الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / بعض معالم علاج النفس من خلال الاستشارات عن بُعد: الاستشارة السادسة: مفاجآت العلاج ودروس الممارسة! (2 من 2)

بعض معالم علاج النفس من خلال الاستشارات عن بُعد: الاستشارة السادسة: مفاجآت العلاج ودروس الممارسة! (2 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 19-5-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4278

بعض معالم علاج النفس

من خلال الاستشارات عن بُعد

مقدمة:

اليوم نستكمل استشارة نشرة أمس

برجاء قراءة نشرة أمس أولا حتى تتكامل الفائدة

****

الاستشارة  السادسة

مفاجآت العلاج ودروس الممارسة! (2 من 2)

ولكن دعونا نبدأ بإعادة آخر سؤال من نشرة أمس، ومعه آحر رد لعل الوصْل يكون أوضح والدعوة إلى البدء بقراءة نشرة أمس تصبح أكثر إغراءً

(6)…. فى اليوم التالى أخرجها أخوها من المستشفى دون علمى، بعد 10 أيام أعادها – لا أعلم لماذا- فى عدم وجودى أيضا، كل ما أعرفه أنها لم تتناول دواءها طوال هذه المدة،المريضة لم تتغير صورتها ولكن فى العلاج الجمعى فوجئت بـ (ف) أخرى: منتبهة، خارج السرداب تماما، لها رأى ليس بالضرورة مهذبا كما اعتدت منها، ويا للعجب .. تأخذ  أدورا فى المينى دراما ما زالت مشاعرها إلى حد ما ضحلة (وإن كنت ألمح شرارة غضب ولغة جسد متحفزة لا تزيد عن ثوان معدودات إذا ما حاصرتها مريضة فى الحوار)، وكلامها ليس كثيرا ولكنها لم تعد تنكر أن لديها هلاوس… هذه الصورة  داخل المجموعة العلاجية فقط وليس بين الآخرين فى القسم

د. يحيى:

لا ..لا..لا..هذا علاج جمعى حقيقى محترم،

 إن رصدك لخروجها من السرداب بهذه الصورة، التى قد تعد سلبية بالقياس الطبى التقليدى، ورصدك لتحرك مشاعرها، ولو ثوان،  بما  يشمل ملاحظتك تعبير الجسد عن الغضب والتحفز لهو رسالة واضحة أن التغير الذى يحدث لمرضاك – وربما لك– من خلال مثابرتك العلاجية  هذه هو تغير نوعى بالضرورة.

ثم لعلك تلاحظين كيف أنك رصدتِ – بمهارة إكلينيكة متميزة –  تحسنها بظهور الهلاوس ولو خارج المجموعة (أو العودة للاعتراف بوجودها) واعتبرتِ ذلك تحسنا (عكس ما يفرح به عامة الأطباء حين  تختفى  الهلاوس دون أن يلاحظوا لماذا اختفت، ولا أين، ولا على حساب ماذا؟ المهم – عندهم- أنها اختفت تحت  أى حاجز خانق، أو دواء كاتم، وحلت محلها – ربما –  أعراض سلبية غالبا ..إلخ).

كما وصلنى أيضا أنك اعتبرت خروجها عن فرط التأدب الزائف هو أيضا دليل تحسنها حتى لو بدت غير مهذبة مرحليا.

أعتقد أنه من حسن الحظ أن هذه المريضة خرجت دون علمك هذه الأيام العشرة، والأرجح عندى أنهم لو كانوا استشاروك فربما كنت أجلت خروجها بعض الوقت نظرا لأنه لم يظهر عليها أى تغير فى الجلسة الأخيرة مقارنة بزميلاتها، أو ربما حرصا على الاطمئنان على حسن توقيت خروجها بعد إعداد مناسب،

عدم أخذها الأدوية أثناء هذه الأيام العشرة ليس أمرا جيدا نصفق له دون تحفظ  حتى لو اعتبرنا أنها تحسنت، لكنه أمر له دلالته فى مفعول هذه الأدوية إذا دامت حتى أخمدت كل شىء، بما فى ذلك قرار الشفاء (لهذا كثيرا ما أستعمل طريقة الزجزجة (1) كما ذكرت، أعطى وأوقف، ثم  أعطى وأوقف باستمرار)

مثل هذه الصدف الطيبة التى حدثت لمريضتك أضافت إلى علمنا ومهنتنا الكثير، كما أن مثل هذه الملاحظات الدقيقة أنارت قضايا ما كانت تبدو بهذا الوضوح لولا التفتح التجريبى المثابر مثلما تفعلين

ثم نواصل نشرة اليوم:

(7) السؤال الآن: ماذا حدث لمريضتى؟ ما الذى غيرها فى 10 أيام.

يقولون لى وماذا يهمك فى سبب تغيرها المهم الإستجابة. نعم .. ولكننى مرتبكة؟

د. يحيى:

تعلمين يا أميمة أن اسم الفصام  Schizophreniaصكه بلويلر Bleuler وأعلنه فى العقد الأول من هذا القرن، ليحل محل الاسم الذى كان يستعمل أيام كريبلين والذى أطلقه موريل على هذه الحالات وكان “العته المبكر”  Dementia Precox حدث ذلك نتيجة ملاحظات كالتى ذكرتيها الآن فى حالتك.

مثل هذا الذى حدث لمريضتك لاحظه بليويلر على مرضى كان تشخيصهم العته المبكر (لأنه يبدأ مبكرا فى سن مريضتك تقريبا، سن المراهقة)، وأنت تعرفين أن العته هو تدهور عام فى الشخصية، خصوصا فى القدرات المعرفية، تدهور لا رجعة فيه وإلا لما سمى عتها، لما لاحظ بلويلر هذا التحسن على مرضاه بعد عشرات السنين قكر أنه: مادام المرض قد تحسن حتى الشفاء أحيانا بعد كل هذه المدد هكذا، فهو  ليس عـَـتـَـها، فراح يبحث له عن اسم آخر وصك له اسم الفصام Schizophrenia: وكان يعنى أن المخ انفصم ولكنه لم  يتدهور إلى غير رجعة، وأن ما انفصم يمكن أن يتجمع، وقد كان، وقد أثبت كل ذلك فى كتابه المرجع حتى الآن وأصدره سنة 1911 (2)، ثم بدأ الاسم الجديد “فصام” يصبح أرضا بلا صاحب، فيدخل العامة (وأهل الدراما) فيه ازدواج الشخصية، أو يصفونه كأنه تقلب الطباع من أقصاها إلى اقصاها، حتى جاء التقسيم الأمريكى الرابع بأسخف المحكات وأسطحها التى تسمح بدخول الصورة الإكلينيكية ونقيضها تحت نفس الاسم…إلخ

الذى حدث أن بلويلر لاحظ التحسن الفجائى لهذه الحالات بعد عشرات السنين من المرض إثر تغيرات بسيطة غير مفسرة مثما حدث فى حالتك هذه، مثلا: تغيير العنبر، تغيير الممرضة، الخروج فى إجازة، (مثل حالتك)، كل ذلك أدهشه حتى تأكد أنها ليست مسألة عته، بل هى إجازة طويلة من “الواحدية Oneness (أن أكون واحدا فى لحظة بذاتها)، تلك السمة الأساسية التى نواصل السعى لاحتمال توافرها ونموها باستمرار حتى يمكن لأى شخص أن يقوم  باتخاذ قرار ما، وأن يتفاعل ككل واحد – ولو نسبيا- فى وقت بذاته..إلخ.

هذا من الناحية التاريخية، علما بأن بلويلر لم يضع تفسيرا واضحا لمثل هذا الذى حدث، ولاحظه، لكنه استلهم منه هذا التحول الجذرى فى مفهوم هذا المرض.

بالنسبة لحالتك فالأمر مرتبط – ولو جزئيا، بجلسة العلاج الجمعى المتحدية السابقة لخروجها، طبعا بعد التمهيد الطويل بجلسات سابقة ورعاية ممتدة، أوصلتْ للمريضة الرسالة التى تحدثتِ عنها، حتى لو لم تتفاعل المريضة بحرف واحد، الرسالة تقول لها (وللأخريات): إنك تستطيعين أن تختارى الصحة بعد أن فشل الحل المرضى هكذا، هيا وإلا …..

اختيار المرض، وبالذات الفصام، يسمى “الحل المرضى”، وهو اختيار فعلا لكنه اختيار على مستوى آخر من الوعى، وتقريب ذلك إلى المريض  بأسلوب علاجى فى الوقت المناسب هو فن جيد، لأنه ينبغى ألا يكون فى صورة اتهام له، بل هو غاية الاحترام ودعوة للعودة.

لا شك أنك يا أميمة تعرفين “ألفرد أدلر” تلميذ فرويد الذى انشق عنه هو وكارل يونج، لقد استلهم فكر أدلر أحد أتباعه من المحدثين “نسبيا”  اسمه شولمان Shulman  وكتب كتابا رائعا اسمه “مقالات عن الفصام” (3) Essays on Schizophrenia وصف  فيه كل طور من أطوار الفصام على لسانٍ يتكلم من داخل المريض، ووضع ذلك ببنط مائل  فى هامش واسع طول الكتاب حتى يثبت أنه اختيار منذ البداية،،

أصور لك بعض الهوامش البداية بصورة كاريكاتيرة مصرية هكذا،

 يقول داخل المريض مثلا (فى البداية):

 –  لأ مش لاعب

– عن  إذنك أنا راجع إلى قوقعتى

– ماذا أفادنى واقعكم؟

– أنا أتنازل عن نفسى ذاتها حتى لا تذلونى

– …إلخ

وقد كنت أستعمل هذا الأسلوب أحيانا ومن البداية مع بعض مرضاى، حين يدور حوار بينى وبين  مريض فصامى منذ سنوات أرسمه “شرحا مبسطا أيضا ” (وليس بالنص طبعا)، على الوجه التالى:

أنا = مش كفاية كدة

المريض – كفاية إيه؟

أنا = ما هى ما نفعتشى

المريض – لأ نفعت.

أنا = بذمتك؟؟؟!

المريض – يعنى

أنا = بذمتك بصحيح: ما شْبعْتش مرض؟

المريض – شبعت بس ما فيش حل تانى

أنا = طب ما نجرب يمكن

المريض – يمكن بتضحك علىّ زيهم

أنا = الشىء لزوم الشىء ولو فى البداية، آهى تجربة

المريض – وانا إيه ضمّنى

..إلخ

طبعا هذا الحوار لا يدور هكذا بالضبط، ولا هو يدور فى جلسة واحدة، وحين يشاهدنى من لم يعتد مثل ذلك، يتصور أننى والمريض نتكلم ألغازا.

الأرجح عندى يا أميمة أنِك مهدت لمثل ذلك مع مريضاتك حتى وصلت إلى تلك الجلسة التى سمحت لك بما ذكرت.

ثم  إن ما قالوه لك (ربما زملاؤك وربما المرضى) هو صواب تماما، حين قالوا:  “وماذا يهمك فى سبب تغيرها المهم الإستجابة”

هذه القاعدة البسيطة هى أساس ما يسمى “الممارسة الإمبريقية” التى هى أساس الطب النفسى، بل الطب كله، قبل أن يتشوه على أيدى شركات الدواء والعلم التعليلى الكيميائى الزائف، و أيضا على يد سوء فهم فرويد والتركيز على السببية الحتمية بديلا عن الجارى هنا والآن إلى أين ….،

(ولهذا حديث آخر طبعا).

(8) …. كانت رؤيتى واضحة إلى حد ما، ثم تغير كل شىء ولم تعد لى رؤية  واضحة، وكأننى أفقت فوجدتها فى يدى ولا أعلم أين أذهب بها.

فهل تقترح على ما  يربط لى أجزاء هذه الصورة ببعضها…

د. يحيى:

الذى يربط الصورة ببعضها أتصوره على الوجه التالى:

1- إنك الآن أقرب إلى الفهم عنك من أيام أن كانت رؤيتك واضحة (أعنى أيام أن كنت تعتقدين أن رؤيتك واضحة)

2- إنه قد وصل لمريضتك منك، ومن زميلاتها، رسائل كثيرة كثيرة، وهى رسائل صامتة متسحِّبة حتى لو كات المريضة لا تتفاعل بنشاط، وصلت هذه الرسائل فى اتجاه إعطائها بصيرة فى احتمال استعادة قدرتها على اختيارٍ آخر (الصحة، أو الطريق إلى الصحة) بعد أن أبلغتها المجموعة بقيادتك أن ذلك ممكن، حتى لو كان يشمل ضمنا اتهاما بأنها سبق أنها اختارت المرض، وها هو قد  ثبت أنه اختيار خائب، وأن  ثمنه باهظ، وأنها تستطيع أن تختار عكسه.

3- يبدو إن هذا التراكم الذى لم يظهر أبدا فى صورة سلوك  يمكن رصده علانية قد تجمع بشكل خاص فى تلك الجلسة الأخيرة قبل خروجها

4- إن المصادفة التى ألقت بها إلى الواقع حين أخرجها أخوها دون علمك – أحسن–  جعلتها فى مواجهة ما سبق أن رفضته بالمرض، كما أعفتها لبعض الوقت من سجن الدواء (برغم ضرورته من حيث المبدا) وهى إما أنها قد اكتشفت أن هذا الواقع الخارجى ليس بهذه البشاعة التى صورها لها المرض، أو أنها اكتشفت أنها اصبحت أقدر على مواجهته والتعامل معه كما تعلمت فى العلاج الجمعى أو من خلال علاقتها الممتده بك وبالمجتمع العلاجى حتى لو لم يكن قد استحق هذا الوصف.

5-  إن تعبيرك “فوجدتها فى يدى ولا أعلم أين أذهب بها” هو تعبير أدبى جميل، لكنه يدل على أن مهنتنا (الحقيقية) هى فن أصيل، إن العلاج النفسى هو نقد النص البشرى إبداعا مع فارق أن النص البشرى، بعكس النص الأدبى،  يشارك فى النقد بنفسه لإعادة الإبداع.

وبعـد

فأظن أن عليك يا أميمة أن تتصورى أن هذا كله لا يشير أو يؤكد بأى درجة موضوعية أن هذه المريضة قد شفيت تماماً أو أنها تستطيع تلقائيا أن تحافظ على ما وصلت إليه، فهى لابد تحتاج إلى دعم ممتد، وصبر وأمين.

مريضتك يا أميمة لا تحال إلى المعاش فى سن الستين، بل هى تعاد إلى المعاش فى هذه السن، أبشرى.             

أنا معتاد على الإحباطات منذ واحد وخمسين عاما، والعقبى لك،

ولكن كما ترين، الإحباط مهما بلغ تواتره، غير قادر على إلغاء الحقائق لحساب التجارة والتسطيح والعلم الزائف.

أليس كذلك؟

  

[1] – “أنظر الهامش السابق

[2] –  Bleuler, E. (1911) Dementia Praecox or The Group of Schizophrenias. English Translation 1966. New York: International University Press.

 [3] –  Shulman  B. H. (1968) Essays in schizophrenia. Baltimore: the Williams & Wilkins .

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *