نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 3-5-2015
السنة الثامنة
العدد: 2802
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الإرادة (23)
عن الوعى (1 من ..)
ماهية الوعى
مقدمة
قررت أخيرا أن أنتقل إلى تناول وظيفة الوعى، مع أننى أشعر فى قرارة نفسى أن ملف الإرادة لم يكتمل بعد، ومع ذلك انتقلت مترددا إلى أصعب الصعب “الوعى”، ويبدو أن هذه الإشكالة كانت تشغلنى منذ كتابة مسودة هذا العمل، فقد جاء فى مقدمة فصل الوعى فى مسودة هذا العمل (أكرر: التى كتبت منذ عقود) عن الوعى ما يلى:
إشكالة ما هو “وعى” شديدة التعقيد بكل لغة ومن أى مدخل، وفى اللغة العربية تزيد الإشكالة تعقيدا نظرا لفضفضة استعمال لفظ “الوعى”، (وبالتالى اللاوعي) ولفظ “الشعور” (وبالتالى اللاشعور) محل بعضهما البعض،
وقد وجدت في المسودة الأولى لهذا العمل أننى كنت فى حيرة بالغة منذ البداية أمام تناول الوعى بالمنهج الذى اتبعته، أعنى من واقع الخبرة أساسا، ثم التدعيم النظرى ما أمكن ذلك، وكتبت آنذاك ما نصّه:
“….بدايةًَ لابد أن نعترف أن مفهوم الوعى يمر بمحنة متزايدة من حيث أنه قد لحقه كثير من التسطيح أو التجاهل، من أغلب المشتغلين فى الطب النفسى وعلم النفس، ويجرى ذلك من خلال طرق الإنكار أو الاختزال أو التهميش أو التداخل،ومن ذلك :
1- اعتباره خبرة ذاتية خالصة،
2- اعتباره وظيفة محددة تتعلق “باليقظة” والتعرف على المحيط والوقت ..إلخ
3- تناوله بالتعميم والتنظير والتجريد حتى ينفصل عن البعد البيولوجى الأساسي، بمعنى أن يُتناول باعتباره مسألة تأملية نظرية فكرية، مترادفا بذلك مع عموميات غامضة مثل “النفس”، أو “الشخصية”، أو مختلطا بمسائل أدبية وأخلاقية (الوعى الأخلاقى، الوعى الوطنى..إلخ)
…..
(ثم أضفت أنه:)
…فى عمل سابق حاولت أن أعرّف الوعى باعتباره:
“الوساد الحيوى للحياة العقلية الذى تجد فيه الوظائف النفسية المحددة مستقرا لممارسة نشاطها”
إلا أنه قد بدا لى مؤخرا (آنذاك) أن هذا التعريف إنما يفصِم التركيبة الحيوية المعقدة إلى “شكل” و”أرضية”، الأمر الذى يبدو تبسيطا أكثر من اللازم، ومن ثمَّ وضعتُ تعريفا أحدث وأكثر إحاطة لما هو وعى وهو تعريف يؤكد أن الوعى هو جزء لا يتجزأ من أية وظيفة تدور فى وساده، فجاء التعريف الأحدث يقول:
“إن الوعى هو عملية تشكيل لمنظومة حياتية مُعطاة فى لحظة بذاتها إلى ماهيتها الكلية“
أما علاقة هذا التشكيل بتنظيمات الدماغ، والنفس، وترتيبها فى مستويات ومنظومات كذا وكذا (مثلا: “حالات للأنا” Ego States أو حالات العقل Mental States ) فإن ذلك يتطلب أن نفترض أنه:
إذا استمرت عملية التشكيل هذه لفترة من الزمن (تطوريا أو نمائيا أو خبراتيا) فإنها تصبح قادرة على تنظيم نفسها بنوعية خاصة، لها قوانينها الخاصة التى يمكن أن تتجلى بما يميزها فى الوقت المناسب بين الحين والحين، وتعتبر حينئذ منظومة دماغية، أو “حالة ذات” أوغير ذلك حسب اللغة المستعملة، وبالتالى لا يصح أن يقال إن فلانا “عنده وعى صفته كذا وكيت” ، بل إن الصحيح هو القول إن الشخص هو نفسه وعى متكامل فى مستوى معين من خبرة خاصة.
يقول هنرى إى (1978) فى مثل ذلك مثلا:
أن تكون واعيا هو أن تعيش تفرّدَك الخبراتى حالة تحـوّله إلى معرفتك الجامعة.
وعلى ذلك يمكن القول أن الوعى هو: “عملية” كما أنه “تنظيم كلى” فى نفس الوقت.
وأنه:
خبرة علاقاتية معرفية لحالة “وجود فى العالم” بنوعية معينة متوجهة إلى هدف بذاته (وليس بالضرورة أن يكون هذا الهدف معروفا مسبقا أو معلنا)،
وهكذا يمكن أن نتحدث عن ما يسمى: “مستويات الوعي”، ويشير لفظ “مستوى” هنا إلى كل من “الترتيب الزمني”و”طريقة التنظيم” لكيفية “الوجود” (الخبراتى)، و بالتالى فإنه أثناء التطور (وأيضا معادا أثناء عملية النمو الفردى) فإن الوجود (الوعى) قد تشكل واستقر عبر مراحل التطور بما يفيد التكيف وخدمة أغراض الحياة فى فترة تطورية بذاتها، وهذا التشكل النوعى، الذى تم ويتم، على مراحل: يظل نشطا وجاهزا ومتعاونا أو متعارضا أو متكافللا أومتبادلا مع غيره من مستويات الوعى الأخرى
كما أن أية خبرة واحدة من الخبرات اليومية يمكن أن تتشكل (ويتم التعامل معها ) على أكثر من مستوى فى نفس الوقت.
وعلى هذا فإن التنظيمات الحاضرة (مستويات الوعى) تتفاعل وتتبادل وتتداخل تبعا للبنية السابقة التواجد وكذلك تبعا للمتغيرات المنشطة المحيطة بها
وفى هذه المرحلة من محاولة التنظير الصعب يمكن الاكتفاء بوصف أى مستوى للوعى على أنه:
” تنظيم نيورونى حيوي جاهز للإدراك والتعرف
وأيضا هو جاهز للتجلى والتفعيل،
كما أنه طريقة فى الوجود
لعمل العلاقات وحفز المسار.”
ويتضمن هذا المدخل أن نستبعد (وقد نستنكر) استعمال لفظ شائع هو “الللاوعى، أو اللاشعور”، ذلك أن ما يسمى اللاشعور ليس إلا ”وعى آخر” على مستؤى آخر من الوجود، له قوانينه ووظيفته ونوعية وجود وظروف تجلّيه وبسطه، فتعريفه بالنفى (اللا….) يبدو لى غير علمى وغير موضوعى وغير مفيد
(انتهى المقتطف من المسودة القديمة)
وبعد
منذ كتابة هذه المسودة المحدودة مضت عدة عقود، وصلتنى فيها خبرات جديدة أكثر دقة وتفصيلا من خلال الممارسة، كما تمكنت من متابعة إسهامات أحدث فأحدث، أنارت لى طريقى بعض الشىء، وإن كانت زادتنى حيرة، وفى نفس الوقت زادتنى احتراما للجهد السارى عبر العالم لمحاولة الربط بين منظومات المعرفة المختلفة، وخاصة فى هذه المنطقة التى تقع فى مفترق طرق بين مناهج كثيرة، وثقافات كثيرة، وآراء كثيرة.
حمدت الله أننى لم أستسهل باكرا، ولم أستسلم للتعريف الأول: على أنه “وساد” للعمليات النفسية الأخرى، وفى نفس الوقت تعجبت أننى بعد كل هذه المحاولات لم أصل إلى ما يشفى غليلى، وطبعا غليل القارئ (الذى لم تكن المسودة فى متناوله فى يوم من الأيام)
وحين عدت الآن وجدتنى محاطا بمصادر أرحب، ولكن بحيرة أشد، وكان أهم مصدر هو مواصلة خبرة العلاج الجمعى الذى تعرفت من خلاله على ماهية “وعى الجماعة” Group Consciousness ، ثم الوعى الجمعى Collective Consciousness إلى الوعى بالنوع Species Consciousness إلى الوعى الكونى Cosmic Consciousness إلى ما بعده،
وفى العلاج الفردى (الإشراف أساسا) تبينت أكثر وأكثر مستويات الوعى البينشخصى Interpersonal Consciousness
أما أهم النشاطات العلمية والتنظيرية (وهى التى تناولتها أيضا فى كثير من أعداد هذه النشرة) فهى التى تعاملتْ مع “الوحدة والتعدد فى التركيب البشرى “(نشرة 28/11/2007 “الوحدة والتعدد فى التركيب البشرى) و(نشرة 26-11-2007 “عن القشرة والفطرة والتعدد والواحدية!”) ومع الأحلام (الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع)(1)، ثم موجز وتعقيب على كتاب (عن طبيعة الحلم والإبداع)(2)، العقول: دانيال دينيت، نحو محاولة فهم الوعى: Kinds of Minds: Towards Understanding Consciousness (نشرة 25- 12- 2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى”)، (نشرة 2-1-2008 “أنواع العقول – وإلغاء عقول الآخرين- الطريق إلى فهم الوعى”).
أما كتاب هنرى إى بعنوان: الوعى: دراسة فينومينولوجية للوجود والصيرورة من بعد الوعى
Consciousness: a phenomenological study of being conscious and becoming conscious
فقد فشلت فى الإحاطة به كما ينبغى: لا باللغة الفرنسة، ولا بالترجمة الإنجليزية حتى الآن
ثم فـُتح على فتحٌ آخر أكبر من قدراتى غالبا، لكنه يبدو أنه من أهم الإنجازات الأحدث اللازمة لفهم هذه الوظيفة الأساسية فى التركيب البشرى والكونى، ألا وهو ما تضمنته الدراسات الأحدث فى علم المعرفة العصبى، والنيوروبيولوجيا، وخاصة تلك التى تربط بين منظومات معرفية تنير بعضها بعضا ، فيما يتعلق بتقديم ماهية الوعى من منظور العلوم الكوانيتة Quantum Sciences فيما يسمى الوعى الكوانتى Quantum Consciousness، وعلم النفس الكوانتىQuantum Psychology، والطب النفسى الكوانتىQuantum Psychiatry ، وهذا ما أمل ان اقدم نبذة عنه غدا
[1] – نشرت فى صورتها الأولى فى مجلة فصول- المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985 ص (67 –91) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها فى كتابى (حركية الوجود وتجليات الإبداع)
[2] – يحيى الرخاوى: “عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ” – دار الشروق – سنة 2011.