الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / إعتذار إلى أساتذتى المجانين الطيبين

إعتذار إلى أساتذتى المجانين الطيبين

نشرة “الإنسان والتطور”

28-2-2011

السنة الرابعة

 العدد: 1277

إعتذار إلى أساتذتى المجانين الطيبين

دأبت أقلام الهواة، على وصف بعض الساسة والرؤساء الطغاة والسفاحين بصفة الجنون، وهذا وارد بالنسبة للشائع عند العامة عن لفظ الجنون لعجزهم عن تصور أن يصدر كل هذا الإجرام والقتل البارد والإبادة الجماعية من شخص عاقل!!، لكن الغضب والغيظ والرفض قد استدرج بعض المختصين إلى مثل ذلك أيضا، وقد يكون معهم حق بالمقاييس التقليدية، إلا أن الموقف يحتاج إلى منظور آخر، بمسئولية أخرى، وفيما يلى بعض ذلك:

أولا: لا ينبغى أن نستعمل كلمة الجنون سبابا أو قدحا، فالمجنون أساسا: أستاذ فاشل، ومبدع مُجهض.

ثانيا: لا ينبغى أن نستعمل كلمة مريض نفسى إلا للمريض النفسى فى إطار مساعدته، وحمايته هو وذويه وناسه من شطحات أعراض معينة (علما بأن نسبة الجرائم التى يرتكبها الأسوياء إلى عددهم، هى أكثر تواترا إحصائيا من نسبة الجرائم التى يرتكبها المرضى).

ثالثا: لا يصح استعمال ألفاظ الأمراض فى غير موقعها مهما بلغ التشابه أو دقَّ القياس، فلا يصح أن يوصف شعب بالفصام، ولا أمة بالاكتئاب القومى …إلخ.

رابعا: لا يجوز إطلاق تسميات الأعراض والأمراض على شخص إلا فى سياق طبى إكلينيكى بعد استيفاء ما يكفى من المعلومات (وقد تراجعتُ عن ذلك حتى فى سياق النقد الأدبى فى نقدى لنقدى لرواية الشحاذ لنجيب محفوظ).

خامسا: من الوارد: لصالح التأريخ وأحيانا لصالح اتخاذ القرار الآنى، محاولة فهم دوافع وتصرفات بعض الرؤساء وخاصة من الأعداء والسفاحين لحساب توقعات معينة، وذلك فى إطار ما يسمى الإمراضية (السيكوباثولوجى) المحتملة، يقوم بذلك مختصون فى علم النفس السياسى ومثله، ويكون هذا من قبيل مجرد اقتراح فرض قد يساعد فى فهم بعض التوقعات الواجب الحذر منها، وكل هذا ليس تشخيصا ولا هو “اتهام بالجنون”، ولكنه قد يكون أقرب إلى ما أسميته “قراءة النص البشرى”، ومن ثم احتمال “نقده”.

سادسا: الخوف كل الخوف أن يترتب على وصف قاتل رئيس سفاح بالجنون نوع ضمنى من تصور إعفائه من مسئولية أعماله، واستبدال ذلك بطلب علاجه، علما بأنه فى الطب النفسى هناك قاعدة علمية تؤكد أن المجنون قد يكون مسئولا عن جرائمه مسئولية كاملة، فضلا عن أن المدرسة التى أنتمى إليها تقول بأن الجنون نفسه هو نوع من اختيار لهذا الحل المرضى، على مستوى أعمق من الوعى، وما بـُـنِىَ على اختيار فهو اختيار.

سابعا: الخوف أيضا من وصف مثل هؤلاء السفاحين بالجنون، أو بأى تشخيص، هو إثارة تعاطف ما مع هذا القاتل، هو لا يستحقه، بل وقد يجعله –  بطريق غير مباشر – يتمادى فى التقتيل والإبادة.

ثامنا: إن ثمة تصرفات تصدر ممن يسمون عقلاء (جدا) ممن يملكون السلطة والسلاح والمال، هى أكثر خطرا وإبادة وقسوة من كل من عرفنا من رؤساء نستسهل وصفهم بالجنون، وهى تمارس حالا كما نجد مثلها عبر التاريخ، وهى قد تصدر بقرار معلن واع مع سبق الإصرار والترصد من مجلس وزراء معترف بدولته الديمقراطية عالميا، مثلا: حين يصدر القرار الوزارى الإسرائيلى معلنا بالإجماع بقتل أفراد بلا محاكمة (مثل قتل الشيخ يسن)، كما أن ثمة قرارات أخرى أصعب واخطر تصدر أيضا من رؤساء عقلاء رسميين لهم مؤسسات ديمقراطية أيضا، تصدر بإبادة عرقية، أو سرقة نفطية..إلخ، كل ذلك تحت عناوين عاقلة جدا، مثل “الحروب الاستباقية” أو “مكافحة الإرهاب” أو “الحيلولة دون استعمال أسلحة الدمار الشامل”، بل وتحت عناوين مثالية: محور الخير يقضى على محور الشر!!! وهذه الأعمال والقرارات لا توصف عادة بالجنون (أليس كذلك؟؟!!)، برغم أن ضحاياها هى أضعاف أضعاف ضحايا أفراد نصفهم بالجنون، بل إن ثمة قرارات تصدر من منظمات دولية (وهل هناك أعقل من المنظمات الدولية !!!) تبلغ من ظلمها وقسوتها ما يترتب عليها إرساء ظلم فادح، وإبادة شعوب، وخراب دول (مثل مجلس الأمن وبيده عصا الفيتو العاقلة جدا، أو صندوق النقد الدولى وبيده مفاتيح خزائن الخراب المنطقى المنظم)، ولا أحد يصفها بالجنون، ولا مؤاخذة.

تاسعا: إن اختزال قراءة الثورات فى العالم العربى، وغيره، أو عبر التاريخ، إلى شذوذ فى سمات، أو أخلاق فرد واحد، مهما صدق بعض ذلك، خليق بأن يفوّت علينا (مختصين وغير مختصين) الانتباه إلى العوامل الأخفى والأخطر وراء التصرفات والقرارات والتنظيمات خصوصا المعولمة منها، فالذى يدير العالم الآن، بما فى ذلك تعيين الرؤساء، وإشعال الحروب،هى المافيا المالية العالمية عابرة القارات، المعلنة منها (الشركات العملاقة) والخفية (تجارة المخدرات)، وهى – فى واقع الحال- التى تعين الرؤساء عبر العالم وتحركهم، وأغلبهم يبدون “فى منتهى العقل”،(والديمقراطية!!)، كما أن نفس هذه القوى قد تحرك الثوار الشرفاء دون أن يدروا، أو على الأقل هى جاهزة لكى تستولى على ثورتهم، وتقبض ثمن دماء شهدائهم بترولا وطاقة بيولوجية وذهبا ودولارات، وهذا ما ينبغى البحث فيه قبل وبعد ومع البحث فى أعراض شذوذ هذا الرئيس الدمية المطيعة أو ذاك الزعيم الأراجوز البهلوان، نفعل ذلك ونحن نضحك بصعوبة على حركاتهم فى نفس الوقت الذى تسيل فيه الدماء أنهارا، ماذا يفيد أن نبحث الآن فى اختيار اسم مرض نفسى رشيق أو شريف لنعلقه فى رقبة هذه الدمية أو ذاك الأراجوز، وكلاهما تحركهما المافيا القادرة بالريموت كونترول دون أن ندرى، وربما دون أن يدرى هو ذاته؟.

عاشرا: إن اتهام رئيس بالجنون، وهو هو نفس الشخص، يحكم بنفس التصرفات منذ واحد وأربعين عاما، وبنفس الكتاب الأخضر، هو اتهام ضمنى لشعبه بأنه متخلف عقليا علما بأننى أحترم التخلف العقلى أيضا، لكن ليس للشعوب طبعا.

حادى عشر: إن التوقف عند مرحلة التفسير (أوالتبرير أوالتشخيص)، مهما صدق ودقّ، هو من أخطر ما يمكن أن يجهض الثورات أو يفرغها من زخم دفعها، نحن أحوج ما نكون – بعد التحريك والتضحيات والمخاطر- أن نستعد للدخول فورا: أفرادا وجماعات، شعوبا وقادة جدد، أوطانا وعبر العالم، إلى مراحل الاستيعاب والفعل والإبداع، فالجنس البشرى يتعرض لخطر الانقراض فعلا!!!.

ماذا يفيد التفسير إن لم يَحُل دون التمادى فى الجارى،

 وماذا يفيد أن نعرف كيف تم (ويجرى) هذا من شخص كهذا أو حتى “لماذا”، دون أن ننطلق فورا إلى “إذن ماذا”؟

وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *