الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / أحلام فترة النقاهة الحلم (33)، الحلم (34)

أحلام فترة النقاهة الحلم (33)، الحلم (34)

“نشرة” الإنسان والتطور

14-2-2008

العدد: 167

نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة

الحلم (33)، الحلم (34)

 الحلم (33)

ماذا‏ ‏حل‏ ‏بالشارع‏ ‏بل‏ ‏بالحى ‏كله؟‏.. ‏على ‏ذاك‏ ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏أتوقع‏ ‏خيرا‏ ‏فيما‏ ‏أرى‏.‏

الحى ‏كله‏ ‏كأنما‏ ‏هرم‏ ‏به‏ ‏العمر‏ ‏فذهب‏ ‏رونقه‏ ‏وتناثرت‏ ‏القمامة‏ ‏هنا‏ ‏وهناك‏ ‏وصادفنى ‏أحد‏ ‏العاملين‏ ‏فسألته‏:‏

‏- ‏ماذا‏ ‏جرى؟

فأجاب‏ ‏وهو‏ ‏يبتسم‏:‏

‏- ‏البقاء‏ ‏لله‏ ‏وحده‏، ‏وسبحان‏ ‏مغير‏ ‏الأحوال‏.‏

وقصدت‏ ‏مسكن‏ ‏صديقى ‏متوقعا‏ ‏أن‏ ‏يحيق‏ ‏به‏ ‏ما‏ ‏حاق‏ ‏بالحى ‏كله‏ ‏أو‏ ‏أكثر‏، ‏ولا‏ ‏أنكر‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏وساطتى ‏للحصول‏ ‏على ‏بعض‏ ‏الأدوية‏ ‏الضروية‏ ‏من‏ ‏الخارج‏ ‏كما‏ ‏كانت‏ ‏مكالمة‏ ‏تليفونية‏ ‏منه‏ ‏تحل‏ ‏أعصى ‏المشكلات‏ ‏فى ‏المصالح‏ ‏الحكومية‏، ‏وجدته‏ ‏كاسف‏ ‏البال‏ ‏لا‏ ‏يأمل‏ ‏خيرا‏ ‏فى ‏شئ‏.. ‏فعزيته‏ ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إنه‏ ‏صاحب‏ ‏مهنة‏ ‏على ‏أى ‏حال‏.‏

فقال‏ ‏متهكما‏:‏

‏- ‏ستثبت‏ ‏لك‏ ‏الأيام‏ ‏أننا‏ ‏لسنا‏ ‏أسوأ‏ ‏من‏ ‏غيرنا‏.‏

وساءلت‏ ‏نفسى ‏ترى ‏هل‏ ‏يوجد‏ ‏حقا‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏أسوأ‏، ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏حضر‏ ‏نفر‏ ‏من‏ ‏الشبان‏ ‏والشابات‏، ‏ومع‏ ‏كل‏ًٍّ ‏حقيبته‏ ‏ملأها‏ ‏بأشيائه‏ ‏المودعة‏ ‏فى ‏الشقة‏ ‏مثل‏ ‏البيجامات‏ ‏والملابس‏ ‏الداخلية‏ ‏والقمصان‏ ‏النسائية‏ ‏الفاتنة‏ ‏وداهنة‏ ‏وروائح‏ ‏عطرية‏.‏

وحمل‏ ‏كل‏ ‏حقيبته‏ ‏وذهب‏.. ‏نطق‏ ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏بما‏ ‏كانت‏ ‏تؤديه‏ ‏شقته‏ ‏من‏ ‏خدمات‏ ‏كما‏ ‏فطن‏ بتدهوره‏.. ‏وتساءلت‏ ‏فى ‏نفسى.. ‏ترى ‏هل‏ ‏كان‏ ‏ينعم‏ ‏بالفخر‏ ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏تجرع‏ ‏المذلة‏ ‏والقهر‏.‏

****

القراءة

هل هى مرة أخرى مصر؟

هل شاخت مصر حتى هجرها أبناؤها؟

وحتى الأدوية (قارن حلم 22) يحضرها صديق من الخارج (هل هى توصيات البنك الدولى)؟

المحادثة مع الصديق نفسها فيها شىء يحتاج وقفة، فالصديق صاحب مهنة،  وهو أيضا يحسن الاتصال بالجهات الحكومية ويعرف طريق التسهيلات والتشهيلات، وفى نفس الوقت هو يائس ساخر، (ستثبت لك الأيام أننا لسنا أسوأ من غيرنا فمن يا ترى يمكن أن يحتفظ بالأمل إذن؟).

تكتمل الصورة الميئسة بهجرة جماعية ومِنْ مَنْ؟ من الشباب والشابات، أمل المستقبل

أعرف أن نجيب محفوظ متفائل بعناد ليس له حد،  فهل كان ذلك فى وعيه الظاهر فقط؟ هل تغطية الأمور بهذه القشرة السمحة المتفائلة هى التى تسمح لإبداعه أن يقول ما هو أرسخ وأكثر إيلاما، لأنه الأقرب إلى الواقع؟ (قارن حلم 31 وموقفه المعلن من السلام مقابل موقفه الأعمق فى الحلم)

ثم ماذا يعنى هذا التساؤل الأخير؟ هل هو كسر لحاجز الزمن فيتكلم عن المستقبل بصيغة الماضى؟ وصلنى أنه بعد الوداع الهادئ والذكرى الطيبة المؤلمة (أذكروا محاسن من هرم منكم، وأيضا مرضاكم، وربما بعد قليل : موتاكم) بعد أن يتذكر كل واحد ما أدته له شقته من خدمات، لم تمنع تدهوره (كما فطنِ بتدهوره).

هذه الهجرة الجماعية إلى المجهول، هل ستنتهى بالفخر إذْ تحقق الآمال، أم أنها المذلة والهوان؟.

لكنه صاغها كأنها ماضٍ حدث: (فطِن كل منهم بتدهوره)، فما هى نتيجة هذه القصة؟ تركها محفوظ مفتوحة:

هل كان ينعم بالفخر؟ أم تجرع المذلة والهوان؟

حاولت أن أتصور أنه يعنى الماضى، وأن كل واحد من هؤلاء الشبان عاش فى شقته (وطنه) محبا، وهو يأمل أن يفخر بانتمائه له، وهو ما يفسر الذكرى الطيبة، لكنه للأسف لم ينل منه إلا المذلة والقهر، فجمع أشياءه ورحل. لكنه رحل وهو أيضا لا يعرف إجابة لنفس السؤال، هل ما ينتظره هناك هو مدعاة للفخر أم مجلبة لنوع آخر من المذلة والهوان؟

هل يصل تكثيف الإبداع أن يقرر زمن الماضى وهو يعنى الإشارة إلى المستقبل؟

فى رأيى أن إبداع محفوظ يقدر على ذلك

****

الحلم‏ (34)

عند‏ ‏منعطف‏ ‏من‏ ‏منعطفات‏ ‏الحارة‏، ‏رأيت‏ ‏أمامى ‏الصديقين‏ ‏الشقيقين‏ ‏اللذين‏ ‏طال‏ ‏غيابهما‏ ‏وأحزننى ‏غاية‏ ‏الحزن‏، ‏وبهتنا‏ ‏ثم‏ ‏فتحت‏ ‏الأذرع‏ ‏وكان‏ ‏العناق‏ ‏الحار‏، ‏وتذاكرنا‏ ‏الأحزان  و‏‏الأفراح‏ ‏والليالى ‏الملاح‏،  ‏وطلبا‏ ‏منى ‏زيارة‏ ‏سكنى ‏فمضيت‏ ‏بهما ‏إليه‏ ‏على ‏بعد‏ ‏أمتار‏، ‏وتفحصاه‏ ‏حجرة‏ ‏بعد‏ ‏حجرة‏ ‏وضحكا‏ ‏طويلا‏ ‏كعادتهما‏ ‏ثم‏ ‏أعربا‏ ‏عن‏ ‏أسفهما‏ ‏لبساطة‏ ‏المأوى، ‏ثم‏ ‏سخرا‏ ‏منى ‏بلسانيهما‏ ‏اللاذعين‏ ‏الجذابين‏. ‏وسألانى ‏عن‏ ‏عملى ‏الذى ‏أعيش‏ ‏منه‏، ‏فأجبت‏ ‏بأننى ‏عازف‏ ‏رباب‏ ‏وأتغنى ‏بعذابات‏ ‏الحياة‏ ‏وغدر‏ ‏الدهر‏، ‏وعزفت‏ ‏لهما‏ ‏وغنيت‏ ‏فقالا‏ ‏إنها‏ ‏حياة‏ ‏أشبه‏ ‏بالتسول‏ ‏ولذلك‏ ‏فهما‏ ‏لا‏ ‏يدهشان‏ ‏لما‏ ‏يبدو‏ ‏فى ‏وجهى ‏من‏ ‏آثار‏ ‏الضعف‏ ‏والبؤس‏ ‏وقالا‏ ‏لى ‏أنهما‏ ‏بحثا‏ ‏عنى ‏طويلا‏ ‏حتى ‏عثرا‏ ‏على ‏وتبين‏ ‏لهما‏ ‏أن‏ ‏قلقهما‏ ‏على ‏كان‏ ‏فى ‏محله‏ ‏وأنهما‏ ‏بحثا‏ ‏عنى ‏طويلا‏ ‏حتى ‏عثرا‏ ‏على ‏ ‏وأنهما‏ ‏يبشرانه‏ ‏بالفرج‏.. ‏حمدت‏ ‏الله‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏ولكن‏ ‏ما‏ ‏الذى ‏يبشراننى ‏به‏ ‏قالا‏ ‏ستهاجر‏ ‏معنا‏ ‏إلى ‏المكان‏ ‏الجميل‏ ‏والرزق‏ ‏الوفير‏، ‏فسألت‏ ‏كيف‏ ‏يتيسر‏ ‏لى ‏ذلك‏ ‏فقالا‏ ‏إنهما‏ – ‏كما‏ ‏أعلم‏ – ‏يمتان‏ ‏بصلة‏ ‏لأصحاب‏ ‏النفوذ‏ ‏ولا‏ ‏خير‏ ‏يجئ‏ ‏إلا‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏أصحاب‏ ‏النفوذ‏.‏

وتأبطا‏ ‏ذراعى ‏وسارا‏ ‏بى ‏إلى ‏الخارج‏، ‏حتى ‏بلغنا‏ ‏أحد‏ ‏الرجال‏ ‏العظام‏ ‏شكلا‏ ‏وموضوعا‏، ‏واستمع‏ ‏للحكاية‏ ‏بوجه‏ ‏محايد‏، ‏وقال‏ ‏لى ‏إن‏ ‏الهجرة‏ ‏تحتاج‏ ‏لهمة‏ ‏عالية‏ ‏وصبر طويل‏، ‏فوعدنى ‏خيرا‏ ‏وقال‏ ‏الصديقان‏، ‏إنهما‏ ‏يطمئنانى .. ‏فقال‏:‏

‏- ‏انتظرونى ‏عند‏ ‏الجامع‏ ‏على ‏طلوع‏ ‏الفجر‏.‏

****

القراءة

هذا هو الحلم الثالث على الأقل الذى يذكر فيه أنه لا حل ولا فرج إلا من خلال أصحاب النفوذ، أو من له نفوذ عند أصحاب النفوذ، (حلم الأدوية الأول (حلم 22: 33 الحلم السابق)، فى هذا الحلم السابق (33) لم تعلن الهجرة بشكل مباشر، لكن الشبان جمعوا أشياءهم وودعوا شققهم الهرمة، وقد فطن كل منهم “إلى تدهوره، فلم يكن أمامهم إلا أن يغامروا إما إلى الفخر المزعوم، أو الهوان غالبا، لم يقل لنا محفوظ فى الحلم السابق أنهم هاجروا، ولكنه تكلم عن احتمالات الذل والهوان بصيغة الماضى الذى قد يمتد إلى المستقبل، الهجرة هنا فى هذا الحلم كانت صريحة وأنها هى الحل، وأنها تحتاج – أيضا- إلى همة عالية وصبر طويل (على الهوان غالبا)، والأهم أنها تحتاج إلى توصية وترتيب من “رجل عظيم”، كما أنها جاءت اقتراحا صريحا من أصدقاء قدامى.

وصلنى –أيضا – من نهاية الحلم احتمال أن هجرتهم هى إلى الأخرة!، أشفق العائدان على صاحبهما من حياة أشبه بالتسول، ومع ذلك فنحن لم نلاحظ مثل ذلك عليه وهو يعزف على ربابته يتغنى بعذابات الحياة وغدر الدهر، ومع بساطة مسكنه وظاهر عوزه إلا أننا-أيضا- لم نلحظ عليه سخطا أو يأسا مثل الحلم السابق.

نهاية الحلم أيضا هنا لم تحسم الموقف، فهى تعد وتؤجل، حتى لو كانت بتوصية أحد الرجال العظماء. هى نهاية مفتوحة ربما إلى الآخرة، (إنتظرونى عند الجامع على طلوع الفجر)

هل ثم احتمال أن يكون المكان الجميل الذى وعده به الصديقان حيث  الرزق الوفير هو الجنة التى يحلم بها البؤساء

فى الحلم السابق (33) لاحت الهجرة أرضية، ربما إلى أوربا أو الخليج، حيث ينتظر المهاجر ما تيسر من الذل والمهانة، (برغم الأمل فى الفخر والاحترام)، لكن الهجرة هنا ارتبطت بالانتظار عند المسجد على طلول الفجر، الأمل يمتد عند البؤساء الراضيين الذين يتغنون بعذابات الحياة وغدر الدهر، ولا يقلّبهم إلا تحريك واعد من أصدقاء قدامى قادمين من المجهول، فى انتظار التعويض فى الحياة الأخرة. هل هذا هو فجرهم القادم؟ ربما!.

مرة أخرى، تفاؤل نجيب محفوظ، وضحكته المجلجلة، حتى بعد أن أصابه ما أصابه، يقولان غير ذلك، يقولان عكس ذلك.

هذا الاحتمال الذى طرحناه فى حلم (31) (الحرب والسلام) لو صحّ هناك فقد يصح هنا، وفى الحلم السابق أيضا.

ياه ، كيف أخفيتَ عنّا كل هذا الألم ، وأيضا كل هذا التشاؤم الذى لا نعرفه عنك يا شيخنا؟

بل ربما يكون التساؤل الأكثر صدقا هو :

كيف أخفيتَ عن نفسك – يا شيخنا- هذه الرؤية الموجعة الصادقة؟

ياه !! ‏

ملحوظة: هل هناك علاقة بين الوعد بالراحة فى هذا المكان الجميل والرزق الوفير، وبين اليمن السعيد” حيث التصعيد طابقاً بعد طابق حتى يلامس السماء؟.

يجوز!!.

(وقد يتضح الأمر أكثر حين نرجع إلى الدراسة الطولية بعد الانتهاء من هذه الدراسة حلما حلما، لو كان فى العمر بقية).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *