الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (122) الإدراك (83) وبدأ الحوار الرائع حول “الإدراك” أ.د. صالح الصنيع & أ.د. إدريس الوزانى

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (122) الإدراك (83) وبدأ الحوار الرائع حول “الإدراك” أ.د. صالح الصنيع & أ.د. إدريس الوزانى

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 28-10-2012

السنة السادسة

العدد: 1885

 الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (122)7-9-2011

 الإدراك (83)

وبدأ الحوار الرائع حول “الإدراك”

[أ.د. صالح الصنيع & أ.د. إدريس الوزانى]

تمهيد واعتذار:

الاعتذار هو للذى قرأ أول أمس هذا الحوار نفسه تقريبا فى نشرة بريد الجمعة، وهو – الاعتذار- يتضمن دعوة لإعادة قراءة هذا الكرم الفيض من زميلين عزيزين صادقين مجاهدين، وأنا أنتهز الفرصة أستدرك من خلالها ما فاتنى التعليق عليه، فمثلا لم أعقب على قول الزميل الفاضل أ.د. إدريس الوزانى: “أحيانا نتترس وراء عبارة “العجز عن الإدراك إدراك” وهى العبارة التى جاءتنى من أ.د. كريمة علاق  وهى ترويها عن الإمام على رضى الله عنه، وهنا أتوقف لأعتذر عن خطأ ورد فى البريد فى نقل جملة سيدنا على رضى الله عنه، فعن الزميلة الشاعرة أ.د. كريمة علاق فيما ترويه عن الإمام على أنه قال: “العجز عن درك الإدراك إدراك أيضا“، وليس :العجز عن الإدراك إدراك” وهناك فرق مهم، كلمة واحدة سقطت برغم العنعنة، لكنها لها دلالتها الخاصة (أنظر بعد)

ثم دعونى انتهزها فرصة أيضا لأعرج إلى ثراء التراث وفى نفس الوقت ضعف العنعنة، فحين فرحت بما نقلته إلينا الزميلة أ.د. كريمة  رحت أستشير المراجع الأحدث مرحبا فرحا بفرصة المقارنة فوجدت أن أغلب هذه المصادر تنسب هذا القول إلى الصدّيق أبى بكر رضى الله عنه، وهى تضيف بالحرف الواحد عن سيدنا أبى بكر: وهو كلام ينبئ عن رسوخ صاحبه في العلم وتقلبه في أطوار معرفة الله تعالى”، ففرحت باستعمال تعبير معرفة الله، ومضيت أكثر فقرأت: “وقد قيل في معنى كلامه أن الدَّرك: أقصى قعر الشيء كالبحر ونحوه، وعلى هذا فالمراد بدرك الإدراك: أقصى مراتب الإدراك، وهو إدراكه تعالى بالكن”.

فالمعنى: إن عجز العقول عن دَرك كُنْهِ الواجب تعالى وامتناع حصوله لها: إدراكٌ لها إياه تعالى بعنوان تمايزه بهذا العنوان عن جميع ما سواه، وهو أن يمتنع إدراكُ كنهه، بخلاف ما سواه.

ولعلنا لاحظنا مع من تابع معنا ملف الإدراك، كيف أن الحافز الأهم لتبرير هذا التركيز  على الإدراك متميزا على التفكير والإدراك الحسى، كان الفرض الذى حضرنى يقول: “إن الله سبحانه يدرك بالإدراك ولا يثبت وجوده بالتفكير أصلا”، ولم أكن أعرف آنذاك ما جاءنى حالا من هذا التراث العظيم، وهل لاحظت كيف أن هذا التراث يتكلم ناقدا “العقل” مثلما نفعل الأن، والأرجح عندى أن المقصود بتعبير “إن عجز العقول” إنما يشير إلى هذا العقل الطاغى الظاهر الذى نبهنا نحن إلى ضرورة الحذر من التسليم له وحده، خاصة وأن هذا المقطع من التراث العظيم يختتم بأنه “لا سبيل إلى الوقوف على كنه ذاته وصفاته وأفعاله لغيره”.

للأمانة عثرت أيضا على من ينسب هذا القول إلى الإمام على فى شعر يقول:

العَجْـزُ عَـنْ دَرَكِ الإِدْرَاكِ إدْرَاكُ        وَالبَحْثُ عَنْ سرِّ ذات السرِّ إشْرَاكُ

وفي سَرائرِ هِمَّات الـورى هِمَـمٌ         عن دركها عجزت جـنٌّ وأمـلاك

من كل هذا استطيع أن أخلص إلى خلاصة مؤداها أن التراث هو التراث والمعرفة هى المعرفة ولا يجوز إطلاقا أن نحرم أنفسنا منها حتى لو اختلفنا حول مصدرها أو تفاصيل حروفها ومناسباتها ولو باستعمال مقاييس موضوعية أحدث فأحدث،

 ثم ألا يحق لى الآن أن أكرر احترامى لهذه اللغة العبقرية، وأنها فى ذاتها حضارة بأكملها لوحملنها مسئولية ما يصلنا منها ونحن نحييها فتحيينا؟

وبعد

…. وقد استعمل الزميل د. إدريس ما وصله منى خطأ فى تعقيبه، وجاء فعل “نتترس” جديدا علىّ، ففرحت به، وذهبت أبحث عنه، فإذا: ترُس: تسلَّح وتوقى بالترس، والترس من الأرض الغليظ منها، ولم أفهم كيف نتترس وراء هذه العبارة، فرجعت لذلك الآن، وربطت بين اللعبات العلاجية الكاشفة التى أشرنا إليها مرارا فى نشرات الإدراك بالذات، وقد لعبناها فى العلاج الجمعى وغيره، وذلك مثل لعبة: “يا خبر دانا لمّا ما بافهمشى يمكن…..(أكمل)”، وأيضا لعبة “دا انا لو أقول كلام من غير كلام كنت…(أكمل)، وأشرنا بعد ذلك وقبل ذلك كيف يكون “عدم الفهم هو فهمٌ آخر“، وقد اطمأنئت من كل ذلك كيف أن تجربتنا فى العلاج الجمعى بالذات ومن خلال منهج هذه الألعاب ومثلها جعلتنا نقترب من حدس هؤلاء الاقدمين الأكرم، إذ من المحتمل أنهم كانوا يشيرون إلى أن للإدراك (غير التفكير وغير الفهم ..وغير الإدراك الحسى إلخ) مستويات متصاعدة، أى أن وراء كل إدراك إدراك أعمق وهكذا، وعندنا فى العلاج: يتخلق “الوعى الجمعى” بتصعيد متدرج عبر كل قنوات التواصل!! رأى العين، أى والله، ويصّاعد “إليه” لا محالة، فنشفى والمرضى كذلك.

هذا بعض ما لم أشر إليه فى بريد الجمعة، فما ذا كنت تقصد يا ترى يا د. إدريس بقولك “أحيانا نتترس وراء هذه العبارة”، نتترس يا ترى عاجزين عن فهم ما تشير إليه؟ أم نتترس رافضين إياها؟ أم نتترس ونحن نختزلها إلى اقرب واحد صحيح مما نعرف؟

وهكذا فتح الله علينا بهذا المحيط المعرفى المسمى الإدراك، فإذا بنا نكتشف أننا، ربما مثل أجدادنا، أوْلى الناس به، ربما أولى من الفلاسفة وعلماء النفس، وأقصد بـ “أننا”: نحن  ممارسى العلاج بصفة عامة، ومعايشى (ومعالجى) الجنون بصفة خاصة، وهذا ما كنت أقصده حين كنت أؤكد ضرورة “البدء من الممارسة”، على الأقل بالنسبة لنا، باعتبارها مصدر جوهرى للمعرفة، لا ينبغى أن يوصى عليها من أى فوقية قبل أن تصلنا بما هى، وهذا ما استشعرته – ضمنا- من تعقيب الصديق الشاعر الزميل أ.د.  صادق السامرائى، وهو يستشهد بخبرة شخصية، ثم حالات عيادية واقعية، ثم مقتطفات مناسبة، يرسل ذلك فى تعقيب ذكى شديد الثراء، لم يصلنى إلا أمس برغم أنه مؤرخ بتاريخ 12 أكتوبر، 2012  وهو التعقيب الذى سوف أعود إليه غدا غالبا بإذن الله، حيث أنه ملئ بالإبداع والصدق والإضافة.

الحمد لله

والآن إلى نشرة اليوم، مرة أخرى، وأكرر أنها هى التى سبق نشر نصها فى بريد الجمعة أول أمس  وبها أخطاء مخلة، فأتيحت الفرصة لتصحيح بسيط وإضافات محدودة ببنط آخر،

 نبدأ برسالة الزميل الفاضل:

د. إدريس الوزانى

بسم الله الرحمن الرحيم و صلى اللهم على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم

هناك شيء ما بداخلنا يمنعنا من الاقتحام، يخيفنا ويعطل طاقات هائلة توجد بداخلنا، تصل أحيانا لدرجة التوهم أو الوهم بأننا لا نملك وسائل التحدي أمام هذه الإشكاليات المطروحة، وحين نطالع تحليل أستاذنا ووالدنا الرخاوى نحس بألم مضاعف، ألم عدم انتهاز هذه الفرصة اليتيمة و الفريدة في تاريخ أمتنا حيث يسخر الأستاذ وقته و جهده وكل إمكانياته ودرره، والألم المترتب عن عدم الاقتحام والسير في ركاب هذه المسيرة المباركة ما دام الأستاذ فاتحا صدره لكل الآراء،أحيانا نتترس وراء عبارة:\”العجز عن الإدراك إدراك\”، ما أتمناه أن يرزقنا الله الشجاعة الكافية للعودة للحوار، وعلى الله قصد السبيل.

د. يحيى:

كل عام وانت يا د. إدريس المجتهد المجاهد، والجميع بخير، يعم الناس ما سعوْا إليه

توقفت عند كلمات بذاتها وردت فى رسالتك الأخيرة هذه مثل: “الاقتحام” و”التحدى” و”الشجاعة الكافية”، فقد ارتبطت عندى هذه الكلمات بالإبداع بشكل ما، إذ أنها تتفق مع نظريتى أو نظرتى فى علاقة “غريزة العدوان” به وتوظيفها إيجابيا فى إنجاز مرحلة التفكيك على الأقل، (“عن‏ ‏الإبداع‏ ‏والعدوان‏” مجلة فصول)، إن ما نحتاج إليه أيها الابن الغالى والزميل العزيز هو منهج شجاع فعلا، وهذا لن يتأتى إلا بمسئولية معرفية مضاعفة تسمح لنا أن نكتسب من كلّ من الموقف النقدى والإبداع العملى: ما نخلّق به أدوات ومناهج أرسخ وأقوى نفهم بها مفردات حياتنا، ونحن نعيشها ونعيد تشكيلها، فى الصحة والمرض.

علينا باستعمال حفز كلماتك السابقة أن نحذق استخدام كل معطيات وأدوات العلوم الأحدث فالأحدث وخاصة العلوم الكموية Quantum Sciences  (الرياضة والطبيعة) فى تقييم المناهج الأقدم الراسخة على عقولنا، الموصى عليها بسلطات تجمدت، وقد حاولتُ أن أوصل لك وللزملاء بعض ذلك فى النشرات الأخيرة فى “ملف الإدراك” ولكننى تجنبت التفاصيل حتى لا أستدرج إلى معارك جانبية قبل الأوان.

 أنت تعرف يا د. إدريس النقلات التى حدثت، وتحدث حاليا عبر العالم فى مجالات متعددة مثلما حدثت النقلة من “الرياضة الإقليدية” إلى ما بعدها حتى أينشتاين ومن بعده، كما تعلم النقلات من “علم النفس” إلى “العلم المعرفى” (وليس العلاج المعرفى) إلى “علم الإدراك”، وتعرف النقلات من استعمال اللغة الفلسفية إلى معايشة الفلسفة كائنا حيا، نحن نحتاج أن نواكب كل ذلك ومثله ونحن نفحص التراث دون وصاية من خارج الممارسة، ومن خارج إدراكاتنا وفكرنا جميعا، الحاجة هى إلى تحديث عمليات المعرفة أكثر من الحاجة إلى فحص محتوى أو مضمون ما يصلنا من معلومات، بما فى ذلك التراث فرحين بما فيه من دعوة إلى السكينة الطيبة والأخلاق الحميدة وكأنها غاية المراد لتحقيق ما يسمى الصحة النفسية.

 هل يجوز يا د. إدريس أن نقرأ مريضنا، وعلومنا، وآدابنا، فنحيط بكل خلفيات ومناهج هذه المعرفة ماثلة فى عمق وعينا، فإذا جئنا لقراءة التراث، ننحى وعينا وعقولنا التى قرأنا بها كل ذلك، ونستعير عقل غيرنا من ثقات مجتهدين استوعبوا مشكورين مناهج ومعارف زمانهم، لكنهم توقفوا عندما توقفت لغة معاجمهم؟ فإذا لقينا ربنا سبحانه وتعالى فبماذا سوف نعتذر له أننا اتبعناهم مهملين نعمته على حدسنا ووجداننا، وعقولنا، ووعينا جميعا؟ هذا تماما يا د.إدريس ما دعانى للحذر من حماس الزملاء الطيبين حيث خشيت التركيز على إحياء التراث بما هو كما هو تحت سقف لا أعرف من وضعه؟ متى؟ إلى متى؟، فاعتذرت لنركز على المعرفة الأقدر على الإنارة ونحن نكدح إلى ربنا كدحا لنلاقيه.

خذ مثلا ضرورة المراجعة الموضوعية لمحكات علم “الجرح والتعديل” فهل يا ترى من الأمانة بعد أن وصَلَنَا ما وصَلَنَا من معارف ومناهج أن تظل هذه المحكات هى هى نفس المحكات، برغم كل ما وصلنا مما هو أقدر وأرحب؟، أم أن علينا أمام الله وضمائرنا ونحن نستعمل كلماتك الشجاعة (الاقتحام والتحدى) أن نعيد النظر فى هذه المحكات بأدواتنا الأحدث ومحكات العلم الأدق، كل ذلك ونحن نحترم أهل هذا العلم احتراما واجبا شاكرين لهم كل جهودهم، ربما تساعدنا الأدوات والمناهج الأحدث على تنقية تراثنا الرائع، ونحن نستلهمه بكل الإنجازات الأحدث فى علوم الذاكرة البشرية، وعلوم الحاسوب، وعلوم الشواش والتركيبية   Chaos & Complexity، وبمساعدة المعرفة الإدراكية (المسماة أحيانا الصوفية)، وكذلك باستعمال تقنيات اختراقات النقد الأدبى الحديث واضعين فى الاعتبار ما يتعرض له “علم التاريخ” كله من نقد يثريه ولا يشجبه؟ كل هذا يا دكتور إدريس لا يرتبط إطلاقا بما يسمى “التفسير العلمى للتراث” وإنما هو متعلق بالتعامل مع اللغة ككائن حى، ومع المعاجم كمرحلة تاريخية، ومع التراث كمصدر استلهام لا غنى عنه. بغير هذا يا د. إدريس أجد نفسى عاجزا عن المشاركة فى نقاش المحتوى دون أو قبل فحص المنهج الذى أتى لنا بهذا المضمون المهم، وقد اعتذرت مرحليا حتى لا أجد نفسى فى موقف دفاعى أمام من قد يحشروننى مع هذا الفريق أو ذاك مع أننى لا أنتمى إلا للأمانة التى أحملها وأشهد ربى عليها، اعتذرت يا أدريس يا إبنى حتى لا أستدرج إلى الرد على هجوم بدفاع مؤيد بالألفاظ والأحكام فتختنق مسام المعرفة وتخفت أنوار الممارسة ويضيع الوقت الأمانة، وسوف يحاسبنا الله على كل ذلك.

علينا يا دكتور إدريس أن نستعمل هذه الصفات الواردة فى خطابك لتحديد ضرورة “الحرف” كما أشرت إليها فى رسالة سابقة مفتاحا للموقف” من خلال كل المعارف، فنحن نملك عقولا خلقنا الله بها، وهى التى سيحاسبنا على حسن استعمالها جميعها، هى هى فى كل المجالات، وإلا فنحن نكيل بمكيالين، وقانا الله أن نكون من المطففين، فى التفكير، وفى البحث، وفى الفهم، وفى العلم، وفى الدين، وفى الإدراك جميعا، علينا أن نستعمل عقولنا جميعها حتى لا يكون “الحرف” فى ذاته قيدا على الحركة وخانقا للإبداع (الأمر الذى سوف أعود لمناقشته معك غالبا فيما يتعلق ببعض مواقف مولانا النفرى).

أكتفى اليوم … بهذا التلميح، مع إشارة أخيرة تعلن تحفظى على تعبيرك عدم “انتهاز هذه الفرصة اليتمة والفريدة”، فموقفى من ذلك أن الفرص دائما موجودة ومتجددة فى رحم الغيب بفضل الله مادامت الحياة قائمة، وربنا قريب يجيب دعوة الداعى، ويلهم المجتهد ويرى السعى، ويصاحب الكدح، إذن فلا توجد أية فرصة على وجه الأرض يتيمة أو فريدة، وبارك الله فى الجميع.

 وإلى لقاء قريب أرجو أن تغفر لى تقصيرى فى التأخر فى الرد على بقية استفساراتك مرحليا،

ثم دعنا ننتقل إلى رسالة الزميل الفاضل:

أ.د. صالح الصنيع

جولة البرفيسور يحي الرخاوي الفكرية والعميقة فيها دروس وعبر، أتفق معه في كثير مما كتبه واختلف معه في بعض مما كتبه ولعلي أذكر اهم الاختلافات

أولاً: السلفية التي ذكرها أحسن بتقسيمها إلى قسمين منغلق ومنفتح لأنها تشملهما وأكثر، والسلفية منهج قائد إذا احسن الأخذ به وفق رؤية صحيحة وسطية

د. يحيى:

أشكرك أولا على جدية اهتمامك، ومساحة سماحك، ثم أحمد الله أن وصلك احترامى للسلفية من حيث المبدأ ، مع تحذيرى من الانغلاق والجمود، كل ما أدعو إليه هو ألا يكون هناك سقف وصى على كلام الله، ولا على اجتهاداتنا وأن يظل القرآن الكريم، وأعمال السلف الصالح مصادر إلهام متجدد يتفجر مضيئا تحت أنوار المستحدث من المعارف، لا ليثبتها ولا لتثبته – أستغفر الله – كما شاع، وأن نتعامل مع اللغة ككائن حى، وألا نتوقف عند أسباب التنزيل وظروف التاريخ ليتواصل الإيحاء فالاستلهام متجددا أبدا، وأن نحترم عقولنا (كلها) الآن ، كما نحترم اجتهاد السلف وعقولهم آنذاك، وندعو لنا ولهم بالرحمة والمغفرة دون توقف

أما حكاية وفق رؤية “صحيحة وسطية”، فهذا ما يحتاج منى إلى توضيح، أظن أننى أشرت إليه فى نشرة : 22-10- 2012 (توضيح موقف: أملا فى قبول اعتذارى)، فأنا لا أفخر بدينى أنه دين وسطى، ولا حتى أنه دين العقل، فهو كما ذكرت دين كل عقولى، عقولنا، ثم إننا كما ذكرت أيضا “أمة وسطا” ليس بمعنى التوسط وإنما بمعنى الشهادة: لنكون شهداء على الناس، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم علينا شهيدا، وقد كتبت ما وصلنى فى معنى الشهادة بتاريخ 22-10-2012 (توضيح موقف: أملا فى قبول اعتذارى)، إذن فأنا لا أستسلم بسهولة لما يسمى “رؤية وسطية صحيحة”، ولا لما قرروا أنه جاء بالضرورة، لأن الله سبحانه وتعالى سوف يحاسبنى إذا أنا اتبعت من قال بذلك دون إعمال نظر، بعد أن أتاح لى سبحانه فرص هذه المعارف كلها من واقع الممارسة قبل الإطلاع ومعه، ولن يسمح لى ربى بفرصة أن أتبرأ ممن اتبعتُ حين يتبرأون منى كما نبهنى – نبهنا – سبحانه وتعالى.

أ.د. صالح الصنيع

ثانيـاً: ذكر البرفيسور أنه لا يرى فائدة المسلمات المسبقة لأنها تحد من التفكير الابداعي وهنا أختلف معه لأنه لا يمكن أن يكون هناك علم وحوار وفكر بدون مسلمات يبنى عليها ويأخذ بها المتحاورون ابتداءً، حتى لا يدوروا في حلقة مفرغة ويتجادولون في قضايا مفصلية ينطلق منها في كل علم

د. يحيى:

لا أكاد أذكر هذا النص بالذات، فإن كان ورد فلا بد أنه ورد فى سياق يفسره، ربما تحفظت على لفظ “مسلمات”، إذا ما أدخل تحتها ما جاء “بالضرورة”، ليحتل كل مساحات اجتهادات الاستلهام، والإدراك، والكدح ، والسعى،  وأنا أوافقك تماما يا د. صالح أن أى علم وحوار لا يبدأ من أصل الأصل يصبح بلا جذور، ومن ثم فلا حياة للساق ولا للفروع، أما ماذا فى هذا الأصل نسلم به دون تفكير فيه، ودون إدراك ما حوله، وما يوحى به، ودون اقتحامه بالمناهج الأحدث لإثرائه ليزدهر بما ينفع الناس ويمكث فى الأرض، فهذا ما أدعو إلى ضرورة إعادة النظر فى السقف الذى وضعوه لنا،  لأن الله سبحانه سوف يحاسبنا واحدا واحدا على التسليم للانحناء تحته، “وكلهم آتيه يوم القيامة فردا”.

ثم أذكّر أخى وزميلى الفاضل د. صالح بحذرى وتحفظى على مبدأ الحوار دون ممارسة عملية على أرض الواقع، فأنا لست مفكرا مكتبيا فى المقام الأول، والمسألة بالنسبة لى ليست “إثبت لى” و”أثبت لك” بالألفاظ، وهذا هو ما يسمى عادة حوارا، فأنا محاور خائب، كل ما أزعمه هو أننى مجتهد عارٍ أمام فطرة الله المتناثرة أمامى فى أزمة المرض، كما اعتبر نفسى قارئا ناقدا لفطرة الناس ونفسى كما تصلنى فى حدود أدوات معارفى، أما المتحاورون من واقع كلمات منشورة، ونظريات ثابتة، فهم على عينى ورأسى، مع اعتذارى لعجزى عن ملاحقتهم، ورجائى بأن يسمحوا لى أن أقرأ اجتهاداتهم فى إطار قدرتى ومعارفى بعين النقد الذى سأجيب به ربى عن ما وصلنى، وهو الأعلم باجتهادى وقدراتى، دون أن أفر ضه على أحد إلا فى حدود ما يقوم به من تصله كلماتى من نقد لما نقدت، كما فعلت أنت يا سيدى الآن.

أ.د. صالح الصنيع

ثالثـاً: التطور في ما يطرحه البرفيسور عام غير محدد الملامح فهناك التطور الدارونى، وهناك تطور الحياة في مسيرتها الكونية، وهناك تطور أنماط حياة الناس الدنيوية المادية، ولهذا لم يتبين لي على حسب فهمي القليل ، مفهوم التطور عند البرفيسور الرخاوي

د. يحيى:

أنا أنتمى إلى كل الفكر التطورى دون استثناء، من أول “السلالة” التى ذكرت فى القرآن الكريم قبل الطين، حتى “أنواع العقول” التى نشرت عنها نبذة عن كتاب بنفس الاسم لدانيال دينيث بتاريخ 2/1/2008 (أنواع العقول  “وإلغاء عقول الآخرين” الطريق إلى فهم الوعى)، وهو من بين الذين أحيوا الداروينية بعد أن شبعت نقدا وشجبا، وهو ينتمى جزئيا إلى الداروينية الحديثة، ومازال انتمائى للتطور غير مستبعد “لامارك” طبعا مضافا إليه دورات الإيقاع الحيوى، مرورا بالقانون الحيوى أى نظرية الاستعادة لإرنست هيكل  Recapitulation Theory، (الانتوجينيا تكرر الفيلوجينيا)، وقد قمت بتزويجها لنظريات “العلاقة بالموضوع”  بعد تطعيمها بالبعد البيولوجى وذلك فى نظريتى “الإيقاعية التطورية”Evolutionary Rhythmic Theory التى سمحت لى أن أفترض تكرار الاستعادة (الميكروجينى ثم الماكروجينى: نبضات النمو) فى نبضات الإيقاع الحيوى  Biorhythm بالطول والعرض فى النمو والطبيعة والحياة الممتدة إلى كل الآفاق على طول المدى، كل ذلك مدعوما بالفكر الفلسفى التطورى من أمثال فكر “هربرت سبنسر” بالذات، وهذا كله موجود طول الوقت فى كل ما أكتب تقريبا، ولا أستطيع أن أشير إليه الآن بروابط، وإلا أشرت إلى تاريخى كله  

أ.د. صالح الصنيع

رابعـا: يغلب على لغة البرفيسور الجانب الفلسفي العالي مما يصعب على الكثير وأنا واحد منهم متابعة تسلسل الأفكار والوصول إلى المراد بشكل ييسير

د. يحيى:

بصراحة: عندك يا سيدى كل الحق، لكنك أتحت لى فرصة أن أنفى عن نفسى صفتين لم أستحق بعد شرف الاتصاف بأى منهما، وهما صفة الفيلسوف، وصفة الصوفى، فلا أنا هذا ولا ذاك، فأنا بيولوجى حتى النخاع، ولكن ليس بالمعنى الاختزالى الميكنى الكيميائى، وإنما بالمعنى التطورى الحيوى الإيقاعى، وكل ما يصل منى إلى المتلقى ويبدو غامضا فيعتبره أقرب إلى الفلسفة هو بسبب الأبجدية التطورية الخاصة التى أستعملها معظم الوقت، أما عن التصوف، فهو عندى طريق معرفة للسالكين فيه مثل كل طرق المعرفة وليس لى فيه، بالمعنى المعروف الشائع، ناقة ولا جمل كما يقولون، لكننى أتعلم منه، وأحترم عطاءه المعرفى، خاصة وأنه يجرى فى منطقة الإدراك الواسعة التى فتحت على مصراعيها فى النشرة اليومية “الإنسان والتطور” فى الشهور الأخيرة.

إذن دعنى يا زميلى العزيز أعتذرعن الغموض، وأبلغك أنك قادر بفضل إبداع تلقيك على تيسير العسير مما لم أستطع إيضاحه، فالمتلقى مشارك مبدع رضى أو لم يرض، حتى بعدم الفهم (ولا أحيلك إلى مقولة: “أن عدم الفهم هو فهم آخر” نشرة 14-8-2012 (الإدراك بين “الفهم” و”عدم الفهم”)، ولا حتى إلى قول سيدنا أبى بكر (أو على) رضى الله عنهما أن “العجز عن درك الإدراك هو إدراك أيضا” الذى بدأنا به هذه النشرة اليوم، فأزيد الأمور غموضا،

أشكرك مرة أخرى، وكل عام وأنت وكل من أتاح لنا هذه الفرصة، وعلى رأسهم الأخ والإبن والزميل أ.د. جمال التركى، بخير، بمناسبة عيد الأضحى المبارك، أعاده الله على البشرية بما ينقذها مما تنحدر إليه بغباء وخبث وافتراس السفهاء منا.

أ.د. صالح الصنيع

خامسـاً: يذكر البرفيسور بندرة شواهد الوحي لما يطرقه من قضايا فلعله يزيد من هذه الشواهد ويسعى لتجليه معانيها وترابطها مع الموضوع النفسي

د. يحيى:

أنا آسف، فأنا لم أفهم ما تقصد (أو ما كنتُ أقصد) بتعبير “ندرة شواهد الوحى” لما أطرقه من قضايا، وسوف أعود إلى الأصل، برجاء إرسال المقتطف نصا إذا أمكن مع تكرار شكرى واعتذارى

أ.د. صالح الصنيع

ختاماً أشكر للبرفيسور يحي الرخاوي سعه صدره وتقبله من طلابه من أمثالي ووفق الله الجميع لما يحب ويرضى

د. يحيى:

أنا الذى أشكرك فقد آنستنى، وطمأتنى، وطيبت خاطرى، وتحملتنى، وشجعتنى، وكل عام – مرة أخرى- وأنت ود. جمال ود.إدريس، ود. صادق، ود. كريمة والجميع فعلاً بخير عميم.

وغدا نلتقى مع تعقيب أ.د. صادق السامرائى الذى وصله ما أريد أفضل مما لو كنت قلته، فإذا به يزيدنى طمأنينة وأملا، وشعرا

وإلى الغد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *