الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (27) عن الحلم والشعر والجنون (1)

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (27) عن الحلم والشعر والجنون (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 2-8-2015  

السنة الثامنة

العدد: 2893

 الأساس فى الطب النفسى 

 الافتراضات الأساسيةالفصل السادس:

 ملف اضطرابات الوعى (27)

عن الحلم والشعر والجنون (1)

جاء فى نشرة الأحد الماضى مايلى:

…. دعونى أشير إلى أننى تعرفت على مستويات الحلم من خلال أطروحتى فى النقد الأدبى عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”(1) وذلك من اجتهاداتى فى النقد الأدبى:  وبالذات فيما يتعلق بمستويات الشعر، وقد جرّنى ذلك إلى مواجهة القياس الثالث وهو التعرف على مستويات الجنون، وقد اعترفت آنذاك بهذه الصعوبة نتيجة للاعتماد على قياس لا تدعمه إلا  فروض عاملة متصلة، صحيح أنها نابعة من ممارسات عملية، وتشكيلات نقدية، لكن نفس هذه الصعوبة هى التى جعلت دراسة كل ظاهرة من هذه الظواهر الثلاث (الحلم- الإبداع/ خاصة الشعر- الجنون) تضىء لى ما خفى فى الظاهرة الأخرى الأبعد عن التناول:

…..(إلى أن قلت):

كل ما لدينا من هذه الخبرات الثلاث هو ناتجها الظاهر، أما العملية التى أفرزت كل منها فهى بعيدة عن التناول فعلا ، وبيان ذلك – مرة أخرى بألفاظ أخرى ، كالتالى:

أولا : عن الحلم :

العملية التى تحدث فى ما أسميناه “الحلم بالقوة”(2)  لا تظهر إلا فى رسام المخ الكهربائى فيما يسمى نوم حركة العين السريعة = نوم الريم، والرسم الكهربى  هنا يرصد تغيرات فى محصلة نشاط كهربى نوابى إيقاعى (عشرون دقيقة كل تسعين دقيقة) ، وهو يرصد وجود نشاط يسمى الحلم لا أكثر ولا أقل، أما طبيعة هذا النشاط ، ومحتواه فى هذا المستوى، فهى أبعد عن التناول بالرسم الكهربى بداهة.

ثانيا : عن الشعر (ممثلا للإبداع)

العملية التى تفرز الشعر بعيدة أيضا عن التناول، وكل الدراسات التى أجريت، ومن أهمها رسالة الماجستير عن الأسس النفسية للإبداع الفنى(3) (أ.د. مصطفى زيور) قد اعتمدت أساسا على بعض الاستبارات اللفظية التى تحتاج إلى قدر من الاستبصار وهو ما يسمى التأمل الذاتى، وهويعتمد على نشاط عقلى بأثر رجعى عادة،  قد يظهر لنا وجهة نظر المبدع (الشاعر) التى هى ليست بالضرورة مطابقة للعملية التى أفرزت الشعر، بل أحيانا تكون أبعد ما يكون عنها ، برغم احتمال التقاطها  بعض الملامح الأعمق.

وقد يقوم النقد أحيانا بالغوص إلى ما وراء النص إبداعاً، من واقع النص، فتصله أو لا تصله بعض ملامح العملية بدرجات مختلفة، ويصبح النقد الذى هو إبداع تالٍ بحاجة إلى معرفة العملية التى جرت حتى أفرزته، فتظهر نفس الصعوبة فى النقد كما ظهرت مع النص، ويصل قمة التحدى فى نقد ما يسمى “قصيدة النثر”ويظل المتاح فى النهاية هو نص القصيدة ونص النقد،  أما العملية التى أفرزتهما فهى تظل فى عمق حركية نبض التفكيك فالتشكيل فإعادة التشكيل لا نتعرف عليها إلا فرووضا واجتهادا

وفى حالة الجنون (الفصام أصدق ممثل له هنا) تطالعنا أعراضه ونرصد شذوذ السلوك فيه، وعادة تصدمنا  آثاره على من حوله ، وناسف لمدى إعاقته، أما  العملية التى أفرزته فهى بدورها لا يمكن فحصها مباشرة، وكل ما يمكن هو أن نفترض الفروض الإمراضية التركيبية (لا السببية)، وأيضا الفروض الغائية المحتملة، حيث يظهر الجنون من واقع ما حدث فى الفروض الأولى،  ليحقق أهداف الفروض الثانية، وكلاهما – مادام الناتج جنونا- إنجاز سلبى على طول الخط.

كيف بالله عليكم – بعد ذلك– نحاول أن نفهم الحلم من الجنون أو الجنون من الإبداع أو الإبداع من أى من الحلم والجنون؟

المسألة شديدة الصعوبة والتحدى، وليس معنى صعوبة المنهج أن نختزل الظاهرات إلى ما يسمح به المنهج المتاح، فلتقدم الفروض ولنتابع المقارنات، ولنجتهد فى المقابلات والتفرقة لعل القضية تتماسك مع التقدم فى المحاولة

وهكذا  وجدت نفسى منذ البداية فى موقف دائرى سجلته فى نفس الأطروحة كالتالى (تقريبا) :

الموقف الدائرى:

الموقف‏ ‏دائرى ‏حرج‏، ‏حيث‏ ‏أننى ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أتعرف‏ ‏على ‏ماهية‏ ‏الشعر‏، ‏وأبعاده‏، ‏ومستوياته‏، ‏من‏ ‏خلال‏ ‏فروض‏ ‏غامضة‏ ‏حول‏ ‏ماهية‏ ‏الحلم‏، ‏وأبعاده‏، ‏ومستوياته‏، نتذكر ابتداءً أن‏ ‏الأول‏ (‏الشعر‏) ‏أقرب‏ ‏تناولا‏، ‏وأكثر‏ ‏تحديدا‏، ‏وأطول‏ ‏زمانا‏ ‏من‏ ‏الثانى (‏الحلم‏) ‏بدرجة‏ ‏تسمح‏ ‏بالدراسة‏ ‏والفحص‏، بل‏ ‏إنه‏ ‏لو‏ ‏صح‏ ‏الفرض‏ ‏القائل‏: ” ‏إن‏ ‏ظاهرة‏ ‏الشعر ‏-‏ بوصفه‏ ‏فعل‏ ‏الإبداع‏ ‏المكثف‏ ‏فى ‏أعمق‏ ‏مستوياته‏- ‏هى تشكيل ‏التجليات‏ ‏الأرقى ‏لظاهرة‏ ‏الحلم‏ ‏فى ‏وعى ‏فائق‏”(4)، ‏فإن‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏الشعر‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏قد يعلمنا‏ ‏ماهية‏ ‏الحلم‏، ‏وليس‏ ‏العكس ‏.‏

وهكذا يمكن أن نصيغ كيف تسلسل الفرض كالتالى:

  • إن حركية الحلم هى القادرة على أن تفسر عملية إبداع الشعر===>

ثم :

  • إن عملية تشكيل الشعر يمكن أن تشرح الكامن من حركية إبداع الحلم!‏

واجهتُ واعيا هذا المأزق ربما لأننى خبرت هذا الاحتمال ‏شخصيا‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏أننى ‏أجتهد‏ ‏أحيانا‏ ‏فى “‏فعل‏” ‏الشعر‏، ‏كما‏ ‏أجرّب‏ ‏كثيرا‏ ‏فى ‏مواجهة حدْس‏ ‏الحلم‏ وفضله، وآثار الحرمان منه، (‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏مواكبتى ‏المستمرة‏ ‏لتجارب‏ ‏الجنون‏).

فى ‏تقديمى ‏للحلم‏ ‏أن‏ ‏رحت‏ ‏أجتهد‏ ‏فى ‏حدود‏ ‏ظاهرة‏ ‏الحلم‏ ‏نفسها دون العروج إلى تفسيره، ‏غير‏ ‏أنى ‏لا‏ ‏أستبعد‏ ‏أني‏ ‏كنت‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏ ‏ ‏متأثرا‏ ‏بظاهرة‏ ‏الشعر‏، ‏والعكس‏ ‏صحيح‏، ‏فهل‏ ‏لهذا المأزق من مخرج؟

أتصور‏ ‏أن‏ ‏الأفضل‏ ‏ألا‏ ‏نخرج‏ ‏منه‏، ‏وأن‏ ‏نأمل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏التداخل‏ ‏فى ‏ذاته‏، ‏من‏ ‏عوامل‏ ‏مشروعية‏ ‏القياس:

 ‏ولتكن‏ ‏معرفتنا‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏شعر‏، ‏تعميقا‏ ‏لفروضنا‏ ‏عن ما‏ ‏هو‏ ‏حلم‏،

 ‏وليكن‏ ‏العكس‏ ‏صحيحا أيضا‏، حتى لا‏ ‏ ‏يُختزل‏ ‏الموقف‏ ‏إلى ‏مالا‏ ‏يحتمِل‏.‏

…….

…….

ومع‏ ‏تذكر‏ ‏تحفظنا‏ ‏المبدئى تجاه هذا الموقف الدائرى دعونا ‏نحاول أن نفحص ‏المشترك بينهما (على مستوى الفرووض أيضا):

  • الحلم‏ ‏إيقاع‏ ‏منتظم‏ (‏فسيولوجيا‏).. ‏والشعر‏ إيقاع على مستويات مختلفة.
  • الحلم‏ ‏جرعة‏ ‏مكثفة‏… ‏والشعر‏ ‏الجيد‏ ‏كذلك‏.‏
  • الحلم‏ ‏تنشيط‏ ‏محرِّك‏…‏وكذلك‏ ‏الشعر‏.‏
  • الحلم‏ ‏لغة‏: ‏عيانية‏/‏مفهومية/ إيقاعية/ ‏ “‏معا‏”.. ‏وبعض‏ ‏الشعر‏ ‏كذلك‏.‏
  • الشعر‏ -‏كالحلم‏ ‏عند‏ ‏يونج‏- ‏هو‏ ‏بديل‏ ‏كشفى ‏ثورى ‏لواقع‏ ‏داخلى ‏وخارجى ‏يتحدى ‏باستقراره‏ ‏وجموده‏.‏ والشعر‏-‏ كالحلم‏-‏ يخترق‏ ‏واقع‏ ‏الذات‏ ‏قبل‏ (‏ومع‏) ‏مصارعة‏ ‏واقع‏ ‏الخارج‏، ‏إذ‏ “‏يتحرك‏ ‏بوصفه‏ ‏فاعلية‏ ‏إبداعية‏ ‏فى ‏مدار‏ ‏التجاوز‏”، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏اختراق‏ ‏الشعر‏ ‏لواقع‏ ‏الذات‏ (‏ابتداء‏) ‏يتفوق‏ ‏على ‏اختراق‏ ‏الحلم‏ ‏لهذا‏ ‏الواقع‏؛ ‏لأنه‏ ‏يتم‏ ‏بإرادة‏ ‏مقتحِمَة‏، ‏وفى ‏وعىٍ ‏فائق‏، ‏يستحث‏ ‏التفكيك‏، ‏ويتحمل‏ ‏مسئوليته‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏: ‏الفرصة‏ ‏لاحتواء‏ ‏الواقع‏ ‏المخترق‏ ‏بعد‏ ‏ضربه‏- لتخليق‏ ‏التصعيد‏، ‏اللامّ‏، ‏والمتفجر‏، ‏معا‏. ومِنْ ثـَمَّ: الواقع الإبداعى. أما‏ ‏الحلم‏، ‏فهو‏ ‏ينتهز‏ ‏الفرصة‏ ‏لتوليف‏ ‏إبداعه‏ ‏من‏ ‏تفكيك‏ ‏جاهز‏ (‏من‏ ‏واقع‏ ‏حتم‏ ‏إيقاعية‏ ‏التناوب‏ ‏بين‏ ‏النشاط‏ ‏الحالم المتعتع المشكل معا‏، ‏والنوم‏ ‏واليقظة‏).‏
  • الحلم‏ ‏يستعمل‏ ‏لغته‏ ‏الخاصة فى داخل عباءة النوم‏، “‏بمناسبة‏” ‏التراجع المؤقت والدورى المنتظم للغة‏المفهومية ‏ ‏الراسخة‏ ‏القبـْـلية‏ (‏اللغة‏ ‏بمعناها‏ ‏الأوسع‏)، ‏فهو‏ ‏يجدد‏ ‏فى ‏اللغة‏، ‏أو‏ ‏يبتدع‏ ‏لغته‏ ‏فى ‏غياب‏ ‏اللغة المتجمدة، وعلى حسابها عادة. و‏الشعر‏ ‏الشعر‏، و‏لابد أن‏ ‏يجدد‏ ‏اللغة‏ ‏بأكثر‏ ‏الخطوات‏ ‏شجاعة‏، ‏واقتحام‏، ‏ومخاطرة‏، ‏وهو‏ ‏بذلك، ‏ ‏يجدد‏ ‏الشاعر‏ ‏نفسه.
  • لغة‏ ‏الحلم‏ ‏لغة‏ ‏مصورة‏ ‏وهى‏ ‏لا‏ ‏تستلزم‏ ‏بالضرورة ‏-‏كما‏ ‏ذكرنا‏-‏ أن‏ ‏تترجم‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏لفظية‏، ‏أو‏ ‏مفهومية؛ ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏الصورة ‏- ‏بذاتها‏- ‏تؤدى، ‏وتحتوى، ‏وتحتمل‏، ‏مالا‏ ‏يقدر‏ ‏عليه‏ ‏اللفظ‏، ‏وهذا‏ ‏من‏ ‏طبيعة‏ ‏عملية‏ ‏إبداع‏ ‏الحلم‏، ‏فى ‏زمن‏ ‏بالغ‏ ‏القصر‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يمكنه‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏اللفظ‏ ‏المناسب‏، ‏لاحتواء‏ ‏المادة‏ ‏المستثارة‏، ‏دون‏ ‏تشويه‏ ‏لأصالة‏ ‏التركيب‏ ‏الأولى‏، ‏و‏لغة‏ ‏الشعر‏ ‏لغة‏ ‏مصورة‏ ‏أيضا‏، ‏لكنها‏ ‏ترسم‏ ‏الصورة‏ ‏بنفس‏ ريشة ‏الأبجدية‏ ‏الأم‏، ‏فالشعر‏ ‏يستعمل‏ ‏اللفظ‏ ‏ليجاوزه‏، ‏ويحطم‏ ‏حدوده‏، ‏ويعيد‏ ‏شحنه‏ ‏حين‏ ‏يشكل‏ ‏بما‏ ‏حوله‏، ‏به‏، ‏سياقا‏ ‏يبعث‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏المضامين‏ ‏والمعانى، ‏مايحتمل‏ ‏توسيع‏ ‏دائرته‏ ‏أو‏ ‏تحوير‏ ‏وظيفته‏.‏

وبعد

خطر لى أن اقدم شكلا يبين هذا الأصل المشترك مع اختلاف الناتج ، وذلك تمهيدا للمقارنة التفصيلية  فى نشرة الغد ، ولهذا اكتفيت بنشر الشكل دون تعليق.

2-8-2015

وإلى الغد

ربنا يسهل !!

 

[1] – يحيى الرخاوى: فى : “كتاب حركية الوجود وتجليات الإبداع” المجلس الأعلى للثقافة 2007، نشرت فى صورتها الأولى فى مجلة فصول- المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985 ص (67 – 91) بعنوان ” الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع “وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها

[2] – تجنبت استعمال مصطلحات أخرى لها أستمالات أخرى مثل الحلم الفسيولوجى وإن كان أقرب لى على شرط أن نعطى للفسيولوجيا مساحة أكبر وعمقا أهم، خطر لى أيضا أن أستعمل مصطلح الحلم النفسفسيولوجى، مقتديا بالرائد المبدع أ.د. على زيعور فى النحت والإضغام)، لكننى عدلت أيضا لأننى شعرت أن مجرد التسمية لن تحل الإشكال

[3] – مصطفى سويف:  الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ـ دار المعارف، 1959

[4]- أدونيس: “زمن الشعر”‏ ‏ص 312- الطبعة الثانية (1978)- ‏دار‏ ‏العودة – بيروت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *