نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 27-7-2015
السنة الثامنة
العدد: 2887
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (26)
وظيفة الحلم الأساسية
من خلال النظر فى “الحرمان منه”
مقدمة:
إذا كانت دلالة محتوى الحلم بهذا التواضع كما ذكرنا، وبالتالى أصبح تفسيره مقول بالتبسيط، وكثيرا ما يحمل شبهة الوصاية، وربما الافتعال والإسقاط من المفسِّر، فما هو السبيل إلى فهم دور الحلم وأهميته فى الحياة البشرية خاصة؟
كثيرا ما نتعرف على أهمية ودور وظيفة ما من خلال غيابها، أو تغـييبها، هذه ليست فكرة علمية فقط، وإنما هى بديهية يعرفها العامة قبل الخاصة، وبالتالى فإننى اعتبرت أن هذا هو المدخل المناسب للتعرف على بعض وظائف النشاط الحالم (الحلم بالقوة) ما دامت محاولات البحث فى طبيعته، برغم حتمية إيقاعه الحيوى، ليست فى متناولنا حتى الآن.
المدخل اليوم هو لقطات محدود بالنظر فى:
أولا: تجارب الحرمان من النوم، ومن ثـّمَّ الحرمان من الحلم،
ثانيا: العلاج بما يسمى: علاج الحرمان من النوم.
أولا: تجارب الحرمان من النوم
تكاد نتائج الحرمان من النوم كله تقترب، أو تساوى، نتائج الحرمان من النوم الحالم (نوم الريم وحده = REM) وبالتالى رجُح احتمال أن النشاط الإيقاعى لنوم الريم REM هو الذى يؤدى الدور الأهم فى إعادة تنسيق وتشكيل المعلومات(1)، وهو ما نعتبره أساس الإبداع(2) بشكل أو بآخر.
تجارب الحرمان من النوم، وبالذات من نوم الريم عديدة وشديدة الأهمية، ولا سبيل إلى تعدادها بتفاصيلها الأن هنا، إذ كل ما يهمنا هو الاستفادة منها فى التعرف على ظاهرة بعيدة الغور، وفى نفس الوقت ظاهرة الأثر بهذا الشكل، أعنىالتعرف على وظيفة النشاط الحالم بديلا عن التركيز على تفسير محتوى الحلم الظاهر:
ذلك أنه قد ثبت من هذه التجارب أن الحرمان من هذا النشاط الإيقاعى (نوم الريم REM) سواء بالحرمان الكامل من النوم، أم بالحرمان من نوم الريم فقط(3)، يترتب عليه كل مما يلى:
1) الهلاوس (والوهْل)
2) الخلط، ورخاوة ترابط الأفكار
3) القلق الوجدانى والتوتر
4) القلق الحركى وعدم الاستقرار
5) الرغبة فى النوم بدرجات مختلفة
6) أعراض مرضية متنوعة، (قد تصل إلى درجة مرض بذاته إذا كانت الشخصية قبل التجارب مستهدفة لمثل ذلك)
انطلاقا من البديهية التى بدأنا بها هذه النشرة: يمكن الاستنتاج بسهولة أن النوم الحالم (الأحلام = الحلم بالقوة) له دور فعال فى منع هذه المظاهر والمضاعفات من خلال قيامه بإعادة التشكيل بانتظام إيقاعى هو طبيعة تلقائية وفطرية لنشاط الإيقاع الحيوى، وبالتالى يتم الحفاظ على نشاط المخ فى حالة سليمة، وتتواصل حركية النمو فى اتجاهها الصحيح، دون حاجة لحوح لفحص محتوى هذا النشاط الذى نسميه الحلم، والذى لا يظهر لنا فى صورته الفجة البعيدة عن التناول إلا من خلال آثاره الإيجابية الضرورية التى ظهرت بجلاء كاف من خلال تجارب تغييبها.
ثانياً: العلاج بالحرمان من النوم
فى نفس الوقت فإن ثمّ علاج اسمه “العلاج بالحرمان من النوم” وقد وصف أساسا لعلاج حالات الاكتئاب المستعصية نسبيا، وقد جرت محاولات عديدة للوقوف على تفسير فاعليته، سواء من منطلقات بيوكيميائية، أو نيوروبيولوجية، وقد ربطت بعض التفسيرات بين العودة التعويضية لنشاط مفرط لنوم الريم، بعد فترة الحرمان، كما قـُدِّمت تفسيرات أضعف مرتبطة بتغيرات مختلفة فى الموصلات العصبية، وأيضا اقترحت افتراضات عن تنشيط للطاقة الحيوية …إلخ
كل ذلك لا يعنينى الآن ونحن فى محاولة الاقتراب من التأكيد على أهمية المستوى الأول لنشاط الحلم الإيقاعى، بغض النظر عن عدم فهمنا لطبيعتها، واستحالة فحص مضمونها برغم أن هذا المستوى الأول هو الذى تنبثق منه مستويات الحلم الاخرى
السؤال الذى يفرض نفسه حالا يقول:
كيف أن الحرمان من النوم الحالم يؤدى إلى مشاكل ومضاعفات قد تصل إلى حد المرض؟
وفى نفس الوقت كيف نستعمل هذا الحرمان فى العلاج؟
الإجابة المحتملة – على مستوى الفرض الذى تم تطبيقه – هو أن تجارب الحرمان من النوم/الحلم هى تجارب مصنوعة صنعا للتعرف على وظيفة ظاهرة أساسية فى الوجود لم تمكننا أدوات البحث المتاحة حتى الآن من معرفة طبيعتها، فكان لزاما على الأقل ان نتعرف على وظيفتها، بتغييبها كما ذكرنا.
أما علاج الحرمان من النوم – فى حدود خبرتنا العملية- فهو ينطلق من خلال فرض أن بعض الأمراض وبعض الأعراض قد تدخلت بميكانزماتها حتى أفقدت الإيقاع الحيوى اليوماوى للحلم وظيفته الإيجابية فى إعادة التشكيل ودفع النمو(الإبداع)، وبالتالى أصبح النوم تثبيتا لدوران دوائر مغلقة تقوم بإفشال فاعلية الإيقاع الحيوى أولا لأول طول الوقت.
من خلال هذا الفرض اكتشفنا أن هذا العلاج المغامر ليس خاصا بحالات الاكتئاب بالذات، وأن هذا الحرمان من النوم/الحلم: يقوم بوظيفة كسر هذه الحلقة المقفلة، وتحطيم حواجز انطلاق الإيقاع الحيوى اليوماوى لأداء وظيفته الطبيعية، وبالتالى افترضنا أنه إنما ينفع أكثر فى الحالات التى انغلق فيها مسار النمو من فرط التثبيت بميكانزمات اغترابية متينة حتى التكلس، فراح الإيقاع الحيوى يدور داخل حلقاة مغلقة، أولها فى آخرها، ومن ثم فإن الحرمان من النوم كعلاج إنما يكسر هذا السجن الاغترابى وبالتالى يسمح للإيقاع الحيوى اليومامى للحلم، (وغيره) أن يعاود نشاطه الطبيعي فى أداء دوره فى التنسيق والبسط وإعادة التشكيل،
بناء على هذا الفرض استعملنا هذا العلاج “الحرمان من النوم – بما فى ذلك الحرمان من الحلم” بهدف كسر هذه الحلقة المغلقة فى الحالات التى نكتشف أنها توقفت تماما، قلم تعد تتحرك إلا فى المحل، من فرط الاغتراب وصلابة الميكانزمات (النفسبيولوجية المتكلسة)
التطبيق:
هكذا رحنا نستعمل هذا العلاج فى بعض حالات الوسواس القهرى المزمن المعيق، وحالات البارانويا المزمنة، واضطراب الشخصية النمطى المستتب جدا، وكان ذلك كخطوة لها ترتيبات خاصة مسئولة، حيث نقوم بها بعد إعداد مناسب، فى الوقت المناسب، ضمن برنامج علاجى ممتد أعددناه ليحضِّر المريض لمثل هذا التدخل الصعب، وأيضا يجهّزه ليستوعب نتائج كسرهذه الحلقة السجانة المجهـِضة لفاعلية النشاط الإيقاعى للحلم، ومن ثم الحيلولة دون أداء وظيفته.
وبعد
نظرا لضيق الوقت، اخترت أن أكتفى اليوم فى بقية النشرة بعرض شرائح توضيحية للفكرة الأساسية، والتطبيق التجريبى، وذلك تمهيدا للعودة لشرح أكمل إذا لزم الأمر:
أولا: تذكرة بدور الإيقاع الحيوى لنشاط الحلم
وعلاقته بكل من الحلم المؤلـّف، وإلى درجة أقل الحلم المحكى
ثانيا: توضيح لفكرة فرط الاغتراب حتى الحيلولة دون فاعلية الإيقاع الحلمى للنمو:
هذا الشكل يمثل فرط الاغتراب حتى الإعاقة الكاملة لفاعلية النشاط الإيقاعى للحلم، ومن ثم إلغاء وظيفته الإبداعية والنمائية والتجديدية، وذلك بالعمل على إحكام التحوصل داخل ميكانزمات الاغتراب والتصلب، ومن ثم توقف النمو مثلا : فى اضطراب الشخصية النمطى المفرط، كما كانت محاولاتنا أكثر فى الوسواس القهرى المزمن، وبعض حالات البارانويا المتحصنة داخل منظوماتها الضلالية، وأرجو أن يكون الشكل التالى أكثر قدرة من شرح الموقف بالكلمات
ثالثا: فرض كيفية عمل الحرمان من خلال كسر الحلقة الساجنة المفرغة
جاءت النتائج غير مشجعة فى حالات الاكتئاب خاصة، اللهم إلا فى بعض الحالات التى أزمنت واستعصت على العلاجات الأخرى، وكانت مصاحبة بسمات ونمط شخصية تدل على الجمود والتحوصل داخل ما يسمى الاكتئاب دون نبض وجدانى نشط, أما الحالات التى استجابت أكثر فكانت تلك لحالات التى تبينا فيها تلك المقاومة الفصوى للتغيير، وقد تحوصلت داخل منظوماتها المعيقة، وتوقفت تماما عن الحركة، وبالتالى عن الاستجابة للعلاجات التقليدية نتيجة لفرط استعمال الميكانزمات (النيورونوية النفسية معا) حتى أصبح تحريكها نحو الشفاء شديد الصعوبة، وبالتالى انتهى الدور الإيجابى المحتمل لنشاط الحلم فى الإبداع اليومامى، برغم استمرار دوام حركية الإيقاع الحيوى فى المحل داخل دائرة مغلقة بتلك الميكانزمات المتكلسة .
وهكذا افترضنا أن الوظيفة العلاجية للحرمان من النوم فالحلم تبدأ بكسر الدائرة المغلقة، وإفشال الحلقة المفرغة، بكسر نظام لم يعد إيقاعا حيويا نابضا بل تثبيتا بالإعادة، فكان التدخل فى رتابة هذا النظام وانغلاقه هو الأمل فى تنشيط الحركة الداخلية لدرجة تسمح بكسر جدار هذه الدائرة المغلقة، وذلك بعد الإعداد المناسب بعلاقة علاجية محيطة وممتدة،
فجاءت النتائج كما ذكرنا فى هذه الحالات واعدة بقدر ما أمكن لعلاج الوسط بالذات الذى عليه أن يستوعب نتائج الكسرة ويعيد إطلاق مسيرة النمو من جديد، بإعادة توظيف إيقاع الحلم اليومامى فى التشكيل النمائى بعد إطلاق سراحه من داخل الدائرة المغلقة كما فى الشكل:
وبعد
أرجو قبول اعتذارى حيث اضطررت لعرض الفكرة الأساسية لمحاولات عملية ركزت على وظيفة الحلم فى أصوله النيوروبيولوجية، بديلا عن الاستغراق فى محاولات التسير والتأويل.
[1] – أجريت تجارب الحرمان من النوم الحالم (نوم الريم للحيوانات) على عدد من الأحياء الأخرى، وكان أهم الملاحظات ما حدث للفئران التجارب حين حرمت من نوم الريم لمدة خمس أيام فماتت، وذلك بعد رصد ملاحظات على تغيرات حدثت فى المخ وخاصة فى الفص الأمامى، وقد أعود إلى تفلصيل ذلك لاحقا إذا لزم الأمر.
[2] – أكرر أننى إنما أعنى بالإبداع هنا، وفى معظم كتاباتى وتنظيرى، كل إعادة تشكيل بأى درجة فى أى مجال إلى ما هو أعلى درجة على سلم الحياة ، وباتالى يشمل هذ كل خبرات النمو، والتطور، كما يشمل الناتج الإبداعى البشرى بكل اشكاله فى العلم والمعرفة والتشكيل والأدب والشعر وغير ذلك، فالحلم يبدعنا بفضل الله الذى يحينا ويمتنا كل ليلة لنستمر على مسيرة النمو مبدعين “ربى كما خلقتنى”.
[3] – يتم الحرمان الانتقائى من نوم الريم بأن نوقظ المتطوع عند أول ظهور علامات هذا النومREM فى رسام المخ الكهربى.