلالة أنه لا قصاص لقاتل ولده، وكيف ينال الوالد القاتل عقوبته على قتل ابنه بأن يتعذب وهو مازال حيا أكثر من احتمال راحته بتنفيذ القصاص.
4 – مغزى الحديث الذى معناه: من رزقه الله بثلاث بنات فأكرمهن ورعاهن دخل الجنة، قالوا واثنتين؟ قال واثنتين، قالوا: وواحدة؟ قال وواحدة!!
وغير ذلك مما هو كذلك:
ثانيا: (فروض) من الأمثال الشعبية:
1 – الأب عاشق والأم غيرانه والبنت حيرانه.
2 – أنصح أخوك من الصبح للظهر إن ما سمعش “غشه” أو (سيبه) بقية النهار.
3 – لا زَرْعَك ولا وِلـْدك تغضب عليه!!
كل هذا الحدس الشعبى المركز يثير قضايا أكثر منه يعطى نصائح، فهى فروض مثيرة للبحث والإبداع معا.
ثالثا: (فروض) من الأدب المحلى والعالمي، (بدءًا بما يتعلق بالأطفال)، بما يشمل السير الذاتية مثل:
1- حكايات حارتنا (نجيب محفوظ)(2).
2- السقا مات (يوسف السباعي).
3- الأيام (طه حسين)
ثم: ديستويفسكى مثل: مذلون مهانون: الطفلة نيللى، قرية ستيبانتشكوفو وسكانها: الطفل فلالى، البطل الصغير: الأبله (حالة كونه طفلا طوال الوقت) (وديستويفسكى أقرب ما يكون إلينا الآن)
رابعا: (فروض) من المراثى الشعبية:
1 – مثلا: “وان أكلونى كل يوم لحمة.. قولة أبويا ألذ وأحلى”
2 – دلالة: “إمساك اليد” أو “الجلوس بجوار” الأب: “وإن لبسونى الجوخ ماريده أريد أبويا ومسكتى إيده، وإن لبسونى الجوخ ما أحبه أريد أبويا وقعدتى جنبه”
3 – أو لاحظ الاحتماء والدعم في: “إن مال عين الجمع أقوله أيه لو كان أبويا حاضر كان يرد عليه”.
مثال حديث محدد:
ثم لننظر معا فى ظاهرة استيراد الفروض والأولويات من خلال وقفة أمام الحماس الذى لحق بعلمائنا فجأة – منذ عام أو عامين(3) – ليبحثوا فى إشكالة “سوء استعمال” أو “انتهاك” أو “ضـِرَار الطفل” Child Abuse.
وبوقفة مبتدئة سوف نكتشف فورا أن إشكالية “استعمال الطفل” عندنا هى الأوْلى بالنظر والبحث، “فالاستعمال” أخفى وأخطر من “سوء الاستعمال”، ومن ذلك: أن يستعمل الوالدان الطفل، بدلا من أن يسمحوا له بالنمو ويعينانه على ذلك.
ومن أشكال هذا الاستعمال(4):
(أ) الاستعمال مشروعا استثماريا
(ب) الاستعمال تعويضا ذاتيا
(ج) الاستعمال وسيلة للإبقاء على الزواج
(د) الاستعمال وسيلة للتباهى والتفاخر
(هـ) الاستعمال تبريرا لاستمرار الحياة
(و) الاستعمال مسقطا لمرض خفى فى الوالدين (يمرض الطفل بالنيابة عنهما)(5)
(ز) الاستعمال مبررا لاستشهاد بطولي.. إلخ
الخبرة شعرا:
وأخيرا فقد ضبطت نفسى متلبسا باستعمال ابنى مبكرا، أفرض عليه حكمة لم يـَخـْبـُرْهـَا، وأجعله يحمل همى وهو الغض الهش.. إلخ وصفت ذلك فى بعض شعري، حين قلت له (وهو فى الثامنة عشر):
تنظر بعيونى فترى القدر الأغبر؟
أحرمك بكارة سعيك؟
تحمل عنى ولدى عجزي؟ وأنا الأقوى؟
أدفعك تواصل سعيى؟ وسلاحك أقصر؟
سلمتـُكَ سيفـَكَ قبل العِدّة
أشهدتك سرى من قهر الوحدة
(ثم تراجعت قائلا:)
لا ولدى..
الدنيا سبتٌ فتمهل:
يأتيك الأحُد الإثنين الجُمْعَة
تُنضجك البسمةُ والحيرةُ والدمعةْ
.. لا تتعجل صبحك ظهرا قبل الشمس!!.
ملامح محلية أولى بالنظر والبحث: مقارنة بالشائع والمستورد
فأطفالنا يحتاجون البحث فى القيم التى يحتاجونها من والديهم مثل ما يلى:
1 – استقرار سلوك الوالدين أكثر من إظهار فرط العواطف.
2 – الوضوح أكثر من حسن النية.
3 – التناولية(6) (فى المتناول) أكثر من الحضور الجسدي.
4 – فرص الخيال الحقيقى أكثر من الخيال السطحى النصائحى.
5 – ملء الوقت “معا” أكثر من الكلام بلا محتوى.
وحتى نترجم بعض هذا إلى صورة ماثلة، تؤكدها أبحاثنا المقترحة، فإن طفلنا يحتاج من أبيه (ثم أمه) فعلا يوميا (مثلا):
(أ) أن يمسك يده فى الطريق.
(ب) أن يخرج معه فى رحلة متواضعة.
(ج) أن يركب كل منهما دراجته فى رحلة قصيره.
(د) أن يلعب معه ضومينو.. أو ورقا.. (كوتشينة) بانتظام إلخ
6 – أن يصلى معه جماعة فى المنزل.
7 – أن يحسن الاستماع أكثر من إلقاء الخطب.
8 – أن يتابعه فى الدراسة لا أن يعايره فقط بالإخفاق.
9 – أن يكون للوالدين اهتماماتهما ومصادر اشباعهما بعيدا عن أولادهم .
وكل هذا يحتاج أبحاثاً من واقعنا تـُصـَمـَّمُ بالمنهج المناسب.
خاتمة:
قبل أن أنهى هذا المقال، تذكرت وأنا أقلب بعض أوراقى أننى عبرت فى أرجوزة بلسان أم تنيم طفلها، وهى تزعم أن طفلها مثل أطفال الناس، وفى نفس الوقت تقبض عليه باعتباره طفلها الخاص ملكها الخاص، ثم تكشف فى نهاية الأرجوزة أن الناس وأطفالهم ليسوا إلا أطفالا مختلفى الأدوار.
دعونى أختم مقالى بهذا المقتطف:
طفلي.. طفلي
طفلى ليس كمثل الأطفال:
“طفلى الخاص”.
ملكى الخاص.
الضحكة غير الضحكة
والبسمةُ والغمازهْ
طفلى طفلي
“طفلى مثل الناس”
أكذب مثلى مثل الناس
إذ لو أنى قلت حقيقة نفسي
أو قالت مثلى من هن كمثلي
تشتعل الحرب بغير أوان
بين الناس الأطفال
فالناس الأطفال
أطفال الناس
أفضل حتما
من كل الناس!!!!!
وبعد
أليس كل هذا أولى بالبحث والاختبار؟
[1] هذا هو الجزء الثانى من نفس مقال أمس: نشر الأصل فى مجلة العربى الكويتى عدد أكتوبر – 1992، بعنوان: أطفالنا.. إبداعات المستقبل … أم جيل سابق التجهيز؟، وتم تحديثه الآن أغسطس 2015، والعنوان الحالى هو عنوان جديد ليناسب قسمة المقال إلى جزأين.
[2] – لاحظ مرة أخرى تاريخ كتابة المقال الأصلى سنة 1992، ثم خذ عندك أعمالى بعد ذلك فى “ملحمة الحرافيش، حديث الصباح والمساء، ورحلة أبن فطوطه، وأصداء السيرة حتى أحلام فترة النقاهة”، وقد تم بعض ذلك نقدا.
[3] – مرة أخرى سنة 1992
[4] – وليس سوء الاستعمال Abuse
[5] – كما هو الحال فى الجنون أو الادمان أو المرض المُقَحمْ Folie Imposé
[6] – Availability