“يوميا” الإنسان والتطور
18-5-2008
العدد: 261
باب جديد (استشارات مهنية)
رأىٌ على موقف علاجىّ
مقدمة:
كان للترحيب الذى لقيه باب “الإشراف عن بعد”، أثره فى غلبة الجانب النفسى التطبيقى على اليوميات بشكل أو بآخر، ثم جاءت استشارة د. أميمة رفعت فاتحة طيبة لهذا الباب الجديد “يومية 11-5 استشارات متبادلة” الذى غيرنا عنوانه إلى العنوان الحالى مكملا للباب الأول، ولا نعرف مسبقا مدى إفادته أو قدرته على الأستمرار إلا بالممارسة.
هيا نحاول،
ونبدأ بالتعقيبات التى وردتنا على ما جاء فى أول مبادرة من د. أميمة.
د. أميمة رفعت:
أشكرك على إهتمامك، افدتنى فعلا، وأتمنى أن يجد هذا الباب إستجابة معقولة فنتبادل الخبرات.
د. يحيى:
شكراً يا أميمة، فقد فتحت بابا هاما، وإن كنت قد احترت فى اختيار عنوان له، وقد عدّلته كما ترين، صحيح أن تبادل الآراء وارد، ومهم كما نفعل فى البريد، برغم الظلم الواقع على المحاور الصديق، لكن فى المرحلة الحالية وجدت أن هذا الباب ليس إشرافا ولا هو تدريبا، ولا تبادلا للآراء، هو مجرد رأى أبديه على موقف علاجى لزميل أو زميلة واثقاً فى احتمال أن يكون عندى ما يفيدهما أويفيد مرضاهما، ثم يظل الباب مفتوحا للتعقيب على الرأى ثم على التعقيب، وهكذا .
شكراً مرة آخرى، وعذراً.
ثم اسمحي لى يا أميمة أن أنشر أولا التعقيبات على استشارتك الأسبوع الماضى، وردى عليها ثم ننتقل إلى استشارات جديدة.
د. مدحت منصور:
أرى رغم أني لست خبيرا أن الصدق مع المريض ضرورة وهو أقصر الطرق في بناء العلاقة بين المريض و المعالج و أبسطها و أنجحها فإن كان تعاطفا لا داعي لقلبه حبا وهكذا. و نقطة من الصدق خير من بحر من الاحتراف.
د. يحيى:
يبدو مجمل الكلام صحيحا حماسيا، لكن المسألة ليست سهلة يا عم مدحت، ثم إنى لم أفهم ما تقصده عن الفرق بين التعاطف والحب، لكن دع ذلك جانبا وخلنا فى قولك المهم أن “نقطة من الصدق خير من بحرٍ من الاحتراف”
دعنى لا أوافقك ببساطة، فكل منا يتصور نفسه صادقا 100 % مادام لا يكذب على نفسه شعوريا، أما حكم المريض علينا (خصوصا الفصامى) فهو شئ آخر، وهو أصدق عادة.
ثم إنى أحترم حرفتى يا أخى، ولا أعتبرها كذبا نقيضا للصدق، وأنا أفخر بأن اسمى نفسى “صنايعى” من أن ألبس القبعة العالية للطبيب المفتى،
الاحتراف ليس ضد الصدق، لكنه لخدمة الصدق الحقيقى.
د. محمد شحاته فرغلى:
سعدت بشدة – مؤقتاً – بهذا الباب الذى أراه نافذة حقيقية مباشرة للتعلم ما دامت ابوابا أخرى لم تفتح بما يكفى؟
د. يحيى:
شكرا، وأَرسِلْ لنا ما تشاء، ربنا يسهل
د. نعمات على:
أعجبنى هذا النوع من اليوميات جداً، وأضاف لى أن مواجهة المعالج لمشاعره هو نمو وتطور ومفيد لكل من المعالج والمريض.
د. يحيى:
معاً، معاً
د. نعمات على:
سمعت كثيرا أنه لا يوجد علاج إلا بعلاقة الطرح؟ هل هذا صحيح؟
د. يحيى:
لا يوجد علاج يسمى نفسه “علاجا نفسيا” إلا إذا كان من خلال علاقة إنسانية فاعلة من الطرفين، أما أن نسمى تلك العلاقة باسم “الطرح أو غير ذلك” فهذا إشكال آخر، أنا أبحث عن اسم بديل أقرب إلى ثقافتنا ولا يكون مرتبطا بنظرية بذاتها.
د. محمد الشاذلى:
وصلنى أن مستويات العلاقة بين المعالج والمريض تحدد مسار العملية العلاجية ونمو المعالج والتى تشمل المستوى الإنسانى الحيوى بما يشمل من كره وحب وبغض وضيق، ومستوى العلاقة العلاجية المباشرة بما تحمله من مسئولية علمية/عملية/علاجية.
د. يحيى:
هذا صحيح
أ. محمد المهدى:
وصلنى أن ثم ضرورة لفصل تقييم ورؤية علاقتنا الحالية فى ضوء ما مررنا به من علاقات سابقة وإن كنت أرى صعوبة فصل الخبرات الماضية وتأثيرها على خبراتنا وعلاقتنا الحالية لأن هذا التأثير قد يحدث لا شعورياً؟
د. يحيى:
طبعا، لا يمكن فصل الخبرات الماضية، لكننا لابد أن نتذكر أن علينا أن نبدأ من الحاضر، لأنه الممكن والمتاح، ثم نحن نتعامل مع الخبرات الماضية بما تبقّى منها فى الحاضر لا أكثر، وتحوير هذا الذى تبقى واستيعابه لا يكون فقط بتذكره، وتفريغه وإنما بتمثله فى الجديد النامى
أ. محمود محمد سعد
ما هو البديل لكلمة الطرح بكل معانيها؟
د. يحيى:
ليس عندى بديل محدد كما قلت حالا للابنة “نعمات”، هى علاقة إنسانية آنيّة هادفة، فيها كل ما فى العلاقات الإنسانية، تتنامى لصالح المريض (والمعالج) بالممارسة المسئولة.
أ. محمود محمد سعد
وصلنى أنه عندما يفشل المعالج مع بعض الحالات فإن هذا لا يعنى فشل المعالج شخصيا لأنه قد يزيد من خبرة المعالج وتجاربه؟
د. يحيى:
طبعا، لكن الطريق يكون أكثر سلامة، للمعالج والمريض معا، حين يتم إشراف من أى نوع، سواء الإشراف المباشر كما عرضنا عينات فى باب “الإشراف عن بعد”، أو بمناقشة هذا الإشراف كما يجرى هنا، أو بفتح باب جديد مثل هذا الباب الحالى، أو بأى نوع من أنواع الإشراف الأخرى التى ذكرتها فى يومية 5-2-2007 “عن العلاج النفسى وطبيعة الإشراف عليه”.
د. إسلام إبراهيم أحمد
مش فاهم!! هل للطرح أنواع؟
وهل للمعالج وأسلوبه وشخصيته دور فى تنشئة هذه العلاقة؟
د. يحيى:
بديهى يا شيخ! لولا أنى مازلت متحفظا على كلمة “الطرح” لشرحت أكثر، وقد أُفرد لهذا الموضوع يومية مستقلة لأننى أريد أن اقتصر هنا على تنمية هذا الباب الجديد فى حدودٍ عملية تطبيقية بعيدا عن التنظير.
د. إسلام إبراهيم أحمد
لو كُره الطبيبة استمر للمريضة كانت الطبيبة هتعمل إيه؟
د. يحيى:
تستمر تكرهها بمسئولية واعية، أفضل من أن تتصنع، أو تفرض على نفسها عاطفة غير موجودة فى أعماقها،وقد يصل الأمر إلى أن تعلن ذلك – إذا كان نضجها ونضج المجموعة يسمحان –فى وقت مناسب فى المجموعة، ويتم التفاعل فيه وحوله بما يفيد الجميع.
لقد ذكرتنى يا إسلام بلعبة من الألعاب النفسية فى هذا الشأن، (الحق فى الكره: برنامج سر اللعبة – القناة الثقافية)، هى فى الموقع بل ربما كان من الأفضل –بالإضافة- أن أقتطف من جلسات العلاج الجمعى المسجلة عندى ما يشرح كيف نتعامل مع مثل هذا الموقف.
د. إسلام إبراهيم أحمد
اعترض على تسميته اعتماد، ففى بعض الأحيان نتعدى مرحلة الاعتماد ويصبح طرحاً بمعناه المتناول؟
د. يحيى:
ولماذا لا يصبح اعتمادا متبادلا بمعناه الإيجابى؟
أحيلك مؤقتا إلى أطروحتى عن هذا الموضوع فى الموقع Dependence
د. إسلام إبراهيم أحمد
وصلنى أن صدق المعالج مع نفسه ومع المريض هو أهم من مراحل العلاج وطرقه فالعلاقة هى أول طريق العلاج؟
د. يحيى:
لا يوجد تفضيل للأهمية بهذا الوضوح الذى تعرضه،
الوعى بمسيرة المراحل شديد الأهمية، لأنه مسئول عن ضبط جرعة التفاعل والمسافة وغير ذلك،
أما الصدق فأرجو أن تراجع ردى حالا فى بداية هذه النشرة على د.مدحت منصور.
أ. هالة حمدى البسيونى
لم أفهم لماذا أصاب د. أميمة هذا النفور تجاه المريضة؟ هل بسبب الاعتمادية؟ أم بسبب احساسها بالعلاقة (تعاملنى مثل معاملة الطفلة لأمها)،
د. يحيى:
هى تستطيع أن ترد، لكننى لا أطلب منها ذلك، بل إننى أستطيع أن أنصحها بألا تفعل، نحن نحترم ما يعترينا من مشاعر، دون الحرص على المبادرة بالبحث عن أسبابها،
بل إن العثور على سببٍ قد يشوهها
فكثيرا مالا يكون هو السبب الحقيقى يا شيخة.
أ. هالة حمدى البسيونى
وهل لو شعرتُ باعتمادية المريض علىّ سوف أصاب بنفس هذا النفور؟
د. يحيى:
سوف ترين بنفسك. (وترسلين لنا)
أ. هالة حمدى البسيونى
فى البداية وصلنى أنه لكى أتعلم لابد أن استشير وأسال وحتى لو وصلت لدرجة عالية فى العلم، فإن السؤال واستشارة من هو ذو خبرة، يزود المعرفة لا ينقصها؟
د. يحيى:
عليك نور
أ. هالة حمدى البسيونى
اعتراف الفرد بمشاعره أفضل من أن يخفيها؟
د. يحيى:
الاعتراف بداية صحيحة، لكنه ليس نهاية المطاف، لأنه قد لايدل إلا على قدرتنا على إعلان ما اعترفنا به لا أكثر، فثم اعتراف بعد اعتراف، بعد اعتراف، ثم حمل مسئولية كل مرحلة أولا بأول، وربنا يستر.
وبعـد:
كل هذا كان تعليقا على استشارة د. أميمة
ألستم معى أن لها الفضل،
وأن المسألة تستأهل،
والآن ننتقل إلى استشارات اليوم:
الاستشارة الأولى: د. نعمات على:
“… مريض فى المستشفى قال لى بصراحة أنى ديكتاتورة، متسلطة، وأن سبب توتره وضيقه فى المستشفى هو أنا، وذلك خلال علاقتى به أثناء النوبتيجية والأنشطة، والمريض تشخيصه (اضطراب شخصية: مضادة للمجتمعAntisocial)،
قال أنه لا يريد أن يتعامل معى، وأن هذا هو سبب مشكلته أن يجبر نفسه على التعامل معى ولو خمس دقائق فى الأسبوع،
وبعدها خلال الأنشطة أحسست بخطئى، وأن مرضه انتصر علىّ،
والآن أنا اللى باخاف من مواجهته؟”
د. يحيى:
بصراحة يا نعمات أنا لم أستطع أن أتتبع الحكاية تفصيلا، وأنت معذورة، لأننى أنا الذى أقتطعت هذا الجزء قسرا من رسالتك من بريد الجمعة دون أذنك ، لأواصل هذا الباب الجيد، كل ما أستطيع أن أقوله بصفة عامة (لحين سَلْسَلِة عرض ما جرى لهذه الحالة وتتبعها، مع رجاء ذكر بعض التفاصيل ودقة التوقيت للنقلات)، هو ما يلى:
أولا: لا تجعلى التشخيص حتى لو كان اضطراب شخصية “مضادا للمجتمع” حائلا بينك وبين المريض فهو ليس بالضرورة مضاد للمجتمع العلاجى مثلا، وإن كان موقف الرفض وارد طبعا وقد يمتد إلى المجتمع العلاجى، لكن لابد من الإنتظار حتى يصل الفرق بين مجتمع ومجتمع للمريض، وحينئذ سنعرف هو شخصية مضادة لأى مجتمع … الخ
ثانيا: ما يقوله المريض ليس بالضرورة هو ما يشعر به أو يعايشه فإذا أعلن كراهيته، فهذه بداية علاقة على أية حال.
ثالثا: لم أفهم جيدا (بين أشياء أخرى) كيف أن مرضه انتصر عليك، عموما المرض انتصر عليه – مؤقتا – قبل أن ينتصر عليك، واعترافك بالهزيمة – لو حدثت – مؤقتا، ليس عيبا،
هى دعوة لبداية جديدة.
رابعا: أما أنك تخافين من مواجهته، فبرغم أن هذا جائز أيضا، إلا أنه ليس نهاية المطاف، ويمكن أن تستعينى بالزملاء والمرضى، ليس لمجرد أن تتغلبى على خوفك، ولكن لتنمية القدرة على الاستمرار فى المواجهة واحترام الخوف فى نفس الوقت.
****
استشارتان (د. مشيرة أنيس)
الاستشارة الأولى:
لدي مريض متصوف و دائما أخرج من الجلسة معه بتساؤلات كثيرة وأكون مستصعبة أني أُرْجِعُ التجارب الروحية اللي هو بيمر بيها لحالة “اضطراب وجداني ثنائي القطببين” و أنا لا أعرف شيئا عن الصوفية فأحاول احترام تجربته و في نفس الوقت لا أفقد حسي الإكلينيكى.
د. يحيى:
هذه أمانة طيبة، وسوف تتعلمين منها الكثير خصوصا فى مثل هذا التشخيص الذى أفضل تسميته “هوسا”، ويمكن أن ترجعى إلى قصيدة “رقصة الكون” فى ديوانى سر اللعبة أو “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” لشرح هذه القصيدة (وهما بالموقع) وستجدين ما يثبت لك أن موقفك صحيح وأن “تعليق الحكم” مهم فى هذه الحالة.
فقط، أرجوك لا تصفى مريضك ابتداء أنه متصوف (تقولين: لدىّ مريض متصوف).
فهذا الوصف صعب، وهو لا يفيد، حتى لو استعمل المريض أبجدية التصوف (ليس معنى هذا أننى أنكر عليه تصوفه)
الاستشارة الثانية:
“…… المريضة كانت تعاني من أعراض هستيرية، وكانت متزوجة من رجل أكبر منها بأكثر من 20 سنة، وكانت شخصيتها قوية لدرجة أنه يرى معها ما تراه من دماء وثعابين وعفاريت تملأ البيت، وبصراحة كنت أشعر من كلامهاثناء الجلسات بخوف شديد وكأني أتذكر حكاوي ستي عن أمنا الغولة.
د. يحيى:
أنت يا مشيرة طبيبة جيدة واعدة، ربما مثل هذا الموقف هو الذى جعلنى أقدم يومية مقتطفات الأسطورة والمعنى، ولعلك تتذكرين السؤال الذى وضعته ليستدرجنا إلى أن نعرف أن احترام الأساطير هو جزء لا يتجزأ من ممارستنا الإكلينيكية،
أما ما وصفت من علاقة هذا الزوج بزوجته فهو طريف ومفيد وعلم بحت، وهو يحتاج لشرح طويل، فهو يشير مثلا:
o إلى أن المريض الهستيرى ليس دائما هو القابل للاستهواء أكثر، (كما يُشَاعُ ونزعُم)
o وإلى بعض الشبه مع ما يسمى الجنون المُعْدى Foliá contaminée الذى إذا أعدى أكثر من فرد فى العائلة يسمى جنون العائلةFolie á Famile كما لعل حالتك هذه تكسر غرور الرجال بعض الشئ!
واصِلى يا مشيرة بكل هذا الصدق،
وتذكرى ما شئت من حواديت،
فهذا كله مما ننمو به فى مهنتنا بما يسمح بكفاءة استعمال المعلومات الجاهزة فى سياق أكثر فائدة.