الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الثلاثاء الحرّ: مقالان منذ حوالى خمس عشرة عاماً !

الثلاثاء الحرّ: مقالان منذ حوالى خمس عشرة عاماً !

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 26-3-2013

السنة السادسة

 العدد: 2034

الثلاثاء الحرّ:

مقالان منذ حوالى خمس عشرة عاماً !

مقدمة:

واسترد الثلاثاء حريته، وقام بالتعويض فاقترح علىّ نشر مقالين كتبتهما منذ حوالى خمس عشرة عاما، قرأتهما ولم أصدق نفسى!!

هل مازال هناك أمل لنفخر بما هو نحن وقد أهدرنا كل ثمين وأصيل؟

 نعم هناك بل هنا غصبا عن كل ما حدث ويحدث

نحن نستأهل بما نفعل ونواصل.

والله الموقف.

* * * *

المقال الأول:

الأهرام:  14-5-1999

العولمة ونوعية الحياة

كثر الحديث عن العولمة، وعن العالم الذى أصبح قرية صغيرة، وعن ثورة الإتصالات التى سمحت للإنسان المعاصر بأكبر قدر من الحرية ‏(حرية ماذا؟‏)‏ عبر التاريخ، وعن الشفافية التى جعلت كل شئ متاحاً لكل أحد، وعن النظام العالمى الجديد الذى به حلت نهاية التاريخ‏!!!,‏ عن صراع الحضارات الذى لابد بالتالى أن ينتهى لصالح الحضاره المنتصره، [‏على فرض ان الحضارة الامريكية قد إنتصرت جدً، إذا كانت قد وجدت اصلا‏!!].‏

ويبدو أن كل ذلك قد شغلنا عن الأهم والأولى بالنظر، وهو محاولة التساؤل بعد كل هذا، ومع كل هذا عن‏:‏ إلى أين‏..‏؟‏(و‏)‏ إذن ماذا؟‏.‏

ونحن إذ نتساءل عن ذلك لا نعترض ولا نتحفظ ولا نضع شروطا لاستفادتنا من انجازات العولمة، لكننا نحاول أن نرتقى بوعينا وفعلنا إلى مسئوليتنا عن وجودنا، وعن نوعيته هذا إذا كان لنا ان نختار ما فضلنا به الله، وهو الوعى بما نحن، ومن ثم الإسهام فى اختيار ما يمكن ان نكونه‏.‏

لقد أنهى بيل جيتس كتابه الطريق يمتد قدما‏1995)‏ المترجم باسم المعلوماتيه بعد الانترنت ‏(فى سلسلة عالم المعرفة ترجمة عبد السلام رضوان مارس‏1998)‏ بأمل واعد يقول‏…‏ ويمكننا بالتأكيد أن نواصل توفير برمجيات أفضل وأفضل من أجل جعل الكمبيوتر الشخصى اداة تمكين معممه فى كل مكان‏…‏ ولم يقل، ولا يبدو أنه شغله أن يقول لنا، اداة تمكين من ماذا؟ ولا أداه تمكين للوصول إلى أين‏..‏؟ اللهم الا إشارة عابره لانشاء شركات جديدة،,‏ وعلوم جديدة تحقق ما يتصوره عن تحسين نوع الحياة‏.‏

فهل يوجد تعريف إجرائى لنوعية الحياه التى نريد ان نحسنها؟ أهى إطاله العمر، ام مجتمع الرفاهية، أم أوهام الحرية، أم تعميق الوعى والإمتداد الايمانى، أم مزيد من تأنيس الإنسان؟‏.‏

كذلك انهى الكاتيان هانز بيترمان، وهارالد شومان كتابهما فخ العولمة‏ (المترجم ايضا فى نفس السلسلة أكتوبر‏1998‏ ترجمه د‏.‏ عدنان عباس على( برص عشرة أفكار رائعة لإنقاذ اوروبا من غباء العولمة‏(الأمريكية‏),‏ وليس لإنقاذ الجنس البشرى من الإنقراض المحتمل، وقد بدت لى هذه الافكار الأوروبية التى لوح بها المؤلفان بدت لى أفكاراً مثالية خاصة بأوروبا جداً، آملة، وقصيرة الأجل‏.‏

كذلك تتبعت مقدراً إجتهادات ا‏.‏ د‏.‏ زقزوق، وأيضا د‏.‏ محمد رءوف حامد ‏(اهرام الجمعة‏7‏ مايو‏1999)، فى محاولة التوفيق بين الإسلام والعولمة من جهة، وبين الوطنية والعولمة من جهة أخرى، إلا اننى شعرت بعد الإمتنان لهما أن الأمر قد يحتاج الى خطوة أبعد مما ذهبا إليه مشكورين‏.‏

وسوف اتجنب ألا أركز على فتح ملف الفروق بين ثقافة الشرق‏ (المتخلف أو الوجدانى أو الإشراقي‏)‏ وثقافة الغرب والشمال ‏(المتقدم، البالغ الوفرة، المحقق للرفاهية‏)‏ فهو ملف مفتوح دائما، والنقاش فيه مغلوط عادة، (مثلاً بالمعايرة أو التشفى بذكر مذبحة كولورادو الأخيرة على أنها نذير تدهور الغرب كله لا محالة‏..‏ إلخ‏).‏

كذلك لن أحاول أن أعدد فضائل الأخلاق‏ (المنقرضة)‏ التى كنا نتمتع بها، أو التى يمكن أن نفخر بها، أو التى ينبغى أن نتصف بها‏(راجع مقال فهمى هويدى11/5/1999، فمثل هذه الدعوات لا جدال حول وجاهتها، من حيث أنه على الإنسان أن يكون على خلق عظيم، سواء باحياء تعاليم دينه او بإتباع مواثيق حقوق الإنسان، إلا أن المطلوب ليس مباريات الفخر والهجاء، ولا حتى محاولات التوفيق والتزام قدر من الموضوعية، وإنما المطلوب هو محاولة التساؤل المبدئي‏:‏

هل توجد فروق جوهرية فيما يتعلق بنوعية الحياة التى يلوحون لنا بها، وبين نوعية الحياة التى تصلح لنا من وحى إختلافنا التاريخى والآنى، والتى قد يكونون هم أحوج ما يكونون إليها‏(إلينا‏)‏ إذا نجحنا فى إثبات جودة وصلاحية ما ندعو اليه ونحققه؟ ام ان العولمة قد أزالت هذه الفروق بالمرة؟

يقول بطرس غالى فى شأن العولمة حالة كونه سكرتيراً للأمم المتحدة‏:‏ ليست هناك عولمة واحدة، بل ثمة عولمات عديدة، فعلى سبيل المثال، هناك عولمة فى مجال المعلومات، والمخدرات، والاوبئة والبيئة، وطبعاً، وقبل هذا وذاك، فى مجال المال أيضا ثم يتكلم غالى عن الجرائم العابرة للحدود كما يتكلم عن الأموال العابرة للحدود، لكنه ربما من باب الحذر لا من قبيل الغفلة لم يشر إلى عولمة التدين، وعولمة التوحيد، والأخلاق الحميدة العابرة للحدود، والوجود الإيمانى العابر للحدود‏.‏

وقد تناول ديستويفسكى حضور الله سبحانه فى وعى الإخوه كارامازوف واحداً واحداً ليعلن بطريق مباشر أو غير مباشر أن هذا المتغير حضور الله فى الوعى هو أساسى فى بناء الشخصية، ومن ثم فى تحديد نوعية الحياة، بحضورها الآنى فى الفعل اليومى، يستوى فى ذلك تسليم إيفان الملحد بأنه‏..‏ إذا فقدت الإنسانيه هذا الإعتقاد بالخلود فسرعان ما ستفيض جميع ينابيع الحب‏..(و‏)‏ أكثر من ذلك أنه لن يبقى شئ، يعد منافياً للأخلاق، وسيكون كل شئ مباحاً، او رأى ديمترى أنه‏:‏ أنك إذا أنكرت الله تنتهى إلى زياده سعر اللحم‏..‏ الخ‏.‏

كذلك ظل نجيب محفوظ يلح حول هذه القضية بكل اصرار ومثابرة من أول زعبلاوى حتى الحرافيش إلى أصداء السيرة، مارين بالطريق دون إستبعاد أولاد حارتنا، ومن أنصت إلى عمر الحمزاوى فى الشحاذ وهو يستمع لذلك الصوت يعاتبه فى نهاية الرواية إن كنت تريدنى، فلم هجرتنى، لابد أن يدرك أين وضع محفوظ هذه القضيه محوراً فى تحديد نوعية الوجود البشرى.‏وكل ذلك وغيره خليق بأن يلح علينا بضرورة إكتشاف وتاكيد حقيقة جوهرية فى الوجود البشرى تقول‏:‏ إن وجود الله هو ضرورة حيويه ليكون البشر بشراً، وأن هذه القضيه يستحيل أن تكون مجرد مسألة منطقية شبه عقلية، أو حتى أن تختزل إلى إستسلام دينى غيبى.‏

ولن استطرد بعد ذلك فى شرح هذه المسالة حتى لا أخرج عن هدف المقال الاصلى الذى يقول‏:‏

أننا ونحن نتناول هذا التمادى المطرد فيما هو أدوات التمكين التى تتيحها وسائل الحياة المعولمة، لابد أن نضع هذا المتغير الأساسى فى حسباننا، وإلا فسوف نستدرج إلى التسليم ضمنا بموقع العقيدة والإيمان كإضافات اختياريه‏Options  (مثل كماليات السيارات‏)‏ يمكن أن يتحلى بها من يشاء بعض الوقت تحت زعم أن الدين لله والوطن للجميع، أو أن ما لقيصر لقيصر وما لله لله وكلام من هذا، مما يخدعنا تحت وهم تسامح كاذب لا يصل إلى عمق حقيقة التواصل البشرى تحت مظلة الله‏..‏ سبحانه وتعالى طوال الوقت؟‏.‏

إننى أزعم أن هذه المسألة وجود الله سبحانه كمتغير فاعل طول الوقت هى الجوهر الذى ينبغى أن نعتنى باستعمال الأدوات الأحدث لبرمجته بطريقه تميزنا نحن، وفى نفس الوقت قد تضيف إلى إحتياجاتهم ما يمكن أن ينقذهم من أوهامهم حول الإكتفاء بالحرص على الرفاهية والتنافس الكمى المتنامى، والإستغناء عن الله باثارة الفنية فى إبداعهم؟ أن الحياة البشرية تختلف نوعياً إذا كان الله موجوداً عنها إذا ما أنكرناه أو أبعدناه أو حددنا أوقات لقائه أثناء العبادات او ايام الأحاد أو الجمع‏!‏ ولعل هذا، فى رأيى، هو الفرق بين الإسلام الموقف الوجودى، وبين الإسلام المغترب، او المختزل، او الإسلام المستعمل من الظاهر لتولى سلطه، أو إعلان وصايه، وكذلك بين الإسلام الفطرة وبين التشويهات التى لحقت بممارسات الإسلام المؤسسة، والأديان الأخرى التى تمارس بإعتبارها إضافه طيبه للحياه لا مانع منها بعض الوقت‏!!!‏

أن التاريخ الحيوى للتطور يعلمنا أن أى نوع من الأحياء ينقرض إذا تمادى عدم التناسب بين مجالات وجوده، ونوعيات قدراته، وطبيعه فطرته، وأيضا ينقرض نتيجه عدم التناسب بين إحتياجاته ومعطيات الوسط المحيط، هكذا تعلمنا دروس إنقراض الديناصور مثلا حين تمادى عدم التناسب بين ضخامة جسده وصغر حجم مخه وسرعة حركته إلخ، وما تعرضه علينا الآن أدوات العولمه يكاد يضعنا فى موقف مشابه اذ نتهدد حتماً بدرجة من عدم التناسب بين سرعة الحصول على المعلومات وبين امكانية استيعابها، وايضا بعدم التناسب بين غلبة الحسابات الظاهرة على الحس الإيمانى التواصلى الاعمق‏.‏

فهل عندنا اى موقف او تاريخ او اختلاف يمكن ان يسهم فى تحقيق إعادة التوازن المطلوب هذا؟

الاجابه عندى بكل عناد‏(او غفله‏)‏ نعم‏.‏

أن الحياة تختلف كل الإختلاف إذا كان الله موجوداً عنها إن لم يكن موجوداً‏.

أننى أتصور أن المسألة كالآتى‏:‏

هناك نوعان أساسيان من الوجود البشرى يمكن أن نتحقق منهما عند المتدين‏(أو من يدعى ذلك‏),‏ وأيضا عند غير المتدين‏(أو الذى يتصور ذلك‏):‏

النوع الأول هو النوع الذى يقف شامخاً فخوراً لينتهى عند أعلى نقطة فوق هامة الإنسان وقد زانه عقله ولمعته أدواته‏(وهو ما يمثله اغلب ما يسمى الحضارة الغربية الشمالية التكنولوجية، الخ‏).‏

والنوع الثانى هو الذى تمثله الحضارات الايمانية التوحيدية التواصلية النابضة الممتدة إلى ما لا يحد من وجودها عقل ظاهر، او وصاية إله محدودة‏.‏

ثم ان هذين النوعين من الوجود يختلفان اختلافاً جوهرياً، بحيث تصطبغ الحياه بطعم مغاير عند من يعيش هذا النوع أو ذاك، على الرغم من تشابه الأدوات والأمكانات المتاحة‏.‏

وأتصور أن وجودنا نحن المصريين مثلاً الممتد من ألاف السنين مشدوداً بالخلود دائراً حول التوحيد، مازال يمثل أو يمكن أن يمثل النوع الأول، كذلك أتصور أن كل المؤمنين من كل الأديان، ذلك الإيمان الفطرى الأولى الذى يتجلى فى ممارسات دينية مختلفة، متضفرة، وضامة فى أن، ينتمون أيضاً إلى هذا النوع الأول من الوجود، أما النوع الثاني‏:‏ فهو ذلك النوع الذى تمثله الحضاره الشماليه الغربيه قبل إفاقتها مؤخراً وهو نوع جميل البريق وافر الرفاهيه كثير المواثيق المكتوبة رائع الإنجاز رضى بواقعيه آنيه أعفته من الإفراج عن وعيه الأعمق الممتد عبر البشر وعبر الأكوان‏.‏

أن حقيقه وجود الله فى كل مكان وزمان هى حقيقة لا تتجلى فعلاً يومياً إلا إذا ملأت الوعى البشرى طول الوقت، وهى حقيقة قد اثبتتها رغم أنها لا تحتاج إلى إثبات اختبارات التاريخ، لا حجج العقل‏(راجع العوده الدينيه التلقائية بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي‏).‏

فهل يمكن أن يظل الإنسان إنسانا إذا هو تمادى فى صياغة حياته المعاصرة بمزيد من التقنيات والإمكانات الجديدة، وفى نفس الوقت راح يهمش هذه الحقيقه أن الله موجود تهميشاً يهدد بفقد التوازن فالإنقراض، أم أنه قد آن الأوان لإفاقة شاملة فى الوقت المناسب لكى نعد برمجياتنا ونحن نضع هذا المتغير الرائع‏(أن الله موجود‏)‏ فى الحساب؟

إننى أتصور أن التمادى فى تقديس الحضاره الكتابيه أدى إلى إهمال الحضارة الشفاهية حتى أصبح إحترام ميثاق حقوق الإنسان مثلاً أهم من إحترام الإنسان نفسه، وأيضاً أصبح الإلتزام بمواد القوانين المكتوبة‏(بما فى ذلك حذق التحايل عليها‏)‏ أهم من الإلتزام بما كتبت هذه القوانين من أجله، ووجود الله سبحانه وتعالى كحقيقة يومية طول الوقت هو الذى يمكن ان يقرب بين ما هو مكتوب وما هو معاش بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره‏.‏

والتحدى الجديد لا يمكن فقط فى إحلال حضارة الاتصالات والتواصل والشفاهية محل الحضارة الكتابية، وإنما هو يهدد بعدم تناسب جديد بين كم المعلومات المتاحة وإمكانات البيولوجيا البشرية لاستيعابها لما يفيدها، وهنا نتهدد بتضخم الوسيلة حتى تختفى الغايات الاساسية من الوجود البشرى بين ثنياتها العملاقة‏.‏

ليس عندى إقتراحات محددة، ولا أشعر باى إعتراض على أدوات نحن كبشر ينبغى أن نفخر بإختراعها وتملك ناصيتها، فقط أنبه إلى أن علينا أن نتحمل مسئولية الحصول عليها، أولاً على مستوانا المحدود، ثم على مستوى العالم‏.‏

صحيح أن مثل هذه الآراء، والمقالات والآراء، والإجتهادات لن تقدم ولن تؤخر مهما صدق محتواها، فأصحابها لا يملكون تسخير أدوات تمكين كافيه لنشرها وتسويقها‏(!!),‏ إذن فنحن أحوج ما نكون إلى برامج، ومبرمجين يضعون ماهية الإنسان الممتد فى الإعتبار، فيصيغون لنا أدوات إختبار تصنف إنجازاتنا الفردية والجماعية لنعرف أول بأول إن كانت تسير فى الإتجاه الصحيح الذى يعمق إنسانية الإنسان أم أنها تتعملق فى ذاتها لذاتها كوسيله بلا هدف واضح او لهدف هدام؟

أننى أتصور أن هذه البرامج ربما تشبه برامج كشف فيروسات الكمبيوتر، التى تختبر أية تداخلات غريبة يمكن أن تضرب المحتوى، أو العتاد أو البرامج الصالحة، والشاطر هو الذى يختبر كل ما يعمل وما يخزن وما يبرمج أولاً بأول بهذا البرنامج الكاشف للفيروس ثم يبطل مفعوله ببرنامج مضاد، وعلى هذا القياس دعونى آمل أن نصنع برمجيات تقيس إنجازنا اليومى فردا فردا، فتجيب لكل واحد منا عن أسئلة بسيطة يعتبر نسيانها هو آفة اغترابه وهلاكه، أسئلة تحدد له إن كان انجازه هذا اليوم‏(سواء اشترى فيه عربة جديدة، أم أصدر قراراً برفع ثمن دواء مهم فى شركة أدوية لتكسب شركته اكثر، أم شاهد غروب الشمس، أم ساهم فى إطعام جائع لا يعرف جنسيته او دينه‏),‏ يجيبه هذا البرنامج قبل أن ينام كل ليلة، إن كان هذا الذى أنجزه طول يومه أولاً بأول قد زاده إمتداداً فى الكون‏(إيماناً‏)‏ أو قرباً من آخر‏(حباً‏)‏ أو عمقاً فى الوعي ‏(ابداعاً‏),‏ أم أن العكس هو الذى حدث‏.‏

صحيح أنه لم يعد هناك مجال لهبوط الوحى على نبى جديد على الرغم من ظهور ديانات شاذه ومريبة كل يوم فى كل مكان يسمح بذلك، لكن الأصح أننا إستبعدنا الأديان القائمة بالجمود أو بالإنكار أن تصبح فعلاً يومياً نحدد به ما حاولت فى هذا المقال أن أبينه من إختلاف نوعية الحياة إذا إنتهت عنده هامة الإنسان الفرد أو الإنسان النوع، عنها إذا إمتدت بلا حدود عبر الأكوان سعياً إلى وجه الله طول الوقت‏.‏

أن إستبعاد حضور الله سبحانه فى وعى البشر طول الوقت ليس فقط خطيئة وخسارة من انكروه تعالى، أو من همشوه، بل أن هذا الإستبعاد ساهمت فيه بعض الممارسات الدينية السطحية، حتى لو كانت حسنة النية، فحتى الدعاء، الذى نبهنا رب العالمين أنه من حقنا عليه طول الوقت فى كل مكان، كدنا نقصره على اماكن مقدسة بذاتها‏(أنا ذاهب للعمرة وسوف أدعو لك هناك‏),‏ وكأننا نشير بذلك ضمناً إلى إغترابنا عن حقيقة دوام حضور الله سبحانه فى كل مكان، وكأننا نسينا كيف يكون العبد أقرب إلى ربه وهو ساجد هنا والآن، وكأننا نسينا أين يقع حبل الوريد‏.‏

ولحين عودة تفصيلية نذكر مرة أخرى أن المسألة ليست دعوة مثالية أخلاقية، ولا هى أسلمة أو ديننة العولمة، ولكنها تنبيه ضرورى عملى إلى إحتمال يقول‏:‏ أننا فى حديثنا عن العولمة نركز على الوسائل دون الغايات منها، ونهتم بسرعة وكم الإنجاز على حساب نوع وإمتداد الوجود‏.

وهذا هو موضوع الحديث اللاحق عن‏:‏ عولمة الأخلاق ومنظومة القيم‏.‏

* * * *

‏ المقال الثانى:

الأهرام‏: 1-6-1999

هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم

من‏ ‏حقنا‏، ‏بل‏ ‏من‏ ‏واجبنا‏، ‏أن‏ ‏نؤكد‏ ‏على ‏ضرورة‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏هوية‏، ‏وأن‏ ‏نخاف‏ ‏من‏ ‏الإغراق‏ ‏الثقافي‏، ‏ومن‏ ‏التبعية‏ ‏الاقتصادية‏، ‏إلى ‏آخر‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏. ‏ويجرنا‏ ‏هذا‏ ‏بداهة‏ ‏إلى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏خلاف‏ ‏جوهرى ‏بيننا‏ ‏وبينهم‏، ‏مرة‏ ‏فخورين‏ ‏بتاريخنا‏ ‏المجيد‏، ‏وأخرى ‏متعصبين‏ ‏لديننا‏ ‏الفريد‏، ‏وثالثة‏ ‏واهمين‏ ‏فى ‏قدراتنا‏ ‏الكامنة‏ ‏التى ‏تنتظر‏ ‏إشارة‏ ‏الانطلاق‏ ‏لنسوى ‏الأهوال‏.‏

‏ ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏تصبير‏ ‏مفهوم‏، ‏وحكى ‏مسل‏، ‏لكن‏ ‏أن‏ ‏نتوقف‏ ‏عند‏ ‏ذلك‏، ‏أو‏ ‏نروح‏ ‏نكرره‏ ‏راضين‏ ‏عن‏ ‏أنفسنا‏، ‏حاكمين‏ ‏على ‏غيرنا‏، ‏متكلمين‏ ‏عن‏ ‏مستقبل‏ ‏لا‏ ‏نساهم‏ -‏الآن‏- ‏فى ‏صنعه‏، ‏مرددين‏ -‏دون‏ ‏حياء‏ ‏غالبا‏- ‏أنه‏ ‏باق‏ ‏كذا‏ ‏ساعة‏ ‏على ‏قرن‏ ‏قادم‏، ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏نتقدم‏ ‏فيه‏ ‏بسرعة‏ ‏غير‏ ‏مسبوقةإلى ‏قرون‏ ‏سحيقة‏ ‏مضت‏، ‏أن‏ ‏يحدث‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏ونحن‏ ‏فى ‏غفلة‏ ‏عنه‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏، ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الخطر‏ ‏المحيق‏.‏

إن‏ ‏خطر‏ ‏البكاء‏ ‏على ‏الأطلال‏ ‏ومحاولة‏ ‏استنساخ‏ ‏الماضى ‏لا‏ ‏يقل‏ ‏عن‏ ‏خطر‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏المستقبل‏ ‏دون‏ ‏الإسهام‏ ‏فى ‏صناعته‏ (‏الآن‏).‏

إن‏ ‏ثمة‏ ‏أسئلة‏ ‏أساسية‏ ‏تحتاج‏ ‏منا‏ ‏إلى ‏إجابات‏ ‏مناسبة‏ ‏قبل‏ ‏كل‏ ‏هذا‏، ‏أو‏:‏مع‏ ‏كل‏ ‏هذا‏، ‏أسئلة‏ ‏مثل‏:‏

هل‏ ‏حقا‏ ‏نحن‏ ‏غيرهم؟‏ (‏هنا‏ ‏والآن‏)‏

وهل‏ ‏من‏ ‏الضرورى ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏غيرهم‏ ‏؟‏ (‏لماذا؟‏، ‏وكيف؟‏)‏

وهل‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏غيرهم‏ ‏لو‏ ‏أردنا‏ (‏أيضا‏: ‏لماذا‏ ‏وكيف‏ ‏؟‏)‏

وهل‏ ‏نحن‏ ‏قادرون‏ ‏؟‏ ‏وهل‏ ‏المسألة‏ ‏تستأهل‏ ‏؟‏ ‏وهل‏ ‏نحن‏ ‏نستأهل؟‏ ‏

إلى ‏آخر‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏وراء‏ ‏كتابتى ‏المقال‏ ‏السابق‏ ‏عن‏ ‏العولمة‏ ‏ونوعية‏ ‏الحياة‏، ‏والذى ‏كان‏ ‏هدفى ‏منه‏ ‏باختصار‏ ‏هو‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏حقيقتين‏ ، ‏الأولى: ‏إننا‏ ‏لا‏ ‏نملك‏ ‏أن‏ ‏نقاوم‏ ‏الوسائل‏ ‏الأحدث‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏المعاصرة‏، ‏ليس‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏صالحنا‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏فى ‏مقدورنا‏ ‏حتى ‏لوأردنا‏، ‏والثانية‏: ‏إن‏ ‏الاستسلام‏ ‏لنفس‏ ‏الوسيلة‏ (‏أو‏ ‏قل‏: ‏استعمالها‏) ‏لا‏ ‏يلزمنا‏ ‏بالضرورة‏ ‏بالتوجه‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏الغاية‏، ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏صعوبة‏ ‏فصل‏ ‏الوسيلة‏ ‏عن‏ ‏هدفها‏ ‏الأصلي‏، ‏ربما‏ ‏قياسا‏ ‏على ‏استحالة‏ ‏فصل‏ ‏الشكل‏ ‏عن‏ ‏المضمون‏ ‏فى ‏العمل‏ ‏أو‏ ‏النقد‏ ‏الأدبي‏.

وكالعادة‏، ‏قوبل‏ ‏هذا‏ ‏المقال‏ ‏من‏ ‏كثير‏ ‏ممن‏ ‏أعرف‏ ‏بما‏ ‏اعتدت‏ ‏من‏ ‏الحذر‏ ‏والرفض‏ ‏والاتهام‏، ‏وفى ‏أحسن‏ ‏الأحوال‏ ‏بالاحتجاج‏ ‏على ‏الصعوبة‏ ‏والغموض‏، ‏ولم‏ ‏يطمئننى ‏إلى ‏عكس‏ ‏ذلك‏ ‏إلا‏ ‏ذلك‏ ‏التقديم‏ ‏الشارح‏ ‏الموجزالكريم‏ ‏الذى ‏قدمته‏ ‏به‏ ‏صفحة‏ ‘‏قضايا‏ ‏وآراء”، ‏ثم‏ ‏إلإشارة‏ ‏الكريمة‏ ‏التى ‏جاءت‏ ‏فى ‏بريد‏ ‏أهرام‏ ‏الأربعاء‏ (‏د‏. ‏محمد‏ ‏شمس‏ ‏الريس‏ -28 ‏مايو‏)، ‏أما‏ ‏ما‏ ‏تفضل‏ ‏به‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏زقزوق‏ ‏ردا‏ ‏على ‏ما‏ ‏كتبت‏ ‏فى (‏أهرام‏ ‏الجمعة‏ 21 ‏مايو‏) ‏فكان‏ ‏بردا‏ ‏وسلاما‏، ‏كسر‏ ‏وحدتي‏، ‏إلا‏ ‏قليلا‏، ‏أو‏ ‏إلا‏ ‏كثيرا‏.‏

أنهيت‏ ‏مقالى ‏السابق‏ ‏بوعد‏ ‏بعودة‏ ‏تفصيلية‏ ‏للتنبيه‏ ‏على ‏ضرورة‏ ‏الالتفات‏ ‘..‏إلى ‏احتمال‏ ‏يقول‏: ‏إننا‏ ‏فى ‏حديثنا‏ ‏عن‏ ‏العولمة‏ ‏نركز‏ ‏على ‏الوسائل‏ ‏دون‏ ‏الغايات‏ ‏منها‏، ‏ونهتم‏ ‏بسرعة‏ ‏وكم‏ ‏الإنجاز‏ ‏على ‏حساب‏ ‏النوع‏ ‏وامتداد‏ ‏الوجود”، ‏ولم‏ ‏أقصد‏ ‏بذلك‏ ‏تحديدا‏ ‏مقال‏ ‏د‏. ‏زقزوق‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏مقاله‏ ‏الأسبق‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏حفزنى ‏لكتابة‏ ‏مقالى ‏لأواصل‏ ‏ما‏ ‏بدأه‏ ‏هو‏، ‏وليس‏ ‏لأنتقص‏ ‏منه‏، ‏وحين‏ ‏قلت‏ ‘‏إن‏ ‏الأمر‏ ‏قد‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏خطوة‏ ‏أبعد” ‏كان‏ ‏ذلك‏-‏حتى ‏من‏ ‏واقع‏ ‏حرفية‏ ‏اللغة‏- ‏يعنى ‏الامتداد‏ ‏وليس‏ ‏الاعتراض‏، ‏ومع‏ ‏هذا‏ ‏فيبدو‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏وصله‏ ‏هو‏ ‏أننى ‏أدرجته‏ ‏أوأدرجت‏ ‏مقاله‏ ‏مع‏ ‏من‏ ‏يهتم‏ ‏بالوسائل‏ ‏دون‏ ‏الغايات‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏أقصده‏ ‏طبعا‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏أملى ‏فيه‏ ‏وفى ‏أمثاله‏ -‏ممن‏ ‏هم‏ ‏فى ‏موقع‏ ‏المسئولية‏ ‏واتخاذ‏ ‏والقرار‏- ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏دافعا‏ ‏لانطلاقة‏ ‏تستلهم‏ ‏النصوص‏ ‏لا‏ ‏تكتفى ‏بنقل‏ ‏التفاسير‏، ‏وتعيد‏ ‏صياغة‏ ‏الوعى ‏الإيمانى ‏لا‏ ‏تستنسح‏ ‏التدين‏ ‏الاغترابي‏، ‏لكننى ‏لا‏ ‏أنكر‏ ‏أننى ‏سعدت‏ ‏بعدم‏ ‏وضوحى ‏ذاك‏، ‏لأنه‏ ‏أتحفنا‏ ‏بمقال‏ ‏الدكتور‏ ‏زقزوق‏ ‏التالى ‘‏عود‏ ‏على ‏بدء”، ‏ليؤكد‏ ‏رحابة‏ ‏الصدر‏ ‏ومسئولية‏ ‏الكلمة‏.‏

ثم‏ ‏نعود‏ ‏إلى ‏أصل‏ ‏الحكاية‏:‏

‏ ‏فيم‏ ‏الاختلاف‏-‏إن‏ ‏وجد‏ -‏بيننا‏ ‏وبينهم‏، ‏؟‏ ‏وهل‏ ‏من‏ ‏سبيل‏ ‏إلى ‏اللحاق‏ ‏بهم‏ ‏؟‏ ‏أم‏ ‏أن‏ ‏الطريق‏ ‏الأصوب‏ ‏هو‏ ‏محاولة‏ ‏لقائهم‏ ‏من‏ ‏منطلقنا‏ ‏إلى ‏أمر‏ ‏مشترك‏ ‏يهمنا‏ ‏معا؟‏ ‏وهل‏ ‏مجرد‏ ‏إتقان‏ ‏وسائلهم‏ ‏مع‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏هوامش‏ ‏الاختلاف‏ ‏هو‏ ‏كاف‏ ‏لنيل‏ ‏شرف‏ ‏الإسهام‏ ‏الحضارى ‏المنتظر‏ ‏والمشترك‏، ‏أم‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏أساسيات‏ ‏جوهرية‏ – ‏غائبة‏ ‏عن‏ ‏أغلبهم‏ ، ‏ومغيبة‏ ‏عن‏ ‏أغلبنا‏ – ‏هى ‏التى ‏تحدد‏ ‏المآل‏، ‏لنا‏ ‏ولهم‏، ‏وقد‏ ‏تنقذنا‏-‏جميعا‏- ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏الانقراض‏؟

إن‏ ‏المحاولات‏ ‏التوفيقية‏ ‏والتبريرية‏ ‏التى ‏تتناول‏ ‏مسألة‏ ‏اختلافنا‏ ‏عنهم‏ -‏على ‏صدقها‏ ‏واجتهادها‏- ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏توجز‏ ‏فى ‏المقولات‏ ‏التالية‏:‏

أولا‏:‏هذه‏ ‏الحضارة‏-‏حضارتهم‏-‏نحن‏ ‏أصحاب‏ ‏الفضل‏ ‏فيها‏ (‏مثلا‏:‏فضل‏ ‏ابن‏ ‏رشد‏ ‏وإضافات‏ ‏الأندلس‏)‏

ثانيا‏: ‏هذه‏ ‏العلوم‏-‏علومهم‏- ‏لها‏ ‏جذورها‏ ‏عندنا‏(‏حتى ‏فى ‏القرآن‏ ‏الكريم‏: ‏وهات‏ ‏يا‏ ‏تعسف‏ ‏فى ‏التفسير‏)‏

ثالثا‏:‏هذه‏ ‏الإنجازات‏(‏التكنولوجية‏ ‏مثلا‏)‏نحن‏ ‏نستطيع‏ ‏تقليدها‏(‏شبه‏ ‏رطانة‏ ‏مدنية‏ ‏توفيقية‏، ‏أو‏ ‘‏كنظام” ‏حضارة‏= ‏حضارة‏ ‏كومباتيبل‏ Copmpatible)‏

رابعا‏:‏هذه‏ ‏المعلومات‏ ‏المستوردة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نصيغها‏ ‏بالعربية‏ (‏تعريب‏ ‏الطب‏ ‏مثلا‏، ‏وكأن‏ ‏الطب‏ ‏أعجمى ‏الجنسية‏ ‏ولا‏ ‏يحتاج‏ ‏منا‏ ‏إلا‏ ‏إلى ‏ترجمة‏!!)‏

هذا‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏محاولات‏ ‏عابثة‏ ‏تكاد‏ ‏تمسخ‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الإسلام‏ ‏والعلم‏ ‏معا‏ ‏وهى ‏التى ‏تسمى ‏أحيانا‏ ‏أسلمة‏ ‏العلوم‏ (‏فثمة‏ ‏زعم‏ ‏بوجود‏ ‏جغرافيا‏ ‏إسلامية‏-‏وليس‏ ‏جغرافية‏ ‏العالم‏ ‏الإسلامي‏-، ‏وطبيعة‏ ‏إسلامية‏، ‏وكيمياء‏ ‏إسلامية‏، ‏وطب‏ ‏نفسى ‏إسلامي‏.‏إلخ‏.‏

‏ ‏وأنا‏ ‏لا‏ ‏أنكر‏ ‏ما‏ ‏وراء‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏حماس‏ ‏وحسن‏ ‏نية‏ ‏وإخلاص‏ ‏جهد‏، ‏إلا‏ ‏أننى ‏أتصور‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏وأن‏ ‏يحرمنا‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏فوائد‏ ‘‏الشعور‏ ‏بالنقص” ‏والوعى ‏بحجم‏ ‏قصورنا‏ ‏الحقيقي‏)‏

فإذا‏ ‏كان‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏التوفيق‏ (‏والتلفيق‏) ‏لا‏ ‏يفيد‏، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يخدعنا‏ ‏ونحن‏ ‏نتصور‏ ‏أننا‏ ‏نتميز‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نفعل‏ ‏شيئا‏ ‏إلا‏ ‏أننا‏ ‏نستبدل‏ ‏بغياب‏ ‏معالم‏ ‏هويتنا‏ ‏الحصول‏ ‏على ‘‏هوية‏ ‏مزورة” ‏غير‏ ‏متقنة‏ ‏التزوير‏، ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏كذلك‏، ‏فما‏ ‏هو‏ ‏البديل‏، ‏وما‏ ‏هى ‏القضايا‏ ‏الأولى ‏بالتقديم‏ ‏والعناية‏ ‏؟

هذا‏ ‏ما‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أبينه‏ ‏فى ‏مقالى ‏السابق‏، ‏وقد‏ ‏بلغنى ‏أننى ‏لم‏ ‏أنجح‏ ‏تماما‏، ‏فلزم‏ ‏الاستطراد‏:‏

إن‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏نوعية‏ ‏الحياة‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يجرنا‏ ‏إلى ‏أصل‏ ‏الحكاية‏، ‏وهى ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏هية‏ ‏الإنسان‏، ‏وكيف‏ ‏أسهمت‏، ‏وتسهم‏ ، ‏كل‏ ‏روافد‏ ‏المعرفة‏ ‏من‏ ‏علم‏ ‏وفن‏ ‏وإيمان‏ ‏وأديان‏، ‏فى ‏الكشف‏ ‏عنها‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏تعهدها‏ ‏وتنميتها‏، ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏حين‏ ‏ابتلى ‏بالوعى ‏والحرية‏ ‏أصبح‏ ‏ممتحنا‏ ‏بالإسهام‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏مساره‏ ‏ومصيره‏، ‏وما‏ ‏يجرى ‏الآن‏ ‏ممن‏ ‏استولوا‏ ‏قسرا‏ ‏على ‏قيادة‏ ‏النظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏ ‏لا‏ ‏يبشر‏ ‏بخير‏ ‏كثير‏ ‏فى ‏الاتجاه‏ ‏الصحيح‏، ‏وقد‏ ‏تعلمت‏ ‏أننى ‏بمجرد‏ ‏استعمال‏ ‏لغة‏ ‏مثل‏ ‘‏ماهية‏ ‏الإنسان” ‏أو”‏موضوعية‏ ‏الوجود‏ ‏الإلهي”، ‏أو‏ ‏مسألة‏ ‘‏الفطرة” ، ‏أن‏ ‏أواجه‏ ‏للتو‏ ‏باعتراضات‏ ‏الخائفين‏ ‏من‏ ‏الفلسفة‏ (‏رهاب‏ ‏الفلسفة‏) ، ‏والحريصين‏ ‏على ‏تصنيف‏ ‏البشر‏ ‏والأقلام‏ ، ‏تصنيفهم‏: ‏إما‏ ‏يسارا‏ ‏أو‏ ‏يمينا‏، ‏إما‏ ‏متدينا‏ ‏تقليديا‏ ‏أو‏ ‏ملحدا‏ ‏غبيا‏، ‏إما‏ ‏أصوليا‏ ‏رجعيا‏ ‏أو‏ ‏متنورا‏ ‏مدعيا‏، ‏ولا‏ ‏ينقذك‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏أن‏ ‏تؤكد‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏القضايا‏ ‏الأساسية‏ ‏هى ‏جوهر‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى‏، ‏وأنها‏ ‏تشغل‏ ‏الطفل‏ ‏والأمى ‏مثلما‏ ‏تشغل‏ ‏المتفلسف‏ ‏والمتفيقه‏ ‏والعالم‏ ‏والفيلسوف‏ ‏جميعا‏، ‏وإن‏ ‏اختلفت‏ ‏لغة‏ ‏ومستويات‏ ‏الانشغال‏. ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏يمارس‏ ‏وعيه‏ ‏بانفصاله‏ ‏عن‏ ‏أمه‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يحقق‏ ‏بشريته‏ ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏محاولة‏ ‏تحقيق‏ ‏ذاته‏، ‏فامتدادها‏، ‏هذه‏ ‏هى ‏قوانين‏ ‏النمو‏ ‏الإنسانى ‏لكل‏ ‏فرد‏ ‏دون‏ ‏استثناء‏، ‏وهى ‏ليست‏ ‏خاصة‏ ‏بمناقشات‏ ‏نظرية‏ ‏أو‏ ‏أبحاث‏ ‏قاصرة‏ ‏على ‏الخاصة‏.‏

‏ ‏إننا‏ ‏نتعرف‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏نحن‏، ‏ليس‏ ‏من‏ ‏محفوظات‏ ‏المدرسة‏ ‏أو‏ ‏نتائج‏ ‏الأبحاث‏ ‏أو‏ ‏نشرات‏ ‏الأخبار‏، ‏وإنما‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏نأتى ‏وما‏ ‏نذر‏، ‏ما‏ ‏نعلم‏ ‏وما‏ ‏نحس‏، ‏ما‏ ‏نمارس‏ ‏وما‏ ‏نبدع‏، ‏ونحصل‏ ‏على ‏هذه‏ ‏المعرفة‏ ‏حتى ‏ونحن‏ ‏نيام‏. ‏إن‏ ‏مصادر‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏ماهية‏ ‏الإنسان‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏العلم‏ ‏وحده‏، ‏وليست‏ ‏المناقشات‏ ‏الفلسفية‏ ‏المعقلنة‏ ‏الرصينة‏ ‏فحسب‏، ‏وليست‏ ‏التلفيق‏، ‏قص‏ ‏ولصق‏ (‏شوية‏ ‏تكنولوجيا‏ ‏على ‏شوية‏ ‏دين‏ ‏على ‏شوية‏ ‏معلومات‏ ‏على ‏شوية‏ ‏ديمقراطية‏- ‏ملحوظة‏: ‏شوية‏ ‏كلمة‏ ‏عربية‏ = ‏القليل‏ ‏من‏ ‏الكثير‏، ‏الوسيط‏) ، ‏إنما‏ ‏نتعرف‏ ‏على ‏ماهية‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الممارسة‏ ‏التى ‏تنتج‏ ‏نوعية‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏يختص‏ ‏بها‏ ‏الإنسان‏ ‏حين‏ ‏يتصور‏ ‏أنه‏ ‏أرقى ‏المخلوقات‏ ‏المعروفة‏، ‏مؤتنسا‏ ‏بإقرار‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏رب‏ ‏العالمين‏ ‘‏ولقد‏ ‏كرمنا‏ ‏بنى ‏آدم”‏

كرمنا‏ ‏بماذا؟

بمزيد‏ ‏من‏ ‏التكنولوجيا‏ ‏؟بمزيد‏ ‏من‏ ‏الاستحواذ‏ ‏الاغترابي؟‏ ‏بمجتمع‏ ‏الرفاهية‏ ‏؟‏ ‏بفن‏ ‏بجميل‏ ‏لكنه‏ ‏بديل‏ ‏عن‏ ‏الحياة‏ ‏الجميلة‏ ‏؟‏ ‏بجنة‏ ‏خصوصية‏ ‏نطرد‏ ‏منها‏ ‏الآخر‏ ‏بكل‏ ‏إصرار؟‏ ‏

نعم‏ ‏كرمنا‏ ‏بماذا‏ ‏؟

إن‏ ‏الإجابة‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏هو‏ ‏فرض‏ ‏عين‏ ‏على ‏كل‏ ‏حي‏، ‏إذاقام‏ ‏به‏ ‏البعض‏ ‏لا‏ ‏يغنى ‏عن‏ ‏الكل‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏البعض‏ ‏هو‏ ‏الرئيس‏ ‏كلينتون‏ ‏شخصيا‏، ‏هداه‏ ‏الله‏ ‏وغفر‏ ‏له‏، ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏على ‏كل‏ ‏فرد‏ ‏أن‏ ‏يجتهد‏ ‏للإجابة‏، ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يبرئ‏ ‏ذمته‏ ‏من‏ ‏الورطة‏ ‏التى ‏تورط‏ ‏فيها‏ ‏إذ‏ ‏حمل‏ ‏أمانة‏ ‏الوعى ‏وشرف‏ ‏الاختيار‏.‏

‏ ‏من‏ ‏هنا‏ ‏تبدأ‏ ‏نقطة‏ ‏الانطلاق‏ ‏للحديث‏ ‏عن‏ ‘‏نوعية‏ ‏الحياة‏، ‏واحتمال‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏منطلقنا‏ ‏إليها‏ ‏بالممارسة‏ ‏الآنية‏ ‏والواعدة‏ ‏مختلفا‏ ‏عما‏ ‏يلوحون‏ ‏لنا‏ ‏به‏، ‏فلا‏ ‏نسارع‏ ‏بالتنافس‏ ‏على ‏القسم‏ ‏بأغلظ‏ ‏الأيمان‏ ‏أننا‏ ‏ديمقراطيون‏ ‏جدا‏، ‏ومحافظون‏ ‏على ‏البيئة‏ 100%، ‏وعلى ‏حقوق‏ ‏الإنسان‏ ‏بالمواصفات‏ ‏التى ‏يحددها‏ ‏ويتابعها‏ ‏الراعى ‏الأمريكى ‏جدا‏..‏إلخ‏، ‏إن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نبحث‏ ‏عن‏ ‏مواصفات‏ ‏بديلة‏ ‏ـ‏ ‏هى ‏موجودة‏ ‏حتما‏ ‏بدليل‏ ‏أننا‏ ‏مازلنا‏ ‏بشرا‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏شيء‏- ‏مواصفات‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تحقق‏ ‏الحرية‏ ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏الديمقراطية‏، ‏أو‏ ‏تحقق‏ ‏العدل‏ ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏الحقوق‏ ‏المكتوبة‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏تصالحنا‏ ‏على ‏الطبيعة‏ ‏لنظل‏ ‏فى ‏حوار‏ ‏دائم‏ ‏معها‏، ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏خفراء‏ ‏للحفاظ‏ ‏على ‏ما‏ ‏نجتزئه‏ ‏منها‏ ‏ونسميه‏ ‏البيئة‏، ‏إن‏ ‏قضايا‏ ‏العدل‏ ‏والحرية‏ ‏والعلاقة‏ ‏بالطبيعة‏ ‏وبالامتداد‏ ‏فى ‏الكون‏ ‏بالإيمان‏ ‏لم‏ ‏تحسم‏ ‏بانهيار‏ ‏اتحاد‏ ‏السوفيتي‏، ‏ولا‏ ‏بالسماح‏ ‏بانتقال‏ ‏الأموال‏، ‏ولا‏ ‏بإغراق‏ ‏العقول‏ ‏بقصاصات‏ ‏المعلومات‏ ‏الصادرة‏ ‏عن‏ ‏تثاؤبات‏ ‏الوعى ‏البشرى ‏المصنوع‏.‏

فهل‏ ‏ثمة‏ ‏سبيل‏ ‏نساهم‏ ‏به‏ ‏فى ‏إضافة‏ ‏متواضعة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تنير‏ ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏الجوانب‏ ‏الأساسية‏ ‏؟

إن‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏حقنا‏ -‏بل‏ ‏واجبنا‏- ‏فى ‏اكتشاف‏ ‏نوعية‏ ‏الحياة‏ ‏يحمل‏ ‏فى ‏طياته‏ ‏التكليف‏ ‏بالبحث‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏هية‏ ‏الإنسان‏ ‏فى ‏حضوره‏ ‏المتطور‏ ‏أبدا‏، ‏فالدعوة‏ ‏ليست‏ ‏قاصرة‏ ‏على ‏التنبيه‏ ‏إلى ‏حياة‏ ‏روحية‏ (‏ضد‏ ‏المادية‏)، ‏أو‏ ‏حياة‏ ‏بشرية‏ ‏راقية‏ (‏ضد‏ ‏الحيوانية‏)، ‏أو‏ ‏حياة‏ ‏ديمقراطية‏ ‏أو‏ ‏نقابية‏ (‏ضد‏ ‏الشمولية‏ ‏والتسلطية‏)، ‏وإنما‏ ‏هى ‏دعوة‏ ‏للإسهام‏ ‏فى ‏اكتشاف‏ ‏كيف‏ ‏خلقنا‏ ‏الله‏، ‏وكيف‏ ‏اخترقنا‏ ‏التاريخ‏ ‏البيولوجى ‏العريق‏ ‏حتى ‏صرنا‏ ‏بشرا‏ ‏هكذا‏ ‏؟‏ ‏هكذا‏ ‏ماذا‏ ‏؟

يبدو‏ ‏أن‏ ‏سيدنا‏ ‏أحمد‏ ‏البدوى ‏كان‏ ‏يحاول‏ ‏الإجابة‏ ‏على ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏وهو‏ ‏يدعو‏ ‏ربه‏ ‏دعوته‏ ‏المفضلة‏: ‏اللهم‏ ‏أرنى ‏الأمور‏ ‏كما‏ ‏هي‏، ‏وهذا‏ ‏أيضا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏بلغنى ‏من‏ ‏تكرار‏ ‏الابتهال‏ ‏من‏ ‏صوفى ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏له‏ ‏إسما‏ ‏محددا‏ ‏وهو‏ ‏يذكر‏ ‏الله‏ ‏بابتهال‏ ‏لم‏ ‏أفهمه‏ ‏لأول‏ ‏وهله‏ ، ‏وهو‏ ‏يردد‏: ‘‏ربى ‏كما‏ ‏خلقتنى‏، ‏ربى ‏كما‏ ‏خلقتنى‏، ‏ربى ‏كما‏ ‏خلقتنى”، ‏لقد‏ ‏خلقنا‏ ‏الله‏ ‏فى ‏أحسن‏ ‏تقويم‏ ، ‏ثم‏ ‏سمح‏ ‏لمن‏ ‏لم‏ ‏يرع‏ ‏هذا‏ ‏التقويم‏ ‏أن‏ ‏يرتد‏ ‏أسفل‏ ‏سافلين‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏هو‏ ‏قائد‏ ‏النظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏، ‏إلا‏ ‏الذين‏ ‏آمنوا‏ ‏وعملوا‏ ‏الصالحات‏ ، ‏فواجبنا‏ ‏الآن‏، ‏وليس‏ ‏بعد‏، ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏كيف‏ ‏نستعمل‏ ‏أدوات‏ ‏العولمة‏ ‏الجديدة‏ ‏لنكون‏ ‏من‏ ‏هؤلاء‏ ‏المستثنين‏ ‏الذين‏ ‏يحاولون‏ ‏أن‏ ‏بعرفوا‏ ‏كيف‏ ‏يحافظون‏ ‏على ‏أحسن‏ ‏التقويم‏ ‏الذى ‏خلقوا‏ ‏عليه‏ .‏

‏ ‏إنها‏ ‏دعوة‏ ‏للجهاد‏ ‏الأكبر‏ ‏لنتعرف‏ ‏على ‘‏كيف‏ ‏خلقنا‏ ‏الله” ، ‏وعندنا‏ ‏فرصة‏ ‏أكبر‏ ‏باستعمال‏ ‏الوسائل‏ ‏الحديثة‏، ‏وأكرر‏:‏التى ‏لا‏ ‏تشمل‏ ‏تشويه‏ ‏الدين‏ ‏بالعلم‏ ، ‏ولا‏ ‏اختزال‏ ‏العلم‏ ‏إلى ‏قشور‏ ‏التفاسير‏ ‏الدينية‏.‏

‏ ‏إننا‏ ‏حين‏ ‏نتصور‏ ‏أننا‏ ‏نختلف‏ ‏عنهم‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نفهم‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏الاختلاف‏ -‏إن‏ ‏صح‏- ‏يصب‏ ‏عائد‏ ‏ممارسته‏ ‏الإيجابية‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏إنسان‏ ‏أينما‏ ‏كان‏، ‏إن‏ ‏ميزة‏ ‏الغرب‏ ‏الحقيقية‏ ‏ليست‏ ‏فيما‏ ‏أنجز‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏فى ‏قدرته‏ ‏على ‏نقد‏ ‏نفسه‏ ‏باستمرار‏، ‏وعلى ‏المراجعة‏ ‏وعلى ‏إعادة‏ ‏المراجعة‏ ‏الكرة‏ ‏تلو‏ ‏الكرة‏.‏

إن‏ ‏خطورة‏ ‏العولمة‏ ‏ليست‏ ‏فى ‏أدواتها‏، ‏ولا‏ ‏فى ‏منهجها‏، ‏وإنما‏ ‏تأتى ‏الخطورة‏ ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏تتمادى ‏القوى ‏الأغبى ‏فى ‏استعمالها‏ ‏لتحقيق‏ ‏مكاسب‏ ‏جزئية‏ ‏لفئة‏ ، ‏أو‏ ‏فئات‏ ‏خاصة‏، ‏على ‏حساب‏ ‏تشويه‏ ‏إنسانية‏ ‏الإنسان‏ ‏الذى ‏تمثله‏ ‏الأغلبية‏ ‏الساحقة‏ ‏من‏ ‏التابعين‏ ‏أو‏ ‏الذاهلين‏ ‏أو‏ ‏الجوعي‏، ‏فتكون‏ ‏فتنة‏ ‏لا‏ ‏تصيب‏ ‏الذين‏ ‏عولمونا‏ ‏خاصة‏ .‏

فكيف‏ ‏نتقى ‏ذلك‏‏؟

وهل‏ ‏ثمة‏ ‏مجال‏- ‏بظرورفنا‏ ‏الصعبة‏ ‏وإمكانياتنا‏ ‏المتواضعة‏ – ‏أن‏ ‏نساهم‏ ‏فى ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏كما‏ ‏خلقنا‏ ‏الله‏ ‏لا‏ ‏كما‏ ‏يرسمنا‏ ‏الأمريكان‏ ، ‏ولا‏ ‏كما‏ ‏يرسمون‏ ‏أنفسهم‏ ‏حتى‏؟

وهل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعيد‏ ‏النظر‏ ‏فيما‏ ‏فعلناه‏ ‏بديننا‏، ‏أدياننا‏، ‏وعقولنا‏، ‏ووجودنا‏، ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏آخر‏، ‏منطلق‏ ‏ينقذنا‏ ‏فينقذهم‏ ، ‏يضيف‏ ‏إلينا‏ ‏فيرحمهم‏، ‏وذلك‏ ‏حين‏ ‏نعطى ‏لوسائل‏ ‏المعرفة‏ ‏الأخرى ‏حقها‏ ‏فى ‏صياغة‏ ‏حياتنا‏، ‏أو‏ ‏حين‏ ‏نتعمق‏ ‏فى ‏التصالح‏ ‏مع‏ ‏الطبيعة‏، ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏فى ‏الحفاظ‏ ‏على ‏البيئة‏ ‏لتطيل‏ ‏أعمارنا‏ ‏بنفس‏ ‏المواصفات‏، ‏إننا‏ ‏نسينا‏ ‏معنى ‏الحوار‏ ‏مع‏ ‏الطبيعة‏ ، ‏حتى ‏العبادات‏ ‏فى ‏الإسلام‏ ‏التى ‏ارتبطت‏ ‏بالطبيعة‏ ‏وإيقاعها‏ ‏الحيوى ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏رحنا‏ ‏نتازل‏ ‏عنها‏ ‏خجلا‏ ‏لحساب‏ ‏علم‏ ‏الفلك‏ ‏وحسابات‏ ‏الحاسوب‏، ‏وكأن‏ ‏توثيق‏ ‏العلاقة‏ ‏بالطبيعة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏وبشكل‏ ‏مباشر‏، ‏لا‏ ‏قيمة‏ ‏له‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏تقديس‏ ‏علوم‏ ‏لم‏ ‏تجعل‏ ‏لتنظيم‏ ‏العبادات‏ ‏أصلا‏.‏

إن‏ ‏واجبنا‏ ‏ونحن‏ ‏نعيش‏ ‏أزمة‏ ‏التحدى ‏المعاصر‏ ‏أن‏ ‏نجددإيماننا‏ ‏باستلهامات‏ ‏إبداعية‏ ، ‏وليس‏ ‏أن‏ ‏نجمد‏ ‏تديننا‏ ‏بتفسيرات‏ ‏انتهى ‏عمرها‏ ‏الافتراضي‏، ‏مع‏ ‏النهل‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مناهل‏ ‏المعرفة‏ ‏دون‏ ‏استثناء‏.‏

إن‏ ‏مقولة‏ ‘‏إن‏ ‏الله‏ ‏موجود”، ‏هى ‏محور‏ ‏التوحيد‏ ‏أصل‏ ‏الأديان‏، ‏وهى ‏مقولة‏ ‏إذا‏ ‏حضرت‏ ‏فى ‏الوعى ‏تجلت‏ ‏فى ‏كل‏ ‏نبض‏ ‏الحياة‏ ‏اليومية‏، ‏وحتى ‏الأديان‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تعلن‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المقولة‏ ‏مباشرة‏ (‏مثل‏ ‏البوذية‏) ‏إنما‏ ‏تحضرها‏ ‏ممارسة‏ ‏والتزاما‏، ‏ولأن‏ ‏الإسلام‏ ‏هو‏ ‏دين‏ ‏شديد‏ ‏البساطة‏ (‏قبل‏ ‏التشويه‏ ‏والاغتراب‏) ‏شديد‏ ‏الغور‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏فإن‏ ‏هذه‏ ‏المقولة‏ ‏تتبدى ‏للمسلم‏ ‏الحقيقى ‏بشكل‏ ‏حاضر‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏وحين‏ ‏نقدت‏ -‏فى ‏مقالى ‏السابق‏- ‏مقولة‏ ‘‏إن‏ ‏الدين‏ ‏لله‏ ‏والوطن‏ ‏للجميع”‏وكذا‏ ‘‏ما‏ ‏لقيصر‏ ‏لقيصر‏ ‏وما‏ ‏لله‏ ‏لله‏:(‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏أثار‏ ‏المنتقدين‏ ‏على ‏المقال‏)، ‏كنت‏ ‏أعنى ‏أن‏ ‏الدين‏ ‏لله‏، ‏والوطن‏ ‏لله‏، ‏والروح‏ ‏لله‏، ‏والمادة‏ ‏لله‏، ‏ليس‏ ‏بمعنى ‏الدروشة‏ ‏ولا‏ ‏تحفيزا‏ ‏لكسل‏ ‏عقلى ‏أو‏ ‏اعتماد‏ ‏سلبي‏، ‏بل‏ ‏تأكيدا‏ ‏على ‏حضور‏ ‏هذه‏ ‏المقولة‏ ‏فى ‏الوعى ‏البشرى ‏المنتمى ‏إليها‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏إن‏ ‏تغريب‏ ‏حضور‏ ‏الله‏ ‏سبحانه‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏البشرى ‏فى ‏الفعل‏ ‏اليومى ‏يجعل‏ ‏الممارسة‏ ‏الدينية‏ ‏وكأنها‏ ‏أمر‏ ‏ثانوى ‏اختيارى ‏لمن‏ ‏شاء‏، (‏وأحيانا‏: ‏كيف‏ ‏شاء‏: ‏المهم‏ ‏أننى ‏لا‏ ‏أوذى ‏أحدا‏ !!!) ، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الجماعات‏ ‏الدينية‏ ‏وهى ‏تنادى ‏أن‏ ‏الإسلام‏ ‘‏دين‏ ‏ودولة” ‏تبدو‏ ‏لأول‏ ‏وهله‏ ‏وكأنها‏ ‏أدركت‏ ‏خطورة‏ ‏فصل‏ ‏الدين‏ ‏عن‏ ‏الوجود‏ ‏اليومي‏، ‏ولكن‏ ‏المتعمق‏ ‏فى ‏التصرفات‏ ‏اليومية‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏وأن‏ ‏يلاحظـ‏ ‏أنها‏ ‏اقتصرت‏ ‏على ‏هذه‏ ‏المقولة‏ ‏دون‏ ‏غيرها‏، ‏إن‏ ‏الدعوة‏ ‏لحضور‏ ‏الله‏ ‏فى ‏الوعي‏، ‏وبالتالى ‏فى ‏الفعل‏ ‏اليومى ، ‏هو‏ ‏الذى ‏يحقق‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الإسلام‏ ، ‏وغير‏ ‏الإسلام‏، ‏دين‏، ‏ودولة‏ ، ‏وفن‏ ، ‏ونوعية‏ ‏حياة‏، ‏ونبض‏ ‏خلايا‏، ‏وأنفاس‏ ‏طبيعة‏، ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‘‏ربى ‏كما‏ ‏خلقتني”.‏

فهل‏ ‏تمنعنا‏ ‏أدوات‏ ‏العولمة‏ ‏من‏ ‏مواصلة‏ ‏هذا‏ ‏الجهاد‏ ‏الأكبر؟‏ ‏أم‏ ‏تسهله‏ ‏علينا؟

حاولت‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏فى ‏المقال‏ ‏السابق‏ ‏أنها‏ ‏يمكن‏ – ‏إذا‏ ‏أردنا‏ ‏واجتهدنا‏- ‏أن‏ ‏تسهله‏ ‏علينا‏ ‏

فهل‏ ‏نحن‏ ‏أهل‏ ‏لذلك‏ ‏؟‏ ‏وهم‏: ‏أليسوا‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏ذلك‏ ‏؟

إننى ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏فرصتنا‏ ‏أكبر‏ ‏بفضل‏ ‏الفقر‏ ‏النسبى ‏والإيمان‏ ‏المتبقي‏، ‏دون‏ ‏وصاية‏ ‏الجمود‏ ‏والغرور‏، ‏

فهل‏ ‏نحاول؟‏ ‏لعلنا‏ ‏نجد‏ ‏إجابات‏ ‏تنفعنا‏ ‏فتنفعهم‏.‏

‏ ‏فهل‏ ‏نحاول‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏بدءا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏اللحظة‏ ‏؟‏ ‏

‏ ‏وهل‏ ‏نملك‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏ ‏؟

  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *