الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” (7)

مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” (7)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 29-7-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4349

مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق”  (1)

الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” (7)

24 أغسطس 1984، مساء.

مازلنا فى”موتيل” الجبل. الأولاد سبقونا إلى النوم. زوجتى وأنا نأنس بأجواء “زوربا” اليونانى، على الرغم من أننا لم نعد فى اليونان، بل نحن فى اليونان رغم أنف النظم السياسية والاقتصادية والأمم المتحدة. الطيبة هى هى، والدفء الوجدانى والأصوات العالىة دون إزعاج، وتعبيرات الوجه “الحاضرة” دون أدب زائف، نفس الناس، هم هم. تلوح فى خيالى صورتا شخصين لا أعرف شكلَ أىٍّ منهما: د. نعيم عطية، وكازانتزاكس.

حين سألت صاحب الموتيل إن كان بإمكانى أن أدفع الحساب بالدولار، وأجابنى بالإيجاب. ثم راح يحسبها بعقـله الصناعى الصغير ذى الأزرار، تعجبت لقرب السعر الحر (السوق السوداء) من السعر الرسمى فى بلد اشتراكى، وقلت: لعـل فى الأمر خدعة، ولكنى لم أسمح لنفسى بالتمادى فى الشك. فالوجه أكثر سماحة، والصوت أكثر وضوحا من ألعاب الخداع والشطارة. مضيت أسأله عما يمكن أن نراه أثناء مرورنا العابر “جدا” ببلجراد. فراح يفكر ببطء نسبى، وقد كنت أحسب أن الرد جاهز (كما هو عندنا مثلا) ثم قال: تزور “قبر تيتو مثلا”. فابتسمتُ، فابتسمَ، فشجعتنى ابتسامته على أن أزيد من مساحة الضحك، فـتشجع بدوره، وضحك. وكانت لغة الحوار (الابتسامة- فالضحك) تساعد لغتنا الإنجليزية المتواضعة التى نتفاهم بها. قلت له: لا، شكرا، “عندنا قبر عبد الناصر”. وهنا قهقه مضيفى قائلا: “يكفى كل شعب من شعوبنا قبر واحد لكل منهما”. وربت على كتفى- مع أنه أصغر منى بكثير- فأحسست بيده حانية كأب طيب. ما أحوجنى دائما إلى الأبوة من كل الأعمار، أعرف ذلك عن نفسى، لاأجده ولا أرفضه، وأروح إلى الاتجاه الآخر أمارس أبوتى لكل من حولى، متى أكف عن هذا الجوع الذى لا يتوقف؟ (أنظر – إن  شئت – الترحال الثالث الفصل الأول والثانى). شعرت أن التفاهم البدنى – تعبيرات الوجه والإشارات، بالأيدى، وحركات الجسد تقربنا من بعضنا البعض، من هؤلاء الناس، هل هم ناس البحر المتوسط، أم ناس البلقان؟ الأمر يختلف كلما صعدنا شمالا، حيث تزداد المسافات بين أجساد البشر؛ حتى يصبح جسد الآخر، بل نظرة عينيه إذا طالت، من المقدسات المحظور الاقتراب منها. نعم.. هناك فى أقصى الشمال عليك أن تحافظ على المسافة، ودرجة الانحناءة، وأن تغض البصر، وتتقن الهمس المهذب؛ حتى تنقلب كلمات المحادثة إلى كرات صغيرة من الجليد الهش.

انتهى حديثى شبه السياسى مع صاحب الموتيل، وقلت فى نفسى: إن يوجسلافيا ربما تمر- الآن- بحالة تتمطـّى فيها بعد موت تيتو، فوجود زعيم مثله، له كل هذا الثقل.. ثم اختفاؤه، لابد أن يسمح للناس وهم يتزحزحون من تحت عباءته السميكة: “بالتمطى”، ولاأحد يعلم ماذا بعد التمطى. هل هو نوم جديد، تحت ثقل جديد، بحكم العادة؟. أم أنه مشى، فوثب، فانطلاق، إلى عالم الحركة، الحركة والإبداع؟.

بجهد متوسط،استطعت أن أوقف غلبة التساؤلات السياسية دون آمال الوثبة الواعدة.

عدت أواصل- فى صمت- مشاركة زوجتى وفرسان الليل بعض ما يجرى، ثم صعدنا للنوم، وهواء الجبل يغسل كل خلية من خلايا وجودنا.

كان النوم عميقا وهادئا، رغم أن أحلامى لم تتركنى أتعمق أكثر فيما أنا فيه؛ إذ مر بى طائف جعلنى أحلم بوضوح: “أنى “أخطب”، وأنا أشرح “لأحدهم” كيف أن القطاع العرضى فى أجسادنا يشبه فصوص البرتقالة!!. ثم كيف- لذلك- أننا نستطيع أن نلم أجزاءنا إلى  بعضها بعد تقطيعها إلى فصوصها، نلمها فنصبح وحدة جديدة قادرة على الغناء (نعم: الغناء وليس البناء).

 لم يكن حلما مزعجا، ولكنه كان غريبا غير متوقع. بالذمة: هل هذا- هنا- وقُت تقطيع ولحام..؟ (لاحظ التاريخ مرّة أخرى، نشرهذا الحلم هكذا عدد يناير- مارس 1985، مجلة الإنسان والتطور، هل كان حدْسا بما حدث فيما بعد؟).

لم أفسّر الحلم آنذاك، لا تفسيرا شخصيا، ولا تفسيرا سياسيا. أنا لا أفسّر    أحلامى عادة، ولا أحلام مرضاى، فقط أمعن النظر فيها، مادامت لغة الحلم هى الصور أساسا، فلماذا نسارع بترجمتها دون تأمّلها كما هى.

أحلامى- عموما- تنبهنى إلى كثير من خداع ما أتصوره فى يقظتى. فأحيانا ما أتصور أننى تمام التمام، وأنا أتخذ قرارا ما برؤية واضحة وتبرير سليم، فأزعم أنى قد تصالحت مع كل شىء، حين فهمت كل شئ وعـلمت كل شئ “حتى لا أسائل واحدا عن علم واحدة لكى أزدادها”. (صبّحك الله بالخير يا عمّناالمتنبى). وقد أكون قد تصورت أننى قد أتممت زرع كل شىء، ولم يبق علىّ إلا الحصاد،!!!. ثم أفاجأ أنى أحلم فى ذات الليلة بمعارك مع وحوش أسطورية لا يحمينى منها إلا اختبائى وسط زواحف بلا معالم واضحة!!. وحين أصحو وأتذكر، أُخرج لسانى ساخرا لهذا الوهم الذى لاح لى أثناء يقظتى حين صـّور لى أن أمورى قد استقرت، وأن الحلول    اقتربت، وأن الحصاد وشيك، وأنى تمام التمام فى طريق التكامل والعقبى عندك!! الحلم أصدق أنْباءً من الوهِم.

 حلمت أخيرا بعد عودتى من هذه الرحلة، (التاريخ يناير 1985) بعد أن تصورت أن داخلى قد استقر على “يقينٍ ما”.. حلمت أن أنثى قرد حامل قد دخلت معركة غير متكافئة مع وحش أسطورى، فبقر الوحش بطنها قبل أوان ولادتها بكثير، وإذا بمحتوى بطنها يـُخرج قردة صغيرة قادرة على الجرى، والحياة مستقلة ، لا تحتاج جتى لـلرضاع من أمها القتيلة.

 العجيب أن أعمار وأحجام الذرية (القردة الصغيرة) كانت متفاوتة رغم كل حسابات علم الأجنة، إذ كيف ينمو أحد الأجنة أسرع من قرينه فى البطن نفسها، فى الوقت ذاته؟

 حلمت هذا الحلم فى الوقت الذى كنت أعلن فيه لنفسى أنى تصالحت مع بقيتى تصالحا واكب دخول أصغر أولادى الجامعة، الأمر الذى صوّر لى أننى تخلصت من حسابات ومخاوف لعبة “مستقبل الأولاد”. وحسابات الثانوية العامة.

 يستطيع القارئ أن يرى فى هذه الأحلام ما يرى، فهى بعض رحلات الداخل. لا أقدّم لها تفسيرا. لا أريد أن أفعل. أولى بالحلم-على الأقل- أن يمْثُل مثولا هكذا بنبضه دون ترجمة أو تأويل، وأكتفى بأن أستنتج أن نتائج هذه الرحلة كما تراءت لى فى حدود وعيى الظاهرى، ليست هى حقيقة ما وصلنى. إنها أعمق وأخفى حيث لا سبيل إلى معرفة ما ترتب وما تبعثر فى الداخل إلا باختبار الزمن، وتغير نوع الإنتاج. و لعل بعض ما أكتب الآن هو من نتائجها الممتدة.

السبت: 25 أغسطس 1984:

استيقظنا فى الصباح الباكر دون “منبه”، وتمتعنا بالماء الساخن الذى انتهزنا فرصة الحصول عليه دون توقع لنقوم جميعا بالاستحمام احتياطيا تحسبا لقادم المفاجآت فى الطريق أو المعسكرات. من يدرى متى نجد الماء والستر ناهيك عن الليفة والصابون. تناولنا إفطارنا، وثمنه متضَمَّن فى أجر الحجرة الزهيد. وكانت مفاجأة أكثر إبهاجاً للأولاد جعلت كل واحد منهم يضع يده على جيبه فرحا، وكأن رأس ماله قد زاد ثمن الإفطار بضربة حظ طيب، فضلا عن أننا نجلس حول مائدة لها كراسٍ تضمُّـنا جميعا، وأكواب الشاى والقهوة تدفئ أيدينا و معداتنا وأرواحنا.

كانت السماء مازالت تمطر رذاذا يشتد أحيانا، ويخف حينا، وبدت الفرحة بالمطر (التى جعلتنى أصيح أمس “هذا… هو”) غير مناسبة، لأنها كانت مساء أمس فرحة، ونحن فى “حالة إقامة”. أما السفر “فى المطر فى الجبل” فهذا شئ آخر.

كان آخر عهدى بالسفر فى المطر (بلا تلافيف جبلية) وأنا أقطع الطريق بين باريس وبروكسل. تذكرت الآن كيف تعودت وقتها بسرعة على حركة المسَّـاحات ورخات عجلات السيارات التى تمرق أمامى وهى تتخطانى، فأمـِلتُ  حالا أن أتغلب على مخاوفى التى تحركت بالتعود بعد قليل. لكننى هذه المرة أرصد صاحِبى المتربص بداخلى وهو يتلمظ ويفرك يديه، فأزداد رهبة، فأكتـُمُـها عن صحبة الرحلة، وهم يذهبون ويجيئون ويُحكمون رباط غطاء الحمولة فوق ظهر العربة، وقد ارتدى كل منهم المعطف الخفيف المانع للمياه، ذا غطاء الرأس المحكم، وكأنهم يعيشون فى بلاد ممطرة طوال العام. أعجبتنى قدرة السن الصغيرة على التكيف الأسرع، دون سجن الاعتياد أو وصاية الفكر بالحسابات الجبانة. ولم يكن ثَمَّ بديل عن مواصلة الرحلة، وفورا. فأى انتظار لتوقف المطر هو جهل بطبيعة أوربا وطبيعة الجبل. فالأمطار قد تطول أياما، أو قد تنقشع بعد دقائق بلا شروط ولا إرهاصات.

تحركت الحافلة الصغيرة فى الصباح الباكر، وبعد دقائق- بدأت أعتاد على المطر، وحركة المسّاحات، ومروق العربات السريعة بجوارنا. وموجاتها المتناثرة من تحت عجلاتها إلى زجاجنا الأمامى، وتعجبت- مرة أخرى- لهذا التأقلم السريع الذى قهر كل حساباتى وترددى. وبدأ الأولاد يغنون مشاركين هذا الجو الصباحى المنعش.

كنت قد نسيت فى الجزء الأول من هذه الخواطر، أن أشير إلى أغانى الرحلة، ودورها الهام كأرضية مميزة لتجمُّعنا الصغير. ويمكن أن أرجع عزوفى عن ذكرها إلى خوفى من عجزى، عن أن أنقل روحها وأنغامها، وهما الأهم من كلماتها. بصفة عامة.. فإن أغانيهم الجماعية كانت تعـِلن بداية يقظة، أو رغبة فى مشاركة، أو انطلاقة فرحة، وأحيانا: استعدادا لنوبة نوم تالية. وكان من ألطف اللغات الخاصة التى ابتدعتها الصحبة، هو أن يقول أحدهم (عادة أصغر الأولاد) من فور يقظته، أو بعد صمت ثقيل: “تم ترارارم”. فيرد عليه أحدنا: “تم..تم”. وكنا نعتبر أن هذه العلامة هى إشارة أو دعوة للمشاركة فى أغنية قادمة، ويحدث، لكن أحيانا تكون هذه الإشارة هى بمثابة أغنية كاملة فى حد ذاتها، فنروح نكررها بأنغام مختلفة، ثم:…نضحك.

وقد لاحظت أنه – فى أغلب الأحيان – لايوجد أى تناسب بين الأغنية التى تنطلق، وبين الموقف الذى نعيشه، أو المنظر الطبيعى الذى يحيطنا ونخترقه ونـتجدد معه وبه. وفى بداية الأمر، كنت أرفض هذا التناقض، وأشعر أنهم منفصلون عنى وعن الرحلة، ولكنى رويدا رويدا أصبحت أشعر بأن تلقائية داخلهم هى أصدق من حسابات فكرى.

مازلنا نغتسل بالماء الهابط مباشرة من رحمة رب الأكوان، فنكاد نهز أجسادنا ورؤوسنا بما حولها من ريش ووجدان يقظ، كديوك نجحت فى عبور ترعة ذات ماء جار. فالمساحات تتسع وتتماوج بنا ومن حولنا، وأرواحنا تتفتح لاحتضان ماننهب من أرض وسماء ومابينهما. ولاتمضى سوى دقائق ونحن نستبشر الخير متصاعدا حتى تعلن زوجتى نسيان سترتها على مائدة الإفطار. ولـلعجب: لانضطرب ولا نضجر- على الرغم من ضيق الطريق، ولهفة مواصلة السير، وندور حول أنفسنا بصعوبة بالغة، ولا تعترض على الرجوع للبحث عنها إلا “حافلتنا الطيبة” (سأسميها بعد ذلك أحيانا: الأتوبيس) التى كانت قد بدأت تروض نفسها على الإىقاع الجديد للظروف الجديدة، ويبدو أنها كانت قد برْمَجت نفسها للمضى قدما دون توقّف، فراحت تتلكأ ونحن نلوى عنقها فى الاتجاه المضاد، ولكنها ترضخ – أخيرا – على مضض؛ لنعود من جديد إلى الموتيل دون لوم أو أسف، ولكن بخوف يقظ، ونشوة غامضة، وتنطلق المجموعة:

توتو… نَىْ،…. يا توتو…. نَىْ

حـَطّ إيـُدهْ على إيدى

أبويا راجل صعيدى

يضربك.. تصعب علىّ

أىْ

توتو… نَىْ،…. يا توتو…. نَىْ

بالذمة ما المناسبة؟. ونعثر على السترة، بل نكتشف أن زوجتى كانت قد نسيت حقيبتها أيضا، بما كان فيها من جواز سفر وأوراق هامة ونقود قليلة، ويعطونها إياها بفرحة، فنفرح بدورنا لأمانة الناس وطيبتهم، ونعود وقد زاد إشراق الصباح دون أن يتوقف المطر أو تظهر الشمس، وتنطلق المجموعة:

المعزة عزيزة… يا حصـُّول

اللى ببريزة… ياحصـــــُّول

جت مِنْ ورانا…. على غفلة

كلت السراير….. يا وِلداه

والكل مسافر…… يا وِلداه

وتحضر معنا نيللى، وصلاح جاهين داخل العربة، وتهب روائح رمضان، ونترحم على الفوازير التى هى “بحق وحقيق”.

لعل القارئ قد شاركنى شعورى نحو هذه الأغانى وتوقيتها، وعدم التناسب الظاهر بين كلمات الأغنية ومثيرات الخارج، ولكنى أؤكد احتمال أنه “عدم تناسب” “مناسب”. فهو عدم تناسب ظاهرى فحسب؛ إذ يبدو أن ثمة علاقة أكثر عمقا وأدق حساسية بين الداخل النقى والخارج الفطرى، علاقة أكثر حساسية وأعمق ارتباطا من منطلق الألفاظ وتسلسل الأفكار. وأتذكر كم نفرض الوصاية أكثر فأكثر على تلقائية الأولاد، فنحجر على حدس خيالهم وشطحات عدم ترابط منطقهم، إذ نقدم لهم فنا مسطحا، وقصصا تافهةً، تحت عنوان النصح والإرشاد.

حين كنت حول السابعة، أو ربما السادسة، كان يحضر لنا كل سنة، من بلد مجاورة (العطاعْطة)، شيخ وديع اسمه “عم عطية” يعقّب البرسيم، وكنت أنتظره بشوق من العام إلى العام. حيث كانت حكاياته أعمق وأطول وأهدأ وأكثر طرافة من حكايات عم “شعبان”، الذى يأتى كل ليلتين يدير الطلمبة “الماصة كابسة”، لملء خزان الماء فوق البيت، وقد حفظت حكاياته كلها بعد تكرارها عدة مرات. كنت أعرف لعم شعبان هذا اسما آخر لم أتحقق من أصله وما يشير إليه إلا بعد سنوات، فقد كنت أسمع من يلقّبه أنه “جوز اللومانجية” (لم يكن سبابا. كان مجرد تمييز له عن شعبان آخر). تبينت بعد سنوات أن زوجته كانت قد سُجنت لعدّة سنوات فى لومان طرة فى جريمةٍ ما، وكان عم شعبان هذا يعمل فى أكثر من عمل معا لثقة أهل بلدنا فى قوته البدنية، فكان يدير هذه الطلمبة الماصة كابسة ليلا بالإضافة إلى أعماله المتعددة نهارا، أما عم عطية فكانت له حجرة فى “البدروم”، يقوم فيها بتعقيب البرسيم (تعقيب البرسيم هو غربلة بذوره بطريقة فنية لفصل الخفيف من الثقيل ، والقِشر من الحب)، كان يعمل طول النهار وبعض الليل، وكنت أسمى الحجرة التى يعمل بها: حجرة عم عطية، رغم أنه كان لا يشغلها إلا بضعة أسابيع كل عام، وكانت وحدته ورضاه وهدوؤه وهو يهـز “الغربال” بين يديه فى رتابة حكيمة، دون ملل، جزءاً من روح حكاياته، وكأنه هو شخصيا أحد أبطالها. وكنت حين أطلب منه أن يحكى لى حكاية يسألنى: عايز “مَثل” ولا “حدوتة. – وكنت فى البداية – لا أعرف الفرق بين المثل والحدوتة، ثم تبينتُ أن المثل -دون الحدوتة- هو حكاية قصيرة مركزة تنتهى عادة بحكمة واضحة المعالم، أو تفسر قولا شائعا، وما زلت أذكر”مثل” الرجل الذى ورث ثلاثة أكياس ذهب. وفى موجة حماسة وتحد وحب استطلاع اشترى بها ثلاثة حِكَمْ، من شيخ عجوز، اشترى بثروته كلها ثلاثة أمثال هى: (1)” إمش سنة ولا تخطى قنا”. ثم (2) “حبيبك حب ولو كان دب”، وأخيرا (3)”من آمنك لم تخونه ولو كنت خاين”. وتمضى الحكاية وصاحبنا نادم أشد الندم على تهوره، ولكن الأحداث تُظهر له كيف أن كل مثل-حين طبّقه فعلا عيانيا فى الوقت المناسب- قد أنقذ حياته فى مأزق بذاته. من وقتها تعلّمتُ كيف أن “الكلمة” إذا حملت معناها أدّت أمانتها، بأن تكون فعلا واقعا، الكلمة – هكذا – هى أغلى ما فى الوجود، وقد تنقذنا من المهالك.

رحت أذكر بالذات المثل الأول “امشى سنة ولاتخطى قنا”. وأنا أمضى بحافلتى الصغيرة فوق الجسور المعلقة، وداخل الأنفاق، وأعتذر فى سرى مخاطبا عم عطية فى سرى: بأن “الدنيا تغيرت ياعم عطية فسامحنا”. ومع سرعة إيقاع المثل وتركيزه على الحدوتة. فقد كنت أفضل دائما الحدوتة؛ لأنها أطول وأقل مباشرة وأثرى خيالا. وكلما تذكرت أستاذية عم عطية وتلقائيته الإبداعية، قارنت بينها وبين برامج الأطفال وقصص النصح والإرشاد التى نبالغ فيها بالوصاية على خيال أطفالنا، وأسفت، ودعوت الله أن يهدى أولئك المسئولين عندنا عن برامج الأطفال ومطبوعاتهم؛ حتى ينسوا بعض “واجبهم الفضائلى” لحساب تنمية حدس خيال الأطفال التلقائى، فيقدمون لأطفالنا فنا بحق، حتى لو بدا هذا الفن لحساباتهم “بلا معنى”. فالفن الملئ بالمخوفات ليس سيئا، ولا هو مُـضر، ويستحسن أن يقدم لأطفالنا هكذا (دون حذف)؛ لأن إسقاط الداخل بمخاوفه و”لامنطقه”، وحتى بشاعته المزعومة، فى خيال قصصى، أفضل من حبسه وراء حاجز من فضائل مصنوعة، المهم ألا نتدخل بمنطقنا العاجز فى تلقائيتهم الحلوة، يا “حصـُّول”!!.

وتنطلق العربة، وتمرق من أنفاق صغيرة غير مضاءة بدرجة كافية، وأسأل مرشدتى الصغيرة التى عليها الدور، “منى السعيد”، أن تنظر فى الخريطة لترى متى ينتهى الطريق الجبلى، فتقول لى إنه لن ينتهى قريبا، فالخطوط الحمراء البُنية مستمرة، وأن ثم “أوتوستراد” ينتظرنا بين أغلب الطريق من “نيش” إلى “بلجراد”، ولا أكاد أصدق ماتقول حتى تستقيم الطريق وتنبسط، ضد فتواها المعتمِدة على ألوان الطرق لا التضاريس، وأجد نفسى أسير وسط حقول من الأذرة على الجانبين.

تذكرنى حقول الأذرة بالذات ببلدنا قديما (قريتى شخصيا)، وتذكرنى أكثر بطريق شُقّـت حديثا بين قليوب ومنيا القمح، وأقول عكس ماقال أولادى، عندما وصلوا إلى أثينا،: “لا… ليسوا مثلنا”. فأقول أنا معاندا: “ياه..!!. كم هم مثلنا”. مادام عندهم أذرة لها “كيزان” فهم مثلنا؟.

كان أول عجبى من مثل هذا فى العام الماضى، وأنا أشاهد الأذرة فى الطريق (الوطنى) الجميلة بين جنيف ومونتريه، وأستطيع أن أفسر جزءا من عجبى هذا بأنى تعودت أن أعتقد أن أكل خبز الأذرة، متصل بالفقر، حيث كنا نصف الغنىّ بأن خبزه “قمح صافى”. أما خبز الأذرة بالحلبة فهى أكل عامة الفلاحين (المزارعين). فلماذا يزرع هؤلاء الخوجات الأغنياء الأذرة، مع أنهم قادرون على أن يأكلوها “قمح صافى”؟.

المهم: آنستنى حقول الأذرة، وتيقنت أنه لا جبال ولايحزنون، كما قالت المرشدة الصغيرة. هذه السهول المرتبطة بالأذرة المزروعة تصور لى أن الأذرة لا يمكن أن تزرع إلا فى حقول منبسطة مثل بلدنا.

 …………..

ونكمل الأثنين القادم

 

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” (من 24 أغسطس 1984 إلى 25 أغسطس1984) (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *