“يوميا” الإنسان والتطور
17-1-2008
العدد: 139
نجيب محفوظ : قراءة فى أحلام فترة النقاهة
الحلم (25)، الحلم (26)
الحلم (25)
رأيتها فى الحجرة معى. ولا أحد معنا، فرقص قلبى طربا وسعادة، وكنت أعلم أن سعادتى قصيرة. وأنه لن يلبث أن يفتح الباب ويجئ أحد.. وأردت أن أقول لها أن جميع الشروط التى أبلغت بها على العين والرأس، ولكن تلزمنى فترة من الزمن ولكنى فتنت بوجودها فلم أقل شيئا، وناديت رغبتى فخطوت نحوها خطوتين، لكن الباب فتح ودخل الأستاذ وقال بحدة إنك لا تفهم معنى الوقت واقتلعت نفسى، وتبعته إلى معهده القائم قبالة عمارتنا، وهناك قال لى أنت فى حاجة إلى العمل عشر ساعات يوميا حتى تتقن العزف’. ودعانى للجلوس أمام البيانو فبدأت التمرين وقلبى يحوم فى حجرتى، وسرعان ما انهمكت فى العمل. وعندما سمح لى بالذهاب كان المساء يهبط بجلاله. وبادرت أعبر الطريق على عجل. ولكن لم يكن ثمة أمل فى أن تنتظرنى مدة غيابى. وإذا برجل صينى طويل اللحية بسام الوجه يعترض سبيلى ويقول: كنت فى المعهد وأنت تعزف، ولا شك عندى أنه ينتظرك مستقبل رائع وانحنى لى وذهب وواصلت سيرى وأنا مشفق مما ينتظرنى فى مسكنى من وحشة.
القراءة
الحجرة هنا هى المشهد الأول الذى جمعه معها وحدهما، (1)وقبل أن يعلن فرحته، أو يرصدها، قفز إليه الزمن يشكك فى الاستمرار.
منذ البداية، قبل ومع الفرحة، لاح له التهديد بالفراق “…كنت أعلم أن سعادتى قصيرة، وأنه لن يلبث أن يفتح الباب“. الزمن الملاحِقُ هنا “لن يلبث” أن يكسر خصوصية المكان بفتح الباب، فيختفى وتختفى معه رقصة القلب وسعادة اللقاء.
هل كشفت لهفته وعجلته لاقتناص فرصة انفرادهما، على احتمال كذب قبوله شروطها، ولو مناورة لا شعورية؟
وهل تلك الفترة من الزمن التى قال إنها تلزمه للاستجابة لشروطها كانت بلا فحوى موضوعيه، لأنه، كما سيقول الاستاذ حالا لا يعرف معنى الوقت؟
الزمن هنا يظهر فى أشكال مختلفة، الزمن الخطّى التتابعى حين يقترن قبوله شروطها بضرورة الانتظار “فترة من الزمن“. والزمن اللاهث طلبا للذه، والقرب، المترقب للنهاية، “..وكنت أعلم أن سعادتى قصيرة” والزمن الملئ بما يستحقه “أنت لا تفهم معنى الوقت”
من فرط حرصه وفتنته بوجودها حالا لم ينتظر، بل “نادى رغبته” وليس اقترب بنفسه وحبه وكله منها،
كيف ينادى الواحد رغبته؟
يقولها محفوظ هكذا ببساطة وكأنها(الرغبة) كانت تنتظر – فى حجرة مجاورة -.
وبدلا من أن تستجيب الرغبة لندائه يدخل الأستاذ وهو يحمل معه المعنى الآخر لما هو “زمن”. يؤنبه الأستاذ مباشرة على ضياع الوقت “أنت لا تفهم معنى الوقت” وكما نادى الراوى رغبته وكأنه ينادى الحاجب، “اقتلع نفسه” (كلها هذه المرة وليس مجرد رغبته فى تعلم مهارة)، وتبع الأستاذ إلى الجانب الآخر “قبالة عمارتنا”.
نلاحظ هنا، قبل أن نستطرد، قدرة محفوظ على التجول بين حالات ذاته (ذواته، منظومات وعيه)، فاختياره لتعبيرىْ “ناديت رغبتي” و “اقتلعت نفسي” قد يشير إلى ذات محورية axon self مستعيرين أبجدية ساندور رادو Sandor Rado) وهى الذات التى تتمحور حولها الكيانات (الذوات) الأخرى الداخلية. الرغبة هنا تبدو مشخصنة فى “ذات” وليست مجرد عاطفة.
المهم أن الراوى ما إن اقتلع نفسه وتبع أستاذه حتى وجد نفسه فى حال آخر تماما، لا هو الحال الذى رقص قلبه فرحا بصاحبته، ولا هو الحال الذى يحتمل أنه ناورها به وهو يعلن قبوله شروطها ، هو حال الإبن المطيع، أو الطالب النجيب المجتهد. إذ يبدو أنه أبدى هنا استجابة طيبة لحرص أستاذه على تنبيهه لمعنى الوقت، ثم مبادرته بالتدريب الجاد على دروس البيانو (وليس حثه على حفظ جدول الضرب مثلا):
من هذا المنطلق بدأ التدريب على الفور باجتهاد شهد له الحكيم الصينى فيما بعد.
إن البديل هنا كان ملء الوقت بتدريب مهارات إبداعه، لم يُـنسه هذا البديل نبض قلبه فى حجرة اللقاء الطروب، لكن هذا الشوق بدا هذه المرة وكأنه حافز لمواصلة التدريب، وليس لهفه على اقتناص لذة عمرها قصير، وهى اللذة التى تحققها رغبة يناديها من الحجرة المجاورة.
لكن الحسبة لم تكن سهلة، فبالرغم من أنه يمارس ما رضى أن يستوعب طاقة وجدانه، وليس فقط ما يؤكد تفوقه أو نجاحه، إلا أن قلبه ظل يحوم حول حجرة اللقاء. صحيح أن التدريب على البيانو (الإبداع المثابر الذى اشتهر به شخص محفوظ بالذات) يمكن – من حيث المبدأ – أن يحتوى الجمال ويطرب له القلب والعقل معا، لكن صحيح أيضا أن القلب الطفل لا يستطيع أن ينتظر حتى تنصقل العواطف وتشحذ الأدوات لتحتوى نبضاته إيقاع الإبداع، فيستغنى به عن جوعه العاطفى، ولو مؤقتا، فهذا هو قلبه مازال معلقا – بالحجرة ومن بها.
لكن دخيلا يلبس ثوب الحكمة فى صورة الرجل الصينى طويل اللحية بسام الوجه يحتل الصورة ليبارك اجتهاده ويطمئنه على مستقبله.
هل يكفى تشجيع هذا الحكيم (الصينى) وتنبؤه له بالتفوق أن يحققا التوازن الذى يحتوى جوعه العاطفى الرقيق؟
لا يبدو أن الأمر كذلك.
فمع هذا الإنجاز الواعد، يرجع الراوى إلى نفسه ليواصل سيره إلى مسكنه (لا إلى حجرتهما-لا يوجد ما يشير إلى أن حجرة اللقاء كانت إحدى حجرات مسكنه)، يرجع وهو منغمر ببصيرة النضج، راض عن الثمن الذى دفعه فى تحقيق الولاف الصعب، متقبل لما ينتظره من وحدة محتملة، فهو الذى اختارها فى نهاية النهاية حين رضى أن يجعل للوقت معنى بأن يصقل أدوات الإبداع الواعدة باحتواء دفق عواطف طفولته الجائعة، وتشكيل إيقاع نبضات وجدانه الغض فى ضربات البيانو وهو يعزف.
كل ذلك على حساب عاطفته الجياشة الجائعة، فليكن انتظار الوحشة هو الثمن.
لينتهى الحلم وهو يمضى فرحا بإنجازه، متقبلا للوحشة (ولو مؤقتا).
مازالت العودة إلى المنزل (الأصل/الرحم/القبر/الذات القابعة هناك) تلوح بأن المنزل هو الوعد بالحماية بأنه الملاذ.
ومازال المنزل موحشا لأنه بلا ناس، فلا أمان!
****
الحلم (26)
جمعنا مقهى بلدى، وقص علينا صاحبى قصة بوليسية من تأليفه.. وقبيل الختام دعانا إلى الكشف عن القاتل. ومن (يفز يعفى من) (2) دفع ثمن طلبه، ووفقت إلى الإجابة الصحيحة وجدت بذلك غاية السعادة. وبعد ساعة استأذنت فى العودة إلى بيتى. ولانشغالى بنجاحى تهت فسرت فى طرق حتى وجدت نفسى أخيرا أمام المقهى مما أثار ضحك الجميع، وتطوع أحدهم فأوصلنى إلى بيتى وودعنى وانصرف.
وبيتى مكون من طابق واحد وحديقة صغيرة وشرعت فى خلع ملابسى ولما صرت بملابسى الداخلية لاحظت أن خطا من التراب يتساقط من أحد أركان الغرفة.. وكان هذا المنظر قد ورد فى القصة التى ألفها صاحبنا وكان نذيرا بسقوط البيت على من فيه فبكيت أن بيتى الصغير سينقض فوق رأسى. وملكنى الفزع فغادرت البيت بسرعة ولهوجة واستزادة فى الأمان انطلقت بعيدا عن البيت بأقصى سرعة فى الهواء الطلق.
القراءة
المكان هذه المرة هو مقهى بلدى (لاحظ – مرة أخرى- البداية بتحديد المكان فى أغلب الأحلام) الحلم يبدأ بقصة بوليسية يحكيها مؤلفها(يبدو أنه ألفها لتوه) وهو أحد الأصدقاء، فنستنتج أنها قصة سطحية للتسلية، وينجح الراوى فى حل اللغز (من القاتل)، ومع أن الجائزة تبدو تافهة (ثمن ما شرب) إلا أنه يبدو أن نشوة النجاح فى ذاتها كانت غامرة حتى أسكرته فكاد يفقد وعيه وتاه عن بيته ودار حول نفسه حتى عاد إليهم فى نفس المكان مما اضطر أحد أصحابه أن يوصله إلى بيته.
نكتشف من البداية كيف أن نشوة النجاح الذاهلة هذه لا تتناسب مع حقيقة المكسب (ثمن المشاريب)، ومع ذلك، فالنجاح هو النجاح، والتنافس هو التنافس، والجوائز هى الجوائز، والنشوة هى النشوة حتى الذهول.
حين يعود صاحبنا إلى نفسه (بيته) ويتعرى إلا قليلا (بقيت الملابس الداخلية) ينقلب الخيال إلى واقع حتى تكاد القصة – على تفاهتها – تصبح حقيقة.
هنا يقفز إلينا سؤال آخر غير سؤال القصة اللغز، سؤال يقول “من القتيل؟” (لا من القاتل؟). التعرى بعد ذهول الفوز على تفاهة الجائزة أمكن أن ينبه الراوى أنه: إذا كان شخصه بهذه الهشاشة، تسكره نشوة فوز لا قيمة له، فهو مقتول بأى فوز تافه قد يغرقه فى اغترابه حتى الذهول.
هكذا فجأة يضعنا محفوظ أمام التساؤل عن معنى النجاح ومعنى التنافس، ومعنى الفوز. يعلن محفوظ أن تمثيلية النجاح التى نمثلها جميعا قد لا تكون – فى نهاية النهاية- إلا دوامة فراغ، وأن سعار الفوز التنافسى الذى يسكرنا برغم تفاهة الجائزة هو الضياع ذاته.
إن الراوى برغم فوزه بمكأفاة حل اللغز، هو هو المتمايل فى سُكْر النجاح حتى التوْه، وهو – برغم فوزه، أو حتى بسبب فوزه هذا ـ يواجه انهيار وجوده الهش الذى يعلنه تساقط التراب من أحد أركان الغرفة. لم يحمِه الفوز من التهديد بانهيار وجودٍ كان هشا طول الوقت، ولم ينتبه صاحبه إلى هشاشته إلا حين غمره ذهوله بفوزه الخائب، إذْ فوجئ بأن البيت الصغير المنعزل، على وشك الانهيار بلا سبب ظاهر إلا هشاشة بنيانه.
لكن هل ثم سبيل إلى الإصلاح أو التعديل أو الإفاقة أو البدء من جديد؟
يترك محفوظ النهاية مفتوحة،
يترك صاحبنا وهو يبحث عن الأمان بعد أن تيقن من قرب انهيار وجوده (بيته الصغير)، راح يبحث عن الأمان فى الخارج هذه المرة.
فهو يعدو بعيدا عن بيته لا إلى بيته.
يجرى بأقصى سرعة فى الهواء الطلق، يجرى من نفسه (بيته الصغير المنعزل) إلى نفسه، (المشروع الأقرب إلى أصلها، إلى الطبيعة إلى الهواء الطلق)
ولكن هذا الهواء الطلق لا يعد بشيء إلا مواصلة الجرى.
…. فى الحلم السابق توجه الراوى إلى بيته وهو يستشعر ما ينتظره من وحشة، لكنه توجه مسئولا، مبدعا، ماهرا (عازفا للبيان) رغم الوحدة (وقد أشرنا إلى تكرار مثل هذا التوجه “إلى البيت” لم يكن هنا تلقائيا بل بمساعدة صديق .
الراوى هنا يهرب من بيته ذى الطابق الواحد (الوحدة)، وذى الحديقة الصغيرة (لا مكان لآخر)، وهو بذلك يعلن أن البيت الصغير، لا يفى بأى مما يمكن أن يعد به، وأنه مهدد بالسقوط، برغم هدوئه وبعده وعزلته (أو بسببها).
الهرب هنا من البيت إلى الهواء الطلق (ربما الطبيعة والناس والمساحة والحركة والحرية) يصبح هو الأمان هذه المرة.
(راجع ما سبق ذكره فى أكثر من حلم وأكثر من يومية عن برنامج الذهاب والعودة (الدخول والخروج).
[1] – علاقة محفوظ “بالأماكن” مازالت تمثل المعمار الذى ينطلق منه وبه فى معظم إبداعاته. هذا ليس جديدا، إلا أنه فى أحلام النقاهة أصبح للمكان حضور أقوى وأكثر مثولا. قلت فى نفسى: لعل هذا هو التعويض الإبداعى لما لحق بالبصر من كلال، وهو نفس التفسير الذى جاءنى حين رصدت عنده يقظة وغلبة نشاط النصف غيرالطاغى من الدماغ (المختص بالتصور الكلى، والإيقاع المتداخل، والتكثيف الضام..إلخ) ربما حدث ذلك لشيخنا نتيجة لتناقص فرص تدريب النصف الطاغى لمواصلة طغيانه بالمنطق الخطى والتسلسل التربيطى المتتالى، حدث هذا بعد الإعاقات الحسية المتزايدة التى امتحن بها شيخنا. هل هذا هو ما جعل للمكان، الصورة، المساحة، كل هذا الحضور الغالب المتزايد فى هذا العمل؟ ذلك الحضور الذى تزيد من الإحساس به سرعة إيقاع الحركة، وتداخل النقلات بفجائية تحافظ على الدهشة وتجددها؟
[2] – الأقواس تدل على تصحيح محتمل لما غَمٌضَتْ علىّ قراءته سواء فى النشر أو فى النص بخط اليد