الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة والحلم (19)، الحلم (20)

نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة والحلم (19)، الحلم (20)

“يوميا” الإنسان والتطور

27-12-2007

العدد: 118

نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة

والحلم (19)، الحلم (20)

الحلم (19)

انبهرت بالشقة الجديدة بعد تسلمها، ففحصت كل موضع بنظراتى، امتلأت جوانحى بالسعادة وقلت لنفسى من الآن يحق لى أن اشغل وظيفة وعلى أن أسعى إليها دون تأخير.

وذهبت الى السوق، المكان واسع المساحة، مسور بسور من البناء المتين، واظهرت اوراق ملكية الشقة فسمحوا لى بالدخول.

المكان مكتظ بالخلق، لمحت وجوها احببتها كثيرا ولكنهن جميعا كن متأبطات اذرع رجالهن، وذهبت الى النافذة المقصودة وقدمت أوراقى وفى مقدمتها أوراق ملكية الشقة الجديدة، وفحصها الرجل وسجلها وقال لى: “لا توجد الآن وظائف خالية، وسوف نتصل بك، فى الوقت المناسب”.

شعرت بخيبة أمل وشعرت بأننى سأنتظر طويلا ورجعت مخترقا الجموع ومتأملا بعجلة الوجوه الجميلة التى احببتها فى الماضى، ولبثت فى الشقة وحدى، وفى الطريق سمعت رجلا يقول بصوت جهير “لا معنى لأن يملك شخص شقة دون ان يشغل وظيفة.. الأولى أن يتركها لغيره فيمن يحظون بفرص أكثر لشغل وظيفة”.. وكأنه يعنينى بقوله، وما دامت الفكرة وجدت فقد تتحول إلى واقع.

وساورنى الشك والهم، وانتظرت ما يخبئه الغد بعين قلقة مؤرقة.

****

القراءة

المكان” – “الهُوية” – “الحركة” – “الذات“،

 هذه الرباعية المفتوحة هى من أهم ما يشكل لوحات هذه الأحلام/الإبداع حتى الآن.

 الشقة هنا [1] بدت بمثابة بداية الاعتراف بأنه قد أُفِسحَ له مكان فى هذه الدنيا، بأنه قد “تواجد”، بأنه قد تم الاعتراف له بوجوده، ومن ثَمَّ فليبدأ الرحلة إلى العالم الخارجى.

لا يمكن أن يظل هذا الوجود “السعيد” حبيس الشقة مهما كانت جميلة، عليه أن ينطلق من هذه البداية الطيبة المرحّبَةْ إلى العالم! إلى الناس، مازال الاعتراف صادقا مرحبا حتى خارج الشقة (السوق المكان واسع المساحة) فالحركة فيه ممكنة وطليقة، وفى نفس الوقت آليات الدفاعات جاهزة وقادرة (السوق مسوّر بسورٍ متين) [2]

سُمِح له بالدخول ليبدأ رحلة “العلاقة بالآخر”، “بالآخرين” التى بدأت بقدر آخر من السماح كاد يكمل ما بلغه من شقته الجميلة.

فى جملة واحدة، مع الانتباه إلى الضمير المتصل فى: “لكنّهن“، و”أنهن“، يمكن أن ننتبه إلى أن الوجوه التى أحبها كثيرا كانت لأخريات مشغولات بغيره، لم تنتبه إحداهن إليه أصلاً، فكل واحدة متأبطة ذراع رجلها.

لا يكفى أن “توجد“، ولا أن يُسمح لك بالدخول، حتى “تكون“: “تفعل“: تُنِجْز، تقوم بدورٍ ما فى الحياة (وظيفة)  يؤكد وجودك.

ثمة إشارة هنا تشير إلى كيف أنه لو وجدت “أخرى” تتأبط ذراعك فإنه يمكن أن يُعترف بك من جديد، الأخرى تبدأ من الأم فى الخارج، لتتكرر باستمرار، إلى ما يؤكد الوجود مجددا، ومن ثَمَّ تستطيع أنت أن تستمر، وأنت تقوم بـ “دورك” الواعد (الوظيفة).

هنا نرجع إلى السؤال الأشهر:

هل نحن “نفعل” “فنوجد“؟

 أم أننا نوجد فنأخذ الفرصة أن نفعل فيتحقق وجودنا، ففرصة أخرى، وهكذا؟

 واجهنا الحلم هنا بأن الاعتراف بهذا الوجود البدْئى مهما كان مرحَّبا به، يمكن أن يصبح بلا قيمة إذا لم يؤدِّ إلى فعلٍ بنّاء، (وظيفة) مع رفيقةٍ مصاحبة.

إن من يتصور منّا أن مجرد الاعتراف بوجوده (الشقة الجميلة، والسماح له بالدخول إلى السوق)، هو مبرر كاف لأن يكون له “دوره، هو مخدوع، ومن ثَمَّ هو مهدد بالطرد من الوجود، ما ظل وحيدا، عاجزا عن التواصل أو محروما منه، ولا يبقى له إلا التأمل فى ذكريات وجوه جميلة أحبّها فى الماضى، فقط، فيرتد إلى وحدته (ولبثتُ فى الشقة وحدى).

إن الذى يؤكد الوجود هو التواصل، ومِنْ ثَمَّ “الفعل“.

يتحرك “وجود” الواحد منّأ بعد الإقرار المبدئى حين يجد من تتأبط ذراعه، ثم يعثر على وظيفة. (دور)

وحتى لو لم يُعترف ابتداء بوجوده (الشقة)، فإن ممارسة الفعل (متأبطا ذراع من يحب إلى الوظيفة: دوره الفاعل فى الحياة) هو السبيل أن يوجد وهو يخلِّق هويته بتجدّد متصل.

وبعد

فإذا كان الحلم قد نبه مباشرة إلا أنه لا معنى “للإقرار بالوجود دون فرصة الفعل فى حضور آخر، أو عبْر حضور آخر، فإنه قد أكد أيضا أن من لا يجد له دور، فعليه أن ينسحب أو يقبل أن يُسحب منه الاعتراف بوجوده (أنظر نهاية حلم 18)يومية 20-12-2007 (حلم 17، حلم 18)

****

الحلم (20)

خرجنا باحثين عن مكان طيب نمضى فيه بعض الوقت. ونظرنا إلى الهلال ثم تبادلنا النظر. ورأيت على ضوء المصباح رجلا عملاقا لم تر العين مثله ارسل عمودا لا مثيل لطوله نحو الهلال حتى بلغ طرفه. وراح بحركة ماهرة يفرد طيات نوره حتى استوى بدرا وسمعنا اصوات تهليل فهللنا معها وقلت انه لم يحدث مثل هذا من قبل فصدقت على قولى، وانساب النور على الكون رفعنى على سطح الماء فهتفت “ليلة قمرية” فقلت “القارب يدعوننا” وركبنا ونحن فى غاية السرور، وغنى الملاح “رايداك والنبى رايداك”، واسكرنا الفرح فاقترحت ان نسبح حول القارب وخلعنا ملابسنا ووثبنا الى الماء وسبحنا ونحن فى غاية الامتنان ولكن القمر تراجع فجاة الى الهلال واختفى الهلال.. انزعجنا انزعاجا لم نعرف مثله من قبل، ولكننى شعرت بانه يجب مراجعة الموقف بما يتطلبه من جدية فقلت ونحن غارقان فى الظلام “لنسبح نحو القارب” فقالت “وإذا ضللنا الطريق”؟ فقلت: “نستطيع ان نسبح حتى الشاطئ فقالت: “سنكون عاريين على الشاطئ” فقلت: فليؤجل التفكير فى ذلك.

(الخط تحت بعض العبارات ليس فى الأصل)

****

القراءة

الحركة هنا تمتد إلى حوار فاعل بين الانسان والكون، يتكرر الاقرار بالدهشة والتنبيه للغرابة منذ “البداية” إلى النهاية: العملاق “لم تر العين مثله”، وفرد طيات النور لتشكيل الكون لم يحدث مثل هذا من قبل وحتى الانزعاج من تقلب الأحوال لم يعرف مثله من قبل (انزعجنا انزعاجاً لم نعرف مثله من قبل)…

هذا حلم به تقرير مباشر لحجم الدهشة لأحداث الخارج والداخل معاً، وهو يستأهل ذلك.

المكان يتداخل بعضه فى بعضه، ليس فقط بين النهر والشارع (مثل حلم 18) ولكن من عمقٍ ماَ إلى/على “سطح الماء” إلى السماء،

 الذى يرفع هنا هو النور الذى انساب من معجزة فرد طيات عمود النور لينقلب الهلال بدرا بفعل الانسان فى الكون.

هكذا بدت لى أن ثمة تذكرة لكى يستعيد الإنسان دوره فى الحوار مع الكون (انظر يومية الثلاثاء 26-12-2007 قراءة النص: بين التفسير والاستلهام) وصلنى أن ثمة محاولة لإظهار كيف يمكن أن يتصالح الإنسان مع الكون فاعلاً، ثم تتأكد المسألة من خلال أنها ليست إرادة تعْملق، بل رغبة طيبة، فى جوٍّ ظائط “رايداك والنبى رايداك”

 فَرَحةٌ نشطة، وسباحةٌ واثقة،

لكن الدورة دوارة، فهذه القدرة ليست ثابتة ولا مطلقة، وهى قدرة مؤقته إما بطبيعتها وإما بقانون الايقاع الحيوى (دورات النور والظلام) ونبض النوم واليقظة،

 الظلام هنا ليس نقيض النور، وإنما هو يبدو الوجه الآخر له مكملا للدورة، ذلك أن الثقة فى النجُاة وتغيير الاتجاه مازالت واردة وواعدة

 (الظلام ربما يكون هو إطار الحلم الذى يحدث أثناؤه النشاط الدورى فى الايقاع الحيوى).

فى الحلم نتعرى، لكن مع الاحتفاظ بالقدرة على إعادة التنظيم.

 التهديد المرعب أن يمتد هذا التعرى إلى اليقظة (فهو الجنون).

 لكنه احتمال بعيد.

حتى لو حدث، فإن له تناول مناسب،

 “فليُؤجل التفكير فى ذلك”.

 

[1] – فى الدراسة الطولية، أمل أن تتاح الفرصة لمراجعة حضور “الشقة” المتنوع فى عدد متواتر من الأحلام، ودلالات الحركة منها وإليها وحولها.

[2] – يحسب الناس أن الدفاعات النفسية mental mechanisms (الكبت والاسقاط والتبرير … الخ) هى آليات لا يستعملها إلا العصابين، مع أنها أساس متين لحماية الذات من إغارات الداخل والخارج، شريطة أن تكون مرنة وقابلة لإعادة التشكيل والتراجع تدريجيا – عادة مع كل نوبة نمو – لصالح آليات النضج والتكامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *