الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”([1]) (الحلقة الثالثة عشر) ملاحق الكتاب الأول: الملحق الأول توليف مقتطف من: قراءة‏ ‏فى‏ “‏أحلام‏” ‏نجيب‏ ‏محفوظ وإبداع‏ ‏الحلم‏، ‏وأحلام‏ ‏المبدع

“الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”([1]) (الحلقة الثالثة عشر) ملاحق الكتاب الأول: الملحق الأول توليف مقتطف من: قراءة‏ ‏فى‏ “‏أحلام‏” ‏نجيب‏ ‏محفوظ وإبداع‏ ‏الحلم‏، ‏وأحلام‏ ‏المبدع

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 27-7-2019

السنة الثانية عشرة

العدد: 4347

“الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (1)  (الحلقة الثالثة عشر)

(نواصل: حركية جدل الشعر والشاعر والعلاقة بحركية الحلم!)

ملاحق الكتاب الأول

بعد كتابة هذه الدراسة بحوالى عشرين عاما، صدرت لى بعض أعمال نقدية، لم أتعمد فيها أن أبحث عن تطبيقات مباشرة لما جاء فى هذه الفروض التى احتوتها هذه الدراسة. لكننى وأنا أراجع هذا الفصل المراجعة الأخيرة رأيت أن  أضيف عينة محدودة من  بعض دراساتى النقدية ربما تكون بمثابة إضافة محددة لبعض جوانب قضية الربط بين الحلم والشعر والطفولة والفطرة والخيال. الذات.

الملحق الأول: هو توليف بين مقالين فى نقد أحلام محفوظ نشر أولهما فى مجلة الهلال، وثانيهما (لاحقا) فى مجلة وجهات نظر.

الملحق الثانى: دراسة فيها مقارنة بين إبداع هانز كريستيان أندرسن للأطفال (الذى وصلنى شعرا، برغم أنه ظهر من صورة قصص قصيرة للأطفال، مقارنة) بنظم أحمد شوقى للأطفال الذى لم يتجاوز الرجز الجميل جدا، وقد كانت مفاجأة حين اكتشفت كيف استطاع أندرسن أن يقدم قبل أكثر من قرن ونصف، وللأطفال، ما أحاول أن أوصله للكبار حاليا بصعوبة  من خلال  هذه الدراسة، وأرى أن هذا الملحق يظهر كيف أن مابدا حكاية خرافية للأطفال ثبت من خلال هذا النقد أنه أقرب إلى الشعر، وأن ماسُمى شعراً للأطفال لم يكن إلا نْظماً خفيفا لمستوى مفاهيمى للشعر أبعد مايكون عن آليات الحلم وزخم تشكيلاته.

 الملحق الأول

توليف مقتطف من:

قراءة‏ ‏فى‏ “‏أحلام‏” ‏نجيب‏ ‏محفوظ  (2)

وإبداع‏ ‏الحلم‏، ‏وأحلام‏ ‏المبدع  (3)

المتابع‏ ‏لتطورات‏ ‏العلم‏ ‏المعرفى‏  Cognitive Science‏لا‏‏بد‏ ‏أن‏ ‏يبلغه‏ ‏كيف‏ ‏تراجع‏ ‏موقع‏ ‏الرمز‏ ‏والمنطق‏ ‏الخطى ‏المسلسل‏ ‏عن‏ ‏دوره‏ ‏الطاغى ‏فى ‏التفكير‏ ‏والمعرفة واللغة‏، ‏لحساب‏ ‏التشكيلات‏ ‏الكلية‏ ‏والمجاز والصورة‏. ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏أيضا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لقراءة‏ ‏الأحلام‏ ‏والإبداع”‏. ‏إن‏ معظم ‏الدراسات‏ ‏الأحدث‏ ‏قد‏ ‏تجاوزت‏ ‏كل‏ ‏الشائع‏ ‏عن‏ ‏الحلم‏ ‏سلفيا‏ (‏إبن‏ ‏سيرين‏ ‏كمثال‏) ‏أو‏ ‏تحليلا‏ ‏نفسيا‏ (‏فرويد‏، ‏كمثال‏). ‏إن‏ ‏نفس‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏المعرفى ‏راح‏ ‏يؤكد‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏التفكير‏ ‏يتم‏ ‏فى ‏اللاشعور‏ ‏أساسا‏، ‏بل‏ ‏وفى ‏الجسد‏ ‏وبالجسد‏. ‏حين‏ ‏اخترق‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏تقديس‏ ‏الرمز‏ ‏اعـُتـبرت‏ ‏هذه‏ ‏الاختراقة‏ ‏هى “‏الهرطقة‏ ‏الأولى”، ‏وحين‏ ‏تجرأ‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏على ‏نفى ‏الدماغ‏ (‏المخ‏) ‏كعضو‏ ‏أوحد‏ ‏للتفكير‏ اعُتبٍرت‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏هى”‏الهرطقة‏ ‏الثانية‏”. ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏كذلك‏ ‏بالنسبة‏ ‏للتفكير‏ ‏العادى، ‏فهو‏ ‏أولى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مدخلنا‏ ‏لقراءة‏ ‏الحلم‏ “‏صورة‏ ‏ماثلة‏ ‏مكثفة‏ ‏بما‏ ‏هى” ‏دون‏ ‏الإسراع‏ ‏إلى ‏اختزاله‏ ‏رمزا‏ ‏متعسفا‏. ‏أيد‏ ‏هذا‏ ‏الاتجاه‏ (‏ترجيح‏ ‏حضور‏ ‏الصورة‏ ‏التمثيلية‏ ‏قبل‏ ‏الرمز‏) ‏زيادة‏ ‏الاهتمام‏ ‏بنوعية‏ ‏عمل‏ ‏النصف‏ ‏غير‏ ‏الطاغى ‏من‏ ‏المخ‏، ‏مما‏ ‏لا‏ ‏مجال‏ ‏لتفصيله‏ ‏هنا‏ ‏الآن‏.‏

…… هناك‏ ‏خطأ‏ ‏نقدى ‏شائع‏ ‏حين‏ ‏يسارع‏ ‏البعض‏ ‏باختزال‏ ‏ ‏العمل‏ الأدبى، وبالذات أعمال محفوظ، ‏إلى ‏رموز‏ ‏لها‏ ‏دلالتها‏، ‏من‏ ‏أول‏ ‏حميدة‏ ‏فى ‏زقاق‏ ‏المدق‏، ‏حتى ‏سماره‏ ‏فى ‏ثرثرة‏ ‏فوق‏ ‏النيل‏. ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏يخطر‏ ‏على ‏وعيه‏ ‏الإبداعى ‏أحيانا‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الإصرار‏ ‏على ‏الترميز‏، ‏لكن‏ ‏الصحيح‏ ‏أكثر‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يعمم‏ ‏النقاد‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏خصوصا‏ ‏على ‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏، ‏ومن‏ ‏قبل‏ “رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏”

…..

….‏ (يبدو لأول وهلة أن) ‏هذه‏ ‏الأحلام (أحلام فترة النقاهة)‏، ‏بقصرها‏، ‏وتكثيفها‏، ‏وقفزاتها‏، ‏وفجائيتها‏، ‏وغموضها‏…‏إلخ‏ ‏هى ‏نتاج‏ صرف لاضطرار‏ ‏محفوظ‏ ‏إلى ‏الاختزال‏ ‏والتركيز‏ ‏هكذا‏ ‏لصعوبة‏ ‏الكتابة‏ (‏إعاقة‏ ‏اليد‏)، ‏وصعوبة‏ ‏مراجعة‏ ‏ما‏ ‏كتب‏ ‏وإعادة‏ ‏صياغته‏ (‏إعاقة‏ ‏النظر‏) ‏وصعوبات‏ ‏كثيرة‏ ‏أخرى ‏لا‏ ‏داعى ‏لذكرها‏. ‏لكن المتأمل لإنتاجه من قبل لابد وأن يكتشف أن الأمر ليس كذلك تماما، وإن كان هذا‏ ‏الشكل‏ ‏الجديد‏ ‏من‏ ‏الكتابة‏ ‏القصيرة‏ ‏المركزة‏ ‏المكثفة يوحى بذلك بالضرورة. ‏

إنه‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏صحة‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏، ‏ولو‏ ‏جزئيا‏، ‏إلا ‏أن‏ ‏صدور‏ “‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذاتية‏” ‏قبل‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الإعاقات‏ ‏بسنوات‏، ‏يكاد‏ ‏ينفى ‏مسئولية أغلبها،‏ ‏فالأصداء‏ ‏فيها‏ ‏نفس‏ ‏التكثيف‏، ‏ونفس‏ ‏الإيجاز‏، ‏ونفس‏ ‏النقلات‏، ‏ونفس‏ ‏الشطح‏ ‏الإبداعى ‏الرائع‏، ‏وبعض‏ ‏الترميز‏. ‏رجعت‏ ‏إلى ‏دراستى ‏للأصداء (4)، ‏فوجدت‏ ‏أن‏ ‏بها‏ ‏قليلا‏ ‏مما‏ ‏أسماه‏ ‏محفوظ‏ ‏حلما‏، ‏لكن‏ ‏فيها‏ ‏الكثير‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏القارئ‏ ‏باعتباره‏ ‏كذلك‏، ‏وكلها‏ ‏مازالت‏ ‏تقع‏ ‏فيما ‏‏هو‏ ‏إبداع‏ قد ‏يتخفى ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏ ‏تحت‏ ‏عباءة‏ ‏ما‏ ‏يبدو‏ ‏ـ‏ ‏تمويها‏ ‏ربما‏ هو ‏مقصود‏ ‏ـ‏ “‏حلما‏”.‏

تصورت‏ ‏أن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏بحدسه‏ ‏الخاص‏ ‏قد‏ ‏رأى ‏احتمال‏ ‏إصابته‏ ‏بمثل‏ ‏هذه‏ ‏الإعاقات‏ ‏التى ‏لم‏ ‏تظهر‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏سنوات‏، ‏فراح‏ ‏يدرب‏ ‏نفسه‏ (‏دون‏ ‏أن‏ ‏يدرى‏) ‏على ‏كيفية‏ ‏تجاوزها‏، ‏فكانت‏ ‏الأصداء‏ ‏تمهيدا‏ ‏لأحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏.‏

…..، لكن‏ ‏الامر‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏أقدم‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏بكثير‏، ‏إذا‏ ‏نظرنا‏ ‏فى ‏مجموعته‏ “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” ‏وأيضا‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏فقرات‏ ‏أعماله‏ ‏حتى ‏الطويلة‏ ‏منها‏، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الحرافيش‏ ‏أو‏ “‏حديث‏ ‏الصباح‏ ‏والمساء‏”، ‏وغيرها‏.‏

إبداع‏ ‏الحلم‏، ‏وأحلام‏ ‏المبدع‏:‏

(مقتطفات لا تشمل كل المقال، تجنبا لتكرار لم يمكن التخلص منه حتى بعد الحذف المتعمد)

ليس‏ ‏جديدا‏ ‏أن‏ ‏يبدع‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏حالما‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يحلم‏ ‏مبدعا‏. ‏الحلم‏ ‏العادى ‏هو‏ ‏إبداع‏ ‏الشخص‏ ‏العادى. ‏وإبداع‏ ‏المبدع‏ ‏هو‏ ‏حلم‏ ‏الواقع‏ ‏الأعمق‏/ ‏القادم‏/ ‏القائم‏ ‏حالا‏. ‏نحن‏ ‏لا‏ ‏نحلم‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏شاع‏، ‏فمسخْـنا‏ ‏الحلم‏ ‏رموزا‏ ‏وتأويلا‏،

‏…….

‏الحلم‏ ‏الذى ‏نحكيه‏، ‏ونتصور‏ ‏أنه‏ ‏الحلم‏، ‏هو‏ ‏الجزء‏ ‏الذى ‏التقطنا‏ ‏أبجديته‏ ‏من‏ ‏مفردات‏ ‏ما‏ ‏تحرك‏ ‏فى ‏الوعى ‏الآخر‏، ‏ثم‏ ‏رحنا‏ ‏ننسج‏ ‏منها‏ ‏ما‏ ‏تيسر‏ ‏فنصيغه‏ ‏ فنحكيه على ‏أنه‏ ‏الحلم‏.

‏ ‏”نحن‏ ‏جميعا‏ ‏- هكذا- مبدعون‏ ‏بالضرورة‏. ‏‏الحلم‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏نشكله‏ ‏نحن‏ ‏فى ‏تلك‏ ‏الفترة‏ ‏الشديدة‏ ‏القصر‏ ‏قبيل‏ ‏اليقظة‏”.‏

هذا هو الفرض الذى سبق أن قدمته منذ أكثر من عشرين عاماً، لم‏ ‏أكن‏ ‏أتصور‏ ‏أننى ‏سوف‏ ‏أستطيع‏ ‏تحقيق‏ ‏بعـض‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏ولو‏ ‏بعد‏ ‏حين‏. ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يخطر‏ ‏على ‏بالى ‏أن‏ ‏أعايش‏ ‏مبدعا‏ ‏بحجم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏وعمقه‏، ‏حتى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أتابع‏ ‏علاقته‏ ‏بأحلامه‏ ‏مصدرا‏ ‏للإبداع‏، ‏لتضئ‏ ‏بعض‏ ‏جوانب‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏.‏

نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏والحلم‏ ‏الإبداع‏:‏

انتبهت‏ ‏إلى ‏موقع‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى: ‏الإبداع‏ ‏الحالم‏ ‏أو‏ ‏الحلم‏ ‏الإبداع‏، ‏سواء‏ ‏وضعه‏ ‏هو‏ ‏تحت‏ ‏اسم‏ ‏الحلم‏ ‏أو‏ ‏الرؤية‏، ‏أم‏ ‏تحت‏ ‏أى ‏مسمى ‏آخر‏ (‏مثل بعض‏ ‏ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة‏ ‏أو‏ ‏بعض‏ ‏قصصه‏ ‏القصيرة‏ ‏فى ‏مجموعة‏ ‏خمارة‏ ‏القط‏ ‏الأسود‏‏).‏ ‏كتبت‏ ‏عن‏ ‏مجموعة‏ “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏”  فى بداية الثمانينيات ثم ‏أعيد نشرها‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏فى “‏قراءات‏ ‏فى ‏نجيب‏ ‏محفوظ (5) ‏ثم‏ ‏عاودت‏ ‏الكتابة‏ ‏عن‏ ‏أحلام‏ ‏محفوظ‏ ‏المبدعة‏ ‏أو‏ ‏الإبداعية‏ ‏فى ‏دراستى ‏عن‏ ‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذاتية (6) ، ثم‏ ‏كتبت‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏أحلامه‏ ‏الإبداعية‏ ‏الأخيرة‏ (‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏) ‏بعد‏ ‏نشرها‏، ‏وقد‏ ‏عايشت‏ ‏ولادتها‏ ‏شخصيا‏، ‏كتبت‏ ‏ما‏ ‏تراءى ‏لى ‏عن‏ ‏طبيعة‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏، ‏كما‏ ‏تناولت‏ ‏بعضها‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏مجلتى “‏إبداع” (7)، “‏ووجهات‏ ‏نظر‏” (8)، وفيما يلى بعض ذلك:

أسئلة‏ ‏ليس‏ ‏لها‏ ‏إجابات‏:‏

كثرت‏ ‏التساؤلات‏ ‏حول‏ ‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏ ‏بالذات‏، ‏فيضطر‏ ‏محفوظ‏ ‏ـ‏ ‏ضمن‏ ‏آخرين‏ ‏ـ‏ ‏للرد‏ ‏على ‏أغلب‏ ‏تلك‏ ‏التساؤلات‏ ‏بما‏ ‏تيسر‏، ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏ملزما‏ ‏بالرد‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏ليست‏ ‏فصل الخطاب‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى، ‏وفى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏: ‏الإجابات‏ ‏ليست‏ ‏دائما‏ ‏فى ‏مقدوره‏، ولا هى مسؤوليته.‏

بعض‏ ‏هذه‏ ‏التساؤلات‏ ‏الساذجة‏ ‏تقول‏: ‏هل‏ ‏هى ‏أحلام‏ ‏أم‏ ‏إبداع؟‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏يرصد‏ ‏ما‏ ‏جرى ‏فى ‏الحلم‏ ‏أو‏ ‏يضيف إليه؟‏ وما هو قدر الإضافة؟ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏يستقى ‏مادة‏ ‏الحلم‏ ‏وشخوصه‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏فقط‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏والواقع؟‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏والواقع‏ ‏والذاكرة‏ ‏جميعا؟‏ ‏ما‏ ‏علاقة‏ ‏ما‏ ‏يكتب‏ ‏الآن‏ ‏بما‏ ‏يسمى “‏أحلام‏ ‏اليقظة‏”‏؟‏ ‏كنت‏ ‏أتعجب‏ ‏عادة‏ ‏كيف‏ ‏يضطر‏ ‏محفوظ‏ ‏أحيانا‏ ‏أن‏ ‏يجيب‏ ‏ببعض‏ ‏ما‏ ‏يمكنه‏ ‏على هذه التساؤلات.‏ ثم ‏كيف‏ ‏يتصدى ‏بعض‏ ‏المفتيين‏ (‏من‏ ‏العلماء‏ ‏والنقاد‏ ‏جميعا‏) ‏بفتاوى ‏وتأويلات‏ ‏ترد‏ ‏على ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏رد‏ ‏لها.

رحت‏ ‏أراجع‏ ‏رحلتى ‏مع‏ ‏أحلام‏ ‏محفوظ‏ ‏منذ‏ ‏ربع‏ ‏قرن‏ ‏فوجدتنى ‏لا‏ ‏أستطيع‏، ‏وحتى ‏الآن،‏ ‏أن‏ ‏أجيب‏ ‏بمثل‏ ‏تلك‏ ‏الإجابات‏ ‏الحاسمة‏ ‏التى ‏وصلتنى، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏استطعته‏ ‏هو‏ ‏اجتهادات‏ ‏واحتمالات‏:

إن نقد ما يسمى أحلاما فى الإبداع ليس دراسة فى الأحلام، بقدر ما هو احتمال تعرُّف على منطقة مشتركة، يتصورها المبدع بحدسه الخاص، وكأنها هى الأقرب إلى ما هو أحلام، إن مثل هذا النقد ليس دليلا مع أو ضد علاقة الإبداع بالأحلام، لكنه فى نفس الوقت يتحرك فى هذه المنطقة المشتركة أو البينية بينهما، ليكتشف تداخلا محتملا فى طريقة التشكيل، والعلاقة بالمكان، وحركية الزمن، وغلبة الصور، والإضافات المعرفية الكلية والمباشرة، والكشف المفاجئ المتجدد، وسرعة الإيقاع والتكثيف. أضف إلى ذلك أن المقتطفات هنا تشمل محاولات نقدية قبل وبعد هذه الدراسة، بلا رابط مسبق بينها مما قد يكملها ، أو يضعها فى مكانها الصعب بشكل ما. والأمر يختلف جذريا عن استشهاد فرويد بحلم مورى سنة 1878 الذى سبقت الإشارة إليه، والذى يحتاج أن نعيده هنا حرفيا كما أورده فرويد:

ثم ننتقل إلى متابعة تاريخية لأحلام محفوظ فى إبداعاته:

أولا‏:

من‏ ‏قراءة‏ ‏باكرة‏ ‏فى: “رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” (1983) (9)

الحلم‏/ ‏الإبداع‏: ‏سعى ‏للكشف‏ ‏وتطلع‏ ‏إلى ‏معـرفة‏ ‏ممتدة

‏”…… ‏فى ‏هذه‏ ‏المجموعة‏ ‏نجد‏ ‏هذا‏ ‏اللحن‏ ‏المميز‏ ‏الضارب‏ ‏فى ‏التاريخ‏ ‏المتطلع‏ ‏للمستقبل‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏حلم‏ ‏وأكثر‏ ‏من‏ ‏موقع‏:

 “‏أهى ‏حجرتى ‏الراهنة‏: ‏أم‏ ‏أخرى ‏آوتنى ‏فيما‏ ‏سلف‏ ‏من‏ ‏الزمان؟‏” ‏حلم‏ 1 (8/‏ص‏ 142).

‏”‏لن‏ ‏أحيد‏ ‏عن‏ ‏التطلع‏ ‏إلى ‏الأمام‏” ‏حلم‏ 1 (8/‏ص‏ 142).” ‏

آن‏ ‏أوان‏ ‏قراءة‏ ‏الطالع‏” ‏حلم‏ 4 (8/‏ص‏ 147).‏

الإيقاع‏ ‏سريع‏ ‏فى ‏سعى ‏المعرفة‏ ‏اللاهث‏ ‏وهو‏ ‏يتواءم‏ ‏مع‏ ‏طبيعة‏ ‏زمن‏ ‏الحلم‏.‏

وشعرت‏ ‏طوال‏ ‏الوقت‏ ‏بأننى ‏أسعى ‏وراء‏ ‏غاية‏: ‏لكنها‏ ‏غابت‏ ‏عن‏ ‏وعيى ‏أو‏ ‏غاب‏ ‏عنها‏ ‏وعيى‏” ‏حلم‏ 11 (8/‏ص‏ 163).‏

وقد‏ ‏بين‏ ‏محفوظ‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الدافع‏ ‏إلى ‏المعرفة‏ ‏ينبعث‏ ‏أساسا‏ ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏أن‏ ‏الإنسان‏ ‏له‏ “‏ماض‏”، ‏له‏ ‏تاريخ‏. ‏

‏”… ‏فى ‏فيضان‏ ‏أحلام‏ “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” ‏نتعرف‏ ‏على ‏المغامرات‏ ‏المعرفية‏ ‏أكثر‏ … ‏ولكننا‏ ‏نجدها‏ ‏ملتفة‏ ‏بأجواء‏ ‏الغموض‏ ‏دون‏ ‏الإقلال‏ ‏من‏: “‏نشاط‏ ‏السعى ‏الدؤوب‏”: “‏مثقلة‏ ‏بآلاف‏ ‏الكلمات‏ ‏المبهمة‏”: (8/‏ص‏ 143) ‏حلم‏ (2) “‏عدوت‏ ‏منها‏، ‏ولكنى ‏عدوت‏ ‏فى ‏مجالها‏ ‏وحضنها‏” (8/‏ص‏ 143) ‏حلم‏ (7) ‏وقد‏ ‏سبقت‏ ‏الإشارة‏ ‏إلى ‏ارتباط‏ ‏المعرفة‏ ‏بالحزن‏، ‏ويعود‏ ‏هذا‏ ‏الارتباط‏ ‏إلى ‏الظهور‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏حلم‏ (3)، ‏وتستمر‏ ‏المغامرات‏ ‏المعرفية‏ ‏مع‏ ‏مصاحباتها‏ ‏من‏ ‏حزن‏، ‏أو‏ ‏تطلع‏، ‏أو‏ ‏ضياع‏، ‏أو‏ ‏ربكة‏، ‏طوال‏ ‏الأحلام‏ ‏بشكل‏ ‏ملح‏: ‏ففى ‏حلم‏ (14) ‏نجد‏ ‏المتابعة‏ ‏للشاب‏ ‏الوسيم‏ (‏الذى ‏يمثل‏ ‏أمله‏) ‏تحمل‏ ‏الرغبة‏ ‏الملحة‏ ‏لاستطلاع‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏فاعل‏، ‏وما‏ ‏هو‏ ‏وراء‏، ‏ولكنه‏ ‏ـ‏ ‏كالعادة‏ ‏ـ‏ ‏”ينهك‏ ‏ويسقط‏، ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يصل‏” ‏ودون‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏، ‏تاركا‏ ‏وراءه‏ ‏الشرود‏ ‏والانخداع‏ ‏والعزاء‏، ‏بما‏ ‏يذكرنا‏ ‏بالنهاية‏ ‏اليائسة‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏، ‏التى ‏تدفع‏ ‏لمزيد‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏، ‏بعد‏ ‏أغلب‏ ‏المحاولات‏، ‏وفى ‏المقابل‏ ‏نرى ‏مواجهة‏ ‏للرجل‏ ‏بالغ‏ ‏الكبر‏، “‏والنظر‏ ‏فى ‏عينيه‏ ‏كبلورتين‏ ‏متوهجتين‏”…‏إلخ

أكتفى ‏بهذا‏ ‏القدر‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏النقد‏ ‏الباكر‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏للقارئ‏ ‏الرجوع‏ ‏إلى ‏تفاصيله‏ ‏حيث‏ ‏نشر (هامش 3)

ثانيا‏:

 ‏أحلام‏ ‏نجيب‏ ‏فى ‏أصداء‏ ‏السيرة

لم‏ ‏تظهر‏ ‏الأحلام‏ ‏فى ‏الأصداء‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏إلا‏ ‏قليلا‏ مع أن ثلاثة منها ‏ ‏تلاحقت‏ ‏وراء‏ ‏بعضها‏ ذات مرة (‏فقرات‏ 65،64،66) ‏وفيما‏ ‏يلى ‏عينة‏ ‏لقراءة‏ ‏حلمين منهما‏.‏

فقرة‏ 58 (‏الأصداء‏):‏ ص 117

‏”‏فى ‏مرحلة‏ ‏حاسمة‏ ‏من‏ ‏العمر‏ ‏عندما‏ ‏تنسم‏ ‏بى ‏الحب‏ ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏ ‏همس‏ ‏فى ‏أذنى ‏صوت‏ ‏عند‏ ‏الفجر‏. ‏هنيئا‏ ‏لك‏ ‏فقد‏ ‏حم‏ ‏الوداع‏. ‏وأغمضت‏ ‏عينى ‏من‏ ‏التأثر‏ ‏فرأيت‏ ‏جنازتى ‏تسير‏ ‏وأنا‏ ‏فى ‏مقدمتها‏ ‏أسير‏ ‏حاملا‏ ‏كأسا‏ ‏كبيرة‏ ‏مترعة‏ ‏برحيق‏ ‏الحياة‏.”‏

….. ‏تتكثف‏ ‏اللحظات‏ ‏فى ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏، ‏ويصّاعد‏ ‏الحب‏، ‏لا‏ ‏إلى ‏ذروة‏ ‏السعادة‏ ‏بل‏ ‏إلى ‏ذروة‏ ‏أروع‏، ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏، ‏فنتعلم‏ ‏التمييز‏ ‏بين‏ ‏حب‏ ‏مخدر‏ ‏حتى ‏السعادة‏ ‏وبين‏ ‏حب‏ ‏منتش‏ ‏بالحيرة‏ ‏محاط‏ ‏بالشوق‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏عند‏ ‏الفجر‏: ‏البداية‏ ‏الباكرة‏ ‏المشقشقة‏، ‏فتولد‏ ‏الحياة‏ ‏ـ‏ ‏كما‏ ‏عودنا‏ ‏محفوظ‏ ‏ـ‏ ‏من‏ ‏الموت‏، ‏… ‏عادت‏ ‏الأصداء‏ ‏تمزج‏ ‏الحلم‏ ‏بالحسم‏ ‏وتجسد‏ ‏الموت‏، ‏وتشق‏ ‏الذات‏ ‏البشريه‏ ‏ليعلن‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏نهاية‏ “‏مرحلة‏ ‏حاسمة‏ ‏من‏ ‏العمر‏”، ‏ويشاهد‏ ‏نفسه‏ ‏بنفسه‏، ‏وهو‏ ‏يتقدم‏ ‏المشيعين‏ ‏حاملا‏ ‏دلالات‏ ‏ولادته‏ ‏الجديدة‏ “‏الكأس‏ ‏المترعة‏ ‏برحيق‏ ‏الحياة‏”، ‏ثم‏ ‏يؤكد‏ ‏ضمنا‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏إدوارد‏ ‏الخراط‏ ‏فى “‏يقين‏ ‏العطش‏” ‏من‏ ‏أن‏ ‏الارتواء‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏اليقين‏، ‏وإنما‏ ‏تعميق‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏ ‏أبدا‏ ‏(يقين‏ ‏العطش‏ ‏إدوار‏ ‏الخراط‏)  (10)

‏65 ‏ـ‏ (‏الأصداء‏) ‏اللحن

‏”‏فى ‏حلم‏ ‏ثان‏ ‏وجدتنى ‏فى ‏حجرة‏ ‏متوسطة‏ ‏يضيئها‏ ‏مصباح‏ ‏غازى ‏يتدلى ‏من‏ ‏سقفها‏، ‏فى ‏ركن‏ ‏منها‏ ‏جلس‏ ‏جماعة‏ ‏من‏ ‏الرجال‏ ‏والنساء‏ ‏على ‏شلت‏ ‏متقابلة‏ ‏يتسامرون‏ ‏ويضحكون‏ ‏بأصوات‏ ‏مرتفعة‏، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏فى ‏الجدران‏ ‏باب‏ ‏ولا‏ ‏نافذة‏ ‏إلا‏ ‏فتحة‏ ‏صغيرة‏ ‏فى ‏اتساع‏ ‏عين‏ ‏منظار‏ ‏مرتفعة‏ ‏بعض‏ ‏الشيء‏، ‏فلم‏ ‏أر‏ ‏منها‏ ‏إلا‏ ‏سماء‏ ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏. ‏شعرت‏ ‏برغبة‏ ‏شديدة‏ ‏فى ‏العودة‏ ‏إلى ‏أهلى ‏ودارى. ‏ولم‏ ‏أدر‏ ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتيسر‏ ‏لى ‏ذلك‏.، ‏وسألت‏ ‏السمار‏: ‏أكرمكم‏ ‏الله‏ ‏كيف‏ ‏أستطيع‏ ‏الخروج‏ ‏من‏ ‏هنا؟‏ ‏فلم‏ ‏يلتفت‏ ‏إلى ‏أحد‏ ‏وواصلوا‏ ‏السمر‏ ‏والضحك‏، ‏وغزت‏ ‏الوحشة‏ ‏أعماقى. ‏عند‏ ‏ذاك‏ ‏لاح‏ ‏لى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الفتحة‏ ‏وجه‏ ‏غير‏ ‏واضح‏ ‏المعالم‏ ‏وقال‏ ‏لى: ‏إليك‏ ‏هذا‏ ‏اللحن‏ ‏إحفظه‏ ‏منى ‏جيدا‏، ‏وترنم‏ ‏به‏ ‏عند‏ ‏الحاجة‏، ‏وستجد‏ ‏منه‏ ‏الشفاء‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هم‏ ‏وغم‏.”‏

يظهر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الحلم‏ “‏رحم‏ ‏الدنيا‏”، ليس رمزا بقدر ما هو واقع آخر، ‏وتولد‏ ‏قصيدة‏ ‏قصيرة‏ “‏سماء‏ ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏”، ‏وتتأكد‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والعودة‏، ‏فكرة‏ ‏العودة‏ ‏أصيلة‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏الإنسانى ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏فى ‏تعبير‏ “‏أن‏ ‏يسترد‏ ‏الله‏ ‏أمانته‏” ‏كما‏ ‏يفهم‏ ‏الموت‏ ‏عند‏ ‏أهل‏ ‏التقوى، ‏أو‏ ‏سواء‏ ‏أفادت‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏المنفصل‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏الالتحام‏ ‏بأصله‏ ‏كما‏ ‏يشير‏ ‏المتصوفة‏ ‏عادة‏، ‏العودة‏ ‏إلى ‏الأهل‏ ‏والدار‏ ‏وصلتنى ‏هنا‏ ‏باعتبارها‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏الأصل‏” ‏الكل‏”، نقلة الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى ‏وحين‏ ‏تستحيل‏ ‏العودة‏ ‏إراديا‏ (‏إلا‏ ‏بالانتحار‏ ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏عودة‏ ‏وإنما‏ ‏إجهاض‏) ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتكيف‏ ‏ونحن‏ “‏فى ‏الانتظار‏” ‏حتى ‏يحين‏ ‏الأوان‏ وتتحلى إرادة أخرى لانعرفها.‏

هذا‏ ‏اللحن‏ ‏الذى ‏هبط‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏الفتحة‏ ‏التى ‏تبدو‏ ‏منها‏ ‏السماء‏ ‏وهى ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ “‏دينا‏” ‏له‏ ‏طقوس‏ ‏وأنغام‏ ‏ويمكن‏ ‏ـ‏ ‏وهذا‏ ‏مستبعد‏ ‏نسبيا‏ ‏ـ‏ كما ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏اغترابا‏ ‏له‏ ‏أيضا‏ ‏فعل‏ ‏التنويم‏ ‏والتسكين‏، ‏وأما‏ ‏اختفاء‏ ‏الهم‏ ‏وإنكار الغم‏ ‏فهو‏ ‏يتحقق‏ ‏بالتوجهين‏ ‏معا‏: ‏ولكن‏ ‏واحدا‏ ‏إلى ‏أعلى ‏وواحدا‏ ‏إلى ‏أسفل‏ (‏الاغتراب‏)، إما‏ ‏أن‏ ‏يعزف‏ اللحن‏ ‏العبادة‏ ‏التصعيدية‏ ‏فيزول‏ ‏الغم‏، ‏أو‏ أن ‏يخدر‏ ‏المغترب‏ ‏لحن‏ ‏الإلهاء‏ ‏العامِى ‏فيغوص‏ ‏الهم‏، ‏وشتان‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏وذاك،‏ ‏لكن‏ ‏الاحتمالين‏ ‏قائمان‏.‏

ثالثا‏:

 ‏قراءة‏ ‏ ‏من‏ ‏أحلام‏ فترة ‏النقاهة‏. ‏

إذْ نصل إلى أحلام فترة النقاهة،  لابد أن نحتار. ‏فكيف‏ ‏نختار‏ ‏ما‏ ‏يناسب‏ ‏منها‏ ؟ هذه الحيرة كانت معى، ومازالت منذ البداية خاصة فى مجال احتمال بعض تطبيقات تدعم فرض الدراسة، قلت تفسيرا لهذه الحيرة فى مقال (نشر فى مجلة وجهات نظر)  (11)

“…..‏ ‏وأنا‏ ‏لم‏ ‏أقرأها‏ (الأحلام)  ‏مجتمعه؟‏ ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏عايشت‏ ‏الحمل‏ ‏بها‏ ‏حتى ولادتها؟‏ ‏انحل‏ ‏هذا‏ ‏الإشكال‏ ‏فجأة‏ ‏بنوع‏ ‏من‏ ‏القرعة‏ ‏هدتنى ‏إلى ‏البدء‏ ‏بثلاثة‏ ‏أحلام‏ ‏متتالية‏، ‏الحلم‏ 25، 26، 27، ‏وقد‏ ‏تصدروا‏ ‏لى ‏فى ‏بداية‏ ‏المجموعة‏ ‏الثانية‏ ‏التى ‏أصدرتها‏ ‏مجلة‏ ‏نصف‏ ‏الدنيا‏. ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏أى ‏سبب‏ ‏واضح‏ ‏لهذا‏ ‏الاختيار‏. ‏تذكرت‏ ‏كيف‏ ‏سجلت‏ ‏قراءتى ‏لأصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذاتية‏ ‏فقرة‏ ‏فقرة‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أبدأ‏ ‏فى ‏القراءة‏ ‏المشتملة‏. ‏قلت‏ ‏لعل‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏السبيل‏ ‏المناسب‏ ‏لقراءة‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏المكثف‏ ‏واحدة‏ ‏واحدة‏ ‏أيضا‏، ‏ثم‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏تلوح‏ ‏الفرصة‏ ‏لاستلهام‏ ‏العمل‏ ‏كله‏. ‏فاخترت‏ ‏حلمين من هذه الأحلام الثلاثة فيهما بعض ملامح ما أريد: الأول أهم مافيه وجه الشبه بين ما قدمنا عن الحلم،  مما جاء فى النص (ثم النقد)، من طبيعة حضور المكان والصورة هذا الحضور الماثل، المتحرك معا، كما أنه قد يظهر تعدد وتداخل مستويات الوعى.

الحلم (25)

 رأيتها‏ ‏فى ‏الحجرة‏ ‏معى. ‏ولا‏ ‏أحد‏ ‏معنا‏، ‏فرقص‏ ‏قلبى ‏طربا‏ ‏وسعادة‏، ‏وكنت‏ ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏. ‏وأنه‏ ‏لن‏ ‏يلبث‏ ‏أن‏ ‏يفتح‏ ‏الباب‏ ‏ويجئ‏ ‏أحد‏.. ‏وأردت‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏لها‏ ‏أن‏ ‏جميع‏ ‏الشروط‏ ‏التى ‏أبلغت‏ ‏بها‏ ‏على ‏العين‏ ‏والرأس‏، ‏ولكن‏ ‏تلزمنى ‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏ ‏ولكنى ‏فتنت‏ ‏بوجودها‏ ‏فلم‏ ‏أقل‏ ‏شيئا‏، ‏وناديت‏ ‏رغبتى ‏فخطوت‏ ‏نحوها‏ ‏خطوتين‏، ‏لكن‏ ‏الباب‏ ‏فتح‏ ‏ودخل‏ ‏الأستاذ‏ ‏وقال‏ ‏بحدة‏ ‏إنك‏ ‏لا‏ ‏تفهم‏ ‏معنى ‏الوقت‏ ‏واقتلعت‏ ‏نفسى، ‏وتبعته‏ ‏إلى ‏معهده‏ ‏القائم‏ ‏قبالة‏ ‏عمارتنا‏، ‏وهناك‏ ‏قال‏ ‏لى ‏أنت‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏العمل‏ ‏عشر‏ ‏ساعات‏ ‏يوميا‏ ‏حتى ‏تتقن‏ ‏العزف‏”. ‏ودعانى ‏للجلوس‏ ‏أمام‏ ‏البيانو‏ ‏فبدأت‏ ‏التمرين‏ ‏وقلبى ‏يحوم‏ ‏فى ‏حجرتى، ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏انهمكت‏ ‏فى ‏العمل‏. ‏وعندما‏ ‏سمح‏ ‏لى ‏بالذهاب‏ ‏كان‏ ‏المساء‏ ‏يهبط‏ ‏بجلاله‏. ‏وبادرت‏ ‏أعبر‏ ‏الطريق‏ ‏على ‏عجل‏. ‏ولكن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏ثم‏ ‏أمل‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تنتظرنى ‏مدة‏ ‏غيابى. ‏وإذا‏ ‏برجل‏ ‏صينى ‏طويل‏ ‏اللحية‏ ‏بسام‏ ‏الوجه‏ ‏يعترض‏ ‏سبيلى ‏ويقول‏: ‏كنت‏ ‏فى ‏المعهد‏ ‏وأنت‏ ‏تعزف‏، ‏ولا‏ ‏شك‏ ‏عندى ‏أنه‏ ‏ينتظرك‏ ‏مستقبل‏ ‏رائع‏ ‏وانحنى ‏لى ‏وذهب‏ ‏وواصلت‏ ‏سيرى ‏وأنا‏ ‏مشفق‏ ‏مما‏ ‏ينتظرنى ‏فى ‏مسكنى ‏من‏ ‏وحشة‏.‏

هذا إبداع متميز، كنظام الحلم المحكم، وهو – مثل أحلام فترة النقاهة- إبداع صرف لكنه يذكرنا بملاحظة فرويد فى رواية “جرايفاف يتزن” ص/7 وكيف أن الأحلام التى وردت فى بنائها كانت فى رأيه كنظام الأحلام فى الواقع.

المتابع‏ ‏لأحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏ ‏لابد‏ ‏قد‏ ‏لاحظ‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏علاقة‏ ‏محفوظ‏ “بالأماكن‏” ‏ما‏‏زالت‏ ‏تمثل‏ ‏المعمار‏ ‏الذى ‏ينطلق‏ ‏منه‏ ‏وبه‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏إبداعاته‏. ‏هذا‏ ‏ليس‏ ‏جديدا‏ ‏ ‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏أحلام‏ ‏النقاهة‏ ‏أصبح‏ ‏للمكان‏ ‏حضور‏ ‏أقوى ‏وأكثر‏ ‏مثولا‏. ربما لما للمكان والصورة من دور أول فى الحلم،  ‏قلت‏ ‏فى ‏نفسى: ‏لعل‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏التعويض‏ ‏الإبداعى ‏لما‏ ‏لحق‏ ‏بالبصر‏ ‏من‏ ‏كلال‏، ‏وهو‏ ‏نفس‏ ‏التفسير‏ ‏الذى ‏جاءنى ‏حين‏ ‏رصدت‏ ‏عنده‏ ‏يقظة‏ ‏وغلبة‏ ‏نشاط‏ ‏النصف‏ ‏غيرالطاغى ‏من‏ ‏الدماغ‏ (‏المختص‏ ‏بالتصور‏ ‏الكلى، وبالصورة ‏وبالإيقاع‏ ‏المتداخل‏، ‏وبالتكثيف‏ ‏الضام‏..‏إلخ‏) ‏ربما‏ ‏حدث‏ ‏ذلك‏ ‏لشيخنا‏ ‏نتيجة‏ ‏لتناقص‏ ‏فرص‏ ‏تدريب‏ ‏النصف‏ ‏الطاغى ‏لمواصلة‏ ‏طغيانه‏ ‏بالمنطق‏ ‏الخطى ‏والتسلسل‏ ‏التربيطى ‏المتتالى، ‏حدث‏ ‏هذا‏ ‏بعد‏ ‏الإعاقات‏ ‏الحسية‏ ‏المتزايدة‏ ‏التى ‏امتحن‏ ‏بها‏ ‏شيخنا‏. ‏هل‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏جعل‏ ‏للمكان‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الحضور‏ ‏الغالب‏ ‏المتزايد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل؟‏ ‏ذلك‏ ‏الحضور‏ ‏الذى ‏تزيد‏ ‏من‏ ‏الإحساس‏ ‏به‏ ‏سرعة‏ ‏الحركة‏، ‏وتداخل‏ ‏النقلات‏ ‏بفجائية‏ ‏تحافظ‏ ‏على ‏الدهشة‏ ‏وتجددها؟ أم أنها طبيعة هذا النوع من الإبداع؟ الأرجح عندى هو الإجابة بنعم على الاحتمال الأخير.

‏ ‏الحجرة‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏المشهد‏ ‏الأول‏ ‏الذى ‏جمعه‏ ‏معها‏ ‏وحدهما‏، ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏فرحته‏، ‏أو‏ ‏يرصدها‏، ‏قفز‏ ‏إليه‏ ‏الزمن‏يشكك‏ ‏فى ‏الاستمرار‏. ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏قبل‏ ‏ومع‏ ‏الفرحة‏، ‏لاح‏ ‏له‏ ‏التهديد‏ ‏بالفراق‏ “…‏كنت‏ ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏، ‏وأنه‏ ‏لن‏ ‏يلبث‏ ‏أن‏ ‏يفتح‏ ‏الباب‏”. الزمن‏ ‏الملاحِقُ‏ ‏هنا‏ “‏لن‏ ‏يلبث‏” ‏أن‏ ‏يكسر‏ ‏خصوصية‏ ‏المكان‏ ‏بفتح‏ ‏الباب‏، ‏فيختفى ‏وتختفى ‏معه‏ ‏رقصة‏ ‏القلب‏ ‏وسعادة‏ ‏اللقاء. ‏بدا‏ ‏فتح‏ ‏الباب‏ ‏كأنه‏ ‏انتهاك‏، ‏فإلغاء‏ ‏لهذه‏ ‏الحميمية‏ ‏الواعدة‏. ‏لم‏ ‏يترك‏ ‏له‏ ‏شعوره‏ ‏بالزمن‏ ‏المهدد‏ ‏بالنهاية‏ ‏فرصة‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏قبوله‏ ‏لكل‏ ‏شروطها‏.‏

هنا‏ ‏يقفز‏ ‏زمن‏ ‏آخر‏ ‏زمن‏ ‏الحسابات‏ ‏الخطى ‏التتبعى ‏حين‏ ‏يقترن‏ ‏قبوله‏ ‏شروطها‏ ‏بضرورة‏ ‏الانتظار‏ “‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏”. ‏الزمن‏ ‏الأول‏ ‏كان‏ ‏ذاتيا‏ ‏محيطا‏ “.. ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏” ‏أما‏ ‏هذا‏ ‏الزمن‏ ‏المحسوب‏ ‏فهو‏ ‏زمن‏ ‏الساعة‏ ‏ذات‏ ‏العقارب‏ ‏الدوَّارة‏  ‏والأرقام‏ ‏المتدرجة‏ (‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏). ‏من‏ ‏فرط‏ ‏حرصه‏ ‏وفتنته‏ ‏بوجودها‏ ‏لم‏ ‏يعلن‏ ‏موافقته‏ ‏المرتبطة‏ ‏بفترة‏ ‏السماح‏ ‏المحسوبة‏. ‏استبدلها‏ ‏بأن‏ “‏نادى ‏رغبته‏”. ‏كيف‏ ‏ينادى ‏الواحد‏ ‏رغبته؟‏ ‏يقولها‏ ‏محفوظ‏ ‏هكذا‏ ‏ببساطة‏ ‏وكأنها‏ (‏الرغبة‏) ‏كانت‏ ‏تنتظر‏ – ‏فى ‏حجرة‏ ‏مجاورة‏ – ‏نتيجة‏ ‏حسم‏ ‏المعركة‏ ‏بين‏ ‏الأزمان‏. ‏زمن‏ ‏التوجس‏ ‏بسرعة‏ ‏اختفاء‏ ‏السعادة‏، ‏ثم‏ ‏زمن‏ ‏الانتظار‏ “‏فترة‏ ” ‏حتى ‏يحقق‏ ‏طلباتها‏. ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏نداءه‏ ‏رغبته‏ ‏كان‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏طلب‏ ‏النجدة‏ ‏ليكف‏ ‏عن‏ ‏الحسابات‏. وهى طلب فى نفس الوقت لتنشيط مستوى آخر من الوعى، ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تستجيب‏ ‏الرغبة‏ ‏لندائه‏ ‏يدخل‏ ‏الأستاذ‏ ‏وهو‏ ‏يحمل‏ ‏معه‏ ‏معنى ‏ثالثا‏ (وعياً ثالثا) ‏لما‏ ‏هو‏ “‏زمن‏”. ‏يؤنبه‏ ‏الأستاذ‏ ‏مباشرة‏ ‏على ‏ضياع‏ ‏الوقت‏ “‏أنت‏ ‏لا‏ ‏تفهم‏ ‏معنى ‏الوقت‏” ‏وكما‏ ‏نادى ‏الراوى ‏رغبته‏ ‏وكأنه‏ ‏ينادى ‏الحاجب‏، “‏اقتلع‏ ‏نفسه‏” ‏وكأنه‏ ‏ينقلها‏ ‏نقلا‏ ‏من‏ ‏مكانها‏، ‏وتبع‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ “‏قبالة‏ ‏عمارتنا‏”. ‏أىُّ ‏وقت‏ ‏يعنيه‏ ‏الأستاذ‏ ‏بسؤاله‏ ‏؟‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏استجابت‏ ‏فيه‏ ‏الرغبة‏ ‏إلى ‏دعوته‏ ‏حتى ‏عجز‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏قبول‏ ‏شروط‏ ‏الحبيبة؟‏ ‏أم‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يحتاجه‏ ‏لإعداد‏ ‏نفسه‏ ‏للوفاء‏ ‏بطلبات‏ ‏المحبوبة‏، ‏والذى ‏أسماه‏ “‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏” ‏حتى ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يحقق‏ ‏طلباتها؟‏ ‏أم‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏تمنى ‏أن‏ ‏يطول‏ ‏بصحبتها‏ ‏وهما‏ ‏وحدهما‏ ‏وقلبه‏ ‏ممتلئ‏ ‏فرحا‏ ‏وسعادة‏ ‏؟

نلاحظ‏ ‏هنا‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نستطرد‏، ‏قدرة‏ ‏محفوظ‏ ‏على ‏التجول‏ ‏بين‏ ‏حالات‏ ‏ذاته‏ (مستويات وعيه) (‏ذواته‏)، ‏فاختياره‏ ‏لتعبيرىْ “‏ناديت‏ ‏رغبتي‏” ‏و‏ “‏اقتلعت‏ ‏نفسي‏” ‏يشير‏ ‏إلى ‏ذات‏ ‏محورية (12) ‏مستعيرين‏ ‏أبجدية‏ ‏ساندور‏ ‏رادو (13) ‏وهى ‏الذات‏ ‏التى ‏تتمحور‏ ‏حولها‏ ‏الكيانات‏ (‏الذوات‏) ‏الأخرى ‏الداخلية‏. ‏الرغبة‏ ‏هنا‏ ‏تبدو‏ ‏مشخصنة‏ ‏فى “‏ذات‏” ‏وليست‏ ‏مجرد‏ ‏عاطفة‏.‏

المهم‏ ‏أنه‏ ‏ما‏ ‏إن‏ ‏اقتلع‏ ‏نفسه‏ ‏وتبع‏ ‏آستاذه‏ ‏حتى ‏وجد‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏حال‏ ‏آخر‏ ‏تماما‏، ‏لا‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏الذى ‏رقص‏ ‏قلبه‏ ‏فرحا‏ ‏بها‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏الذى ‏أنساه‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏قبوله‏ ‏شروط‏ ‏حبيبته‏، ‏وجد‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏حال‏ ‏الإبن‏ ‏المطيع‏، ‏أو‏ ‏الطالب‏ ‏النجيب‏ ‏المجتهد‏. ‏شعر‏ ‏هنا‏ ‏باستجابة‏ ‏طيبة‏ ‏لحرص‏ ‏آستاذه‏ ‏على ‏تنبيهه‏ ‏لمعنى ‏الوقت‏، ‏ثم‏ ‏مبادرته‏ ‏بالتدريب‏ ‏الجاد‏ ‏على ‏دروس‏ ‏البيانو‏ (‏وليس‏ ‏حثه‏ ‏على ‏حفظ‏ ‏جدول‏ ‏الضرب‏ ‏مثلا‏: ‏(أنظر‏ ‏حلم‏ 27). ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏بدأ‏ ‏التدريب‏ ‏على ‏الفور‏ ‏باجتهاد‏ ‏شهد‏ ‏له‏ ‏الحكيم‏ ‏الصينى ‏فيما‏ ‏بعد‏. ‏إن‏ ‏البديل‏ ‏هنا‏ ‏كان‏ ‏ملء‏ ‏الوقت‏ ‏بتدريب‏ ‏مهارات‏ ‏إبداعه‏، ‏لم‏ ‏يُنْسِهِ‏ ‏هذا‏ ‏البديل‏ ‏نبض‏ ‏قلبه‏ ‏فى ‏حجرة‏ ‏اللقاء‏ ‏الطروب‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الشوق بدا‏ ‏وكأنه‏ ‏حافز‏ ‏لمواصلة‏ ‏التدريب‏، ‏وليس‏ ‏صراعا‏ ‏معه‏ ‏ضد‏ ‏مواصلة‏ ‏التدريب‏.‏

هذه‏ ‏اللقطة‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏محفوظا‏ ‏فى ‏هذا الإبداع/ ‏الحلم‏ ‏لم‏ ‏يلجأ‏ ‏إلى ‏الاستقطاب‏ ‏الشائع‏ ‏بين‏ ‏القلب‏ ‏والعقل‏، ‏بين‏ ‏سعادة‏ ‏الحب‏ ‏وضرورة‏ ‏الواجب‏، ‏بين‏ ‏الواقع‏ ‏والحلم‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏قدم‏ ‏بديلا‏ ‏محيطا‏ ‏لملء‏ ‏الوقت‏ ‏بما‏ ‏يجعل‏ ‏له‏ ‏معنى “‏إنك‏ ‏لا‏ ‏تفهم‏ ‏فى ‏معنى ‏الوقت‏”، ‏بديلا‏ ‏يحتو‏ى ‏طاقة‏ ‏الوجدان‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏الجمال‏ ‏بالتزام‏ ‏مثابر‏ (‏التدريب‏ ‏على ‏البيانو‏). ‏وهكذا‏ ‏انهمك‏ ‏الراوى ‏فى ‏مهمته‏ ‏غير‏ ‏مقهور‏. ‏

لكن‏ ‏الحسبة‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏سهلة‏، ‏فبالرغم‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏يمارس‏ ‏ما‏ ‏رضى ‏أن‏ ‏يستوعب‏ ‏طاقة‏ ‏وجدانه‏، ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏ما‏ ‏يؤكد‏ ‏تفوقه‏ ‏أو‏ ‏نجاحه‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏قلبه‏ ‏ظل‏ ‏يحوم‏ ‏حول‏ ‏حجرة‏ ‏اللقاء‏. ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏التدريب‏ ‏على ‏البيانو‏ (‏الإبداع‏ ‏المثابر‏ ‏الذى ‏اشتهر‏ ‏به‏ ‏شخص‏ ‏محفوظ‏ ‏بالذات‏) ‏يمكن‏ – ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏ – ‏أن‏ ‏يحتوى ‏الجمال‏ ‏ويطرب‏ ‏له‏ ‏القلب‏ ‏والعقل‏ ‏معا‏، ‏لكن‏ ‏صحيح‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏القلب‏ ‏الطفل‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏ينتظر‏ ‏حتى ‏تنصقل‏ ‏العواطف‏ ‏وتشحذ‏ ‏الأدوات‏ ‏ليحتوى ‏نبضاته‏ ‏إيقاع‏ ‏الإبداع‏، ‏فيستغنى ‏به‏ ‏عن‏ ‏جوعه‏ ‏العاطفى، ‏وحنينه‏ ‏إلى ‏الوليف‏ ‏ليعيش‏ ‏معه‏ ‏الفرح‏ ‏والسعادة‏ ‏بلا حسابات‏. ‏

‏ ‏هنا‏ ‏يقفز الوعى الوالدى الحكيم‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏الرجل‏ ‏الصينى ‏طويل‏ ‏اللحية‏ يبارك‏ ‏اجتهاده‏ ‏ويطمئنه‏ ‏على ‏مستقبله‏. ‏هل‏ ‏يكفى ‏تشجيع‏ ‏هذا‏ ‏الحكيم‏ (‏الصيني‏) ‏وتنبئه‏ ‏له‏ ‏بالتفوق‏ ‏أن‏ ‏يحققا‏ ‏التوازن‏ ‏الذى ‏يحتوى ‏جوعه‏ ‏العاطفى ‏الرقيق؟‏ ‏لا‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏. ‏فمع‏ ‏هذا‏ ‏الإنجاز‏ ‏الواعد‏، ‏يرجع‏ ‏الراوى ‏إلى ‏نفسه‏ ‏ليواصل‏ ‏سيره‏ ‏إلى ‏مسكنه‏ (‏لا‏ ‏إلى ‏حجرتهما‏-‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏دليل‏ ‏على ‏أن‏ ‏حجرة‏ ‏اللقاء‏ ‏كانت‏ ‏إحدى ‏حجرات‏ ‏مسكنه‏)، ‏يرجع‏ ‏وهو‏ ‏منغمر‏ ‏ببصيرة‏ ‏النضج‏، ‏راض‏ ‏عن‏ ‏الثمن‏ ‏الذى ‏دفعه‏ ‏فى ‏تحقيق‏ ‏الولاف‏ ‏الصعب‏، ‏متقبل‏ ‏لما‏ ‏ينتظره‏ ‏من‏ ‏وِحْدة‏، ‏فهو‏ ‏الذى ‏اختارها‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏ ‏حين‏ ‏رضى ‏أن‏ ‏يجعل‏ ‏للوقت‏ ‏معنى ‏بأن‏ ‏يصقل‏ ‏أدوات‏ ‏الإبداع‏ ‏الواعدة‏ ‏باحتواء‏ ‏دفق‏ ‏عواطف‏ ‏طفولته‏ ‏الجائعة‏، ‏وتشكيل‏ ‏إيقاع‏ ‏نبضات‏ ‏وجدانه‏ ‏الغض‏ ‏فى ‏ضربات‏ ‏البيانو‏ ‏وهو‏ ‏يعزف‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏حساب‏ ‏عاطفته‏ ‏الجياشة‏ ‏الجائعة‏، ‏فليكن‏ ‏انتظار‏ ‏الوحشة‏ ‏هو‏ ‏الثمن‏. ‏لينتهى ‏الحلم‏ ‏وهو‏ ‏يمضى ‏فرحا‏ ‏بإنجازه‏ ‏متقبلا‏ ‏للوحشة‏ (‏ولو‏ ‏مؤقتا‏).‏

الحلم‏ (27)

فى ‏سفينة‏ ‏عابرة‏ ‏للمحيط‏ ‏أجناس‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏لون‏ ‏ولغات‏ ‏شتى. ‏وكنا‏ ‏نتوقع‏ ‏هبوب‏ ‏ريح‏ ‏وهبت‏ ‏الريح‏ ‏واختفى ‏الأفق‏ ‏خلف‏ ‏الأمواج‏ ‏الغاضبة، ‏إنى ‏ذعرت‏ ‏ولكن‏ ‏أحدا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يعنى ‏بأحد‏. ‏وقال‏ ‏لى ‏خاطر‏ ‏إننى ‏وحيد‏ ‏فى ‏أعماق‏ ‏المحيط‏. ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏نجاة‏ ‏من‏ ‏الهول‏ ‏المحيط‏ ‏إلا‏ ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏الأمر‏ ‏كابوسا‏ ‏وينقشع‏ ‏بيقظة‏ ‏دافئة‏ ‏بالسرور‏. ‏والريح‏ ‏تشتد‏ ‏والسفينة‏ ‏كرة‏ ‏تتقاذفها‏ ‏الأمواج‏. ‏وظهر‏ ‏أمامى ‏فجأة‏ ‏حمزه‏ ‏أفندى ‏مدرس‏ ‏الحساب‏ ‏بخيرزانته‏ ‏وحدجنى ‏بنظرة‏ ‏متسائلة‏ ‏عن‏ ‏الواجب‏. ‏كان‏ ‏الإهمال‏ ‏الواحد‏ ‏بعشرة‏ ‏خيرزانات‏ ‏تكوى ‏الأصابع‏ ‏كيا‏. ‏وازددت‏ ‏كرها‏ ‏من‏ ‏ذكريات‏ ‏تلك‏ ‏الأيام‏. (‏وقال‏ ‏لى ‏الرجل‏ ‏سوف‏ ‏تكتب‏) ‏وهممت‏ ‏بدق‏ ‏عنقه‏ ‏ولكنى ‏خفت‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏أى ‏خطأ‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏هلاكى ‏فسكت‏ ‏على ‏الذل‏ ‏وتجرعته‏ ‏رغم‏ ‏جفاف‏ ‏ريقى. ‏ورأيت‏ ‏حبيبتى ‏فهرعت‏ ‏نحوها‏ ‏أشق‏ ‏طريقا‏ ‏بين‏ ‏عشرات‏ ‏المذهولين‏. ‏ولكنها‏ ‏لم‏ ‏تعرفنى ‏وتولت‏ ‏عنى ‏وهى ‏تلعن‏ ‏ساخطة‏ ‏وجرت‏ ‏نحو‏ ‏حافة‏ ‏السفينة‏ ‏ورمت‏ ‏بنفسها‏ ‏فى ‏العاصفة‏ ‏واعتقدت‏ ‏أنها‏ ‏تبين‏ ‏لى ‏طريق‏ ‏الخلاص‏ ‏فجريت‏ ‏متعثرا‏ ‏نحو‏ ‏حافة‏ ‏السفينة‏ ‏ولكن‏ ‏مدرس‏ ‏الحساب‏ ‏القديم‏ ‏اعترض‏ ‏سبيلى ‏ملوحا‏ ‏بعصاه‏.‏

هذا الحلم/الإبداع يعود يشكل لنا المكان فى الزمان بطريقة أخرى:

المكان‏ ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏متحرك‏، ‏لكنه‏ ‏مكان‏ ‏محدد‏ ‏يسمح‏ ‏بالتجمع‏ ‏والتجمهر‏ ‏والانتقال‏، ‏فقط‏ ‏هو‏ ‏محاط‏ ‏بالمحيط‏، ‏فلا‏ ‏مجال‏ ‏للهرب‏ ‏إلى ‏المنزل‏ ‏مع‏ ‏الرضا‏ ‏بالوحشة‏ ‏مثلا‏، ‏ولا‏ ‏مهرب‏ ‏إلى ‏الهواء‏ ‏الطلق‏ ‏قبل‏ ‏انهيار‏ ‏البيت‏ ‏الصغير‏ (‏نهاية‏ ‏الحلمين‏ 26.25). ‏وكما‏ ‏بدأ‏ ‏حلم‏ “25” ‏بتوقع‏ ‏قصر‏ ‏عمر‏ ‏السعادة‏، ‏يبدأ‏ ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏بتوقع‏ ‏العاصفة‏، “وكنا‏ ‏نتوقع‏ ‏هبوب‏ ‏الريح‏، ‏وهبت‏ ‏الريح‏” (‏لاحظ‏ ‏اختفاء‏ ‏أى ‏برهة‏ ‏زمنية‏ ‏بين‏ ‏التوقع‏ ‏والواقع‏).‏

ومع‏ ‏أن‏ ‏السفينة‏ ‏بها‏ ‏أجناس‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏لون‏ ‏ولغات‏ ‏شتى، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الراوى ‏يشعر‏ ‏بالوحدة‏ ” ‏وقال‏ ‏لى ‏خاطر‏ ‏أننى ‏وحيد‏”، ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏نقله‏ ‏فجأة‏ ‏من‏ ‏السفينة‏ ‏إلى ‏أعماق‏ ‏المحيط‏. ‏فتمنى ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يعيشه‏ ‏كابوسا‏. ‏بدت‏ ‏هذه‏ ‏الأمنية‏ ‏ ‏وكأنها‏ ‏جذب‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏الرحم‏ ‏الحانى ‏هربا‏ ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏الغرق‏ ‏فى ‏المحيط‏ ‏الهادر‏، ‏إنها‏ ‏أمنية‏ ‏نكوصية‏ ‏واضحة‏. ‏لو‏ ‏أحسنا‏ ‏قراءة‏ ‏تعبير‏ “‏يقظة‏ ‏دافئة‏ ‏بالسرور‏” ‏هذا‏ ‏تعبير‏ ‏نادر‏. ‏اليقظة‏ ‏عادة‏ ‏تكون‏ ‏نقلة‏ ‏من‏ ‏الدفء‏ ‏إلى ‏النشاط‏، ‏من‏ ‏سكينة‏ ‏النوم‏ ‏إلى ‏دفع‏ ‏الحركة‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الدفء‏ ‏الذى ‏يصف‏ ‏اليقظة‏ ‏بأنها‏ “‏دافئة‏ ‏بالسرور‏” ‏لم‏ ‏يُحضر‏ ‏إلى ‏وعيى ‏إلا‏ ‏خدر‏ ‏الإحاطة‏ ‏بالسائل‏ ‏الأمنيتونى ‏داخل‏ ‏الرحم‏ ‏والجنين ما‏زال‏ “‏يبلبط‏” ‏فى ‏الداخل‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏العواصف‏ ‏والأنواء‏. ‏لم‏ ‏يدم‏ ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏الهروبى طويلا‏ ‏وحل‏ ‏محله‏ ‏واقع‏ ‏أظهر‏ (‏كما‏ ‏فى ‏الحلم‏ ‏الأول‏ 25) ‏المعلم‏ ‏هنا‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏آخر‏ “‏مدرس‏ ‏حساب‏ ‏قديم‏”. ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لا‏ ‏يسأل‏ ‏أو‏ ‏يتساءل‏ ‏عن‏: “‏معنى ‏الوقت‏” ‏مثل‏ ‏أستاذ‏ ‏البيانو‏ (‏حلم‏ 25) ، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يدعو‏ ‏فى ‏حزم‏ ‏إلى ‏تدريب‏ ‏على ‏مهارة‏ (‏البيانو‏). ‏هو‏ ‏مدرس‏ ‏جاف‏ ‏لا‏ ‏يتكلم‏ ‏إلا‏ ‏بلغة‏ ‏الواجب‏، ‏والإهمال‏، ‏وليس‏ ‏عنده‏ ‏إلا‏ ‏العقاب‏. ‏المواجهة‏ ‏هنا‏ ‏مع‏ ‏الخيرزانة‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏، ‏فكانت‏ ‏استجابة‏ ‏الراوى ‏هى ‏الرغبة‏ ‏فى ‏قتله‏. ‏وحين‏ ‏تبين‏ ‏عجزه‏، ‏استشعر‏ ‏الذل‏ ‏وابتلعه‏ ‏وهو‏ ‏خائف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يضبطوه‏ ‏متلبسا‏ ‏بالشروع‏ ‏فى ‏القتل‏، ‏ثم‏ ‏كان‏ ‏رد‏ ‏فعل‏ ‏القتل‏ ‏إلى ‏ذاته‏، ‏فهو‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الهلاك‏. ‏

مازلنا‏ ‏فى ‏السفينة‏، ‏ومازالت‏ ‏العاصفة‏ ‏تحيط‏ ‏بها‏، ‏وظهور‏ ‏معلم‏ ‏الحساب‏ (‏الأب‏ ‏القاهر‏ ‏الجاف‏) ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏بديلا‏ ‏إيجابيا‏ ‏ليحتوى ‏الفن‏ ‏الرغبة‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏واقعا‏ ‏أصلا‏، ‏كان‏ ‏مجرد‏ ‏تجسيد‏ ‏لذكرى (‏وازددت‏ ‏كرها‏ ‏من‏ ‏ذكريات‏ ‏تلك‏ ‏الأيام‏)‏

‏ ‏الحبيبة‏ ‏التى ‏ظهرت‏ ‏ ‏لم‏ ‏تحضر أصلا‏. ‏هو‏ ‏الذى ‏جسدها‏ ‏بخياله‏ ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏يشق‏ ‏طريقه‏ ‏إليها‏ (‏بعد‏ ‏أن‏ ‏فشل‏ ‏فى ‏الهرب‏ ‏إلى ‏الرحم‏) ‏وهى ‏لا‏ ‏تعرفه‏، ‏فتولت‏ ‏وهى ‏تلعن‏ ‏ساخطة‏ (‏لم‏ ‏يقل‏ ‏تلعن‏ ‏من‏)، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏اختفت‏ (‏هل‏ ‏زال‏ ‏الخيال؟‏) ‏بأن‏ ‏رمت‏ ‏نفسها‏ ‏فى ‏العاصفة‏ (‏لم‏ ‏يقل‏ ‏فى ‏المحيط‏)، ‏فكاد‏ ‏يتبعها‏ ‏وهو‏ ‏يتصور‏ ‏أنها‏ ‏بفعلتها‏ ‏تلك‏ ‏إنما‏ ‏تشير‏ ‏إليه‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الحل‏: ‏إفناء‏ ‏الذات‏.‏

الذى ‏حال‏ ‏دون‏ ‏إتمام‏ ‏استجابته‏ ‏لهذه‏ ‏الدعوة‏ ‏هو‏ ‏مدرس‏ ‏الحساب‏، ‏والصورة‏ ‏التى ‏يقدمها‏ ‏محفوظ‏ هنا ‏تشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏إنقاذه‏ ‏بمعنى ‏دعوته‏ ‏إلى ‏بديل‏ ‏محيط‏ ‏راق‏ ‏مثابر‏ (‏مثل‏ ‏معلم‏ ‏البيانو ‏فى ‏حلم‏ 25) ‏وإنما‏ ‏الإنقاذ‏ ‏هنا‏ ‏كان‏ ‏أيضا‏ ‏بالتهديد‏ ‏بالعقاب‏ (‏اعترض‏ ‏سبيلى ‏ملوحا‏ ‏بعصاه‏). ‏وكأن‏ ‏الدافع‏ ‏لاستمرار‏ ‏الحياة‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏العقاب‏ ‏الذى ‏ينتظر‏ ‏المنتحر‏ (‏كما‏ ‏يقول‏ ‏النص‏ ‏الدينى‏) ‏وليس‏ ‏قبول‏ ‏تحدى ‏الحياة‏ ‏بخوض‏ ‏تجربتها‏. ‏

ينتهى ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏ماذا‏ ‏حدث‏ ‏للراوى ‏ولا‏ ‏للمدرس‏ ‏ولا‏ ‏للباقين‏ ‏لينطلق‏ ‏خيال‏ ‏المتلقى ‏كيفما‏ ‏شاء‏.

هذا التكثيف، وتلك النقلات، مستعملا اللغة الخاصة هى المقابل الإبداعى لحركية الحلم التى تبدو عشوائية بحساب وعى اليقظة، فى حين أن لها قوانينها التى تسمح بالتعلم والمعرفة وإعادت التنميط  (14) كما ذكرنا من قبل، أضف إلى ذلك تعدد المستويات وحضور الصورة كما رأينا.‏

تعقيب‏:

إذا‏ ‏قارنا‏ أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏ بالأحلام ‏الواردة‏ ‏فى ‏الأصداء‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نتبين‏ ‏الفرق‏ ‏بينها‏ ‏فى ‏مدى ‏الاسترسال‏، ‏وتواضع‏ ‏النقلات‏ ‏الصارخة‏، ‏و‏‏خفة‏ ‏درجة‏ ‏الغموض‏ ‏المتواضعة‏ ‏حيث‏ ‏تبدو‏ ‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏ ‏أكثر‏ ‏تركيزا‏، ‏وأعنف‏ ‏نقلات‏، ‏وأدهش‏ ‏مفاجآت‏.‏

‏ ‏هل‏ ‏هذا‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏الإعاقة‏، ‏أم‏ ‏إلى ‏النضج‏، ‏أم‏ ‏إلى ‏نقلة‏ ‏إبداعية‏ ‏أعمق؟‏ ‏الأرجح‏ ‏عندى ‏أنه‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏معا.

المهم فى إلحاق هذا الملحق هنا هو التأكيد على علاقة الابداع بالحلم، ليس باعتبار أحلام محفوظ المبدعة مثالا لما أسميناه إبداع الحلم عند الشخص العادى، وإنما هو بمثابة إشارة إلى احتمال تماثل العمليتين من حيث الحركية، مع الفارق الشاسع من حيث الناتج.

 إذا قبلنا فرض ان الحلم العادى هو ابداع الشخص العادى قبيل يقظته، فإن الابداع الحلم (فى مقابل الحلم الابداع) هو تضخيم هذه العملية نفسها وصقلها بوعى فائق (أكثر تطورا وشمولا من وعى اليقظة) هو وعى الابداع القادر على احتواء الحركية بأكبر قدر من الصقل وأجمل ما يمكن من إعادة تشكيل.

 

[1] –  هذا هو الكتاب الأول باسم “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” وهو الفصل الأول من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو أولها.

[2] – يحيى الرخاوى: “قراءة فى أحلام نجيب محفوظ” (ص 54 – 56) عدد 48   يناير 2003  مجلة وجهات نظر.

[3] – يحيى الرخاوى: “إبداع‏ ‏الحلم‏، ‏وأحلام‏ ‏المبدع” عدد مارس 2005 – كتاب دار الهلال.

[4] –  يحيى الرخاوى: أصداء الأصداء: تقاسيم على أصداء نجيب محفوظ – المجلس الأعلى للثقافة- يناير 2006 (سبق نشرها مجزأة فى مجلة الإنسان والتطور )

 [5]  ‏-  يحيى الرخاوى: “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1992

[6] –  أنظر هامش (3)

[7] – يحيى ‏الرخاوى: “‏أحلام‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏تعد‏ ‏من‏ ‏قبيل‏ ‏المنامات‏ ‏أم‏ ‏هى ‏أحلام‏ ‏يقظة‏”‏؟‏‏ (‏العدد‏ ‏الأول‏ – ‏الثالث)‏ ‏يناير2002 – مجلة‏ ‏إبداع.‏

[8] – أنظر هامش (1) (الملحق الأول هنا)

[9] – نجيب‏ ‏محفوظ‏: “‏مجموعة‏ ‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” ‏-‏ ‏(1982)- مكتبة‏ ‏مصر‏.

[10] – إدوار‏ ‏الخراط‏ “‏يقين‏ ‏العطش‏” (1996)- ‏دار‏ ‏شرقيات‏ ‏للنشر.

[11] –  يحيى الرخاوى: أعظم‏ ‏ما‏ ‏نقدمه‏ ‏لشيخنا‏ ‏الجليل‏.. ‏العمل‏ ‏الجاد قراءة‏ ‏فى‏ “‏آحلام‏” ‏نجيب‏ ‏محفوظ” –  يناير 2003 – مجلة وجهات نظر.

 [12] – axon self

[13] – Sandor Rado

[14] – re-patterning

 

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *