الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة النص: بين التفسير والاستلهام

قراءة النص: بين التفسير والاستلهام

“يومياً” الإنسان والتطور

26-12-2007

العدد: 117

قراءة النص: بين التفسير والاستلهام

حين بدأت كتابة يومية 23-12-2007 (حزمة من مفاتيح السر “الآخر”)، لم أكن أنوى أن أكتب إلا عن ثلاثة أفكار مفيدة، عثرت عليها انتزاعا من وسط هذه الموجات المتلاحقة من الأحلام والأوهام التى غمرتنا مؤخرا مع سريان البدعة المسماة “السر“، هذه الأفكار – مرة أخرى بلغة أخرى – هى:

أولا: التنبيه إلى أننا يمكن أن يكون عندنا فعلا ما نريده الأن، وربما نحن غير منتبهين إليه، وأن الوعى بذلك هو البداية إلى ما يمكن أن يترتب على هذا الإقرار الإيجابى من مزيد.

ثانياً: أن وجودنا ليس سلبيا فى مواجهة الكون والقدر، وأن لنا دور فى تحريك أى منهما، وبرغم أننا لا نعرف تماما قوانين الكون والقدر إلا أن ثم تواصلاُ ممكنا مفيدا بيننا وبينهما قد يصل إلى درجة الوثوق من الاستجابة، (سواء كان ذلك من منطلق دين صافٍ لم يتشوه، يؤكد العلاقة المباشرة بين العبد وربه، أو من منطلق إبداعى أحدث، كلَّ بحسب منظومته).

ثالثا: أن الوعى بإيجابيات الذات، وإيجابيات الحياة عموما، بما يتجاوز التفاؤل الكسول الناعم، يحتاج ممارسة معنى “الحمدالإيجابى الذى ينمى ما هو موجود، ومن ثمَّ الاستزادة مما هو أكثر فائدة لاستمرار الحياة زاخرة بمزيد من النبض والثراء والأخذ والعطاء.

فى البداية: بدت لى هذه المفاتيح الثلاثة التى اسميتها “الأحجار الكريمة” كافية، إلا أننى وجدت أن المسألة هكذا قد تكون من العمومية بحيث لا تستطيع أن تقف فى مواجهة الألعاب النارية والوعود اللامعة التى يلوّح بها أصحاب البدعة الأولى (السر بتاع الدولارات والقصور). فانطلقتْ منى تلك المفاتيح الأربعين يومية 23-12-2007 (حزمة من مفاتيح السر “الآخر”)، ، قال ماذا؟ لتكون الأمور أوضح وأسهل تطبيقا.

ثم إنى فوجئت وأنا أكتب يومية أمس أن المفتاح رقم (15) عن التصالح مع الجسد أخذ كل تلك المساحة، فعدت إلى المفاتيح الأربعين أقرأها على بعض المقربين، فإذا ببعض المتابعين لفكرى يذكّرونى بالكتاب الذى انطلق منى منذ 34 عاما باسم “حكمة المجانين” وهو يحتوى ألف حكمة وحكمة (1001) غير الحكمة المسماة “قبل العدّ”، وقال لى أحدهم: لقد سبق أن فعلتها من قبل ونهيناك عن تفسيرها وشرحها، مع أنها أعمق وأكثر إفادة، ولا تقارن بالأربعين مفتاحا اياهم.

يا خبر!! ما العمل؟

الاتجاه التسويقى السائد سواء فى بدعة السر تبعهم، أو فى تدريبات التنمية البشرية، هو تسويق سريع سريع لبرمجة ممكنة: 1، 2، 3، هُبْ للحصول على مكاسب ظاهرة محددة. حتى ندوتنا العلمية القادمة، ندوة يناير 2008 “جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى”. (دار المقطم للصحة النفسية) ويقدمها د. هانى الحناوى هى عن “العلاج العصبى والتغذية العصبية المرتجعة”.

هذه البرامج الجاهزة والمفيدة قد تقوم بدور إيجابى بلا شك، لكنها – فى رأيى – تشارك فى نوع من الاختزال والتسطيح لما هو معرفة ووجدان وتفكير وإبداع، (وأحيانا الإيمان)

ما العمل؟

تذكرت ايضاً- فى هذا السياق- موقفى ومحاولاتى فى قراءة وتفسير واستلهام عمل شديد التركيز بالغ الأصالة، حين قمت بمحاولة قراءة بعض مواقف مولانا النفّرى وقد تمَّ ذلك على مستويين، صدرا فى نفس كتابى “مواقف النفّرى بين الاستلهام والتفسير”

جعلت الجزء الاول بمثابة “هوامش لما اسميته علم بالنفس” وليس علم نفس.

أما الجزء الثانى فكان جهداً مشتركا مع ابن قس طبيب نفسى هو د.ايهاب الخراط، وكان استلهاما طليقا كالتالى:

– نورد النص،” موقف النفّرى

– ثم بعده قراءة الابن د. ايهاب الخراط

– ثم قراءتى للنص، وعلى قراءته للنصّ

(شئ اشبه “بقول”على” قول” على “قول”)

تعلمت من هذه التجربة، ومقارنة المستويين ببعضهما البعض، تعلمت الفرق الواضح بين التفسير والاستلهام.

ويظل التحدى قائما:

هذه النصوص: كيف نقرأها لنغوص فيها بما هى لما هى، بديلا عن أن نفسرها باجتهادات قد تفسد نبضها؟

هل نكتفى بأن نستقبلها ونرى آثارها فينا، دون تفسير؟

أم نقامر بما أسميته أحيانا “استلهاما” وأحيانا “إبداعاً على إبداع“.

وجدت فى مقدمة كتابى عن النفّرى محاولة لتحديد مستويات لقراءة أى نص (بما فى ذلك النص البشرى) ففضلت أن أوردها هنا أملا فى نقاش، قبل أن أتخذ موقفا نهائيا بشأن المفاتيح الأربعين اياها يومية 23-12-2007(حزمة من مفاتيح السر “الآخر”) أو الطلقات الألف واثنيتين “حكمة المجانين” وفيما يلى المقتطف:

أولا: منهج قراءة “النص”بين التفسير والاستلهام           

كيف نقرأ نصّا ما؟

وقبل ذلك: ما هو النصّ؟ ومن هو قارئ النصّ؟

النص هو كل منظومة تتماثل فى أفق الوعى، فتستثير الفهم، أو الحوار، أو الإضافة، أو التكملة، أو الجدل، أو التفرع الخلاّق، أو التكامل، أو كل ذلك مجتمعا.

وقارئ النص هو من تفتّح وعيه للمُـدرَك المتاح ليعيد تشكيله بما أمكن، وهذا موقف لا يشترِط القراءة والكتابة، بقدر ما يشترط الدراية واليقظة.

– الإنسان هو نفسه “نص” يحتاج فى قراءته إلى ما يحتاجه أى نص.

– كل “آخر”(كل إنسان آخر) بالنسبة لى: هو نص “آخر“، مختلف عن أى نص “آخر”.

– المريض النفسى هو نص أكثر تعريا، وأكثر تحديا، وهو “نص” يحتاج إلى قراءة، أكثر منه اضطراب يحتاج إلي”لافتة” (تشخيص)….

مستويات محتملة لقراءة النص:

إن أى نص (بما فى ذلك “الآخرـ الإنسان”، حتى الطريق إلى النص الإلهي مفتوح النهاية) يمكن أن يتناوله الوعى بوسائل كثيرة، على مستويات متعددة، نورد بعضها فيما يلي:

1) التسليم لظاهرالنص من فرط حضوره الجاهز والكامل.

فى هذه الحالة يكون النص بمثابة مؤسسة سلطوية. يترتب على ذلك تسليم تختلط فيه الطاعة بالخوف بالتشكّل لما يلوح منه دون مواجهته.

2) ترجمته كله أو بعضه إلى لغة المعاجم الجامدة (حتى التحنيط أحيانا)

مع احتمال الاستعانة بالتاريخ المشكوك فى مصداقيته عادة.

3) ترجمته إلى لغة منظومة أخرى لا ينتمى إليها أصلا .

مثل المحاولات الأحدث والأكثر تسطيحا التى تجرى تحت اسم: التفسير العلمى (أو الرقمى!!) للقرآن الكريم.

4) إنكاره أو إهماله جزئيا أو كليا

(عجزا عن فهمه، وربما هربا من تلقّى رسالته ، أو قبول تحدّيه).

5) إدراكه على مستويات متعددة ، تُعلَن كلها، أو يُحبس بعضُها خوفا من سوء تأويل العامة دون الصفوة. (اتجاه كثير من المتصوفة)

6) استعماله بظاهر شكله كرمز عيانى، له مفعوله الأسطورى الخاص،

مـثل التبرّك به بغض النظر عما يقوله مضمونه.

نتوقف هنا لنقول:

– إن ذلك وغيره قد يتم على مستوى الشعور أو اللاشعور

وأن ثمة احتمالات تقول :

– إن بعض ما وصَلَنَا من النصوص الخالدة (والمقدسة) قد وصلنا من خلال تفسيرات وتأويلات وقراءات تناولت الأصول حسب المتاح فى مرحلة تاريخية بذاتها، وهذه التفسيرات عادة ما تستعمل لغة معيّنة فى أرضية معرفية محكومة بالمُتاح لها فى لحظة تاريخية بذاتها، تحكمها ظروفها جمودا، وسلطة، ووصاية، ورقابة، وغيرها.

– قد ينجو النص من وصاية هذه التفسيرات فتظل أصوله النقية متاحة معطاء جنبا إلى جنب مع اجتهادات تفسيره المختلفة.

– وقد يختفى النص – إذا غمرته التفسيرات- فى ثنايا تفسيره،

– أو قد يحل التفسير محله، فتحرمنا التفاسير منه فى ذاته، لذاته، وبالتالى تحرمنا من استعادة الحوار معه لاستلهامه

نصوص خالدة متجددة معاً:

على أن ثمة نصوصا، ليست مقدسة بالضرورة، تثبت جدارتها وفائدتها للبشر والحياة دون أن يستطيع الوعى البشرى فى مرحلة (أو مراحل) من تطوره أن يلمّ بمستوياتها المتعددة فى آنها، فهى تبدو غامضة أحيانا، ومتناقضة أحيانا، وبعيدة أحيانا، لكنها تبقى واعدة، متجددة، وكأنها تنتظر، أو تتحدى.

لعل السبب الذى يفسر هذا العطاء المتجدد هو قدرة هذه النصوص على مخاطبة أكثر من مستوى من الوعى دون أن نعرف أى مستوى هو الذى يحتاجها، فى وقت بذاته.

وتتجدد الإيحاءات مع تغيّر مستوى الوعى المتلقي.

وقد تصل أصالة نص ما إلى ما يبدو وكأنه خلود دائم العطاء. ويعتبر خلود مثل هذه النصوص دعوة ضمنية للعودة إليها، وإعادة قراءتها، واستلهامها، بما يستجد للإنسان من أدوات ولغات باستمرار، وبما يتحرك فيه ومعه من مستوياتٍ للوعى متجددة ومتضفرة ومتفرعة.

تتميز هذه النصوص عادة بأن عطاءها ليس له زمان محدد. فنحن نكتشف فيها كيف أنها قد تتناول المشاكل الحاضرة، بل وأحيانا المستقبلية وكأنها تعيش بيننا الآن، ثم غداً، مع أن عمرها قد يصل إلى مئات، أو آلاف، السنين. وهذا لا يعنى قدرة تنبؤية خارقة، أو معجزة خاصة، وإنما هو يشير إلى عمق ما وصل إليه مثل هذا النص من طبقات الوعى الأساسية التى تشكل الكيان البشرى، فتتجلى متجددة، مع تغيّر الزمان واللغة.

 إن خلود النص لا يرتبط بقدراته التنبؤية بقدر ما يرتبط بعمق غوصه إلى جوهر الوجود الذى لا يتغيّر، وإن تجددت تشكيلاته وتنوّعت لغاتـه.

من منظور نفعى بحت، لا بد أن لمثل هذه النصوص فائدة للمتلقين عبر التاريخ، وإلا فكيف بقيت هكذا حتى الآن على الرغم من كل شيء؟

نقاء وعناد الوعى البشرى الناقد:

وسط الفيضانات الهائلة من الوصاية والإحاطة والملاحقة بقشور المعلومات، يظل نقاء الوعى البشرى قادرا على معاودة استلهام مثل هذه النصوص الخالدة، دينية كانت أم غير ذلك.

ويُحسب للوعى البشرى الجماعى، على الرغم من كل ما لحقه، أنه ظل يحافظ على النصوص المقدسة، وعلى أداء الشعائر الدينية، ضد كل محاولات الشرح والاختزال والإنكار، بل ضد كل محاولات العلمنة، والـعـقلنة، والمَنْطَقَة.

إن محاولات العودة المتكررة إلى نصوص بذاتها تؤكد أمرين:

الأول: هو أن القراءات الأولى ، مهما بلغ اجتهادها، ليست كافية.

الثانى: هو أن ثمة حاجة إلى إعادة النظر فى المنهج باستمرار.

لسنا هنا فى مجال الحديث عن بعض ما لحق بالنصوص المقدسة من تشويه وامتهان حين عوملت بمناهج حديثة لا تصلح لها حتى لو سمّيت “علمية“، أو “عقلية”، أو عقلانية، أو ما شئت من مسميات.

منهج الاستلهام الذى نطرحه هنا لا يقترب من جزئيات النص ليحـشرها فى قوالب (لغوية أو علمية) جاهزة مسبقا، قوالب لم ُتعدّ لمفردات مثل هذه النصوص أصلا، ولا بمـقدورها أن تستوعب مضمونها.

يقوم الاستلهام بتجاوز التفسير، وذلك بالتعامل مع النص القادر الواعد المفيد كوحْى متجدد، باعتبار أن رسالة النص الخالد بمستوياتها المختلفة قادرة على تحريك ما يقابلها فى المتلقى، فى أحواله المختلفة، وأزمانه المختلفة.(انتهى المقتطف)

وبعـد

أحسب أن هذا التوضيح للفرق بين التفسير والاستلهام قد يكون لازما حين تبدأ هذه اليومية فى تحديث قراءتى لبعض مواقف مولانا النفرى.

أجدنى الأن مطالباً بأن أجيب على أسئلة محددة متعلقة بهذا الشأن، راجيا القارئ (الزائر) أن يعيننى فى ذلك:

– هل هذا الاستلهام هو المنهج النقدى الذى اقرأ به أحلام فترة النقاهة: محفوظ؟

– هل يمكن أن أرجع “لمفاتيح السر الأربعين” أفسرها بما يقربها من الإفادة العامة؟

– هل افعل مثل ذلك مع الألف حكمة وحكمة (زائد واحد) التى أطلقتها فى حكمة المجانين؟

– هل أعود للقراءة الثانية (الاستلهام) التى صدرت منى على بعض نصوص النفرى أزيدها إيضاحا لتزيد فائدة؟

بصراحة لست أدرى

وفى نفس الوقت لابد أن أعترف ان هذه اليومية التى سوف تتم الأربعة أشهر بعد أيام، هى التى جعلت هذه الأسئلة تقفز من جديد.

فما بالك عندما نفتح المنتدى فى الشبكة العربية بفضل الابن د. جمال ترك؟

****

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *