الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الثلاثاء الحرّ: الجزء الأول: من نحن، وماذا نستطيع؟ الثلاثاء الحرّ: الجزء الأول: من نحن، وماذا نستطيع؟ [بدءًا بالنظر فى البحث العلمى والطفولة]

الثلاثاء الحرّ: الجزء الأول: من نحن، وماذا نستطيع؟ الثلاثاء الحرّ: الجزء الأول: من نحن، وماذا نستطيع؟ [بدءًا بالنظر فى البحث العلمى والطفولة]

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 18-8-2015

السنة الثامنة

العدد: 2909

الثلاثاء الحرّ :

الجزء الأول: 

من نحن، وماذا نستطيع؟(1)

[بدءًا بالنظر فى البحث العلمى والطفولة]

قضية:

فى المراجعة التى تناقش علاقتنا بالغرب (أو الشمال) وتحتدم فى الأوساط الثقافية العربية، تبرز آراء، وتناقضها أخرى. لكن موقع الطفولة – المستقبل – بين هذه الآراء يبدو شاحبا.  مهما علت الأصوات الخطابية والآمال الكلامية!

مراجعة عامة تجرى فى أكثر من موقع على أرضنا العربية (والإسلامية) لتحديد علاقتنا بالغرب، (الذى أصبح شمالا)، وهو هو الذى تـَخـَفَّى تحت زعم أنه الممثل الشرعى للعالم، النظام العالمى الجديد ثم دين العولمة المستشرى. لم تعدمزاعم دعوى التنوير هى غاية المراد من رب العباد: بمعنى استلهام النور من إشراقاتهم، ثم تهدئة خاطرنا بأننا نسترد ديْننا لأننا السابقون الدائنون. كما لم يعد التشنج بالمخالفة والرجعة إلى البدائية مغرية لمن يحاول أن يقرأ آفاق المستقبل بلغة العصر.

فالأمر المطروح الآن هو مواجهة تحدى البقاء بما تبقّى لنا من وعى بأمرين جوهريين، يكمنان فى الإجابة عن سؤالين أساسيين:

من نحن؟ وماذا نستطيع؟

يبدو الأمر سهلا حين نقلب كتب التراث، فيجيبنا أننا “عرب”، أو “مسلمون” لكن ترجمة ذلك إلى فعل يومى “هنا والآن” واختباره بأمانة وموضوعية، خليق بأن يكشف أن كثيرا منه إن لم يكن أغلبه لم يعد يمثل إلا تسويفا معطلا، اللهم إلا بعض الجهود الموضوعية الموثقة التى وصلتنى من موقع صدق بل مصدر فخر(2).

كذلك قد يبدو الأمر سهلا إذا كانت المسألة هى توصيف موقف سياسى، أو تفاوضى، أو أمنى، فقد يصلح من خلال كل ذلك، أن نعدد مزايا الدور الذى يمكن أن نقوم به، ثم نطالب مقابل كل ذلك بما نستحق، أو ما نأمل، إلخ،  لكن الأمر يصبح صعبا لدرجة الصدمة حين يكون السؤال عن: من نحن؟ وماذا نستطيع؟ فى مجالات الإبداع الحقيقى، والبحث العلمى الإنتاجى، والمنهج المعرفى الشامل.

تبدو هذه المجالات لأول وهلة بعيدة عن بؤرة اهتمام الشخص العادى فى الحياة اليومية، إذ هى تبدو غير مرتبطة بمشاكل الخبز والمواصلات والمسكن والإعلام، لكنها فى واقع الحال هى البنية الأساسية للعقل البشرى الذى لا ينبغى أن ينفصل عن الفعل البشرى، هذه المجالات حتى لو لم تكن ظاهرة على السطح، هي- فى النهاية- التى توجه نشاط عقول الأمة، فتضع إنساننا حيث ينبغي: إما مـُشارِكاً نشطا فى مسيرة الحضارة الإنسانية، أو جامع قمامةَ منـْتـِجـِى الرفاهية، أو متسول معلوماتِ “بوتيكات” العولمة والمواثيق المستوردة.

أشعر بهذا كله فى أكثر من موقع، وأكثر من مناسبة، أشعر به وأنا أجلس فى موقع الممتحن لدرجة الدكتوراة، والأصعب وأنا أجلس فى اللجنة الدائمة لتقييم الزملاء الأجلاء المتقدمين لنيل لقب الأستاذية فى أحد فروع الأمراض الباطنة الخاصة على مستوى جامعات جمهورية مصر العربية(3)، كما أشعر به فى المؤتمرات العلمية التى أشرت إليها فى مقال سابق فى هذه المجلة الغراء، فأسأل نفسى عند هذه المواجهة وأنا أرى شرف عقولنا وهو يهدر بالتسميع (فى الامتحانات) والإعادة الفارغة (فى الأبحاث) أسالها بألم يعلمه الله: لماذا؟ وحتى متى؟

هلا وقفنا لحظة لنسأل (وخاصة فى المسائل والمناهج النفسية) من نحن؟ فى مواجهتهم ومواجهة مسئوليات العصر؟

لا أكفّ عن أن أعيد تكرار الدعاء الذى أحذر فيه من المعارضة الطفلية لما يفعلون وهو الذى أقول فيه: “… اللهم لا تحرمنا فضلهم، ولا توقفنا عندهم، وألهمنا كدح السعى إلى الحق، إليك، لا إليهم .. حتى يتكامل الناس عقولا ومناهج “لتعارفوا”.

 من هذا المنطلق سوف أحاول أن أعرض بعض نقاط الخلاف فى مجال البحث العلمى فى الطفولة (كمثال محدد)، فأسمح لنفسى أن أضع هذا الفرض الآمـِل:

 نحن لنا طريقة تفكير ليست بالضرورة أفضل، لكنها قد تكون مختلفة بما يفيد، بل قد تكون هى ما ينقصهم فعلا.

فلنواصل التساؤل:

لماذا نصر على أن نبدأ من حيث بدأوا لا من حيث انتهوا؟

 لماذا نكررهم بأدوات أضعف، وعقل أكسل، فى وقت أضيق؟

لماذا لا تشغلنا أسئلة حقيقية من صلب واقعنا قبل أن نندفع إلى مظهر البحث (محاكاة فارغة) فالنشر (خدعة رائجة)؟

إن حصيلة كثير من جهدنا العقلى (فيما يسمى البحث العلمى مثلا) هو تكرار مـُشـَوَّه نضيف عليه كلمات خاوية مثل “فى المجتمع المصري”، أو “فى عينة عربية”، أو ما شابه، متصورين أننا بذلك قد حورناه ليكون بحثا أصيلا!!!

كل ما يهم كثير ممن يمارسون ما يسمى البحث العلمى هو: هل أحاط بمتطلبات النشر، وهل استوفى مقومات الشهادة الأكاديمية، وهل أكمل مسوغات التعيين، (أو حتى: هل أرضى مزاج [وغرور] أعضاء اللجان؟).

 أما الأسئلة السابقة لكل هذا فهى تكاد تكون محرمة علينا أصلا، أسئلة تقول (على سبيل المثال):

 1 – هل المشكلة التى نبحثها هى مشكلتنا ابتداء؟

 2- وهل انتهينا مما هو أهم منها؟

3- وهل عندنا إمكانات وأدوات بحثها أصلا؟

4- وهل هذا المنهج الذى نتبعه هو المنهج المناسب الذى يكشف عن جوهر حقيقتنا واحتياجاتنا، أم أنه جواز المرور للحصول على رضاهم؟

استيراد المشاكل والفروض، وليس فقط المنهج:

خطر كل هذا ببالى آخر مرة بشكل ملح مزعج وأنا أتابع النشاط العلمى المندفع لبحث مشاكل أطفالنا النفسية وكأننا نعمل أبحاثا على أطفال مستوردين، أو حتى على أطفال التليفزيون، لا أطفال الحارة والحقل والورش وبئر السلم، ولا حتى أطفال المنازل/ المعارض، والنوادي/ المقاهى، وهكذا ضبطتـُنـَا متلبسين ببحث مشاكلهم لا مشاكلنا، متبعين نفس أولوياتهم بنفس أدواتهم، ونفس مناهجهم.

علاقتى بما هو طفل، وما هو طفلى، علاقة مباشرة مستمرة، وهى علاقة بنيتُ عليها نظرة فى المنهج لدراسة الطفولة والجنون(4)، وبعيدا عن تفصيل ذلك أذكر أننى أشاهد برامج الأطفال أكثر من برامج الكبار، وأنزعج من محتوى برامجنا وسطحيتها وخطابيتها النصائحية، وأشفق على نفسى وأطفالنا منها، (اللهم إلا من بعض عروض الكارتون النادرة)، ثم إننى أقرأ ميكى، وأفضل ميكى جيب عن سوبر ميكي!!! وأرفض تقليدهما العربي!! وياليتهم يتقنونها، ثم إننى أقفز من طفولتى هذه إلى مسئوليتى العلمية(5)، وأقارن كل ذلك بما يصدره بعض الزملاء من فتاوى ونصائح، وما يقومون به من تـَصـَوُّرِ بحث وعرض أرقام.

 ثم أحاول أن أتبين طريقى بين كل، ذلك فأفزع:

ذلك أننى أتبين أننا ننقل الأفكار والنصائح كما هى، ونحن نعيد الأبحاث فى المشاكل “الموضة” كما يفعلون، وبنفس الأسلوب… ثم نصل – عادة – إلى نتائج لا نحتاجها، وتوصيات غير ممكنة التطبيق أصلا.

الجانب الآخر:

وما أن أفتح الحديث حول خوفى من الأفكار المستوردة هكذا حتى أفاجأ باستحسان المتحمسين للماضى يقفزون إلى النقيض على أبعد نقطة من الجانب الآخر، فهم يتصورن أن طفلنا العربى فى حاجة إلى أن يقرأ أخبار البطولة العربية راكبة جملا جميلا، أو أن يتقمص الفروسية التاريخية، وهو “مقبل مدبر معا”.

وحين تكون الاستجابة لدعوة الاستقلال التى أنادى بها هى تلك الاندفاعة نحو غيبوبة الماضى، أتراجع مستلهما مثلنا العامى مرددا ما يقابل: “منهجهم الأعرج، ولا غيبوبة الجمود”.

 المطلوب فى المقام الأول أن نقف لنتساءل عن منطلقاتنا الأساسية، بل المطلوب قبل ذلك هو أن نعيد النظر فى معانى البديهيات الشائعة، وخاصة إذا كانت هذه البديهيات ليست نابعة من الممارسة الحقيقية على أرض واقعنا المباشر، بل مستمدة من كتبٍ كـُتبتْ بغير لغتنا، من واقع غير واقعنا.

أمثلة من واقع النشاط البحثى الحالى:

1- نحن نبحث فيما يسمى انفصال الابن عن الأم فى الشهور الأولى من عمره.

2- ونحن نبحث فى مشكلة إيذاء، أو انتهاك أو ضرار الأطفال(6).

3- ونحن نبحث فى مشكلة اكتئاب الطفل الوحيد فى الأسرة.

4- وأحيانا يأخذنا الحماس فنبحث فى مشكلة انتحار الأطفال (وكأن كبارنا ينتحرون بالسلامة، ثم ها هى ذى العدوى قد انتقلت إلى أطفالنا!!).

مراجعة:

إن أى شخص عادى – ليس عالما نفسيا أو طبيبا أو باحثا – لا بد أن يقف متسائلا: أهذه هى مشاكلنا فعلا؟ أم أن ثمة مشاكل واضحة وملحة لدينا أولى بالبحث؟، مثلا: كما يلى:

1- مشكلة تعدد صور الأم فى الطفولة (الجدتان، والخادم، والخالة والجارة وزوجة الأب: كلهن أمهات فى آن).

 2- مشكلة حرمان الأطفال من المساحة، والخضرة.

 3- مشكلة آثار التكدس العائلى فى الأسرة الواحدة، بل فى الحجرة الواحدة.

وغير ذلك مما هو كذلك كثير كثير.

 إذن، لابد أن نبدأ فروضنا من حيث ما هو نحن، وسوف أعدد بعضها من واقع طفولتى ومعايشتى ناسى وممارستى مهنتى، حالة كونى متأملا ممارسا معلما باحثا، فأعدد ما أحسبه بعض ما هو أرضيتنا الفارقة عن الشمال، والغرب وكل من تعولم عولمتهم!

 1 – نحن أقل تكنولوجيا، وأكثر فقرا (أو أكثر ثراء فقيرا).

2 – وأقل ديمقراطية، وأكثر نصحا وإرشادا.

 3 – وأقل دقة، وأكثر دفئا.

4 – وأقل التزاما بالقانون، وأكثر تدينا ظاهريا.

5 – وأقل انفصالا عن “المابعد” (إذْ نؤمن بالغيب)، وأكثر انفصالا عن مسئولية “هنا والآن”.

وبعد

من أين نبدأ؟

وكيف نستلهم فروضنا العلمية من ثقافتنا مباشرة،

……..

 وغداً نكمل (بقية المقال بعد تحديثه)

وفيه نطرح بعض ماجاء من مصادر هذه الفروض المحتملة، وعناوين معالمها.

[1] – نشر الأصل فى مجلة العربى الكويتية عدد أكتوبر – 1992، وتم تحديثه الآن أغسطس 2015، وكان بعنوان: أطفالنا.. إبداعات المستقبل … أم جيل سابق التجهيز؟، والعنوان الحالى كان عنوان ثانى فقرة فى المقال ففضلت أن يكون عنوانا رئيسياً لمقالى اليوم.

[2] – فقد طمأننا باصرار واخلاص أ.د. على زيعور إلى سلامة هذه الجذور ومتانتها، وعلينا أن نتحمل مسئولية كل حرف أثبته بعزة وأمل (مثلا انظر كتابه: ميادين المدرسة العربية الراهنة فى الفلسفة والفكر، دار النهضة العربية، 2005)

[3] – تذكر أن أصل المقال كتب ونشر سنة 1992

[4] – “الباحث أداة البحث وحقله فى دراسة الطفولة والجنون”، الإنسان والتطور : عدد أكتوبر 1980

[5] – كتبت بعد هذا المقال عملا كاملا موجها للأطفال فى صيغة أراجيز، ثم اكتشفت أنه موجه للأطفال داخلنا وقد نشر بعضه فى هذه النشرة (الإنسان والتطور) مثلا: 30-1-2008، 18-5-2009، 14-3-2010، 23-1-2011 ، 14-7-2014

[6] – Child Abuse

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *