“نشرة” الإنسان والتطور
5-1-2008
العدد: 127
الموت: ذلك الوعى الآخر (1)
كتبت فى يوميتين سابقتين عن الموت (يومية 7-11-2007 “عن الموت والوجود”)، (يومية 21-11-2007 “الموت والشعر”)، كما كتبت مؤخرا عن اقترابى مرغما، وبمخاطرة فائقة، من حل “لغز الموت” بشكل أو بآخر، لم يعد مجرد الانتباه إلى حقيقة “حدث الموت” هو ما يبرر فهمنا لجدوى الحياة وتمسكنا بها، وإنما أصبح عندى أن الموت هو مرحلة ونقلة بين مستويات الوعى.
متى وكيف يعرف الطفل الموت؟
المدخل فى النشر الأول كان لتقديم كيف يدرك الأطفال الموت، لكن المداخلة تناولت أيضا الحس العادى الطيب لهذه الحقيقة، وقد تم فى هذا التحديث الآن إضافة ما تيسر.
كثيرا ما يخفى الأهل عن الأطفال موت ذويهم الأقربين: موت الأب أو الأم بالذات، وهم يتصورون أنهم بذلك يرحمون الأطفال من آلام وكذا وكيت، وعادة ما أنصحهم بأن يكفوا عن ذلك الكذب والتصور الخاطئ، وأن الله سبحانه أرحم وأعلم بمن خلق، وأنه هو الذى خلق الموت والحياة والأطفال، وكثيرا ما أقوم أنا عنهم بإخبار الأطفال، ويفاجأون، ولا أفاجأ، أنذاك باستقبال الطفل الهادى الطيب لهذا النبأ العادى، ليس لأنه لايعرف ما هو الموت، ولكن – على حد تصورى- لأنه أقرب إليه من تصورنا.
الفقد غير الموت (وقد أشرت إلى ذلك من قبل يومية 21-11-2007 “الموت والشعر”).
هانز كريستان أندرسون
فى صورتها الأولى كانت بداية هذه المداخلة أقرب إلى ماهو نقد أدبى من خلال أعمال هانز كريستيان أندرسون للأطفال .
اكتشافى لهانز كريستيان أندرسون هو قديم قدم الفيلم الذى مثله “دانى كاى” عن حياته، وكان ذلك فى الأربعينات، وكنت فى بعض “التّـاشر” teens من عمرى (15- 16 غالبا). هانز كريستيان أندرسون ولد فى 2 إبريل 1805 ومات فى 1875، وهو أشهر مَنْ كتب للأطفال، لعل فى انتشار هارى بوتر هذه الأيام عبر العالم ما يذكرنا بدور مثل هذا الأدب للكبار والصغار معا، وأيضا هو يرجعنا إلى ألف ليلة ودورها التربوى الإبداعى تاريخا وقوميا وعالميا.
أسئلة الأطفال هى هى أسئلة الفلاسفة، وبدرجة أقل: هى أسئلة كثير من المبدعين بصفة عامة، والروائيين منهم بصفة خاصة. أسئلتهم عن الله سبحانه، وعن الموت، وعن المصير، هى من أكثر الأسئلة إلحاحا، وهى أيضا من الاسئلة التى ليس لها إجابات نهائية، حتى الإجابات الدينية التقليدية تترك الباب مفتوحا للتفاصيل بشكل أو بآخر.
الإجابة على هذه الأسئلة لا ينبغى – ولا يمكن – أن تكون مباشرة، هذا ما فعله أندرسون وغيره.
سوف نقصر قراءتنا بالتفصيل على قصة واحدة لأندرسون، ثم نشير إلى مقتطفات من أخرى، “حكاية أم” مرورا بحكى موجز جدا عن حكاية أب مصرى (نص بشرى) وكيف استقبل موت ابنه، ثم نخرج إلى استدرك عن وعينا الشعبى بالموت والطير والرحيل، ثم بشعرٍ لطفل أمريكى، لنختم بطاغور.
“بائعة أعواد الكبريت الصغيرة”،
هذا هو اسم الحكاية الرئيسية التى يحكى فيها أندرسون عن طفلة فقيرة تبيع أعواد الكبريت لتكسب من خلال ذلك ما يسد جوعها، وربما جوع أسرتها حيث:
“كانت تخشى أن ترجع إليها وهى لم تتمكن من بيع عود كبريت واحد بعد”.
فاستمرت فى البرد تشعل أعواد كبريتها لعلها تدفئها حتى كان ما كان.
حين يحكى أندرسون، يجعلك تسمع وترى وتحس كأنك هناك فعلا.
إذا قرأت هذه القصة بمثل ما قرأتـُها به فسوف ترى البنت البائعة الصغيرة رأى العين، سوف تراها وهى تسير حافية القدمين على الأرض المغطاة بذلك الصقيع المجمد، وقد تبتسم بالرغم من ذلك حين يشرح لنا أندرسون كيف صارت قدميها إلى الحفاء، لقد غادرت بيتها وهى ترتدى خفا كبيرا جدا عليها:
“…. ربما كانت أمها هى آخر من استعمله، ولأنه كان كبيرا جدا فقد فقدته حين أسرعت لتعبر الشارع، إذ مرت بها عربتان منطلقتان بسرعة جنونية، فضاعت الفردة الأولى، أما الثانية فقد ركض بها ولد يقول بأنه سيستعملها كمهد حين ينجب أطفالا، ومشت البنت ذات القدمين العاريتين اللتين كانتا حمراويتين زرقاويتين من شدة البرد..”
من خلال حمرة قدميها المختلطة بالزرقة شعرت فى جلدى مباشرة بدرجة البرد التى كان يحيط بالبائعة الصغيرة، ثم عدت فرأيت الصبى الظريف خاطف الحذاء ليجعله مهدا لطفله القادم، رأيت على وجهه تلك البسمة الساخرة وخيل إلى أنه بذلك يرحم البائعة الصغيرة من أن تسير بفردة حذاء واحدة تضاعف من إحساسها بالبرد، وكأنه بذلك أيضا قد كفاها أن تضيع وقتها فى البحث عن الفردة الأخرى. أبلغتنى هذه الصورة الاعتراضية، برغم الجوع والصقيع فالموت، أبلغتنى شيئا طيبا باسما عن المستقبل، فرأيت هذا الطفل الشقى حين يصير أبا وله طفل يرقده فى فردة الحذاء المهد المخطوف! ما علينا، صاحبتُ البائعة، ورأيتها وقد “سقطت ندف الثلج على شعرها الأصفر الطويل الذى تجعد بشكل جميل حول رقبتها، وقد وقفت “فى زاوية بين بيتين أحدهما قد تقدم قليلا على الآخر فى الشارع”!! وقد راحت تتابع ما يجرى داخل البيوت الدافئة. وفى محاولة أن تتغلب قليلا على بعض الصقيع الذى جعلها لا تعود تشعر بقدميها من شدة البرد، أشعلت عود ثقاب واحد لتدفئ أصابعها:
“كانت شعلة دافئة صافية مثل شمعة صغيره، أحاطته بيديها، كان ضوؤه عجيبا. ظنت البنت الصغيرة بأنها تجلس عند موقد حديدى كبير بكرات ومدخنة نحاسية، توهجت النار مشتعلة تنشر الدفء” وبانتهاء اشتعال عود الكبريت اختفى الموقد، وانتهى الدفء، فعاد البرد، فأشعلت آخر، فخلق لها مائدة فى غرفة معيشة عليها بطة مشوية محشية …المدهش فى الامر كان عندما قفزت البطة والسكين فى ظهرها حتى وصلت إلى الفتاة الفقيرة، وانطفأ حينئذ عود الكبريت، فلم تر غير حائط سميك بارد”
حين أشعلت الصغيرة العود الثالث وجدت نفسها فى حضن طبيعة حانية محيطة
“نظرتْ إليها آلاف الشموع الموقدة على تلك الفروع الخضراء والصور الملونة … وعندما مدت الصغيرة كلتا يديها فى الهواء انطفأ عود الكبريت وصعدت شموع عيد الميلاد الكثيرة إلى الأعلى، فرأتها مثل نجوم صافية سقطت إحداها مخلفة شريطا ناريا فى السماء”
نلاحظ هنا النقلة الواصلة بين الطبيعة وشجرة عيد الميلاد بشموعها، كما يمكن أن نشاهد النجم الساقط الذى لم يكن إلا إحدى الشموع منذ قليل. كان يمكن أن ينتهى هذا الخيال فى بعض قصصنا الوعظية الإرشادية بجزاء طيب مقابل الصبر والإصرار على أداء المهمة، أو كان يمكن أن ينتهى بعثورالطفلة على كنز مخبأ، أو بمكافأة أبوية تجزيها خيرا على استقامتها ..إلخ. لم يحدث أى من ذلك. الذى حدث أنها تذكرت، وهى فى حضن الطبيعة الحانية، جدتها التى توفيت والتى كانت تقول لها “عندما تسقط نجمة، تصعد روح إلى الله“، وإذا بعود الكبريت الرابع حين شحطته يحضر لها جدتها فى هالة من الضياء
“واضحة لامعة حنونة طيبة”. صاحت الصغيرة جدتى خذينى معك، أعلم بأنك ستختفين عندما ينطفئ عود الكبريت. ستختفين مثل الموقد الدافئ، مثل البطة الشهية وشجرة عيد الميلاد المباركة، ثم أسرعت بشحط عيدان الكبريت الباقية فى الحزمة تلو الآخر، كانت تود بشدة أن تبقى جدتها، أضاءت عيدان الكبريت ببريق أصفى من ضوء النهار، لم تكن جدتها فى يوم أحلى وأكبر منها الآن، حملت الجدة الفتاة الصغيرة بين ذراعيها وطارا بألق وفرح عاليا، عاليا جدا، حيث لا برد ولا جوع ولا خوف، كانا عند الله”
أيضا كان يمكن أن تنتهى القصة هنا بتصفيق وعظى آخر، ، لكن أندرسون أنهاها وهو يصف جثة الفتاة بشجاعة وجمال أيضا
عند الصباح، وفى الزاوية تلك بين البيتين، كانت الفتاة الصغيرة، بوجنتين حمراوين، وابتسامة مرسومة على الفم….
ماذا تتوقع من هذه الصورة؟ الوجنتين حمراوين، والابتسامة مرسومة، الأرجح أنها قد نامت حالمة فى حضن جدتها الحانية، وهذا جزاء البنات الحلوات ، أليس كذلك؟ لكن أندرسون يقول شيئا آخر:
“….. كانت ميتة، ماتت متجمدة من البرد فى الليلة الفائتة من العام الماضى. طلع صباح السنة الجديدة على الجثة الصغيرة التى حضنت عيدان الكبريت ومنها حزمة محترقة، قيل بأنها كانت ولا شك تريد أن تحصل على دفء، لم يعرف أحد كم كان جميلا ما رأته، أى ضوء مشع دخلت عبره مع جدتها العجوز إلى فرح العام الجديد:(كتبت هذه القصة فى عام 1848).
لماذا أمات أندرسون هذه الجميلة؟ لماذا لم يجعل النهار يطلع عليها؟ وتشرق الشمس، فيذهب الناس إلى السوق ويمرون بها ويشترون منها ما يجعلها تعود إلى أهلها راضية ناجحة؟ لماذا لم يرجع أحد قاطنى المنزلين التى نامت فى الزاوية بينهما فيراها فيوقظها، ويدعوها برحمة إلى الداخل، ويعد لها شوربة ساخنة، ويدفئها ويقبلها فتنام شاكرة صنيعه؟ لماذا لم يرسم لنا أندرسون جثتها بيضاء باهتة من الصقيع على الأقل، ولم يضع على وجهها تقلصات البرد التى أشعرنا بها طوال حكيه عنها حتى كدنا نتجمد ونحن نقرأها ؟
لقد علمنا أندرسون من خلال القصة حتى النهاية كيف يمكن أن تكون النقلة هادئة بين الحياة والموت، إلى الله سبحانه، كما عايَشَنا قبل ذلك هذا التداخل بين الواقع والخيال، كل ذلك ووعينا يضىء المرة تلو المرة فى نعومة حانية، وألم جميل، بما يجعلنا أقرب إلى أنفسنا، وإلى خالقنا ورحمته، وبما يجعل الموت هو القريب البعيد، هو الذى نخشاه بقدر ما ننتظره، هو الطريق إليه ونحن نعيش واقعنا نجمع بين قسوة الفقر، وقرص الحرمان، ونداء الطبيعة، وفرحة الأمل، وقوة الخيال، فى نفس الوقت.
استطراد لم يكن فى النشر الأول:
حضرنى وأنا أتابع صعود خيال الجميلة الصغيرة إلى جدتها الراحلة صورتان تكملان هذا التشكيل بشكل أو بآخر: الصورة الأولى هى تلك الأغنية النائحة الجميلة التى تصف طلوع الروح بحمامة تصعد مع بلبل إلى طبقات المجهول .
حمامة بيضا
طارت يا نينه
…..
ما خدها البلبل
وطار ويّاها
قَصْدُه يا نينه
يعرف لغاها
وأيضا تذكرت حين كانت أمنا تنهانا عن مطاردة الذبابة الخضراء كبيرة الحجم، وبالذات تنهانا عن قتلها وكانت تفتح لها النافذة بهدوء لتطير سالمة (إلى السماء)، وذات مرة قالت لى أمى وهى تفسر لى لماذا النهى، بأن هذه الروح الخضراء هى روح أخى خالد الذى كان يكبرنى بأربع سنوات، ولا أكاد أذكره إلا بشكل غامض حيث مات وأنا لم أتعد الرابعة، لكن نهى أمى لى كان بعد ذلك، ربما وأنا فى العاشرة .
ارتبط عندى هذا الطيران (عاليا، وبعيدا، وهادئا، باللون الأخضر، بلون السماء، بالاختفاء الهادئ) بالموت كما يحضرنى الآن.
وحين رحت أقرأ أشعار الأطفال الأمريكيين ترجمة الشاعر أحمد زرزور، وهو ما نشرت منها اثنتين فى عيد الأضحى يومية 19-12-2007 “عيدية لكبارنا من عيال الأمريكان!!”.
قرأت قصيدة الطفل أندريا كلاح 8 سنوات على اعتبار أنه يخاطب جدته الراحلة (وليست الموجودة) تماما مثل بائعة الكبريت الصغيرة، ذلك أننى توقفت عند مقطع “.. قد أوحشتنى جدتى، وجدتى هناك فى الشمالْ، بعيدة بعيدة، وقد كتبت عن حنانها قصيدة“، لكن عندكم، هاكم قصيدة أندريا كلاح (8 سنوات) بأكملها، هذا أفضل وهى “رحلة إلى بيت جدتى” آندريا كلاح (8 سنوات) آبقيل – كارولينا الجنوبية
…………..
…………..
يا طائر الرخ الذى حملت سندباد
ويابساط الريح تعبر الجبال والبلاد
أرجوكما،
أرجوكما،
من كان منكما
متثائبا فى بيته، بلا عملْ
فليأت مشكورا، على عجلْ
…
فإننى:
قد أوحشَتْنى جدتنى
وجدتى، هناَك، فى الشمال
بعيدةٌ
بعيدهْ
وقد كتبت عن حنانها: قصيدةْ
***
يا جدتى،
يا أطيب القلوب
يا بسمة مشرقة فى البال
على جناح رخ طيب .. سآتى
على بساط ريح هادئ.. سآتى
فانتظرى رفرفة الجناح
أو نسمة
تجئ
فى الصباح!
هل رأيتم هذا التوازى بين خيال أندرسون وهو يتقمص بائعة أعواد الكبريت الصغيرة وهى تناجى جدتها الراحلة وبين قصيدة أندريا الأمريكى الصغير بعد قرنين (تقريبا) من ميلاد أندرسون وهو يحاور جدته الراحلة أيضا إلى بيتها (أين بيتها؟).
هل يستطيع أىَّ منا أن يحدد من منهما التى ماتت ومن منهما التى بيتها فى الشمال،
هل يستطيع أحد أن يقرر الفرق بين السماء والشمال والكون الأعظم؟
………….
يمضى أندرسون بعد ذلك يكشف عن الموت فى قصصه للأطفال، ولكن هذه المرة وهو يتقمص مشاعر الأم – فى قصة أخرى – لا الطفلة ، وفى نفس الوقت هو يبلغ من خلال ذلك نقلة الموت السلس المتناغم من زاوية أخرى!
قصة أم (هانز أندرسون)
هى القصة التالية مباشرة لقصة بائعة أعواد الكبريت (فى طبعة مجلة القاهرة 2005 ) اسمها “قصة أم”. فى تلك القصة يتجسد الموت للأم فى شكل شيخ غريب يخطف ابنها، فتهيم على وجهها لتسترده وهى تضحى بكل شىء تعطيه لمن تقابله، وما تقابله، فى مقابل أن يدلها على أين ذهب الشيخ (الموت) بابنها: تضحى بعينيها فلا تعود تبصر، وبلسانها و..و…الخ. حتى تصل إلى “مشتل الموت” فإذا بالموت ليس عدما بل مشتلا انقلب فيه الراحلون إلى زهور واعدة بما لا نعرف، وتنتهى القصة بأن ترضى الأم أن تتنازل عن إصرارها على استرجاع ابنها حيا، وتسلم ابنها زهرة بين الزهور فى مشتل الموت، زهرة تنتظر قدرها وتقبله، إنها تتنازل عن محاولتها استرداد طفلها قائلة للموت:
“….إحمله، إحمله بعيدا إلى ملكوت الله، إنس دموعى ، إنس دعواتى”
يتعجب الموت
لا أفهمك، أتريدين طفلك، أتريدننى أن آخذه إلى هناك، حيث لا تعلمين” ؟
ترد الأم:
“لا تسمعنى حيث أسألك بخلاف مشيئتك، التى هى المُثلى، لاتسمعنى لا تسمعنى”،
وحنت رأسها إلى الأسفل إلى حضنها، ومشى الموت بابنها إلى البلاد المجهولة.
هكذا يعلمنا أندرسون فى”قصة أم” ما يكمل صورة نهاية قصته “بائعة أعواد الكبريت الصغيرة”، فمن من الأطفال يخشى الموت بعد ذلك، ومن منا – كبارا- لا يتعلم من ذلك؟
بلغتنى نفس الرسالة من أب مصرى فلاح جميل على الوجه التالى:
قصة أب مصرى فلاح
خبرة من العيادة (نص بشرى)
هو رجل فى منتصف العمر، دخل إلى حجرة الكشف بالعيادة، طويل جميل، يلبس جلبابا بلديا نظيفا، وجهه سمح جاد، يبدو من وجهاء الريف كما أعرفهم قديما، قال شكواه التى بدأت من بضعة شهور وتراوحت بين الحزن، والأرق، وأعراض جسدية تدل على التوتر بشكل أو بآخر، حكى شكواه بهدوء دون مبالغة، سألته عن عمله، ووقته واهتماماته، فأجاب بما أيّد ظنى، أنه ميسور الحال، بدأ تعليمه، وكان مجتهدا، لكنه فضل بعد موت والده باكرا أن يزرع أرضه، وهو راض عن قراره، وغير نادم على ترك الدراسة، وهو يثقف نفسه بنفسه، احترمته أكثر. سألته عن عائلته، فصمت غير قليل، وطأطأ رأسه ببطء، ثم رفعها وهو يخبرنى بعدد أولاده وبناته، ووفاقه مع زوجته، خاصة بعد وفاة المرحوم العريس، استرجعته متسائلا: من العريس؟، أخبرنى بهدوء أن ابنه البكر ذا الأربع وعشرين عاما مات فى حادث سيارة قبل فرحه بأيام، وكان ذلك منذ ستة أشهر، قالها بهدوء حزين رصين حتى كدت أقفز من كرسىّ جزعا، تعجب الرجل من تعبيرات وجهى، حتى تبادلنا الأدوار فراح يسألنى “مالك يا دكتور؟”، حينئذ انتبهت أننى أتصرف كأن المصاب مصابى وليس مصابه، فَهمِ الرجل بأبوة حانية وقع المفاجأة علىّ، حاولت أن أقدم له التعازى، لكن يبدو أن حالتى كانت صعبة إلى درجة فاقت قدرتى على إخفائها وراء منظارى الطبى، تبادلنا الأدوار، فراح يطمئننى بأنها مشيئة الله، وأنه سبحانه قد استرد وديعته. قارنت بين قوله “استرد وديعته”، وبين قولى له “البقية فى حياتك”، أية بقية ؟ وهل لحياتنا بقية؟
استرجعت دورى كطبيب: حاولت أن أشرح له الوصلة بين رباطة جأشه الصلبة الظاهرة والمستمرة حتى الآن، وبين ظهور الأعراض التى حضر من أجلها لاستشارتى، رفض فى البداية، ثم اقتنع إلا قليلا، سألته إن كان قد بكى عقب الفقد، فأجاب بالنفى، شرحت له من جديد احتمال الربط بين جفاف الدموع، ودرجة الكبت، ولم أجرؤ أن أدعوه للبكاء، كتبت له بعض ما تيسر من عقاقير كعامل مساعد.
وانصرف وأنا أقنع نفسى أن دموعا رقيقة أطلت من عينيه أخيرا وهو ينصرف، وأنه قرر أن يضعف، ليشفى، وحدث.
وفهمت- فيما بعد- علاقة هذا الحديث بما قدمته حكاية بائعة أعواد الكبريت الصغيرة.
بل وما رضيت به تلك الأم وهى تتنازل عن رغبتها فى استرجاع ابنها، كأنها أيقنت أنه لم يختفى بل انتقل فحسب.
متى يعرف الأطفال معنى الموت
المعلومات العلمية التقليدية تقول إن الطفل لا يعرف الموت إلا فى سن متأخرة نسبيا، تختلف الدراسات فى تحديدها لكنها تتراوح بين السابعة والتاسعة، لكننى أشكك فى هذه الحقائق من حيث أنها تتكلم عن الموت بمعنى الفقد، بمعنى الاختفاء الدائم، الطفل فعلا لا يدرك هذا الاختفاء الدائم إلا فى هذه السن بعد أن نكون قد علمناه أن يفكر بطريقتنا. الطفل يحتفظ بكل ما يصل إليه فى وعيه إلى الأبد، هذا الاختفاء الظاهر الذى يسميه الكبار الموت هو وهم الكبار فقط،
أوهام الكبار عن الموت
شتان بين الموت والفقد والعدم،
نحن نضع تعريفا للموت كما نراه كبارا، ثم نفرضه على الطفل، ونزعم أنه لا يعرف هذا التعريف إلا فى سن كذا. لا أحد يمكن أن ينزع من الطفل من يحب، جدة بائعة الكبريت لم تمت، حضرت فورا بمجرد أن احتاجتها الصغيرة، وحين صحبت الجدة حفيدتها إلى السماء فى رحلة إلى وجه الله لم نلاحظ ذلك الخط الفاصل الذى نصطنعه نحن الكبار بين الحياة والموت.
جدة أندريا كلاح (8 سنوات) التى لا تعرف إن كانت ماتت أم رحلت، أوصلت إلينا من خلال شعر أندريا نفس الرسالة.
الموت الذى يعرفه الأطفال أكثر هو وعى “بين بين”،
هو الحقيقة الواقعة فيما بين مستويين من الوعى، المستوى الفردى، والمستوى الكونى.
حين وضعتُ فرضا يحدد مستويات الشعر فى مقابل مستويات الحلم (مجلة فصول 1984) (“مستويات الحلم” “كتاب حركية الوجود وتجليات الإبداع”) توقفت عند“القصيدة بالقوة” وهى القصيدة الحاضرة التى لم تظهر بعد، والتى عادة لا تظهر أبدا.
بلغ إدراكى لعمق هذا الفرض أننى فسرت من خلاله جدلية الموت، والوجود قلت فى ذلك: “…. ولعل كثيرا من حقائق الوجود التى نعجز أصلا عن قولها هى من باب هذا الشعر الذى لا يقال، فالموت هكذا هو شعر لايقال بالنظر إلى الجانب البنائى فيه، وليس مجرد التحلل والاختفاء.
طاغور
أختم هذه المداخلة بقول حضرنى لطاغور وهو يستمع إلى الموت يناديه “.. سأقود زورق حياتك عبر البحر”. يدعوه لرحلة شعرتُ منها بنفس الإيقاع الهادئ الذى وصلنى من كل ما سبق، وذلك بعد أن قالت له حياته باكراًُ: سأموت وأنا فى منتهى الكمال.
الرحلة هذه المرة كانت عبر البحر، الذى سمعت هسهسة موجاته، وليس هديرها،
ذلك لأن كل ما كان قبل هذا البيت الأخير، كان يمهد لهذه الرحلة هكذا:
“قالت لى الغمامة: سأمّحى
وقال الليل: سأغيب فى الفجر المضطرم
وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه
وأجابت حياتى: سأموت وأنا فى منتهى الكمال
وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة
وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك
وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر.
[1] – أصل هذه المداخلة كتبت فى الجريدة القومية السرية بعنوان (كيف ومتى يعرف الطفل ما هو الموت؟ ونحن أيضا!!؟) بتاريخ 25-11-2005.