نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 28-7-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4348
“الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (1) (الحلقة الرابعة عشر)
(نواصل: حركية جدل الشعر والشاعر والعلاقة بحركية الحلم!)
الملحق الثانى
بين الشعر القصة، والنظم الرجـَـز، للاطفال (2)
هذا المقتطف يفتح بابا آخر للتعرف على كل من الحلم والشعر من خلال إرجاعهما معا إلى أصل الطبيعة البشرية مذ كنا أطفالا، وما زلنا – المفروض.
فوجئت وأنا أكتشف كيف استطاع إبداع أندرسون الفذ أن يقدم للأطفال جوهر ما شملته الدراسة الحالية، بكل هذه السلاسة والعمق فى آن. قدرت من خلال ذلك كيف يمكن أن تكون قراءة خيال الطفل ومخاطبته هى لغة خاصة تقع بين الحلم والشعر بشكل ما، أما الكشف عن ذلك نقدا فهى مسئولية النقد، وبالتالى اجتهاد هذه المحاولة.
غيرت العنوان ليتفق مع الدراسة، وإن كنت لم أبتدع جديدا فقد كان العنوان الحالى عنوانا فرعيا لفقرة هامة محورية فى الدراسة.
……
أهم ما فى هذا المقتطف فيما يتعلق بهذه الدراسة هو التركيز على الفرق بين الشعر والنظم، وفى نفس الوقت عدم اقتصار وصف الشعر على شاعر يكتب شعرا موزونا (ومقفى)، وإنما على موقف المبدع وطريقة تشكيله وأنغام إيقاعه، ثم إن إيراد هذا المقتطف هو بمثابة اعتراف بسبق أندرسون – قاصا لاكتشاف تعدد الذوات، خاصة وهو يقوم بالتفرقة بين “روح الشعر”، و”طالب العلم”، تفرقة تكاد تكون موازية لتفرقة بين لغة الحلم والشعر على ناحية، ولغة الحياة العادية المفهومية، والمنطق الواقعى على ناحية أخرى، وبما يوازى أيضا التفرقة الأحدث بين عمل نصفى المخ الكرويين بشكل ما.
شاعران ومنهلان
…….
……، فى توقيت متقارب وصلنى هذين العملين اللذين قيل أنهما كتبا للأطفال؟ مختارات من ديوان شوقى للأطفال (3). ثم مختارات من كتابات هانز كريستيان أندرسن بعنوان قصص وحكايات خرافية” بمناسبة مرور قرنين على ولادته (4) وأحمد شوقى أمير شعرائنا، ربما حتى الآن. شهرة أندرسن ارتبطت بكتاباته للأطفال أكثر من كونه شاعرا، كتاباته للأطفال سميت خطأ (ربما مقصودا) “خرافية”. اعتبرتُ ذلك بمثابة الخدعة الذكية، حتى لو كان هو الذى أطلق عليها هذه الصفة. رجحت أنه سماها كذلك ليستدرجنا إلى هول الحقيقة، فيفوّت علينا أن نسارع فندمغها بالخرافة. إن مبادأته بتسميتها “خرافية” هى نفى ضمنى لاحتمال اتهامنا إياها أنها كذلك. أحمد شوقى هو أحمد شوقى، شدنى شاعرا وإنسانا طول عمرى. مثل أغلب أعماله، أُخذت بكل هذه السلاسة والجمال وأنا أتجول فى مختارات ديوانه للأطفال لأول وهلة، فقد كنت فى حاجة إلى أن أتعرف على هذا الشاعر الرقيق إنسانا دمثا شممت رائحة الطفل بداخله أثناء حكايا محمد عبد الوهاب لسعد الدين وهبة وهو يصف خوفه (خوف شوقى) من عبور الشارع وحيدا، فيناديه “حمادة”، ويطلب منه أن يمسك بيده ويعبر الشارع”..إلخ.
السؤال الأول المطروح بالنسبة لأحمد شوقى وهانز أندرسن معا يقول: هل كان كل منهما واعيا وهو يتوجه للأطفال أنه يكتب عنهم، أم لهم ؟ يعقب ذلك سؤال أهم: من هم هؤلاء الأطفال المعنيين؟ هل هم أطفال لأن شهادات ميلادهم تشهد بذلك؟ أم أنهم الأطفال الذين هم بداخل كل منا مهما كانت أعمارنا؟ نؤجل الإجابة حتى نهاية الدراسة لننتقل للنظر فى كتابة ما وصلنا من كتابات أندرسن عبر تلك الهدية الغالية، وقد تجلى فيها البعد المسمى “خرافى” وهو ليس كذلك.
البداية فالمراجعة:
كانت البداية هى تصورى أنه من الممكن أن أعمل مقارنة بين مختارات ديوان شوقى للأطفال وتلك المقتطفات من أندرسن، وكنت فى أول الأمر منبهرا بديوان شوقى لخفة الدم، والسخرية، والنقد السياسى، والصور المتقنة المتحركة غالبا، لكننى وجدت نفسى بعد قراءتى كتابَىْ أندرسن، فى بؤرة قضايا نقدية ومعرفية متحدية: عن ماهية الشعر، وما هية الطفل، وواقعية الخيال، وأزمة التربية المعاصرة، وإبداع الشخص العادى وغريزة الإيمان، وحركية الوجود. يا خبر!! هل طُرح أى من ذلك نفسه على وعى أندرسن وهو يكتب؟ الاجابة الأصح هى بالنفى، الأرجح أن بعض ذلك يمكن أن يكون قد ورد على هامش وعيه أو فى جماع مستويات وعيه دون تحديد مسبق أو قصد ظاهر. لا يمكن أن يكتب كاتب أو شاعر قصة مثل قصة “الظل” دون أن يكون حدسه الإبداعى قد وصل إلى عدة حقائق لم تظهر فى نظريات سيكوباثولوجية (إمراضية نفسية) ونقدية وإبداعية إلا بعد أكثر من قرن. على سبيل المثال: نظرية التحليل التفاعلاتى (تعدد الذوات) (5)ومفهوم (التفرد) (6) فى نظرية يونج، ثم معظم نظريات الإبداع الأعمق المتصل بالعملية الإبداعية، وليس فقط بالناتج الإبداعى.
كيف القراءة والتلقى؟
ليست القضية الاعتراف بسبق حدس أندرسن أو محاولة تفسير إبداعه للطفل بنظريات علمية أو نقدية لاحقة ـ القضية هى احترام ما يتحرك فى حدس المبدع من أعماق، قبل أن نحسبها بالحذلقة المعقلنة، أو التفسيرات الفوقية، ثم إن هذه الإشكالات التى تبدو للكبار شديدة التعقيد والصعوبة تكاد تكون أمرا طبيعيا للأطفال لقربها من حقيقة الفطرة، دون حاجة إلى برهان، فهى أقدر على الوصول إلى وعى الطفل مباشرة، وأحيانا إلى الكبير أيضا بقدر ما يحوى كيانه من طفل نشط متبادل متكامل معاً، على من يريد أن يقرأ أندرسن بما هو، خاصة من الكبار، أن ينسى حكاية التفرقة بين ما هو خيال وما هو واقع، وأن يستقبل كل شخوص قصصه بعينيه وجسده قبل عقله وتجريداته، فيتخفف من أى تفسير أو تنظير وصىّ وهو يصاحب شخوص الخيال والواقع معا، وكأنه يلمسهم أحياء لا تصورات. (أعترف أننى كدت أدخل معهم فى عالمهم لولا خوفى من جهلي طريق الرجوع).
عن الخيال والإبداع وروح الشعر
أندرسن لم يكتب للأطفال شعرا بشكل مباشر مثلما فعل شوقى، لكن شاعرية أندرسن فرضت نفسها علىّ برغم أننى قرأت عمله بالعربية، الشاعرية الصوتية تكون أقرب وأوضح فى لغتها الأصلية. لكن الشاعرية التصويرية والحركية (كما أكدنا فى متن هذا العمل) يمكن أن تصل إلينا بأى لغة. نجح أندرسن بالصورة والحركة بكل هذه البساطة العميقة أن يدافع عن حق الخيال فى ان يكون “واقعا آخر” للطفل خاصة، ولنا عامة. وأنا أقرأ أندرسن كنت طول الوقت أقفز من هارى بوتر إلى ألف ليلة وليلة، فى حين أننى وأنا أقرأ شوقى كنت أقفز من كليلة ودمنة إلى ميكى !! مرورا بمحمد فوزى أحيانا (هذا ليس قدحا فى أى من الثلاثة. فانا أحب الثلاثة).
يستحيل أن أقدم فى هذا الحيز ما وصلنى من مختارات أندرسن حيث كل قصة تكاد وحدها تحتاج إلى مثل هذا الحيز ، فأكتفى بالإشارة فى عجالة إلى ما حاورته من بعض آخر قصص الجزء الثانى:
لا يجوز أى تلخيص لمثل هذا النوع من الإبداع بنفس القدر الذى لا يصلح فيه تلخيص لوحة تشكيلية بإظهار بعض أجزائها، أو إيجاز سمفونية فى أقل من وقتها، ومع ذلك فلا مفر من بضعة أسطر
قصة “الظل” تحكى عن “طالب علم” جاء إلى البلاد الحارة من البلاد الباردة، ولصقت به صفة “طالب العلم” حتى صارت اسمه. حضر من أول القصة وهو يلقى ظله حيثما ذهب (عادى)، لكن ومن البداية ظهر لنا وكأن للظل استقلاله، أو هو يحاول ذلك، وذات ليلة سمح طالب العلم لظله أن يمتد ليدخل عند الجار الغامض (الذى بدا لوهلة سابقة كعذراء مضيئة) ليستكشف مَنْ هناك، لكن الظل فعلها وتمادى مستقلا حتى تَأْنْسَن إنسانا، تاركا طالب العلم بلا ظل، ويدور الظل دورته، ويعرف، وينضج، ويستكشف أن الجار الغامض كان هو “روح الشعر” (إنسانا، وهذا اسمه) ثم يعود لصاحبه طالب العلم ويدور حوار، وتبادل أدوار، يصبح طالب العلم ظلا ويبقى “الظل” إنسانا ثم وتصالح، وكشف، واتفاق… وغير ذلك.
حين كتبت أطروحتى الأولى عن الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع (هذا الفصل) قابلت بين ما أسميته “الحلم بالقوة” (الذى لا يظهر أبدا) بما أسميته “القصيدة بالقوة”. أوضحت كيف أن القصيدة بالقوة مثل الحلم بالقوة هى مشروع الإبداع فى عمق تشكيله، وهى ليست مشروعا فحسب، بل إنها كمال الإبداع “المستحيل”، بمعنى أنه رغم تمامه، لا يملك الظهور بما هو، وإنما يمكن ترجمته أو استلهامه للتعبير عما تيسر من المتاح، لا أكثر. هذا ما فهمت أن إليوت يعنيه بقوله: “ لم يتعلم المرء إلا انتقاء خير الكلام للشئ الذى لم تعد ثمة ضرورة لقوله، وبالطريقة التى لم يعد ميالا لقوله بها”، حين وصلت إلى قصة “الظل” وجدتنى أمام حضور كامل لما أسميته “القصيدة بالقوة” وقد تمثلت فى شخص مجسد لحما ودما له اسم محدد (ليس صفة) حيث أسماه أندرسن هكذا مباشرة: “روح الشعر”. أعترف أننى فزعت وأنا أضع هذا الفرض الباكر عن مستويات الشعر، خاصة حين حضرنى مفهوم “القصيدة بالقوة” حتى امتلأ به وعيى تماما : بلغ إدراكى لعمق هذه الفرضية أننى فسرت من خلالها جدلية الموت، وأصل الوجود ومحوره قلت (فى المتن) “…. ولعل كثيرا من حقائق الوجود التى نعجز أصلا عن قولها هى من باب هذا الشعر الذى لا يقال، فالموت-الموت- شعر لايقال بالنظر إلى الجانب البنائى فيه لا مجرد التحلل، يقول أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور: “…ففى لحظة الشعر، خصوصا لحظة الموت، ذلك الشعر الآخر”. حتى أننى أضفت من وجهة نظر تصوف ما: “إن “الله”- من منظور تصوفى معين- هو شعر لا يقال (ليس كمثله شىء)”.
هذا المستوى من الشعر هو ما وصلنى من شرح “الظل” لخبرته مع الجار الغامض المسمى “روح الشعر”, ذلك لأنه بعد أن استقل “الظل” عن صاحبه “طالب العلم”، وتجسد إنسانا، عاد يصف خبرة لقائه مع جاره “روح الشعر” يصفها بكل ما وصلنى فى الفرض السابق الذكر (الوارد فى هذا العمل)، لم تكتف قصة الظل هذه بكشف الجانب الغامض المبدع للحياة هكذا، بل أنها عمَّقت التقابل بين “روح الشعر” (كيانا حقيقيا) وبين “طالب العلم” المعلوماتى الظاهر الوصىّ، لم يخطئ أندرسن فيتمادى فى الاستقطاب بين الظل الذى استوعب روح الشعر، وبين طالب العلم، ليفضل أحدهما على الآخر فى مناظرة مسطحة، وإنما مضى ليجعل رحلة “الظل” رحلة معرفية إبداعية شديدة العمق دون إلزام بتنافس سطحى مع “طالب العلم”. إن رحلة “الظل” إلى “روح الشعر” لم تكن حكرا على “الظل”، فهذا الأخير يخاطب صاحبه “طالب العلم” بعد أن التقاه لقاء الند للند فيشرح له كيف أن فرصة لقاء “روح الشعر” مفتوحة لمن يريد، على شرط أن يتقدم إليها لا أن يجلس فى الشرفة ينتظرها، يقول “الظل” “لطالب العلم: “…. حضرتك كنت دائما تجلس وترنو إلى الممر، لم يكن هناك (عند الجار الغامض) ضوء نهائيا، فهناك ما يشبه الشفق، وكل الأبواب كانت جميعا مفتوحة على الآخر على طول الصالات والقاعات..”.
هكذا يؤكد أندرسن أن فرصة الإبداع تكاملا هى فرصة كل الناس دون استثناء. هى ليست حكرا على صفوة موهوبة إذن، هذه القضية كانت وما زالت شغلى الشاغل سواء فى ممارستى صحبة الجنون كإبداع مجهض، أو فى تعاملى مع الأحلام كإبداع يومى.
يدور الحوار بين طالب العلم وظله بعد عودته من رحلته المعرفية الواعدة بتخليق ذاته (ذواته معا) وقد تجسد إنسانا، يدور الحوار بمنتهى الاحترام التلقائي، ثم بناء على إصرار “الظل” على أن يخاطبه “طالب العلم” بـ “حضرتك…” حتى لو لم يفعل نفس الشئ بالمقابل. الاستقطاب المباعِدْ بين المتحاورين لم يكن مطروحا، فالظل لم يكن هو “حالة الذات الطفلية الحرة المنطلقة” (حسب نظرية التحليل التفاعلاتي) مع أنه كان يمثل الحرية والبحث عن المعرفة الأخرى، كان نحيفا لكنه يافع تماما، وقوى، وواثق من نفسه، ومطالب بحقوقه برغم شكواه من أن “لحيتى لا تنمو كما يجب”.
بحدس إبداعى فائق يدرك أندرسن، فيعلـم الأطفال فينا، كيف أن التكامل بين الذوات إنما يتم بالتصالح والرفقة، لا بالتبادل المستقطب، ولا بالتسوية المائعة، حتى قال طالب العلم للظل ذات يوم وهو يرافقه بناء على اتفاق طيب “..بما أننا أصبحنا رفيقَىْ سفر كما نحن الآن، ونحن أيضا قد نشأنا منذ الطفولة معا، ألا نشرب نخب رفع الكلفة بيننا، إنه أمر أكثر ألفة”.
فى نفس القصة يعلن حدس أندرسون عددا من الحقائق من أعمق ما توصل إليه العلم الإبداع معا: فهو يكشف كيف أن نفاذ البصيرة رائع ومزعج حتى يعتبر داء إذ يصف بنت الملك – فى المصح- وكيف استطاعت أن تنتبه إلى أن “الظل” حين جاء إلى المصح لم يحضر حتى: “..يجعل لحيته تنمو، ولكنى أرى السبب الحقيقى أنه بلا ظل”، فنتذكر كانديرا فى “الكائن الذى لا يحتمل خفته” وبدرجة أقل نتذكر فتحى غانم فى “الرجل الذى فقد ظله” . أنظر أيضا ما ورد على لسان “الظل” فى عبارة عابرة وهو يحاور صاحبه “طالب العلم”، فيكشف عن دور الإيقاع الحيوى اليوماوى Circadian (7) جنبا إلى جنب مع “الأزمة المفترقية” Cross–Roads crisis (8) يقول لصاحبه بعد عودته “… أقول لحضرتك، كنت هناك، هل بإمكنك أن تدرك ما يمكن أن يُرى؟ …عرفت طبيعتى أيضا وما خلقتْ عليه، علاقتى العائلية بروح الشعر، أجل، عندما كنت مع حضرتك فى ذلك الزمن لم أفكر بذلك، ولكن بشروق الشمس، بغيابها، كما تعرف حضرتك، صرت كبيرا بشكل غريب، على ضوء القمر كنت أوشك تقريبا أن أكون أوضح من حضرتك، لم افهم وقتها طبيعتي ـ أدركت ذلك فى الممر الموزع، صرت إنسانا، خرجت راشدا”. كل ذلك يكاد يطابق فروض النظرية الإيقاعية التطورية فيما يتعلق بما سمى “الأزمة المفترقية، بين الإبداع والنمو والجنون (9)، وفيه تأكيد على العلاقة بين كل ذلك والإيقاع الحيوى. إن تعبير أندرسن عن “الممر الموزع” هو الأقرب إلى فرض أزمة “مفترق الطرق” على مسار النمو التى يمكن أن تنتهى إلى مرحة أعلى من التكامل والرشاد أو ينتج عنها إبداع متميز، أو تجهض إلى اغتراب متماد، أو تفشل بما يؤدى إلى التفسخ أو الإعاقة فى المرض حتى الجنون، لهذا نخافها (الأزمة) حتى يمكن ألا نخوضها فيتوقف النمو.
القصص الأخرى ليست أقل إبداعا أو كشفا عن الطبيعة الإنسانية، فقصة المطر تضيف إلى خطورة حقيقة اغتراب البشر فى المدينة (أى مدينة) وتنبه إلى بشاعة تقاتل الناس على اللاشىء: “قال العجوز الممسك بالمكبرة الزجاجية التى تكبر الواقع، قال بعد أن رأى من خلال المكبرة “..آلافا من الحيوانات الصغيرة تطفر وتقفز، تشد وتلتهم بعضها البعض”. “..”ياله من منظر مقرف”..” ألا يمكنهم أن يعيشوا فى سلام؟” وبدا المنظر مثل مدينة بأكملها برجال عراة متوحشين..”. وقد بدت بالفعل مثل مدينة يتراكض فيها الناس عراة، كان شيئا يقشعر له البدن، والذى يزيد من هذا الإحساس هو رؤيتهم وهم يتدافعون، يركل واحدهم الآخر، يقضم الآخر، يقرض الآخر، يتناهشون، ويسحلون بعضهم، وما توجب أن يكون أسفل كان فى الأعلى وما توجب أن يكون فى الأعلى كان فى الأسفل…”.
وفى قصة “أم”، يتجسد الموت فى شكل شيخ غريب يخطف ابنها برغم توسلاتها، فتهيم على وجهها لتسترده وهى تضحى بكل شىء فى سبيل ذلك: نظرها ولسانها و..و…الخ. حتى تصل إلى “مشتل الموت” فإذا به ليس موتا بل مجهولا، فترضى الأم أن تتنازل عن إصرارها على إحياء ابنها، فمشى الموت (شخصا مجسدا). بابنها إلى البلاد المجهولة. وهى راضية أو موافقة على الأقل: نهاية مفتوحة حتى للموت!! (راجع ما سبق الإشارة إليه فى هذا العمل من تفسير الموت بعلاقته بالقصيدة بالقوة).
تعرفت بعد ذلك على الموت (عند الأطفال والكبار) من بقية أندرسون “بائعة أعواد الكبريت الصغيرة” حيث ربطت بينها وبين قصة الأم التى وردت للتو، كما اكتب حاليا نقد قصة ملكة الثلج التى عّرى فيها أندرسون اللامبالاة الأحدث التى تحول بين البشر وبعضهم..إلخ.
أما قصة الناقوس التى تُجسد السعى إلى الله تعالى من خلال نداء الداخل حتى يتيقن الجميع على اختلافهم من وجود الله تعالى فى الخارج/الداخل، شريطة ألا يعيّنوه ماثلا مفارقا طول الوقت، بل يستمعوا إلى دقاته (الناقوس) يقينا من الداخل إلى الخارج وبالعكس.
قارئ أندرسون من هذا المنطلق يمكنه أن يتعرف ليس فقط على خيال الأطفال، وإنما أساسا على التركيب الفطرى للنفس البشرية وحركيتها الطليقة فى جدلية متصلة بين مستويات وجودها وطبقات وعيها، هذه الطلاقة التى يدركها الأطفال ويمارسونها، هى بذاتها ما نظل محتفظين بها فى نشاط أحلامنا، وهى التى نكتمل بها حين نعترف بدور الحلم/الخيال/الشعر فى مسيرة تطورنا ونمونا التكاملى. إن وصاية شعر الحكمة، وحكمة المنطق بشكل غالب نهارا – كما سنرى فى شعر شوقى- لا ينبغى أن تكون على حساب إبداعية حركية الشعر والحلم ليلا . كل هذا و أندرسن لم يقصد – واعيا – أيا مما ذكرت من نظريات ظهرت بعد قرن أو أكثر، بل إن أرجح الأرجح أنه لو كان أندرسن قد وعى بعض ذلك، لما كتب ما كتب، ولا خاطب به الأطفال داخلنا وخارجنا أصلاً.
… عن ديوان شوقى للأطفال
قصدت بإضافة هذه المقارنة أن أوضح كيف أن حكايات أندرسن للأطفال هى أقرب إلى الشعر الشعر، أو الشعر الخالقى كما سيرد فى تصنيف لاحق ذكره فى الفصل الثانى، إن شعر شوقى هنا هو مثال لكيف يمكن أن يكون الشعر أبعد ما يكون عن الحلم، وأقرب إلى الايقاع الراتب والتفكير المفاهيمى برغم بساطته وجماله وأنه للأطفال.
قراءة شعر شوقى للأطفال تنبدأ بنفس التساؤل: هل هو للأطفال أم أنه عن الأطفال؟ أم أن شوقى يستعمل ما هو طفل فيه وفينا ليحقق مأربه بما يبلغه به من رسائل للكبار؟
بالرغم من انبهارى لأول وهلة بالمختار من الديوان فقد وجدت فى قصص أندرسن شعرا أكثر خيالا، وأجمل أضواء، وأعمق أنغاما من نظم شوقى الخفيف الجميل الساخر. ما وصلنى من مختارات شوقى (الأمر الذى لا يسمح بالتعميم) يمكن أن يُقَسَّم إلى أناشيد أقرب إلى الأناشيد الحماسية الطيبة، ثم قصائد الحكمة التى ترد بشكل مباشر فى بدء أو ختام كثير من القصائد، ثم قصائد التسلية والتندر، لتتطور بعض تلك القصائد من السخرية إلى النقد السياسى صراحة. الصور جميلة وخفيفة وبعضها مركب بشكل متداخل (القرد والفيل مثلا)، إلا أننى افتقدت الشعر فى نظم شوقى للأطفال: افتقدت انسياب الخيال، وزخم الحركة، وتنوع الحضور، وتعدد المستويات. المهم: رحت أراجع القيم التى يقدمها شوقى للأطفال (سواء كانوا أطفالا بالعمر أم أطفالا بداخل الكبار) فوجدت فيها غلبة البعد الأخلاقى ذى المستوى الواحد، دون الحفز الإبداعى والتحريك الخيالى. إن ما شغلنى بعد مقارنة قصص أندرسن التى وصلتنى شعرا، بشعر شوقى الذى وصلنى نظما فكِها أو ساخرا او حكيما، هو مدى المساحة التى تحرك فيها أندرسن حتى قارنتُها بمساحة حركة ج. رولينج، مؤلفة هارى بوتر، وأيضا بمساحة حركية ألف ليلة وليلة، (ومن ثم مساحة واتساع حركية إبداع الحلم بالقوة، وإلى درجة أقل الحلم بالفعل). مع شوقى: وجدتنى أتحرك فى المحل، راقصا فى خفة مرحة، لكننى لا انتقل من مكانى، ولا ينطلق معى خيالى. ثم انتبهت كيف أن خطاب كثير من قصائد شوقى موجه للكبار أكثر منه للصغار، خذ مثلا: قصيدة الجدة والحفيد وهو يلوذ بها من أبيه، إنها تأنيب للوالد وهى تذكَّرُه أنه كان شقيا مثل ابنه “ألم تكن تصنع ما، يصنع إذْ أنت صبى”، شوقى–شخصيا- يبدو فى أغلب قصائده إما طفلا يلهو” أو حكيما يعظ، لكنه لم يكن متحركا مكتشفا لطبقات وعينا عبر الأطفال داخلنا وخارجنا وهو يخاطبنا متلقين. نهايات شوقى يمكن أن تضع بعدها نقطة ساكنة جدا، كما هو الحال عند معلمينا ووعاظنا ومدرسينا. بعض قصائد شوقى تبدأ بعنوان الحكمة المعنية مثل قوله “إسمع نفائس ما يأتي من حِكَمِى، وافهمه فهم لبيب ناقد واعى!!
…..
بعض ما يمكن أن يصل من شوقى كان رائعا على مستوى النقد السياسى مثلا، لكن أين الشعر وأين الحلم؟
وبعـد
هل يمثل أندرسن، وهو القاص إذ يخاطب الأطفال ما قصدت تبيانه من إبداع الحلم والشعر جميعا، وهل يمثل شوقى ، وهو الشاعر إذ يستعمل الأطفال سبيلا إلى تقديم الحكمة والنقد الاجتماعى والسياسى، عكس كل ما هو حلم حقيقى، أعنى: عكس الحلم بالقوة والحلم بالفعل؟
هذا هو ما أردت توصيله بإضافة هذا الملحق.
[1] – هذا هو الكتاب الأول باسم “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” وهو الفصل الأول من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو أولها.
[2]- يحيى الرخاوى: “أطفالنا: بين روح الشعر ونظم الحكمة” (ص 45 – 49) عدد 74 مارس 2005- مجلة وجهات نظر.
[3] – أحمد شوقى: “المختار من ديوان شوقى للأطفال” مكتبة الأسرة عام 2002- الهيئة المصرية العامة للكتاب.
[4] – هانز كريسيتان أندرسن (المولود فى عام 1805): “قصص وحكايات خرافية” (الجزءان الأول والثانى) فبراير 2005 من سلسلة الكتاب للجميع – جريدة القاهرة- القاهرة.
[5] – Transcultural Analysis
[6] – Individuation
[7] – يحيى الرخاوى “جدلية الجنون والإبداع” (الفصل الثانى) العدد الرابع – 1986 – مجلة فصول.
[8] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (1979) دار الغد للثقافة والنشر، القاهرة.
[9] – يحيى الرخاوى “أنواع الطب النفسى” 2019 أنظر “النظرية الايقاعية التطورية” www.rakhawy.net