الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأربعاء الحر: الفصل السابع من كتاب : دليل الطالب الذكى: “عن الطاقة والحياة”

الأربعاء الحر: الفصل السابع من كتاب : دليل الطالب الذكى: “عن الطاقة والحياة”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء:  15-1-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4519

 الأربعاء الحر

الفصل السابع (1)

من كتاب : دليل الطالب الذكى:

عن الطاقة والحياة

الطالب: والآن حدثنى ما هى القوة التى تدفع المخ لعمل كل هذه الوظائف.

المعلم: تذكر أننا قسمنا وظائف المخ إلى وظائف ترابطية وأخرى دوافعية وثالثة وسادية.

الطالب: أبدا، لا أذكر.

المعلم: ولو….، أذكّرك، ربما لم أؤكد لك على ذلك لأننى حاولت منذ البداية وحتى الآن أن أوصّل حتمية تداخل الوظائف عموما: إن كل ما شرحنا حتى الآن من أول الإدراك حتى الإبداع كان يقوم على فكرة الترابط، بشكل أو بآخر: فالإدراك ربط يبن أثر قديم وبين تعرف حديث حتى دون أن يمر على الحواس، والتفكير ربط بين معلومة ومعلومة لحل مشكلة، ثم سوف نشير كيف أن الإبداع هو ربط بين أجزاء قديمة لخلق جديد، وحتى الاحلام هى ربط من نوع خاص.

الطالب: ولكن ما أذكره أننا أسمينا كل هذا بما فى ذلك التعلم والذاكرة “وظائف معرفية”.

المعلم: ولم لا، الوظائف المعرفية ترابطية بالضرورة.

الطالب: وحتى الأحلام ؟.. وظيفة معرفية؟

المعلم: وحتى الأحلام، ألم نقل إنها تنظيم تكاملىّ لما حدث من معرفة أثناء اليقظة، جنبا إلى جنب مع ما ترك من معلومات لم يكتمل تمثـِّـلها تماما

الطالب: لو سمعك أحد أهل بلدتنا تتكلم عن الربط والتربيط بهذا الحماس والتقدير لا نزعج، فللربط معنى خاص عندنا فى الريف.

 المعلم: أعرفه وأحذرك من هذه البداية الساخرة، لندع الربط والترابط وكفى عليه هذا، ولنتكلم فى وظائف أخرى للمخ أو للأمخاخ.

الطالب: تقول أمخاخ؟ وهل لنا أكثر من مخ.

المعلم: ألا تتذكر بداياتنا؟ ثم دعنا لا نفتح هذا الملف الآن فهو بالغ الاتساع وخلنا فى المخ الذى نعرفه أولا، ربما نلم ببعض ابعاده.

الطالب: بصراحة أنت تلوّح لى بما لا أعرف، فأود لو عرفته ثم تتوقف، فأعجز عن أن أتحرك بعيدا عن تصورى الأول.

المعلم: ومن أين لك تصورك هذا يا بطل؟

الطالب: من تشريح الجهاز العصبى وحتى الفسيولوجيا العصبية التى أخذناها، لم أعثر فيها إلا على مخ واحد.

المعلم: بصراحة معك حق ولكن أحذرك من فرط التعميم فلكل جهاز خاصيته،

الطالب: وما هى خصائص المخ البشرى المقررة علينا حتى أنجح إذا عددتها فى الامتحان.

المعلم: بصراحة أنا أشفق عليك أن أذكر لك ولو بعض الحقائق عن كل ذلك، فدعنا نقصر حديثنا عن المخ كما شاع استعماله منفردا، دعنا ننظر فى هذا المخ وطاقته، وحركيته ونشاطاته، فمن ناحية هى ليست طاقة مثل الكهرباء أو الغاز وما شابه، ومن ناحية أخرى هى لا يمكن مجرد تخيلها،

الطالب: ولكننى أريد أن أعرفها

المعلم: أنا نفسى عجزت عن استيعابها بكل ما أملك من خيال وما أطرح من فروض.

الطالب: وهل تريد منى أنا أن استوعبها، رجعت فى كلامى.

المعلم: يا أخى لاتتسرع، أنا لا أعنى تعجيزك، أنا اعترف أمامك بالصعوبة، لتحترم حدودى، فأنا لا أفعل إلا أن أنقل لك بعض المعلومات الجزئية التى تعلن أنك – وأنا معك – جاهلان (على أحسن الفروض) وبالتالى ننتبه إلى عدم الإسراع برفض ما لا نعرف.

الطالب: إنك تحيرنى، تقول لى معلومات فى منتهى الدقة، ثم تتصنع الجهل وتساوى نفسك بى، لتسحبنى إلى حيث تريد.

المعلم: لماذا لا تصدق أن الجهل هو بداية العلم، وأن اليقظة واحترام كل معلومة مهما ضؤلت هى بداية الطريق؟

الطالب:بدايته؟ نهايته؟ قل لى كيف تعمل العواطف الإنسانية الأعلى مثلا؟ هل هى أيضا ترابطات وتباديل وتوافيق فى المخ، ومن أين لها بالطاقة اللازمة لكل ذلك

المعلم: تصوريا ابنى أن هذه منطقه من أصعب ما يمكن مع أنها من أهم ما ينبغى أن نعرفه، مسألة الطاقة هذه تفتح لنا باب الحديث عن الدوافع والعواطف.

الطالب: وهل هذا هو ضمن ما يمكن أن نصل إليه من هذا الحوار؟

المعلم: إن طبيعة ومواصفات ما يسمى “الطاقة” هى من أصعب المناطق، ولعل هذا يفسر أن هناك من أنكروا وجودها أصلا، كما ألمحنا.

الطالب: أنكروا ماذا؟ أنكروا وجود العواطف مثلا

المعلم: إنهم قريبون من اولئك الذين أنكروا الغرائز أولا وبحدة وصلت إلى التعصب ضدها، وذلك لحساب العوامل البيئية والاجتماعية، وهكذا انتقل الاهتمام الى الدوافع المكتسبة، وقد تمادى الأمر إلى إنكار الانفعال والعواطف بالنفى الصريح أو بالإهمال المقصود من كثير من العلماء.

الطالب: هل هذا عمى؟ أم قسوة؟ أم هرب؟.

المعلم: المسألة ليست مسألة قسوة أو رحمة، ولكنها مسألة الافتقار إلى لغة قادرة وأبجدية علمية كافيه للإحاطة بهذه الوظائف الكلية المشتمله، وقد رأيت معى كيف اجتهدنا ونحن نحاول أن نشرح التعليم ونفسر النسيان ونفهم التفكير، أما بالنسبة للعواطف والانفعال فيبدو أن الحديث عنهما يتطلب لهجة شاعرية بعض الشئ، والعلم لا يقر هذه اللهجة بصفة عامة.

الطالب: وهل لا يكون العلم علما إلا بأن يصاغ بكلام جاف

المعلم: أنا أحكى لك وجهة نظر لها مبرراتها، ولكن قبل ذلك هل تتصور أن فرويد بجلالة قدره لم يضع نظرية فى الانفعال، بل لقد ذكره فى مجال الانشفاق Dissociation ما يوحى أن الانفعال كان أقرب إلى اللاسواء عنده.

الطالب: الله!الله!!، ما هذا؟ فليصدر العلماء فرمانا بمنع الحزن وشجب الفرح وحظر الحب والكره إذا اشترطوا أن تكون الصحة العقلية خالية من كل ذلك.

المعلم: لماذا تبالغ فى الاعتراض قبل أن تسمع؟ إننا فى أخطر منطقة فى فهم النفس فانتظر حتى نرى، ثم أطلق لسخريتك العنان.

الطالب: صدقنى إنى شديد الشوق لمعرفة حكاية العواطف والانفعال والدوافع لأسباب خاصة.

المعلم: أنا لا أود أن أعرف أسبابك الخاصة وإن كنت احترمها، فدعنى أوصّل لك ما أعرف أو ما ينبغى أن تعرف: وهيا نترك طبيعتها الفسيولوجية جانبا لنعرف أبعادها ووظيفتها أولا.

الطالب: لا ياعم، لقد بدأنا بالمخ ثم قبل ذلك تعريف النفس، وليس عندى ما يبرر ألا أبدا فى كل وظيفة من نفس المنطلق.

المعلم: ماذا أقول لك؟ هل تقبل اجتهادى؟

الطالب: وهل هى جاءت على اجتهادك فى هذه النقطة فقط حتى تستأذننى؟ ألست تجتهد منذ البداية؟ بل تريدنى أنا أيضا أن أجتهد؟ هاتها ولا يهمك.

المعلم: تعالَ نمسكها واحدة واحدة:

1- القوة الدافعية هى تراكيب تنظيمية أيضا فى المخ، (ممتدة إلى كل الجسد كما اتفقنا) (2) ولكن يبدو أنها ليست ارتباطات خطية بسيطة، بل هى ترابطات دوائرية غائرة متداخلة مشتملة.

الطالب: يعنى مثل التى تحدثنا عنها حين تطرق الحديث إلى المخ المتنحى؟

المعلم: تقريبا.

الطالب: يعنى العواطف والدوافع فى المخ المتنحى؟

المعلم: ليس تماما، ثم يا أخى لاتتعجل، لقد وعدتنى بحسن الاستماع حتى أنتهى من اجتهادى.

الطالب: أنا آسف، أكملِ أكملِ

المعلم:

 2- فهى تركيبات كلية بشكل مبدئى، وكل “تركيب مترابط” يمثل مستوى  من الانفعال، فالتركيب يكون بدائيا كلما كان هذا الكل التنظيمى شاملا لعدد أقل من النيورونات والدوائر، وكان أقدم عمراً (فى المخ الأقدم) وكان أقرب إلى الإنفعال الفج وإلى الدوافع العضوية، وكذلك كان ظهوره أقرب إلى النشاط التفاعلى، والعكس صحيح، أى إنه إذا كان التركيب التنظيمى شاملا لعدد أكبر فأكبر من النيورونات والدوائر، وكلما كان أحدث عمراً (فى المخ الأقل قدما وهكذا) كان أقرب إلى ما نسميه العواطف Feeling أو الدوافع الأرقى، وكذلك كان ظهور هذا التنظيمات أشمل لكل من الفعل والتفاعل، أى الدفع التلقائى والاستجابة معا إذا كان كل ذلك فهو تنظيم أحدث وأرقى وأشمل.

3- كلما انفصلت تنظيمات الدوافع والانفعالات الترابطية عن بقية الوظائف الترابطية الأخرى، كانت الظاهرة الدوافعية مستقلة (بدائية نوعا ما)، والعكس صحيح: أى أنه كلما ارتبطت بالوظائف الترابطية الأخرى مثل التفكير والتعلم والإرادة كانت أقل استحقاقا للتناول بصفتها وظائف مستقلة.

الطالب: لا .. لا…عندك، أكاد لا أستطيع تتبعك.

المعلم: أعلم ذلك، ولكنها مبادئ عامة تحل مشكلة تصور الطاقة تصورا خرافيا أو مجرداً.

الطالب: تريد أن تقول أن الطاقة التى تتحدث عنها هى نوع من الترابط الكلى التنظيمى.

المعلم: ولكن أضف لو سمحت أنها: فى حالة توظيف نـَـشـِـطْ.

الطالب: وما الذى يجعلها فى حالة توظيف نشط؟ ألا يحتاج هذا التوظيف فى ذاته إلى طاقة.

المعلم: لماذا لا تتصور معى  يا ابنى أن التنظيم فى ذاته يحرك بعضه بعضا فيولد الطاقة (3) متى ما سارت ترابطاته فى اتجاه بذاته.

الطالب: والله حيرتنى، التنظيم ذاته؟ فى اتجاه بذاته؟ أليس عندك شئ أسهل.

المعلم: أسهل مثل معاملة الوظائف النفسية وكأنها تصدر من موضع محدد “بذاته” مثلما يبسطها العاجزون عن التصور الكلى والدوائرى، فيحددون موقعا بالسنتيمتر فى مكان جغرافىّ لبعض العواطف بذاتها؟ هل هذا ما تريده؟

الطالب: لعل معهم حق، هذا يسهل لنا الحفظ.

المعلم: يجوز أن معهم حق ولكنهم ليسوا مع الحق، فالحفظ ليس هدفا فى ذاته

الطالب: إذن فأين الحق، إنى أود منك أن تحدثنى عن هذه الطاقة حديثا أوضح حتى ولو كررت ما قلت بلغة أخرى فالتكرار يعلم الشطار.

المعلم: لقد حـَـيـَّـرَتنى هذه المسألة كثيرا كثيرا، ففكرى كله مبنى على افتراض طاقة أو قوة ما فى الكيان الحيوى إذا ما أحسن تنظيمها وتوجيهها، تكامل الوجود البشرى وانتقل إلى آفاق التطور بلا توقف، وإذا أعيقت ظهرت المضاعفات، وأجهض النمو، وتشتت الجهد، وأعلن المرض.

الطالب: كلام جميل، فماذا حيرك فى ذلك؟

المعلم: حيرنى أن مفهوم هذه “القوة” الـ.. “ما” غير واضح فى ذهنى، ولا أستطيع أن أترجمه إلى تصور تشريحى، أو حتى فسيولوجى يسير مع تركيب المخ، ولا مع فكرة الترابط التى سهلت لنا فهم التفكير مثلا.

الطالب: إنك تـُغـَلـّب نفسك، ودعنى أساعدك ولو خرَّفت، يخيل إلىّ بالمنطق السليم أن الحياة ذات نفسها طاقة دون مفهوم تشريحى أو فسيولوجى، وحتى الذرة غير الحية فيها كل هذه الطاقة الذرية دون تشريح أو فسيولوجيا، هذه بديهيات أليس كذلك؟.

المعلم: أى والله، ربنا يفتح عليك، يبدو وأن هناك من البديهيات ما لا يحتاج إلى إثبات، ولكن هذا لا يمنع أن نبحث عن أقرب تصور لمفهوم الطاقة ومفهوم الغرائز و……

الطالب: (مقاطعا): ما للغرائز وما للطاقة.

المعلم: يا إبنى وهل الغرائز إلا طاقة نوعية موروثة متوجهة نحو إشباع بذاته

الطالب: أعذر جهلى وإلحاحى ودعنى أعود للتساؤل: ولماذا الهجوم على الغرائز هى الأخرى؟ أليس الهجوم عليها يتضمن الهجوم على الوراثة، بل وعلى الطبيعة؟

المعلم: لقد ناقشنا ذلك من قبل، والأرجح أنه هجوم على أى افتراض ميتافيزيقى (هكذا أسماه بعض المهاجمين) لطاقة غير محددة، وهو هجوم ضمنى على الإعلاء من قيمة الوراثة.

الطالب: ولكن ألم يقل فرويد بشئ كهذه الطاقة، اسماها اللبيدو على ما أذكر فلماذا قلت أنه لم يضع نظرية للانفعال؟

المعلم: نعم، عليك نور لقد اسمى الطاقة التى كان يتحدث عنها  باسم “اللبيدو”، وشاع عنها أنها طاقة جنسية أساسا – ليست تناسلية بالضرورة – وهوجمت هجوما لا هوادة فيه هى الأخرى، علما بأنها قد تشير إلى طاقة الحياة ذاتها، وخاصة فيما يتعلق بالحافز إلى التواصل بين البشر.

الطالب: هجوم؟ هجوم؟ هجوم؟ أليس وراء العلماء شئ إلا الهجوم على بعضهم البعض.

المعلم: ولم لا؟ إن هذا يدفع إلى مزيد من الإتقان، ويؤكد ضرورة التحفظ فى إطلاق النظريات، ويساعد فى البحث الأعمق عن الحقائق الأصدق.

الطالب: وبعدين؟ ما آخرة هذا الهجوم على الطاقة والغرائز؟.

المعلم: توارت هذه الهجمات فى الظل قليلا، فيما عدا نظرية اللبيدو التى أبقاها انتشار الفكر التحليلى النفسى وتعصب مدارسه.

الطالب: ثم ماذا؟

المعلم: ثم عادت إلى الظهور من مدخل علم الإثولوجيا Ethologic.

الطالب: علم ماذا؟

المعلم: هل نسيت؟ لقد ذكرنا هذا الاسم من قبل، وقلنا إن هذا العلم هو علم الطباع والأجناس وتكوينها.

الطالب: نعم نعم؟ كان ذلك بشأن الحديث عن ” الطاقة الخاصة الفعالة”، فى فصل التعلم.

المعلم: عليك نور.

المعلم: صحيح، ولكن هل ترضى أنه من أجل أن تحفظ وتسـمـِّع، تختزل الحقائق حتى تشوِّهها، ولكن العيب ليس عيبك، العيب عيب طريقة التعليم التى علمتنا حفظ الأجزاء منفصلة تماما عن بعضها البعض دون إطار كلى يجمعها، حتى كادت عقولنا ذاتها أن تتفصد إلى أجزاء منفصلة بعضها عن بعض، ما علينا ماذا تريد؟

الطالب: لـَـمْ تـَـدَعْ لى أن أريد، ماذا تريد أنت أن تقول؟

المعلم: أريد أن أقول:

– إن حياتنا كلها تعلـّم فى تعلم.

– وأن الذى يكف عن التعلم هو الميت، الميت فعلا، أو الميت الحى.

– وأننا نتعلم الحسن والخير والمفيد مثلما نتعلم القبيح والشر والمـُـضـِـر.

– وأن التعلـّـم الحقيقى هو الذى يغير الإنسان، ليس فقط فى سلوكه، ولكن فى تركيبه أيضا.

– وأن التعلم بهذه الصورة قد بدأ مع بداية الحياة، فهو ليس قاصرا على الإنسان.

– وأن التعلم – للبقاء – قد يكون هو صانع الحياة، فالقول بأن “العمل هو صانع الإنسان” عبر التاريخ يشمل أن العمل علـَّـم الأحياء منذ البداية كيف تحافظ على بقائها، بل كيف تطور نوعها لتتكيف مع المتغيرات حولها، فتغيرت فنمت وتحورت، وظهرت لها أعضاء جديدة لتسد حاجات جديدة وتحقق غايات قادمة، ونمو الأعضاء هو تغير فى التركيب الحيوى بما فى ذلك نمو المخ وهو أرقى مرحلة ويمثلها الإنسان وهو تعلم فى تعلم.

الطالب: أستغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم.

المعلم: ماذا ألم بك، لماذا تستغفر الله ونحن فى مجال عبادته فى محراب طلب العلم؟

الطالب: ألم تقل أن العمل هو صانع الإنسان، أليس الله هو الصانع الأعظم للإنسان وغير الإنسان.

المعلم: استغفر الله العظيم أنا هذه المرة! وهل أنا قلت غير ذلك.

الطالب: نعم، أنت تقول إن العمل صانع الإنسان

المعلم: ومن الذى ألهم الأحياء قوانين البقاء وبرامج العمل والتكيف والتطور أليس هو الله يابنى

الطالب: هه..؟ هه؟ نعم ..! صحيح .. ربما!!

المعلم: من أخافك هكذا يابنى؟ أهناك ما يمنع أن يكون العمل هو صانع الإنسان، وأن يكون التعلم هو محور بيولوجية الأحياء؟ هل يمنع هذا وذاك من أن يكون ذلك كله بإرادة الله وفضله؟ ألم أحذرك منذ البداية حين سألتنى عن ما إذ كانت النفس هى “الروح” من أن نتكلم فيما هو من أمر ربنا إلا فى حدود معارفنا، وأن الروح من أمر ربنا، فإذا اقتربنا منها فقد ترتفع الأصوات بأن دراستها حرام، إسمع يا أيها الشاب الذكى: ثق تماما أنه لا يوجد عالم يحترم عقله البشرى، ويحترم علمه، ويحترم جهله، ويحترم قصوره، يرضى بأن يتجرأ على مجال متناسق بطبيعته يغذى الطبيعة البشرية ويساهم فى تنظيم تدافعها وتكاملها وهو الإيمان، ولا يوجد عالم يحترم علمه ويعبد ربه يقبل أن يؤكد الدين أو يفسر الدين بعلمه الناقص العاجز، كذلك لا يوجد رجل دين (وهذا تعبير تقريبى لأنه ليس للدين رجال مختصون لهم الحق فى هذا الاسم، وخاصة الدين الاسلامى) يقبل أن يعترض على حقيقة علمية أو اجتهاد علمى أو فرض علمى، لأنه خالف نصا اجتهد هو فى تفسير ألفاظه، إنهما خطان متوازيان فلا تـَـعـُد إلى مثل هذا يابنّـى، أبدا..، لو سمحت، هل أنت فاهم؟

الطالب: ليس تماما لأنك نبهتنى منذ قليل أن أضع معلوماتى كلها فى إطار واحد حتى لا يتجزأ مخى إذا أنا جزَّأت معلوماتى، فكيف أفصل معلوماتى من الدين عن معلوماتى من العلم، ألم تعلمنى أن هذا هو الانشقاق بعينه.

المعلم: سوف تخرجنا عن الموضوع، ولكنى سعيد بنقاشك هذا حتى لو أبعدنا عن الموضوع، يا إبنى: طالما أن المعلومات ناقصة فى العلم، وأن للتفسير أوجه فى الدين، فالإطار الذى يجمعهما هو تكامل الإنسان وسعيه إلى التآزر مع الكون الأعظم كما يقول العلماء الحقيقيون، وبالذات دعاة علم النفس الإنسانى الذى يبدو أنه تطور إلى علم النفس عبر الشخصية Transpersonal Psychchology وهو أقرب إلى ما يصفه المؤمن الكادح بأنه السعى إلى وجه الله، وهو ما يقابل أكثر فأكثر ما يمارسه العارفون المتصوفون الإيجابيون، حين يصفون طريقهم فى السعى إلى التكامل (لا الكمال) والإسهام فى الارتقاء نحو ما هو أحسن باستمرار، العلم والدين يابنى يثرى بعضه بعضا ولا يفسر بعضه البعض الآخر، وكل اختلاف بينهما هو اختلاف مظهرى نتيجة لقصور وسائل العلم وعجز تفسير ألفاظ الدين، هل فهمت أو تعلمت شيئا؟

الطالب: يعنى! فما هو التعلم حتى أعرف إن كنت تعلمت شيئا أم لا؟

المعلم: يعرفون التعلم بأنه:

1- ” العملية التى تحصل بها على المعارف والاستجابات الجديدة”

2- وأنه “تغير فى السلوك نتيجة للخبرة والتجربة”

وكلا التعريفين صحيح، ولكن يبدو أنى طماع بعض الشئ فأريد أن أضيف شيئا.

الطالب: هيا اضف، فرصة!! فلن تجد مستمعاً مثلى لماذا تأتى حتى هنا وتتردد؟ أضف أضف يا عمنا وتوكل.

 المعلم: إن ما أضيفه ليس حذقا شخصيا، ولكنه نابع من خبرتى فى العلاج النفسى عامة وفى العلاج النفسى الجمعى خاصة.

الطالب: وما علاقة التعلم بالعلاج النفسى والمرض النفسى الآن؟

المعلم: ألم نقل أن التعلم شامل لكل نواحى الحياة، إن هناك من يفسر المرض النفسى على أنه تعلم ضار على مستوى الجينيات (الوراثة) وعلى مستوى الفرد (البيئة)، وأنا أميل إلى هذا الرأى صراحة، وقد رأيته بعينى مباشرة فى الممارسة الاكلينيكية وخاصة من خلال العلاج النفسى، الجمعى بالتحديد كما ذكرت حالاً.

الطالب: دع الطب والعلاج وخلـّـنا فى علم النفس الآن إعمل معروفاً.

المعلم: أقول إن التعلم على المستوى الإنسانى هو العملية التى تتميز (تصبح مميزة) بها كتلة استعداداتنا، ويتغير بها سلوكنا، وقد يتغير بها تركيبنا على المستوى الأعمق، لنمضى فى حياتنا أكثر كفاءة، وفى بيئتنا أكثر تلاؤما، وننقل للأجيال من بعدنا خبرات أنفع ارتقاء.

الطالب: الله اللله.. ألم تقل أن المرض تعلم، وأننا نتعلم الشر والخيبة مثلما نتعلم الخير والنجاح؟

المعلم: أى نعم.. عندك حق هذه واحدة علىّ، دعنا نضيف:

الطالب: نضيف؟ ثانى؟!

المعلم: ولم لا، نضيف ما يلى: “.. هذا فى الأحوال السوية، ولكنه فى ظروف سيئة قد يحدث التعلم (التغيّر) إلى الأسوأ والأعجز”.

الطالب: أربكتنى، فماذا هو التعلم بعد الحذف والإضافة؟

المعلم: دعنا نقول بإيجاز: التعلم هو التغير فى السلوك أو التركيب من خلال الخبرة والممارسة والتفاعل والفعل.

الطالب: هذا تعريف قصير، أنا أفضله لأنى أستطيع أن أصمـّـه.

المعلم: يا ذى المفاجأة أيها الذكى، هل بعد كل هذا تفضّل ما يسهل صمّـه للتسميع؟

الطالب: طبعا، فأنا تعلمت من ذكائى الذى أدخلنى الطب أنكم ستحاسبونى على الألفاظ، بالله عليك: إذا أنا لم أستطيع التعبير، هل تعطينى درجات على الفهم، وكيف ستقيس درجة فهمى إذا لم أصمّ وأكرر؟

المعلم: ولكنى واثق أنك فهمت، وهذا سيسهل الصم لو أردت.

الطالب: يخيل إلىّ أن الصمّ يحول أحيانا دون الفهم

المعلم: أحيانا، ولكنه يمكن أن يكون إيجازاً وتحديدا يحول دون التشتت دعنا من هذا النقاش الذى لا ينتهى وهيا نتعلم من مجرد تجارب لطيفة، ومعلومات مختصرة ثم بضعة تطبيقات فلا تبتئس، وخذ عندك بعض ملامح عن “ماذا نتعلـّـم”:

(أ) تعلم المكان: فقد وصفوا فأرا جائعا فى متاهة The rat in the maze ذهب يبحث عن قطعة جبن المرة تلو المرة وفى كل مرة تالية ينجح أفضل ويوفر وقتا أطول إذ يصل أسرع، ثم غمروا المتاهة بالماء، فعرف الفأر طريقه أيضا برغم ما عمـِـلوا، فاكتشفوا أنه تعلـَّـم المكان…. واستعمل الفأر فى ذلك ما أسموه “طريقة المحاولة والخطأ”.

(ب) تعلم الشئ: وبنفس الصبر والمحاولة وضعوا قطا فى قفص من أعمدة متباعدة The Cat in the Puzzle Box ووضعوا شملة “سلمون” خارج القفص واستطاع القط بالمحاولة والخطأ أيضا أن يعرف شكل الأنشوطة (الحبل المدلى) الذى يجذبه فيفتح الباب واستنتج العلماء أن القط تعلم الشئ هذه المرة.

الطالب: بالذمة هل هذا كلام؟ هل يحتاج الأمر إلى هذه التجارب كلها لأعرف أن التعلم يشمل تعلم المكان ونعلـّم الشئ، أليس هذا مضيعة للوقت؟

المعلم: بصراحة معك حق، ولكنهم يقولون أن العلم علم، ولكى تثبت ما ترى عليك أن تجرى التجارب.

الطالب: وهل إذا أجرينا التجارب على الحيوانات هكذا يمكن أن ننقل نتائجها للإنسان؟

المعلم: قد نستطيع أن نهتدى إلى المعالم الرئيسية بلا شك

الطالب: مثل ماذا؟

المعلم: خذ عندك مثلا فى تعلـّم الآلة الكاتبة أو عزف البيانو ألا نتعلم أولا أماكن الحروف وأصابع النغمات؟

الطالب: يحدث

المعلم: هذا هو تعلـّم المكان.

الطالب: وقس على ذلك!!

المعلم: يا لذكائك الجميل فى تعبيرك: نعم، و”قس على ذلك”، نعم نعم وفى كل المهارات.

الطالب: وهل يجرى التعلم بنفس السرعة من البداية للنهاية.

المعلم: طبعاً لا .

……

(ونتوقف دون وعد بالإكمال فى نفس الموضوع إلا لو طلبتم ذلك).

[1] –  يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينىمنشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، من ص173-181، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثها فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

[2] – هذه إضافة لاحقة

[3] – لن أتكلم هنا – ولا فى الهامش – عن طبيعة الطاقة وقدرتها على التأثير المباشر ومدى إشعاعها مما قد يتجاوز هذا المستوى من النقاش، لأنه يقع فى مجال “ما بعد علم النفس” وهو مجال بكر خطر فى آن واحد.

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *