الرئيسية / مقالات صحفية / أخبار الأدب / التراث والإبداع، والجدل بين الأمخاخ !

التراث والإبداع، والجدل بين الأمخاخ !

أخبار الأدب

نشرت بتاريخ: 31 مارس 2013

نبض الناس 

التراث والإبداع، والجدل بين الأمخاخ !

هل‏ ‏التراث‏ ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏ماض‏ ‏نحكيه‏ ‏ونتناقله‏ ‏ثم‏ ‏ننتقى ‏منه‏؟ أم‏ ‏رواية‏ ‏نجترها‏ ‏أو‏ ‏نتناساها‏ ‏حسب‏ ‏مقتضى ‏الحال‏؟‏ ‏أم ألفاظ من الرصاص المتجمد نحيط به وعينا ووجداننا وعقولنا حتى لا نتحرك ولا نتحضر ولا نكون ولا نصير؟

يقول المعجم‏ (‏الوسيط‏) “‏إن التراث‏ هو  ‏الإرث‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏وُرث“،  فما‏ ‏هو هذا‏ ‏الذى ‏وُرث‏؟ ‏وهل‏ ‏ما‏ ‏وُرث‏ ‏ ‏هو‏ ‏حاضر‏(‏بيولوجي‏) ‏قائم‏ ‏فى “دنا” DNA ‏تركيبنا‏ (‏الآن‏)، ‏هل‏ ‏هو‏ ‏وعى ‏ماثل‏ ‏أو‏ ‏متاح‏ ‏فى ‏وجودنا‏ ‏الحالي‏، ‏أم‏ ‏هو‏ ‏معلومات‏ ‏مودَعة‏ ‏على ‏أرفف‏ ‏المكتبات‏ ‏وفى ‏بطون‏ ‏الوثائق؟

‏وهل‏ ‏الأوْلى‏، ‏والأكثر‏ ‏واقعية‏ ‏ومواجهة‏ ‏ومسئولية‏، ‏والأقرب‏ ‏إلى ‏الطبيعة‏ ‏والتطور، ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نتعامل‏ ‏مع‏ ‏التراث‏ ‏باعتباره‏ ‏تاريخا‏ ‏يزار‏، ‏أو‏ ‏ملجأ‏ ‏نهرب‏ ‏إليه‏، ‏أو‏ ‏إنجازا‏ ‏ماضيا‏ ‏نتفحص‏ ‏ما‏ ‏تبقى ‏من‏ ‏قدراته‏ ‏لنستنسخها؟‏ ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏حاضر‏ ‏نجادله‏ ‏وننطلق‏ ‏منه‏ ‏وبه‏ ‏ومعه‏؟ وما‏ ‏علاقة‏ ‏التراث‏ ‏بعلم التاريخ‏ وهو منظومة ملتبسة مقولة بالتشكيك؟

‏ الذى أريد أن ألقيه فى وجه كل كسول أو خائف أو متجمد هو أن ‏التراث‏ ‏حاضرٌ‏ ‏بيولوجىّ “هنا والآن”، ‏مسجـَّـل‏ ‏فى ‏خلايانا‏ ‏منذ وجدت الحياة، ‏ورثناه‏ ‏”حيا‏ ‏عن‏ ‏حى”‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نرثه‏ “‏أبا‏ ‏عن‏ ‏جد”، إن ‏التاريخ‏ ‏الصادق‏ ‏الوحيد‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏بقى ‏حتى ‏الآن‏ ‏مسجلا‏ ‏فى ‏خلايانا‏: ‏بيولوجيا‏: كامنا‏ ‏وجاهزا‏ ‏للتنشيط‏ ‏والجدل‏.

إن‏ ‏الوسيلة‏ ‏الوحيدة‏ ‏لمعايشة‏ ‏التراث‏ ‏هى ‏مواجهته‏ “‏هنا‏ ‏والآن‏”، ‏لا‏ ‏استدعاؤه ذاكرة مخطوطة‏، ‏أو‏ ‏قراءته‏ كتبا مرصوصة، ‏وإنما‏ ‏تعريته‏، ‏ومخاطبته‏ داخلنا، فالجدل ‏ ‏معه‏ ‏وبه‏.

التراث‏ ‏المسجل‏ ‏بيولوجيا‏ ‏موجود‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏ومتاح‏ ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ ‏للنائم‏ ‏خاصة‏ ‏أثناء‏ ‏نشاط‏ ‏الحلم‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏حالة‏ “‏وعى ‏آخر‏= مخ آخر”، كما‏ ‏أنه‏ ‏متاح‏ ‏للمبدع‏ ‏فى ‏حالة‏ “وعى ‏فائق”‏ قادر على تخليق جُماع بين الأمخاخ التى نحملها تاريخا وحاضرا.

‏ ‏نخلص‏ ‏إلى ‏القول‏: ‏إن علاقة‏ ‏الحاضر‏ ‏بالماضى ‏على ‏المستوى ‏البيولوجى ‏هى ‏علاقة‏ ‏حاضر‏ ‏متاح‏، ‏بحاضر‏ ‏كامن‏، ‏وليست‏ ‏علاقة‏ ‏القديم‏ ‏بالحديث‏ ‏بالمعنى ‏الزمنى ‏الطولي‏. ‏

هذا‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏السواء‏ ‏العادي، ‏أما‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏الإبداع‏ ‏فإن‏ ‏المخ‏ ‏القديم‏ ‏يصبح‏ ‏دافعا‏ ‏وموْردا‏ ‏رائعا‏ ‏لطاقة‏ ‏وتركيبات جاهزة للتشكيل‏، ‏يستطيع‏ ‏المخ‏ ‏الأحدث‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏صياغتها‏ ‏متضفرة‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏يحصّله‏ ‏من‏ ‏معلومات‏ ‏أحدث‏، ‏وما‏ ‏يمارسه‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏آنىّ‏، ‏فهى ‏علاقة‏ ‏جدلية‏ ‏خلاقة‏ ‏بين‏ ‏التراث‏ ‏الكامن‏، ‏والحاضر‏ ‏القادر.‏ ‏

‏إن‏ ‏هذا‏ ‏التراث‏ ‏الماثل‏ ‏فينا‏ ‏الآن‏، ‏هو‏ ‏كامن‏ ‏فعلا و‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسُود‏ ‏مستقلا‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏النكوص‏ ‏والتدهور‏ والجنون، ‏وكمُونه‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏خموله‏ ‏أو‏ ‏ثانويته‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏ينبه‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏التناوب‏ ‏معه لاستيعابه‏، ‏والجدل‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تنشيطه‏. إن ‏ ‏الجدل‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏التراث‏ ‏البيولوجى ‏الماثل‏ ‏فينا‏-“‏الآن‏”- ‏بكمونه‏ ‏الجاهز‏ ‏للتنشيط‏، ‏وبين‏ ‏المعطيات‏ ‏الأحدث‏، ‏بالأدوات‏ ‏العصرية‏ ‏الأقدر‏، ‏والمعلومات‏ ‏المتدفقة‏ ‏المتجددة‏ ‏أبدا‏، ‏هو‏ ‏الإبداع‏ ‏الحقيقى ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يميز‏ ‏ثقافة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏ثقافات‏ ‏البشر‏، ‏ثقافة‏ ‏لها‏ ‏هويتها‏ ‏المتميزة‏ ‏نوعيا‏، ‏والقادرة‏ ‏على ‏التضفر ‏مع‏ ‏ثقافات‏ ‏أخرى ‏مواكبة‏، ‏تتجادل‏ ‏مع‏ ‏تراثها‏ ‏الخاص‏ ‏فالعام‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏.‏

‏إنه‏ ‏بغير‏ ‏التربية‏ ‏التى ‏تسمح‏ ‏للتراث‏ ‏الحى ‏أن‏ ‏يسهم‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏الوعى ‏الفردى ‏والجمعى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتكامل‏ ‏الإنسان‏ ‏فردا‏ ‏أو‏ ‏جماعة‏ ‏وسيظل‏: ‏إما‏ ‏هيكلا‏ ‏هشا‏ ‏بلا‏ ‏جذور‏، ‏أو‏ ‏أثرا‏ ‏كالحا‏ ‏بلا‏ ‏حياة‏. ‏

فإذا‏ ‏كان‏ ‏التراث‏ ‏حاضرا‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏قراءته‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏جدل‏ ‏مبدع‏ ‏مع‏ ‏حاضر‏ ‏آخر‏ ‏أقدر‏ ‏وأرحب‏، ‏فإن‏ ‏من‏ ‏يصوره‏ ‏لنفسه‏ ‏ولنا‏ باعتباره مهربا‏ ‏آمنا‏، ‏أو‏ ‏بديلا‏ ‏جاهزا‏ ‏إنما‏ ‏يلغى ‏كلا‏ ‏من‏ ‏حاضره‏ ‏المعاصر‏، ‏وتراثه‏ ‏الكامن‏ ‏معا‏، وبالتالى يصدر حكما بإعدام مستقبله.‏

‏* * * *

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *