الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / احلام فترة النقاهة: الحلم (23)، الحلم (24)

احلام فترة النقاهة: الحلم (23)، الحلم (24)

“نشرة” الإنسان والتطور

10-1-2008

العدد: 132

نجيب محفوظ : قراءة فى أحلام فترة النقاهة

قبل النقد

وصلنا من د. أميمة رفعت قراءة أخرى لحلم “20” وهى القراءة التى أشرت إليها فى حوار بريد الجمعة 4 يناير 2008 وهى منشورة فى زاوية“المحرورن الضيوف، أرجو أن تحقق بذلك بداية متواضعة لما كنت أرجوه مما أسميه “نقد النقد”، أو لعله “نقد على نقد”، وأحيانا “نقد آخر”، أرجو أن يمثل مثل هذا النقد البذرة التى كنت أتمنى أن تزرع فى أرض أكثر خصوبة، وحقل أوسع انتشارا برعاية الدولة بما أسميته “دورية نقد أعمال محفوظ” ليست بالنسبة لأحلام فترة النقاهة فقط، وإنما لكل أعماله.

ثم أنى عثرت مصادفة على بعض اجتهادات لى سابقة بالنسبة لأحلام النقاهة كنت قد نسيتها، ووجدت اختلافا بين ما قرأته ناقدا مؤخرا فى هذه اليومية، بين ما كتبته سابقا، وبدلا من أن ألغى القديم أو أقارنه بالأحدث فضلت – فى هذه المرحلة – أن أنشر هذه القراءة القديمة مع الجديدة لحلم “14” وأدع للقارئ (الناقد) دور المقارنة، حتى أعود إليها، أو لا أعود، حين يكمل العمل طوليا.(أنظر الملحق: القراءتان والحلم (14) مع قراءة حلم د.أميمة (20) ولا أجد حرجا فى نشر نص الحلم قبل كل نقد).

والآن إلى الحلمين الجديدين

الحلم (23)، الحلم (24)

الحلم (23)

أسير فى الشارع وأنا على بينة من كل مكان فيه، فهو عملى ونزهتى، وأصحابى وأحبائى، أحيى هذا وأصافح ذاك، غير أنى لاحظت أن رجلا يتعدانى بمسافة غير طويلة وغير قصيرة، وبين كل حين وآخر يلتفت وراءه كأنما ليطمئن إلى أنى أتقدم وراءه. لعلى لم أكن أراه لأول مرة، ولكن على وجه اليقين لا تربطنى به معرفة أو مودة، وضايقنى أمره فاستفزنى إلى التحدى.. أوسعت الخطى فأوسع خطاه، أدركت أنه يبيت أمرا فازددت تحديا، ولكن دعانى صديق إلى شأن من شئوننا فملت إلى دكانه وانهمكت فى الحديث فنسيت الرجل وأنهيت مهمتى بعد الأصيل فودعته ومضيت فى طريق سكنى، وتذكرت الرجل، فالتفتُّ خلفى فرأيته يتبعنى على نفس طبيعته.. تملكنى الانفعال، وكان بوسعى أن أقف لأرى ماذا يفعل ولكنى بالعكس وجدت نفسى أسرع وكأنى أهرب منه، وأخذ يساورنى القلق وأتساءل عما يريد. ولما لاح لى مسكنى شعرت بالارتياح وفتحته ودخلت دون أن أنظر خلفى، ووجدت البيت خاليا فاتجهت نحو غرفة نومى ولكنى توقفت بإزاء شعور غريب يوحى إلىّ بأن الرجل فى داخل الحجرة.

القراءة

علاقة محفوظ بالشارع والحارة وناسهما، ربما هى أوثق وأدق من علاقته بالبيت والقهوة والثلة، الشارع هو الناس، ناسُه بحق وهو يحفظه، يحفظهم “صمًّا”، وأنا على بينة من كل مكان فيه، فهو عملى ونزهتى وأصحابى وأحبائى، أحيى هذا، وأصافح ذاك”، وبرغم كل هذه الألفة، وهذا الود لم يمنعه ذلك أن ينشق إيجاباً، وظاهرة الانشقاق ليست عرضاً نفْسيا كما يحب بعض النفسيين أن يحتكروه لوصف بعض المرضى، هو حركية دالة ومهمة، خاصة إذا تمت تحت إنارة ضوء نسبى من الوعى الفائق.

 المريض، قد يشكو من مثل هذه المتابعة، من شخوص داخله يسقطهم عادة خارجه، لكن المبدع، (والصحيح بإيجابية) قد يعايش مثل هذه المتابعة، إذْ هو قادر على أن يسمح بالتفكك كخطوة تمهيدية، حتى يتجمع من جديد فى إبداع ذاته تشكيلا ناميا، أو فى انتاج إبداعه عملاً أصيلا.

فى الوعى الشعبى قد يرتبط مثل هذا الشعور (بشخص ما حاضر بالجوار والما حول aboutness) بما يسمى “القرين”.

فى الحلم والابداع، والحلم/الابداع (هنا)، قد تتجسّد هذه الظاهرة تشكيلا دالا دون أن تكون عرََضا مرضيا، تتشكل فى لوحة دالة مثلما هنا فى هذه اللوحة المحفوظية.

يبدأ الحلم بنوع من “الجذب” لا “المتابعة“.

الرجل فى الأمام، والراوى هو الذى يسير خلفه، وكأنه يقوده، يتتبعه بشكل مقلوب، اليقين بعدم وجود معرفة أو مودة، لا ينفى بل لعله يثبت أنه هو هو، الداخل مستقطاً، الراوى يلجأ إلى فاصل من التواصل الدافئ والتوقف المؤتنس للهرب من هذا الآخر الغريب القريب “دعانى صديق…. فملت إلى دُكانه وانهمكت فى الحديث فنسيت الرجل” الخ…،

 بعد هذا الفاصل الذى امتد حتى الأصيل تعود حركة بسط الإيقاع (بالانشقاق)، فتعود المتابعة لكن ينتقل الشخص (أو الشبح أو الشعور المجسد أو القرين) إلى مكان المتابعة الطبيعى، فهو يسير الآن خلف الراوى هذه المرة وهو يحتفظ – على ما يبدو – بنفس المسافة.

يلوح الحل، لكى يتجمع الراوى “واحداً” (كفى هذا) – كما بدا فى أحلام سابقة – فى الدعوة إلى العودة إلى البيت الملاذ (السكن/الرحم/النوم).

لكن البيت – كما تكرر أيضا من قبل- يثبت أنه لا ونيس فيه، على عكس ما راوده من أمل “ووجدت البيت خاليا”

وحين يخطو خطوة أخرى إلى الداخل إلى النوم (حجرة النوم)، لا يجد الونيس أيضا، بل ريح هذا “الآخر” الغامض.

ينتهى الحلم حين يتحول هذا الآخر “الشعور المتعين رجلا”، (يتقدم أو يتبع)، يتحول إلى شعور عام غامض محيط،

هذا وارد، حين ينتهى دور التفكك (الإنشقاق الإيجابى المؤقت) إلى ما يسمى “المعرفة الهشة” amorphous cognition التى هى الخطوة الحامل لأجنة إبدٍاع ما.

هكذا نتعلم من هذا الحلم – وعموما – أبجدية أخرى من بعد أخر عن النفس وتعددها، وحركيتها، وإيقاعها، وعن علاقة هذا الشعور “المحيطى” الذى انتهى به الحلم، والذى برغم هلاميته التى توحى ولا تحدد،

 تتخلق منه الشخوص والموضوعات فى الإبداع، حين يتشكل فى “الجديد الأصيل”.

الحلم (24)

قررت اصلاح شقتى بالاسكندرية بعد غياب ليس بالقصير، وجاء العمال وفى مقدمتهم المعلم وبدا العمل بنشاط ملحوظ، وحانت منى التفاتة إلى شاب منهم فشعرت باننى لا أراه لأول مرة، وسرت فى جسدى قشعريرة عندما تذكرت أننى رأيته يوما فى شارع جانبى يهاجم سيدة ويخطف حقيبتها ويلوذ بالفرار، ولكنى لم أكن على يقين وسألت المعلم عن مدى ثقته بالشاب دون ان أشعر الشاب بذلك فقال لى المعلم:

– إنه مضمون كالجنيه الذهب، فهو إبنى وتربية يدى، واستقر قلبى إلى حين، وكلما وقع بصرى على الشاب انقبض صدرى، وطلبا للأمان فتحت إحدى النوافذ المطلة على الشارع الذى يعمل فيه كثيرون ممن أعرفهم ويعرفوننى ولكنى رأيت حارة الجراج التى تطل عليها شقتى بالقاهرة فعجبت لذلك وازداد انقباضى، وجرى الوقت واقترب المساء فطالبتهم بإنهاء عمل اليوم قبل المساء لعلمى بأن الكهرباء مقطوعة بسبب طول غيابى عن الشقة.

فقال الشاب: “لا تقلق.. معى شمعة”.. فساورنى شك بأن الفرصة ستكون متاحة لنهب ما خف وزنه وبحثت عن المعلم فقيل لى أنه دخل الحمام وانتظرت خروجه وقلبى يتزايد، وتصورت أن غيابه فى الحمام مؤامرة، واننى وحيد فى وسط عصابة، وناديت على المعلم ونذر المساء تتسلل إلى الشقة.

القراءة

التداخل التنقل يتم هنا بين مكانين على بعد أكثر من مئاتى كيلو متر، شقة الاسكندرية بعد غياب، يفتح شباكها على حارة الجراج التى تطل عليها شقة القاهرة، هذا التكثيف للزمان والمكان يتواتر أكثر فأكثر فى إبداع الأحلام، ومن فرط تكرار ذلك، وصلنى أنه قد يبعث رسالة للمتلقى ليحذق “الحركة” و”التداخل” و”الكلية معاً”، هذه الآليات تبدو لى أنها أصل فى التركيب البشرى قبل أن نختزله إلى ما نعرف عن ظاهره،

 شقة الاسكندرية كانت مهجورة لفترة (بعد غياب ليس بالقصير) أما شقة القاهرة فهى إلف مألوف، هى وشارعها (الذى يعمل فيه كثيرون ممن أعرفهم ويعرفونى)

 أما لماذا نتج عن اكتشاف هذا التداخل والتكثيف العجب وزيادة الانقباض، فلعل ذلك إشارة إلى أن إصلاح الشقة الذى بدأ به الحلم ليس إصلاحاً يحقق النقلة والتجديد، فالقديم المألوف يفرض نفسه بديلا عن الإصلاح المهزوز، الذى بدأ أنه لا يعدو إلا أن يكون أملاً لا أكثر، ومع ذلك فالقديم لم ينجح فى تخفيف الانقباض بل زادهُ.

السيدة موضوع الهجوم والاعتداء من ذلك الشاب المشتبه فيه المزعجة رؤيته، المشكوك فى أمانته، الخاطف لحاجة غيره، قد تذكرنا بالسيدة التى اعتدى عليها الشبان الأربعة فى حلم “21”، لكنها هنا ليست عابرة طريق ولا هى موضوع اقتحام يلوح باغتصاب، إنها عابرة طريق، موضوع سرقة ما (خطف حقيبة)، ومع ذلك فقد تكون ذات دلالة مشتركة فى الحلمين.

 من هو هذا الشاب اللص الغامض؟ هل هو رمز أهل ثقة الرئيس “المعلم”؟ ولهذا هو “مضمون كالجنيه الذهب”، وهو “إبنه وتربية يده”. (لست واثقا إن كانت حكاية التوريث كانت قد أثيرت فى الواقع بهذا الحجم أيامها أم لا).

المسألة إذن ليست توجسا موجها تجاه فرد واحد له سابقة ما، يبدو أنها عصابة مترابطة تحت لافتة التجديد والإصلاح (الدولة)، التغطية على اللص تتم من قبل السلطة الأعلى بوضوح بإعلان أنه “مضمون مثل الجنيه الدهب”.

ويحل الظلام (بلغة السياسة الأحدث: تنعدم الشفافية أكثر فأكثر)، ولأن صاحب الشقة موضوع التجديد والإصلاح الوهمى كان غائبا عنها طوال تلك المدة، فهو لم يشارك فى مواصلة تعهد نظافتها وصيانتها وإصلاحها بنفسه أولا بأول، فليدفع الثمن بالمضى فى الظلام الآن مهددا بالسرقة.

أين الرئيس “المعلم” نستنفذ به من الجارى، أو يؤمننا ضد السرقة والخطف؟

 دخل الحمام

 مهمة خارجية، تأجيل المواجهة، خطاب رسمّى بالنيابة؟

المعلم هنا دخل الحمام”، ولا أمل فى خروجه قريبا

 “وتصورت أن غيابه فى الحمام مؤامرة”،

فهى العصابة، وهو الغياب، وهو النداء بلا طائل، وهو المساء الظلام، وهى المسئولية على الجميع بدءاً بغياب صاحب الشأن عن شقته، وإهماله لها، امتدادا إلى الظلام، تحت مظلة الفساد التآمرى، واختفاء المعلم الرئيس.

وبعد

أعترف أننى فشلت هذه المرة أيضا أن استبعد اختزال الحلم إلى أحوال البلد

 ولو صح ما حضرنى، رغما عنى، فإننى أميل إلى رفض أن يوظف الإبداع فى شجب الفساد الجارى، ذلك أن شجب الفساد والتآمر علينا أصبح أمرا لا يحتاج – حاليا – إلى مثل هذا التحايل، بمثل هذا الإبداع.

ومن ناحية أخرى أشعر أننى بقراءتى الحلم كذلك، ربما كنت استسهل.

لكن بينى وبينك

الصورة المبْدَعَة حلما: جميلة ودالة أكثر من مائة مقال صارخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *