الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية الفصل السابع ملف الاضطرابات الجامعة (6) تابع: بُعْد الزمن (4) الزمن.. وامرؤ القيس

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية الفصل السابع ملف الاضطرابات الجامعة (6) تابع: بُعْد الزمن (4) الزمن.. وامرؤ القيس

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت14-11-2015

السنة التاسعة

العدد: 2997

  الأساس فى الطب النفسى 

 الافتراضات الأساسية الفصل السابع: 

ملف الاضطرابات الجامعة (6)

تابع: بُعْد الزمن (4)

الزمن.. وامرؤ القيس

مازلت أتساءل وأنا أمضى فى تناول الافتراضات الأساسية لقراءة النقد البشرى الذى بناء عليها يمكن أن يتقدم الممارس الطبيب/المعالج إلى “نقد النص البشرى”، أتساءل عن كل معلومة أقدمها كيف تفيدنى، ومَنْ مثلى، فى الممارسة الفعلية فعلا، يعاودنى هذا السؤال بإلحاح برغم أنه يبعدنى عن الغوص فى عمق أصل ما أتناول، يتعلق هذا السؤال بموقفى الأساسى احتراما لمهنتى، ولمن أوجه لهم خطابى.

بالنسبة “للزمن” وحقيقته واختلافه عن ما هو “وقت”، أتساءل: هل هذا الخلاف، وهو الذى بدا لى بديهيا كما بينته لغتنا القادرة العريقة وهى تفرق بين “الوقت” و”الزمن” كما أسلفنا، هل هويؤثر على الممارسة فعلا ، وكيف؟

حين رحت أبحث عن أصل ما هو زمن فى الثقافات المختلفة وجدت أنه موضوع محورى فى الفلسفة أساسا، وفى التصوف أحيانا، وفى النقد بدرجة أقل، وفى علم الطبيعة كذلك، لكنه يكاد يكون هامشيا أو متأخرا فى منظومة الاهتمامات فى العلوم النفسية، وبالتالى فى الطب النفسى.

إذ كان الزمن وتخليقه واستيعابه والالتحام به لتحديد الوجود، بل لتجديد الوجود، هو بكل هذه المحورية، وإذا كان مرضانا وخاصة الذهانيين منهم يغامرون – فيفشلون – بتعرية هذا العمق من الوجود، وإذا كان العلاج يشمل إعادة احتواء الزمن ضامًّا خالقا رحبا متسعا إليه، فكيف يمكن أن يهمِّش الطبيب النفسى هذا البعد فى تناوله لنقض النص البشرى، ثم كيف يمكن أن يتناوله دون أن يراجع علاقته هو شخصيا بالزمن؟

هذه التساؤلات التى تعاودنى كلما هممت بإقفال هذا الملف استدرجتنى من جديد إلى التمادى فى كشف ما يمكن، حول هذه القضية: لعل وعسى.

قدمنا الأسبوع الماضى مقتطفات من (نجيب محفوظ ومن نقدى له)، لعلها بينت بعض أبعاد هذا الجوهر المترامى الزمنى من خلال حدس المبدع ومعايشة الناقد، ثم إنى عثرت فى أوراقى وتسجيلاتى على عدد من المحاولات والتجارب وجدت أن الرجوع إليها ربما يزيد الأمر وضوحا قبل أن ننطلق إلى ما يسمى “اضطرابات الزمن”.

وأبدأ مرة أخرى من عراقة لغتنا العربية التى تجلت منذ سُجِّلَتْ شفاهة لعل ما أنتقى منها يتكامل مع ما اقتطفته من إبداعنا الحديث، نجيب محفوظ اسهم فى الحفاظ على هذه اللغة وتجديدها والتمكن منها وقد حضرنا تناوله للزمن فى إبداعه بهذه اللغة الرائعة، فدعونا نرجع الآن إلى أقل من حوالى قرنين قليلا لنستمع إلى أمرؤ القيس وهو يجسِّد الزمن كيانا مرئيا محسوسا كأنه يصنع لوحة بارزة أو تمثالا حيا مقدسا، بعمق إبداعه وجمال لغته (لغتنا)، يقول امرؤ القيس فى معلقته:

وليل‏ ‏كموج‏ ‏البحر‏ ‏أرخى ‏سدوله …  علىَّ ‏بأنــــواع‏ِ ‏الهموم‏ ‏ليبتلى

فقلت‏ ‏لـه‏ ‏لما‏ ‏تمطـى ‏بصلبـه …   وأردف‏ ‏أعجــازا‏ ‏ونــاء‏ ‏بكَلْكَــلِ

ألا‏ ‏أيها‏ ‏الليل‏ ‏الطويل‏ ‏ألا‏ ‏انجلى … بصبح‏ ‏وما‏ ‏الأصباْح‏ ‏منك‏ ‏بأمثلِ

فيـالك‏ ‏من‏ ‏ليل‏ ‏كـان‏ ‏نجومـه …   بأمـراس‏ ‏كتــان‏ ‏إلى ‏صمِّ‏ ‏جنـــدلِ

هكذا يُحيى فينا أمرؤ القيس ما كدنا ننساه، فيذكرنا أن‏ ‏لنا‏ ‏إيقاع‏ ‏حيوى ‏مواكب‏ ‏للكون‏ ‏ودوراته‏، وأنه أصلٌ فَطَرَنَا الله عليه ‏قبل‏ ‏كل‏ ‏تلك‏ ‏التقنيات‏ الحديثة ‏وبعدها‏، ‏ألا يجدر بنا أن نقف أمام‏ ‏إحساس‏ ‏امرؤ‏ ‏القيس وإبداعه ونحن نتعجب من تناغمه مع‏ ‏‏هذا‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى الهادئ‏ ‏النابض وهو يصوره بهذا التشكيل القادر المخترق؟ أنا لا أعرف ‏من‏ ‏أين‏ ‏له‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الإحاطة‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جانب‏، ‏وهى ‏ليست‏ ‏إحاطة‏، بالستائر‏ ‏الساكنة‏ ‏الداكنة‏، ‏ولكنها‏ ‏إحاطة‏ بتجسيد فى ما هو ‏الموج‏ ‏المتلاطم‏ ‏القوى، ‏فهى ‏إحاطة‏ ‏دافقة‏ ‏هادرة‏ ‏لا‏ ‏تترك‏ ‏الفرصة‏ ‏لغيبوبة‏ ‏أو‏ ‏هروب‏، ‏بل‏ ‏تحفز‏ ‏المواجهة‏ ‏والمراجعة‏، استنقاذا‏ ‏وحفزا‏: ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الذات‏/‏الزمن‏/‏القدر‏/‏العجز‏/‏الفناء‏/‏ الهجر‏/‏الوحدة ‏/‏الحاجة‏،

 ‏نعم‏، ‏أليست‏ ‏هذه‏ بعض ‏”أنواع‏ ‏الهموم‏”!‏ ‏تلك‏ ‏الهموم‏ ‏التى ‏نسينا‏ ‏أن‏ ‏لها‏ ‏أنواعا‏، ‏فرحنا‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏هم‏ٌّ ‏واحد‏، ‏ثم‏ ‏ذهبنا‏ ‏نطلق‏ ‏عليه‏ ‏اسم‏ ‏مرض‏ ‏سخيف‏، ‏يحرمنا‏ ‏من‏ ‏عمق‏ ‏الرؤية‏، ‏وروعة‏ ‏تنوع‏ ‏الآلام‏ ‏البشرية‏ ‏المتحدية‏ ‏المتحفزة‏، ‏الهَمّ هنا – بعد أن تجسد ماثلا هكذا – هو ليس همًّا مبِّررًا للشكوى والنعابة التى أصبحت أكل عيش مهنتنا إذا لم نتنبه لشرفها ومسئوليتها، ولكنه همّ يدخلنا اختبار الزمن لنواجه فيه هذه الهموم‏ ‏العظيمة‏ فى “امتحان الوجود” وهى تبتلينا ‏‏لتوقظ‏: ‏إذ‏ ‏تشحذ‏ ‏رؤيتنا (ما أمكن ذلك)‏، ‏هى تبتلى‏: ‏لسبر غور صبرنا،‏ ‏فتصهر‏ ‏صلابة وقفتنا ووقفته‏، هذه هى وظيفة الهموم الإيجابية دفعا إلى الحياة إذا نجحنا فى الامتحان، وإعلانا للهزيمة والانكسار إذا رسبنا وفشلنا وتوقفنا عند النعابة أو حتى التسكين.

ثم يبدأ الحوار مع الليل (1) ‏وقد تمطى بصلبه، يبدأ امرؤ القيس الحوار وهو يتلمس‏ ‏سدول‏ ‏الليل‏، ‏ويتابع‏ ‏أعجازه‏ ‏الثقال‏، ‏ويمسك‏ بحبال‏ ‏نجومه‏ ‏الثوابت‏، ‏يسأله‏ ‏‏ ‏أن‏ ‏ينقضى بعد أن أوصل رسالة الهم ومسئوليته، ثم هو يواصل ‏‏نداءه‏ ‏للزمن‏ ‏أن‏ ‏يتحرك نحو  الإصباح‏ ‏حتى ‏وهو‏ ‏يعلم‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يواجه‏ ‏فى ‏صبحه‏ إلا ‏مثل ما واجه‏ ‏فى ‏ليله‏ (وما إلاصباح منك بأمثِلِ)، ‏ومع‏ ‏ذلك‏.. ‏فإيقاع‏ ‏الحركة‏ – ‏حتى ‏دون‏ ‏اليقين‏ ‏ببديل‏ ‏أفضل‏‏، هو الذى يحافظ على دفع الحياة إلى غايتها ‏وليكن‏ ‏الإصباح‏ ‏كالليل‏، ‏والليل‏ ‏كالموج‏، ‏ولتكن‏ ‏علاقتنا‏ ‏الوثيقة‏ ‏بخطى ‏الحياة‏ ‏ومواكبتنا‏ ‏لها‏ ‏هى ‏الوسيلة‏ ‏المثلى‏ ‏لتحقيق‏ “الممكن‏ ‏المجهول‏”، ‏ذلك‏ ‏الممكن‏ ‏الذى ‏تصرالحياة‏ ‏المعاصرة‏ ‏على ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏معلوما‏ ‏أصلا‏، ‏ومسبقا‏ ‏أبدا‏، ‏وعلى ‏وجه‏ ‏الدقة‏، ‏قولوا‏ ‏لى ‏بالله‏ ‏عليكم‏ “كيف‏”؟‏،

 ‏إن‏ ‏إصرار‏ ‏ديننا‏ ‏الحنيف‏ ‏على ‏التأكيد‏ ‏على ‏أن‏ “الإيمان‏ ‏بالغيب‏” ‏هو‏ ‏أحد‏ ‏أركان‏ ‏الإيمان‏ ‏الأساسية‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يؤكد‏ ‏التوصية‏ ‏على ‏ضرب‏ ‏غرور‏ ‏البشر‏ الحديث “هذا‏”، ‏وهذا الحوار الإبداعى العربى القديم يعلمنا ويدعونا لتتفتح آفاقنا‏ ‏‏رحبة‏ ‏لعوالم‏ ‏لا‏ ‏نعرفها‏، ‏ليست‏ ‏واردة‏ ‏أصلا‏ ‏فى ‏برامج‏ “كمبيوتوراتنا‏” الحاسبة ‏المحسوبة‏. ‏

أين اختفت كل تلك الحقائق التى جسدها هذا الإبداع المتحدى، حقيقة الليل، وحقيقة الإصباح، وحقيقة أن للهموم أنواع.

 اختفت ‏وراء‏ ‏إغماء‏ ‏الجشع‏ ‏أو‏ ‏أوهام‏ ‏الخلود.

وبعد

هذا بعض ما ينبغى أن نعرفه عن الزمن والليل والإصباح من واقع تاريخنا ونبض تراثنا، وعلينا أن نراه من خلال آلام مرضانا، وحقيقة دورنا، وهذا هو ما يصلنا من لغتنا حتى قبل الإسلام، فماذا فعل المسلمون بالإسلام وبالإيمان بالغيب وبالإبداع؟

غفر الله لهم ، لكن علينا أن نعرف أن هناك منهم من حاول باستمرار بفضل وعيه الإيمانى وإبداعه وكدحه ومثابرته، فدعونا نواكب جهد هذا المسلم الشاعر الفيلسوف العالم واسمه “محمد إقبال”، وكيف رأى الزمن بعد أكثر من قرن ونصف من رؤية امرؤ القيس، وكيف أننا الآن لم نر ما رأه، ولا تعهدناه، وذلك عن الزمن والنبوة والتصوف والحداثة جميعا.

وغدًا نلتقى به فى حدود رؤيته للزمن أساسا.

[1] – مرة أخرى نتذكر موقف الليل للنفرى الذى تناولنا بعضه فى نشرات سابقة مثل: نشرة 5-9-2015 ، نشرة 12-9-2015، نشرة 19-9-2015 ، نشرة 26-9-2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *