نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 15-11-2015
السنة التاسعة
العدد: 2998
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة (7)
محمد إقبال: والزمن
مقدمة:
قدمت أمس وجدان شاعر جاهلى قبل قرنين إلا قليلا، لأبين كيف تكون علاقة الشاعر بهذا البعد الوجودى الأساسى فى التركيب البشرى “الزمن”، ووعدت بتقديم رؤية معاصرة لشاعر حديث وهو فيلسوف ومفكر وناقد ومصلح ومبدع ومسلم الديانة يؤمن بكل ما خلق الله ويحب كل من خلق الله، هو محمد إقبال (وأنا أحبه).
محمد إقبال شاعر أبدع حيرة المسلم في هذا القرن (1)، وهو شاعر بالمعنى الأشمل للشعر، باعتبار أن الشعر هو أفضل أسلوب للتعبير عن موقع الإنسان وطبيعة تكوينه ونبض حركيته واقتحام إبداعه، وكان إقبال يرى أن المثل الأعلى في الثقافة الإسلامية هو اللانهائية، وأن ثقافة لها هذه النزعة لا بد أن تُحل معضلة الزمان والتاريخ مكانة بالغة الأهمية، فأستقبل – أنا – اللانهائية من جديد باعتبارها الطريق المفتوح إلى الغيب، والغيب هو محيط الإبداع المترامى بلا نهاية، فيصلنى كيف وصله الإسلام كما يصلنى ويصل كل كادح مجاهد، إقبال: “لم يكن فقط شاعرا ومفكرا في الذات القائمة على التعدد، إنه قبل ذلك المفكر الذي تبنى الحداثة تبنيا معرفيا”.
لم يكن إقبال عربيا ولم يفكر بالعربية وهو رغم شديد إعجابه بالحضارة العربية التى توجها الإسلام قبل أن يخفت ويسُجن ويتراجع: يقدم “رؤية إسلامية” للإنسان والزمان من خارج الفضاء العربي.
قراءة إقبال هي صوت مختلف للهوية وهو شروع للحديث عن الآخر من الداخل الثقافي لذلك يمكن عده مدخلا نموذجيا للوعي الذاتي، شاعرية إقبال وأعجميته ثم حداثته اعتبارات ثلاثة جعلته أقدر على إضاءة إشكالية الفكر الإسلامي في التاريخ وخاصة في معالجته لقضيتي الإنسان والزمان ضمن خطاب يتجاوز الخطاب الإصلاحي الذي ميز الفكر العربي “الحديث” طيلة عقود متتالية.
قدم إقبال تعريفا خاصا متفتحا للدين باعتبار أنه: “إيمان بمصير الإنسان. لذلك تكون الحياة الدينية رياضة رفيعة يكتشف بها المؤمن رتبته في سلم الموجودات. أما غاية هذه الحياة فهي كشف الذات بوصفها مجالا أعمق من نفسية الفرد العادية.هذه التجربة تتيح اتصال الذات الإنسانية بذات الحق العليا بما يكشف عن تفردها ومرتبتها المبدعة وإمكان تقدمها إلى المطلق.
وهل هذا يختلف عن كل ما نحاول تقديمه من منطلق التطور ونبض الإيقاع الحيوى المتناغم مع مستويات الوعى إلى خالقه؟”.
وقد بين إقبال كيف أن كشف الذات ورقيها ليس أمرا عقليا قابلا للتصرف بل هو حقيقة حيوية لا يمكن اقتناصها في شباك المقولات المنطقية، وبهذا حرر حركية الإيمان من سجون التفسيرات اللفظية الجامدة المغلقة”.
****
كان من الضرورى تقديم هذا الرائد الشاعر الفيلسوف بفكره المتفتح أولا قبل أن ننتقل إلى موقفه من الزمن وإضافاته فى هذه الإشكالية.
محمد إقبال والزمن:
مفهوم إقبال عن الإنسان فى علاقته بالتاريخ أنه يكشف عن نفسه أمام عين التاريخ، وبالتالى يكشف عن ذاتية الإنسان الذي يتحول صانعا للعالم أو محركا له، ومن هنا يصبح الزمن كيانا فاعلاً متفاعلا يخلق الوجود ويتخلق منه، وهو بذلك يواصل سعيا واعيا لتركيز قوى الذات إلى المطلق.
وهو يفتح الباب لحركية الوعى من حيث رؤيته لطبيعة الوحى وأنه ظاهرة عامة في الوجود: فالوحى لا يقتصر على جانب من جوانب الحياة إذ النبات والحيوان والإنسان تستلهم الوحي من أعماق الوجود، ومن خلال ذلك وصلتنى كيف أن فكره وإبداعه ذو جذور بالغة العمق فى منظور التطور الممتد إلى المطلق إلى وجه الله.
وهو يعتبر أن نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم يقوم بين عالمين: قديم وحديث، هو استمرار للعالم القديم باعتباره مصدر رسالته وبداية لعالم حديث ولد معه العقل الإنساني وظهرت فيه ملَكة النقد والتمحيص.
وإقبال يقبل ويبرر إيجابية إعلان انتهاء النبوات السماوية بالإسلام على أساس كوني وحضارى فاتحا الباب للإنسان الكامل الذي يبني إنسانيته في صيرورة مبدعة ومتفاعلة مع أعمق رغبات العالَم المحيط به، وهذه الصيرورة هى محور رؤيته للزمن بشكل ما، وهى تحمِّل البشر مسئولية الكدح كل من موقعه دون انتظار وحى جديد ينتشله من وحدته إذا انزلق إليها.
وحين يدرك الإنسان أنه أصبح صاحب مكان حقيقي في صميم القدرة الخالقة. يواصل تصور عالَم أفضل وليسعى إلى تحقيقه وتحويل ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، فى حركية تخلق الزمن وتتخلق به.
وهو يقدم الزمن بإعادة النظر فى بداية الإنسان نوعا ثم فى نهايته فردا فردا، فهو يعتبر أن قصة نزول آدم من الجنة لا صلة لها بما ساد من الاعتقاد عند المفسرين من دلالة على ظهور الإنسان الأول على كوكب الأرض، وإنما هى إشارة لإبراز أبعاد ذاتية الإنسان في نموها من حالة بدائية إلى مرحلة التطور الممتد، حاملا أمانة الوعى والعقل والحرية، قصة “هبوط” آدم هي بداية نشوء الذات الحرة عن رغبة ورضا، ذلك أن الهبوط هو تجسيد للفعل الإنساني القائم على حرية الاختيار، إنه الإعلان عن بروز ذات متناهية لها القدرة على أن تختار باعتباره كائنا متميزا بالمعرفة والحرية لا يمكنه أن يفتق ذاتَه إلا عبر الصراع والرضا بالتناهى.
هذا عن لحظة البداية أما عن لحظة النهاية فهو يركز على النهاية الأمر بالنسبة للفرد، ونهايته طبعا، وذلك حين يعتبر الموت مجازا لمن استطاع بعمله في الدنيا أن يُمِد روحَه بما يكفل لها مواجهة الصدمة التي يحدثها الموت في الجسم، ومن ثَم فإن الخلود بعد الموت ليس حقا مُكتَسَبا لكل إنسان بل هو استعداد يقع التوصل إليه بحسب ما تبذله كل نفس من جهد شخصى، وبالتالى لا يكون بعث النفوس بعد لحظة الموت حادثا خارجيا بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النفس ولا مناص من القول بأن النفوس التي جانبها التوفيق في حياتها الأرضية عاجزة عن الخلود وآيلةً للتحلل.
ولعل هذا قريب مما بلغننى واستلهمت منه فرضى حول الموت حين اعتبرته نقلة من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى، لكن يبدو أن تنظيرى هذا ينقصه أمر جلل يتعلق بمن لم يستعد لهذه النقلة، أو بتعبير آخر لا يستأهلها، أكاد لا أوافق إقبال أنه آيل للتحلل، وأرجح استمراره وعيا نشازا منفصلا نافرا إلى أن يتغمده الله برحمته أو إلى ما لا أدرى.
الزمن عند إقبال عنصر له وجود مؤثر في حركة الكون الذي صار لا يقبل الثبوت بناء على اعتبارات فلسفية ورياضية.
كما أن إقبال يتفق مع برجسون حول ديمومة الزمن واعتبار هذا الأخير أمرا حقيقيا وثيق الصلة بالحياة الحقيقية. هذا بالإضافة إلى أن الزمان وإن أظهر تناهي العقل فهو العامل الوحيد القادر على رد التعدد وحدة واحدة، وهو الذي يرأب الصدوع ويكسب الجزئيات المتنافرة المعنى. لهذا يعرض إقبال تمشيا بديلا لفهم حقيقة الزمان. إنه اعتماد حياة الإنسان الشعورية التي تبرز الزمان على أنه في الحقيقة أزمنة فى تكامل وجدل وخلاق (وهذا التعبير من عندى لكنه ما وصلنى منه).
الزمن المحض ليس خطا من لحظات متفرقة بل هو كل مركب. الماضي فيه ليس متخلفا ولكنه متحرك مع الحاضر يؤثر فيه. أما المستقبل فيتصل بهذا الكل المركب ليس بوصفه موجودا أمامه يتم تجاوزه فيما بعد إنما هو اتصال بهذا الكل المركب على أساس أنه ماثل في طبيعته في صورة إمكان قابل للتحقق نحو الواحدية، وهنا يحضرنى فضل هذه الآلية الرائعة التى مارستها فى العلاج الجمعى طوال ما يقرب من نصف قرن، وكيف صالحتنى على اللحظة وأفهمتنى حدس لحظة باشلار (2)أكثر وأدق.
وإقبال يميز زمنا خاصا بالذات الإلهية وهو الزمن السرمدى أو زمن الصيرورة من غير تعاقب، إنه زمن التقدير الذي لا يعني إرغام الأشياء بل هو تحقيق القوة الكامنة التي تجسد وجود الشيء فتظهر ممكناته فى ذاتها بذاتها “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً “(3).
وفيما يلى أبرز النتائج الفكرية لمفهوم الزمان عند إقبال كما جمعها الباحث، وقد حصرها فى أربع:
أ- حركة الزمان لا يمكن أن تتصور على شكل خط قد رُسِم بالفعل إنما هي حركة تُبنَى في صيرورة لتحقق ممكنات متنوعة.
ب- العالَم ليس كتلة ميتة من المادة لا يفعل فيها الزمن شيئا إنما هو حياة قابلة للزيادة وكون في نمو.
ج- الإنسان فاعل يُكسِب الزمان صفتَه التاريخية الحية إن هو أدرك المستويات المتباينة للزمان وإن هو تفاعل مع أبعاد ذاته الإنسانية.
د- المستقبل غير محدد سلفا لأن غائية الحياة إن أصبحت إلزامية ومفروضة فهي تجعل الزمان باطلا والحرية لاغية. من ثَم فالمستقبل يظل غير مُتَنبأٍ به لأن الزمان أمر حقيقي تُبرزه غائية انتقائية عبر إضافات الإنسان التي لا تتوقف.
هذه المعالجة لمفهوم الزمان تفتح من جديد الوعي المعاصر للمسلم لتنهيَ فجيعته في التاريخ. عندئذ يعيش العالَم في نموه وخلقه المتواصلين ويتشرب روح التقدم في الزمان حركة حرة ومبدعة وثقة في مستقبل مختلف.
وبعد
هل يا ترى أسهم هذين الشاعرين: امرؤ القيس ومحمد إقبال فى تذكرة الأصدقاء بأصول وتطور ثقافتنا فى مسألة ظللنا ننقلها كما تصل إلينا دون الالتفات إلى أن مرضانا يفرضون علينا أن نقرأ الفطرة كما خلقها بارؤها وهى تمتزج بثقافتنا كما نسجها أصحابها قبل أن نهملها ونحن نجهلها.
………….
آمل فى الأسبوع القادم أن أنتقل إلى “الاضطرابات” المتعلقة بالوقت كما تظهر أعراضا محددة،
وأمرى إلى الله!!
[1] – أصول أغلب المعلومات الورادة فى هذه النشرة هى من إسهام أ.د. أحميدة النيفر (وهو كاتب ومفكر تونسي وأستاذ جامعي متخصص في أصول الدين والفكر الإسلامي المعاصر، حاصل على دكتوراه في الدراسات اللغوية والإسلامية من السربون بباريس، ودكتوراه في العلوم الإسلامية من جامعة الزيتونة بتونس، له مجموعة من الأبحاث والدراسات المنشورة التي تعنى بسؤال التجديد.) وهى بعنوان “الإنسان و الزمان في منظومة محمد إقبال التجديدية” وقد حصلت عليها من موقع الكلمة (العدد 63) سنة 2009، إلا أننى صغت أغلبها كما وصلتنى وليست حرفيا كما سجلها فى محاولته، كما أضفت لها بعد إعادة الصياغة ما رايته يوضح وجهة نظرى ويقون بالوصل بين المقتطفات.
[2] -إشكالية الزمن: فى الحياة، والمرض النفسى، والعلاج الجمعى “حول كتاب حدس اللحظة” تأليف: فاستون بشلار – عدد ابريل – سبتمبر 1988- مجلة الإنسان والتطور.
[3] – توصية بالرجوع إلى حوارى مع مولانا النفرى فى نشرات الليل (نشرة 5-9-2015 ، نشرة 12-9-2015، نشرة 19-9-2015 ، نشرة 26-9-2015).