نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 20-5-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4279
مقتطف من كتاب:
بعض ما يجرى داخل المدمن
ولمحات من ثقافتنا الشعبية (1)
الفصل الثالث: بعض الاسترشادات فى العلاج
استلهاما من الثقافة الفرعية (المصرية)
………
………
سوف أورد المثل كما سمعته أو قرأته، ثم نبذة عن ما وصلنى منه بما يتعلق بسياق ما نحن فيه، ثم ألحق هذا وذاك ببعض احتمالات تطبيق ما نعنيه فى مجال الوقاية أو العلاج من الإدمان
[1] “إللى تستهتْر بُه يغلبك”
………..
الأمر فى بداية الإدمان عجيب:
فمن ناحية لا ينفع التخويف المبالـَغ فيه طول الوقت، بل إن هذا التخويف قد يدفع بعض الشباب أن يغامر بتجربة المخدرات على سبيل التحدى ليثبتوا أنهم أشجع من الموقف، وأنهم لا يهزهم هذا الترهيب المرعب.
فى نفس الوقت فإن التهوين من الأمرقد يشجع بعض الضعاف أن يجرِّبوا تحت زعم أنهم قادرون على التوقف فى أى وقت.
يعنى هم يستهترون بما يسمعون، ويستهترون بالتحذير ويستهترون بالنصائح
بل إنهم يستهترون بالتحريم: إما بأن يفتوا لأنفسهم فتوى خاصة بأن هذا المخدر ليس حراما، وإما بأن يسيئوا فهم رحمة الله متصورين أن غفرانه سوف يشملهم حتما لأسباب خاصة.
وقد يستهتر المدمن فى تنفيذ تعليمات العلاج بعد التوقف وبعد مرحلة جميلة ناجحة من العلاج.
وكل أنواع الاستهتار هذه هى نتيجة لسوء الحسابات، والغلو فى تقدير قدرات الذات.
(تنويه: آمل أن يصل الخطاب فى هذا الفصل كله إلى المدمن أو مشروع المدمن وأسرته ليس بالنصائح ولا باستعمال الأمثال وترديدها، ولكن من خلال الجدل الممارَسِ عبر الوعى البينشخصى والجمعى، وهو أساس حركية ثقافة المجتمع العلاجى، فى مقابل ثقافة الإدمان (أنظر بعد).
التطبيق فى الوقاية والعلاج:
(1) تجنـَّب الاستهتار بالأمور الصغيرة
(2) لا تدخل تجربة لمجرد التجربة، خصوصا أن هذه بالذات ليست تجربة آمنة، أو مجهولة، فكل من جرَّب قبلك حصل له ما حصل
(3) ليس معنى هذا أن تخاف من أى تجربة بصفة عامة، وإلا حرمت نفسك من حق الاكتشاف، ولكن المطلوب أن تحسبها بحذق ومشورة
(4) وأنت قادرعلى هذه الحسابات فعلاـ أنت ومن يحبك .
(5) فقط : تذكر أن كل الحسابات التى تميز بها نفسك بأنك “أقوى وأنصح” عن من سبقك فى هذا الطريق وتدهوره، هى نوع من الاستهتار غير المفيد
(6) كما أن كل الحسابات التى تقلل فيها من قدرات الآخرين، وأيضا تقلل فيها من المضاعفات التى يمكن أن تحدث لك ولأسرتك هى استهتار مُهْلِك
(7) خذها بجدية، ولكن لا تَقْلِبْها غَماًّ ومبالغة فى المعاناة
(8) وأخيرا: لا تستهتر بعواقب عدم تنفيذ التعليمات، فالمسألة محسوبة علميا، وهؤلاء الناس، كلهم والله، يريدون مصلحتك يا أخى
[2] ”ما يـُـقع الا الشـاطـر”
تكملة للمثل السابق “إللى تستهتر به يغلبك” هذا مثل آخر يؤكده، وهو يتكلم أيضا عن الشطارة
والشطارة أنواع من أهم ما يمثلها ونعرضه كعينة فقط:
-
الشطارة التى تسمى “نصاحة” عند أولاد البلد ، وهى التى تعتمد على ما يسمى “الفهلوة”
(2) “شطارة التجار”، وهى فى مهنة التجارة مقبولة وقد تكون مفيدة حسب طول الحسبة، أما أن تكون هى القاعدة، فالمسألة “فيها كلام”!!
(3) شطارة التفوق (الدراسى أو الوظيفى وغيره)، وهى تطلق عادة على نوع محدد من التفوق المدرسى أو الوظيفى
والذى يقع من كل هؤلاء الشطار فى المجالات المختلفة:
1- هو الذى زودها فى النــَّصَاحة
2- هو قصير النظر فى التجارة
3- وهو الذى اكتفى بشطارة الحفظ أو التفوق وتنفيذ التعليمات فى مجال محدود: عن شطارة التعلم المستمر من واقع الحياة
والثلاثة يقعون فى الإدمان كلٌّ بطريقته
الأول: بالاستهتار والغرور
والثانى: بالحسابات الخاطئة
والثالث: بضيق مجال الخبرة
التطبيق فى الوقاية والعلاج:
الخطاب من خلال الوعى المشارِك:
(أ) لا ترفض الشطارة ولكن احسبها وتعرّف على أبعادها، جدواها، وآثارها ، حالا، ومستقبلا
(ب) الشطارة “الصح” هى التى تحميك من الوقوع فى خطأ لا صلاح له، وهى التى تجعل الحسابات دائما فى يدك أنت، لا فى يد الظروف، ولا فى يد الصدفة، ولا فى يد أصحاب السوء، ولا فى يد من لا تعرف (ماأمكن ذلك)
(جـ) مارس شطارة التجار بعيدة النظر، فالسوق ملئ بأنواع مختلفة من اللذة، واللذة الأعمق والأطول عمرا، والأبقى هى المكسب الحقيقى، ومن ذلك ما تنبهك إليه ثقافتنا وهو متضمن بشكل أو بآخر فى برنامج العلاج، وذلك مثل:
ـ لذة الصحبة الحلوة؟
ـ لذة استكشاف الصحراء (ولو سيرا على الأقدام بعض الوقت فى صحبة طيبة، أو فى ضوء القمر)
ـ لذة الصلاة، والدعاء
ـ لذة المعرفة، لا مجرد جمع المعلومات
جرِّب معنا ثم اختر اللذة الأجمل والأنظف
[3] “إللى ما يـِسْتِحى يــفعل ما يشتهى”
الحياء من أرقى الأخلاق الإنسانية وأقدرها على الفاعلية والتأثير فى السلوك البشري، والحياء غير الخجل، فالحياء نوع من الإباء، أما الخجل ففيه – عادة – خزى وشعور بالذنب وانسحاب .
والحياء فيه علاقة ما بالموضوع، فيه “آخر” (أنت تعمل حساب واحد، أو يغلبك الحياء من واحدة..إلخ)، فعادة يقال أنا أستحى منك، أو أنا أستحى أن أفعل كذا أمامك،
وكثيرا ما نجد الشخص فى البداية وهو متردد أن يخوض تجربة التعاطى “يستحى أن يفعلها ”
ثم إنه يبدأ فى التعاطى فيتضاءل حياؤه رويدا رويدا، وذلك بالتعود على نسيان حساسية الموقف، وأيضا بالتعود على الاستهانة بشعور الآخرين، وقد يسهم المخدر وتغييبه للوعي،أو زيادته فى البلادة، ومن ثم فى التخلى عن هذه الفضيلة.
ويتدرج الأمر حتى لا يستحى المدمن أن يمد يده للناس، ثم لا يستحى أن يمد يده لما يملكه الغير (فيسرق) ثم لا يستحى أن يعيش عالة على غيره بلا نفع ولا غاية
وحين يصل إلى هذه الدرجة فإنه فعلا يعمل ما بدا له - دون استحياء
فلا يهمه رأى الأهل، ولا مستقبل أولاده، ولا جرح كرامته ولا تبقى إلا الإهانة وإرضاء الشهوة التى لا تشبع
التطبيق فى الوقاية و العلاج:
نأمل أن يوقظ هذا الوعى الشعبى للمدمن (أو مشروع المدمن) بعض ما يلى:
(أ) حاول أن تتذكر كيف أن الله أكرمك
(ب) إنك بمجرد كونك إنسانا خلقه الله تستأهل الحب والاحترام
(جـ) وحتى بعد أن أخطأت - يا شيخ - وتورطتَ، فلا بد أن تحافظ على يقينك أنك تستأهل الاحترام.
قل لنفسك:
” أنا محترم رغم كل شيء،
* وإن ما أفعله بهذا الذى أتعاطاه ليس فيه حياء أو كرامة،
* وسوف أستعيد حقى فى أن أكون إنسانا حرا كما خلقنى الله وأكرمني،
* وأنا أستأهل ذلك ، وأقدر عليه، بالتعاون مع كل من هو مثلى ومن هو معى”
إننى أستحى من الله وأستحى من الناس، وأستحى من ذكرياتى الجميلة مع نفسى وعن نفسي، وأستحى أن أشوه أسرتي، أو أهين أولادى أو أخواتى وإخوانى
لذلك أعُالج وسوف أتوقف حتما
[4] “مِنْ شاف الشر ودخل عليه، يستاهل ما يجرى عليهْ”
يكاد لا يوجد مدمن واحد لم يعرف مسبقا أخطار الإدمان، حتى أن البرامج الإعلامية أو التعليمية التى تركز كل جهدها على تناول هذه المسألة بالإفراط فى بيان كيف أن الإدمان شر وكذا وكيت، هى برامج يمكن أن تعد من قبيل “تحصيل الحاصل”.
هذه الرؤية تثير تساؤلات موضوعية منها:
كيف يُقـْدِم الواحد على تعاطى شيء (حتى السجائر) وهو يعلم أن فيها شراً كبيراً؟
مثال السجائر خير دليل على ذلك، فإن كتابة عبارة “إن التدخين ضار بالصحة”” لم تقلل من التدخين خصوصا فى الدول النامية والفقيرة التى لا تهتم أصلا بالصحة ولا تعمل حسابا للضرر والضرار.
إن الموقف فى هذه الحال يتطلب مسئولية أكبر من تعداد أنواع الشرور التى يمكن أن تصيب المدمن
حتى التهديد بالوفاة لا ينفع كثيرا، لأن كثيرا من المدمنين هم الذين يبلغون أن صديقهم فلانا الذى كان يعالج مثلا معهم مات بجرعة مفرطة أو بمادة مخلوطة سهلت التسمم فالوفاة، ومع ذلك لا يمتنعون
فكيف نعمق أثر المعرفة الرؤية دون تهديد مرعب حتى تصبح ذات فاعلية؟
التطبيق فى الوقاية و العلاج:
(1) علينا أن نستوحى من هذا المثل النابع من ثقافتنا أن نتجنب أن نبالغ فى ذكر الأضرار والشرور المترتبة على الإدمان بشكل مباشر، وعلينا أن نتذكر أن بعض من يُقبل على الإدمان يكون عنده رغبة خفية (لا شعورية) فى إيذاء ذاته (الاكتئاب أو الانتحار)، وكأنه بهذه المبالغة يبرر له تحقيق غرضه (اللاشعورى) بالتأكيد على أن الإدمان مُهلك حتى النهاية.
(2) علينا أيضا أن نغتنم الفرصة للتأكيد على مسئولية المدمن فى البداية والنهاية، وهو الجزء الثانى من المثل “يستاهل ما يجرى عليه”، والإشعار بالمسئولية لا يعنى بالضرورة توجيه التهم، وإنما هو يستعمل المعرفة للتقليل من التماس العذر (“غصبا عنى”!!!، “ليس بيدى”!!)، وما يـِجْـرَى عليه غير ما يَـجْرِى له، ومن ضمن ما يجرى عليه هو الخسائر الأدبية والمادية التى تشمل خراب بيته وتدهور صحته ، وهو مسئول عن ذلك بشكل أو بآخر.
ولكن: إذا لم يكن الإشعار بالمسئولية عقابا وتوبيخا فماذا يكون؟
هو بداية التأكيد على مسئولية المدمن فى استمرار العلاج وإسهامه فيه.
والشعور بالمسئولية أهم من التركيز على “استعمال الإرادة”، تلك المقولة التى يكررها العامة، والأسرة، والإعلام طول الوقت، إن القرار الأنفع يرتبط بالوعى بالمشكلة وحساب أبعادها، وتحمل مسئولية عواقبها – الآن – بما يسمح بالاختيار الذى لا يكون حقيقة إلا بالتنفيذ الهادئ على مراحل.
[1] – المقتطف: من كتاب بعض ما يجرى داخل المدمن ولمحات من ثقافتنا الشعبية: الفصل الثالث: بعض الاسترشادات فى العلاج استلهاما من الثقافة الفرعية (المصرية) (من 102 ص إلى 109) ( الطبعة الأولى 2017)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net