الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى ماهية الوعى (4) الخروج عن ما أتى به العلم بالضرورة

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى ماهية الوعى (4) الخروج عن ما أتى به العلم بالضرورة

نشرة “الإنسان والتطور”

الاثنين: 11-5-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2810

الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسيةالفصل السادس:

ملف اضطرابات الوعى 

     ماهية الوعى (4)

الخروج عن ما أتى به العلم بالضرورة

مقدمة: 

يبدو أن فتح ملف الوعى هكذا سوف يعود بنا إلى مناقشة المنهج (منهج المعرفة عموما وليس فقط ما يسمى المنهج العلمى)، وخاصة بعد أن تزايدت أدلجة(1) العلم داخل مؤسسات السلطة، فصار علما فوقيا مغلقا، راح يصف كل من يخرج عن حدود أسواره بالهرطقة، حتى طَرَدَ العلم المعرفى بفروعه من كنيسته، وأصبح يعامِلُ أىَّ جديد فى المنهج باعتباره خروجا عن “ما أتى به العلم بالضرورة”!!. الحمد لله أن النقد هذه المره جاء من داخل محراب العلم ذاته حيث اعتُبِرَ ظهور الطبيعة الحديثة بكل تفريعاتها الكموية (الكوانتية) من ميكانيكا ورياضة وغيرهما، وبكل تطبيقاتها المتنوعة فى معظم حقول المعرفة، اعتبر هذا اسهاما علميا أحدث، يتسارع احترامه وتقديره أكثر فأكثر مع امتداد آثاره وإيجابياته إلى دوائر كانت محظورة إلا على العلم المؤسسى المغلق، وقد ظهرت آثار هذه النقلة الإيجابية فى مجالات عديدة تجاوزت الفيزياء والميكانيكا إلى علوم الطاقة والكيمياء والاشعاع النووى، وغيرها، فلا غرابة أن نستهدى به نحن النفسيين ونحن نحاول التعرف على ما هو أصعب وأخفى، أعنى الطبيعة البشرية، وها نحن الآن فى رحاب أصعب ما فيها وهو موضوعنا اليوم (وبعد ذلك) عن “ماهية الوعى“.

لكن دعونا نبدأ بالتعرف عن رائد هذا الفضل الحديث:

 هاينزنبيرج:

 فيرنر كارل هاينزنبيرج (Werner Heisenberg)  (1901- 1976) هو رائد الفيزياء الحديثة وهو ألمانى وحاصل على جائزة نوبل عام 1932. ولد فى فورتسبيرج 5 ديسمبر 1901 وقضى نحبه فى 1 فبراير 1976 فى ميونخ، وهو الذى اكتشف أهم مبادئ الفيزياء الحديثة وهو مبدأ “عدم التأكد” وهو حاصل على جائزة نوبل فى العلوم سنة 1932.

أتم هاينزنبيرج صياغة هذا المبدأ (اللايقين) وهو فى السادسة والعشرين سنة 1927. وكانت قوانين الفيزياء المتاحة قادرة على تفسير الأشياء الأكبر حجماً من الذرة فقط، أما الذرة وما دونها فلم تجد قوانين تفسر حركتها. ومنذ سنة 1925، قدم هايزنبيرج قوانين جديدة تختلف تماماً عن تلك الصيغ التي قدمها نيوتن قبل ذلك، ثم أدخل عليها عددٌ آخر من العلماء بعض التعديلات – فأصبحت قادرة على تفسير حركة كل لأشياء صغيرها وكبيرها. ومن أهم نتائج نظرية هايزنبيرج في تفسير حركة الذرات، من خلال تطبيق مبدأ “عدم التأكد” أنه يضع حدوداً لقدرة الإنسان – بما فى ذلك العماء – على قياس الأشياء، وبالتالى فلم يعد لأى عالم، مهما كانت ظروفه مثالية، القدرة على أن يحصل على أية معلومات مؤكدة، ومعنى ذلك أنه لا يستطيع أن يتنبأ بحركة أي شيء مستقبلاً، ويبدو أن اكتشاف هذا المبدأ وإقراره قدّم للعلماء الموضوعيين فرصة حقيقية للتواضع ليكونوا علماء بحق، لأن مبدأ عدم اليقين هذا معناه أن علم الفيزياء لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن تكون لديه تنبؤات إحصائية فقط.

بتت هذه النظرية مقلقة لعدد من ثقات العلماء لدرجة أن آينشتين قد رفضها أول الأمر. وهو الذي قال: “إن عقلي لا يستطيع أن يتصور أن الله يلعب النرد بهذا الكون” ومع ذلك لم يجد العلماء أمامهم إلا قبول هذه النظرية التي أعادت للعلم موضوعيته الأصلية بعيدا عن كهنوت مؤسساته.

وقد كان لنتائج هذه النظرية آثار أعمق من نظرية النسبية لأينشتين وكانت لها آثار فلسفية عميقة. كما كان لها نتائجها العلمية في الفيزياء النووية والطاقة النووية، وأيضا فى التطبيق: مثل استخدام الميكرسكوب الإلكترونى وأشعة الليزر والترانستوز، وغير ذلك.

عدم التأكد وإشكالة الوعى:

يبدو أنه قد آن الأون للنظر فى طبيعة النفس البشرية وماهية وظائفها من منطلق أعمق وأشمل بفضل نفس هذا التوجه الذى أتاحه لنا مبدأ “عدم التأكد” طريقا إلى يقين آخر بلا حدود، ولعل المتابع لنشراتنا المضطردة هنا قد وصله بعض ذلك إذا كان قد مرّ فى ملف الإدراك، ثم عرج إلى ملف الوجدان فالإرادة، مما قد نشير إلى بعض ذلك فى حينه.

المعرفة الموازية فى صحبة النفرى

الجديد اليوم هو الدخول من باب التصوف، وقد آن الأوان لأنتبه إلى فضل الله الذى ألهمنى أن أواصل الاعتراف بفضل قراءتى المنتظمة منذ سنوات فى مواقف النفرى، إذ يبدو أنها كانت عونا متواصلا – دون أن أدرى غالبا – فى التأكيد على نفس المنهج الذى نحن بصدد عرضه اليوم، وهنا أحمد الله من جديد على هذه الورطة اليومية الرائعة، التى أراد بها ربى أن يَخْرُجَ منى ما يكمل بعضه بعضا دون أن أقصد فأتمكن بفضله أن اواصل الطريق إلى أنه “ربى كما خلقتنى”،

 ثم نعود إلى الكتاب المعين الذى أشرنا إليه أمس وهو كتاب: “التصوف الشرقى والفيزياء الحديثة” The TAO of Physics”تأليف: فريتجوف كابرا،

مقتطفات من مقدمة الطبعة الثانية وبداية الفصل الأول:

(مقطتف: 1) صفحة 10

“…إن ممانعة العلماء الحديثين لقبول التشابهات العريقة بين مفاهيمهم ومفاهيم الصوفيين ليست مفاجئة، نظراً لأن التصوف – على الأقل فى الغرب- قد ربط تقليديا، بشكل مغلوط تماماً، بالأشياء  الغامضة والملغوزة واللاعملية إلى حد كبير. لحسن الحظ، أن هذا الموقف آخذ فى التغير الآن. فعندما بدأ الفكر الشرقى يشغل عددا كبيراً من الناس ولم يعد التأمل ينظر إليه بسخرية أو بارتياب، بات التصوف يؤخذ على محمل الجد حتى ضمن المجتمع العلمى”

(مقتطف: 2) صفحة 11

“…مساهمات هايزنبرغ فى نظرية الكم، التى أناقشها بتفصيل كبير فى هذا الكتاب، تشير إلى…) أن المثال التقليدى للموضوعية العلمية لم يعد من الممكن الإبقاء عليه، ولهذا فإن الفيزياء الحديثة تتحدى أيضا أسطورة العلم الخالى من القيم، فالأنماط التى يرصدها العلماء فى الطبيعة متصلة اتصالاً وثيقاً بأنماط عقولهم، بمفاهيمهم، وأفكارهم وقيمهم. من هنا فإن النتائج العلمية التى يتوصلون إليها والتطبيقات التى تترتب عليها ستكون مشروطة بإطار عقلهم…. لذلك، فإن العلماء مسؤولون عن بحثهم ليس فكرياً فقط بل أخلاقيا أيضا”.

(مقتطف: 3) صفحة 12

“…من وجهة النظر هذه، فإن الصلة بين الفيزياء والتصوف ليست مثيراً للاهتمام فحسب بل شديدة الأهمية أيضا. إذ تظهر أن نتائج الفيزياء الحديثة قد فتحت مسارين مختلفين جدا للعلماء لكى يختاروا والأمر يعود إلى كل عالم على حدة لكى يقرر أى مسار يتخذ. (إما إلى القنبلة والتدمير أو إلى المعرفة الشاملة فدفع الكائن البشرى على مساره الصحيح)(2).

(مقتطف: 4) صفحة 17

“….إن تأثير الفيزياء الحديثة يتجاوز التكنولوجيا. إنه يمتد إلى مجال الفكر والثقافة حيث قاد إلى مراجعة تتجاوز التكنولوجيا. إنه يمتد إلى مجال الفكر والثقافة حيث قاد إلى مراجعة عميقة لتصورنا للكون ولعلاقتنا به. فاستكشاف العالم الذرى وما دون الذرة [أجزاء الذرة] فى القرن العشرين قد كشف بدون شك محدودية الأفكار التقليدية، وجعل من الضرورى إجراء مراجعة جذرية لكثير من مفاهيمنا الأساسية. إن مفهوم المادة فى فيزياء ما دون الذرية، على سبيل المثال، مختلف كلياً عن الفكرة التقليدية المتناقلة للجوهر المادى فى الفيزياء الكلاسيكية.

 (مقتطف: 5) صفحة 19

“…الفيزياء الحديثة تقودنا إلى رؤية للعالم مشابهة جدا للرؤى التى يحملها الصوفيون من كل العصور والتراثات. فالتراثات الصوفية موجودة فى كل الأديان والعناصر الصوفية يمكن إيجادها فى كثير من مدارس الفلسفة الغربية. إذ تظهر الموازيات للفيزياء الحديثة ليس فقط فى فيدات Vedas الهندوسية أو فى الآى تشينغ  I Ching ….، بل توجد أيضا لدى هيراقليطس، أو فى صوفية ابن عربى….الخ.

 (مقتطف: 6) صفحة 20

“… (إن لهذا التزاوج الأحدث بعدا تاريخيا)(3) ، فمثلا نجد أن المدرسة الميليسية كان لها فى الواقع نكهة صوفية قوية والميليسون كان يطلق عليهم الإغريق اللاحقون اسم “اتباع مذهب حيوية المادة Hylozoists” أو “الذين يعتقدون أن المادة حية”، لأنهم لم يكونوا يرون أى فارق بين الحى والجماد، بين الروح والمادة. فى الحقيقة، لم يكن لديهم أية كلمة تحمل معنى المادة، نظراً لأنهم كانوا يرون كل أشكال الوجود بمثابة تمظهرات “للفيزيس”،  physls محبوة بالحياة والروحانية . لهذا أعلن تالس: “أن كل الأشياء مليئة بالآلهة”(4)….الخ.

 وبعد

هل هى مصادفة يا ترى أن يكون أغلب ملف الإدراك(5) تقريبا قد تناول هذا المنهج الذى يدعمه فيه الآن هذا الكتاب القيم، ثم يليه ملف الوجدان، ثم ملف الإرادة، غير ما ورد فى كثير من النشرات هنا وهناك فى الحديث عن المنهج ونقد العلم باهظ التكلفة حتى تعرية “ضلال العلم”؟ (نشرة 18-3-2014 العلم السلفى المؤسَّسِى الأيديولوجى  الحديث)،  (ونشرة 19-3-2014 تحرير العلم من الأموال القذرة) لا أظن أنها مصادفة، وأفضل أن أرجح أنها من فضل الله علىّ.

وبعد

فقد حاولت أن أشير إلى ما ورد فى هذه الملفات التى بلغت آلاف الصفحات بالإضافة إلى فيض الحوارات استلهاما من مواقف النفرى على مرحلتين: الأولى: “حوار مع الله”، والثانية: “حوار مع مولانا النفرى”، حاولت ذلك فعلا فوجدتها تربو على مائة نشرة تتناول المنهج، والنقد، والحرف، والعلم، والمعرفة، مما يؤكد أن ما وصلنا إليه حالا ونحن نحاول سبر أغوار “ماهية الوعى” كان شاغلى الشاغل طول الوقت دون قصد ظاهر.

ما العمل؟

مجرد أن أذكر العناوين أو أحدد الروابط اعتبره نوعا من التعجيز لمن يريد الملاحقة الأمينة.

يا ترى هل أقوم باجتزاء مقتطفات تكفى لإثبات اقتراب محاولات هذه النشرة فى نفس الاتجاه أم أترك هذه الخطوة لحين النشر الورقى لأواصل موضوعنا عن الطبيعة الحديثة والتصوف مدخلا إلى ماهية الوعى؟

أنا شخصيا أرى أننى سأرجح الاحتمال الأخير

وعلى الله قصد السبيل

[1] – “أدلجة” كلمة منحوتة، استعلمها لتفيد قلب الرأى أو الفكر أو حتى الدين إلى أيديولوجيا”

[2] – ما بين قوسين من عندى إيجازا للمحذوف

[3] – نفس هامش (2)

[4] – ربما يكون ذلك له علاقة بسطح خبرة الحلول عند بعض الفلاسفة

[5] – وقد تجاوز الألف صفحة فى هذه النشرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *