“يوميا” الإنسان والتطور
25-7-2008
العدد: 329
حـوار/ بريد الجمعة
مقدمة:
عجيب أمر هذا البريد، مثلما هو عجيب أمر هذه النشرة.
فى كل أسبوع (بدءًا من يوم الثلاثاء) أتصور أننى لن أجد ما أرد عليه، خاصة وأنا أشك فى تلقائية ذلك البريد الذى يصلنى من أبنائى وبناتى العاملين معى، برغم أننى أعتبر ذلك جزءًا من التدريب.
المهم، ما إن أجلس يوم الأربعاء أو الخميس لأبدأ الرد حتى أجدنى محاطا بكوم من التساؤلات والتعقيبات لا أتصور أننى سوف أتمكن من الرد عليها جميعا. مازلت أفتقر إلى تعقيبات من زملاء، أو أصدقاء غير مختصين بعيدا عن دائرتى (بكل المعانى!)، ومن فريق آخر هم أبنائى وبناتى الذين بدأوا معنا مسيرة الرؤية والمحاولة والتدريب، ثم تركونا ليكملوا المسيرة أو يتراجعوا عنها سواء فى البلاد العربية، أو الأوروبية وأمريكا، واستراليا، كنت أحسب حين بدأت هذه النشرات اليومية أن الأمر – بمشاركتهم- سوف يكون أكثر إثراءً.
هذه النشرة هى رقم 329 ولم يصلنى ما يشفى غليلى ممن توقعت أن يشاركونى، فَنُراجع، ونَتَذَاكر اللهم إلا بضع تعقيبات تعد على أصابع اليدين، باستثناء الابن المثابر د. أسامة عرفة، وبرغم ذلك رأينا، أنا، والابن الصديق د.جمال التركى، أن هذا العزوف لا ينبغى أن يثنينا عن الاستمرار، وأن الذى يهم هو الذى يبقى، إلا أنه يبدو أن جمال قد أشفق علىّ فنصحنى بالتوقف ولو بعد عام (بقى 38 يوميا) وأن أتفرغ لكتابة خبرة متكاملة فى الطب النفسى أساسا من واقع ممارسة نصف قرن، قد يكون لها معالم متميزة لثقافتنا تسهم فى إعادة النظر فى ماهية الإنسان والطب النفسى عامة، ثم عاد جمال فجدد دعوته فى كلمة هادئة هذا الأسبوع.
عذرت جمال وقد واكبت انشغاله وهمه وشرف محاولته للتوفيق بين زملاء اختلفوا على ما لا أعرف، ثم اتفقوا على الاختلاف السرى المستمر، برغم ظاهر الاتفاق التنازلى المهزوز، ولا أريد أن أضيف “واللى فى القلب فى القلب”، واكبتُ الابن والصديق والزميل جمال فى هذه الأزمة، وشكرت له ما يقوم به، ودعوت له بما أستطيع، واعتذرت متألما عن عدم وقوفى بجواره بشكل عملى مباشر، فقد نسيت هذه اللغة فى مرحلتى هذه، حتى عاد جمال منهكا، ويبدو أنه أسقط علىّ إنهاكه، فعاد يثنينى عن الاستمرار، أو ربما خاف علىّ من عناد الموُاصلة بالقصور الذاتى، وأنا معه أشاركه خوفه، ولا أستجيب له، لى .
المهم
فجأة، أمس، تفضل ابن كريم سبق أن قدمته فى أول مشاركة له فى بريد الجمعة بتاريخ 19/10/2007، هو د. رفيق حاتم، وقد فرحت به آنذاك ورحبت، وأفردت له وحده كل بريد تلك النشرة، فمن ناحية هو يمثل لى امتداد واعيا يضيف إلى وجودى مهما طال الصمت، أو بعدت الشقة ومن ناحية أخرى كان الموضوع الذى تناوله وعقب عليه فى غاية الحساسية والأهمية معا وهو موضوع “الصوفية والفطرة والتركيب البشرى” (نشرة 1/10/2007)، وقد كتب لى بعد ذلك تعليقا من سطرين يشكرنى فيه على أنى أتحت له كل هذه المساحة (وكأن المساحة ملكى أتيحها لمن أشاء)، المهم تصورت أنه سيواصل الحوار بعد ذلك بأى شكل وأى درجة لكنه صمت –دون انقطاع غالبا- وقلت خيرا.
فجأة وصلنى تعقيبه الثانى أمس. قلت خيرا مرة أخرى: “طولة العمر تبلغ الأمل”، قرأت التعقيب وتعجبتُ،
قلتم لى لماذا؟
سوف تعرفون بعد قليل
قبل أن أرد على هذه الـ “لماذا” اتصلت بابنتى الدكتورة ماجدة صالح (مديرة المستشفى) وبعد أن تبادلنا تحديات الذاكرة، وانتصرتْ، أعنى انتصرتُ، طلبت منها أن تجمع لى ما تيسر من أسماء الذين سافروا إلى بلاد الفرنجة والبلاد العربية من الذين تدربوا فى هذه المؤسسة أو المستشفى أو المدرسة (لكلٍّ الحق فى تسميتها كما يشاء) فأرسلت لى هذه القائمة.
أولاً : بلاد الفرنجة :
د. يسرية أمين |
انجلترا |
د. إبراهيم رخا | انجلترا |
د. باسم فؤاد | انجلترا |
د. أحمد الفار | انجلترا |
د. عنان المصرى | انجلترا |
د. هناء سليمان | انجلترا |
د. عادل صبيح | انجلترا |
د. رفيق حاتم | فرنسا |
د. نادر جميل عطا الله | فرنسا |
د. عصام اللباد | أمريكا |
د. وجيه وليم أسحق | أمريكا |
د. حسام حشمت | أمريكا |
د. مريام سلامة | أمريكا |
د. أشرف عزمى | أستراليا |
أرتين أوهانسى | أستراليا |
د. جمال سلامة |
كندا |
ثانياً البلاد العربية:
د. صفوت | الإمارات |
د. هشام شفيق | الكويت |
د. منار منير | الكويت |
د. خالد جعفر | الكويت |
د. إيهاب شفيق | الكويت |
د. أسامة عرفة | السعودية |
د. نهال محمد محمود | السعودية |
د. أحمد سلطان | السعودية |
د. عزة المصرى | السعودية |
د. هانى يحيى | السعودية |
د. سمير عباس | السعودية |
طبعا، هذه ليست كل الأسماء، والعتب على الذاكرة، فعذرا.
باستثناء د. أسامة عرفة كما نوهت سابقا، دعونى أذكر أنه من بين كل هؤلاء – من الذاكرة أيضا – كان الذى تفضل وكتب لى تعقيبا (أو ترحيبا) هم (الأبناء والبنات والزملاء والزميلات) جمال سلامة، عصام اللباد، إبراهيم رخا، خالد العلى، أحمد الفار، وفيما عدا د. عصام اللباد الذى أجّلنا الرد على أغلب ما كتب حتى نعود لمناقشة التعقيبات النظرية عن الحب والكراهية، كان حجم ما كتب أى من هؤلاء الأعزاء هو بضعة أسطر، نصفها ترحيب، والنصف الآخر يدعونى للمواصلة، وأحيانا يفزع من احتمال التوقف (د. أحمد الفار مثلا من انجلترا).
قلت لنفسى إن السنة قد أوشكت على الاكتمال (باقى 38 يوميا).
واقتراح الصديق جمال التركى يخايلنى (الأرجح أننى – حتى الآن – لن آخذ به لأسباب سأعود إليها فيما بعد)، مرة أخرى نكرر كلمة أبو قراط تتصدر الموقع:
الحياة قصيرة، والفن طويل.. الخ..
وفى الوقت المناسب يصلنى هذا التعقيب الجديد من د. رفيق حاتم فيتجدد الأمل، ويتجدد الألم خاصة وأن الخلاف جاء أكبر مما اعتدت.
دعونا نبدأ الحوار وسوف نرى.
(ملحوظة: سوف يقتصر حوار اليوم على يومية واحدة أرى أنها تستأهل ذلك وأكثر، وسوف نواصل الرد الأسبوع القادم على التعقيبات على سائر النشرات الأخرى:
***
زخم الطاقة والإيقاع الحيوى واختيار الجنون (2-2)
د. يحيى:
أهلا يا رفيق! دعنى أبدأ بآخر سطر فى تعقيبك حتى أبلغك شكرى وترحيبى كنوع من الترضية المناوِرة، ربما تتحمل ما يلى بعد ذلك.
د. رفيق:
“… وياليت يا دكتور يحيى تزيد فى هذا الموضوع المهم”.
د. يحيى:
حاضر يا رفيق سوف أزيد وأعيد، مع أننى أذكر أننا تكلمنا، بل مارسنا، هذا الفرض سويا أياما وليالى، أعنى شهورا وسنين، ربما جاءت من هنا دهشتى مما بدأت به حين قلت فى البداية:
د. رفيق:
سوف أبدأ بالقول بأننى أوافق على المبادئ التى تطرحها، ولا أوافق عليها.
د. يحيى:
هذه البداية طمأنتنى، أنك ما زلت أنت، فأنا أعرف قدرتك على أن توافق وفى نفس الوقت لا توافق، وأظن أنك تجاوزت – أو على الأقل أذكر أنك كنت قد تجاوزت – مسألة أن يكون ذلك هو مجرد موافقة على أجزاء، وعدم موافقة على أجزاء أخرى، ما أعرفه عنك أنك تستطيع أن توافق ولا توافق على نفس الجزئية، دون حيرة مُشِلّة، وهذا هو ما يتفجر منه الإبداع.
إلى هنا فبداية تعقيبك واعدة، كما أن النهاية-كما أشرنا – فيها دعوة طيبة أما ما أزعجنى فهو ما بينهما مثل قولك.
د. رفيق:
الجنون ليس قرارا، الجنون ليس اختيارا، الجنون ليس فعلاً.
د. يحيى:
ألم تقل حالاً يا جدع أنت أنك توافق ولا توافق، آسف نسيت، كنت تتكلم عن المبادئ، أرجو أن تحدد مناطق وطبيعة عدم موافقتك.
د. رفيق:
كيف يكون الجنون قرارا فى مرض الذاتوية الطفلية Infantile autism!!! كيف يكون الجنون اختيارا فى مرض عتة الشيخوخة؟
د. يحيى:
أعذرنى يا رفيق أننى قسمت جملتك إلى قسمين، فأجلت الرد على ما يخص الفصام ليكون مستقلا عن هذا الجزء،
أتعجب منك يا أخى كيف تعتبر الذاتوية الطفلية infantile autism (وأشكرك أنك لم تستعمل اللفظ الخاطىء “التوحد”) تعتبرها جنونا وأنه من بين ما نتحدث عنه.
ثم كيف تعتبر عتة الشيخوخه جنونا أيضا ضمن ما نتحدث عنه؟
ولكن لا .. لا.. عندك حق، كان لزاما أن أحدد تعريفا إجرائيا يختص بهذا الفرض (هذه الفروض) لكلمة “جنون”، حتى لا يحدث مثل هذا الخلط، إذن هو خطأ من جانبى، لكن عذرى – إن كان لى عذر – هو أننى حددت موقفى فى كل كتاباتى (الشاملة خاصة) بدءًا من “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” حيث أننى كنت ومازلت أبدأ بالتنبية باستبعاد أنواع محددة مما يسمى الجنون الذى أتحدث عنه، وأؤكد أن كل فروضى لا تنطبق على هذه الأنواع المستبعدة، التى لها قوانين أخرى وقواعد أخرى وقد أسميتها “الجنون الفوضى” chaotic psychosis، الناتجة عن خلل تشريحى/جسيم أو مجهرى، بما يشمل الضمور ونقص الخلايا (التى لا تتجدد)، كما يشمل سوء التنظيم malorganizatiom الخِلْقى وربما الجِينِى، كل هذه الفئات مستبعدة تماما من كل ما أعنيه فى دراستى للسيكوباثولوجى، وأيضا من كل الدراسات السابقة التى تتكلم عن التركيب والغائية والمنظوماتية المرضية من أول كارل ياسبرز حتى أريتى وشولمان (نشرة 6-6-2008)
كم تكلمنا يا رفيق وعايشنا كل ذلك، ثم تأتى الآن يا شيخ تضرب مثلا بالذاتوية الرضيعية وعتة الشيخوخة؟
لم أفهم
لكنك أتحت لغيرنا – أنت وأنا – أن نوضح هذه النقطة لهم أثناء حوارنا، فقط دعنى أذكّرك، قبل أن ننتقل إلى ضم الفصام إلى تساؤلاتك، دعنى أذكرك بالحالة التى سبق أن أشرت إليها أنت فى هذا البريد (19-10-2007)، ذلك الكهل الطيب الذى قرر الانتحار بملء إرادته، مع احتفاظه بكامل قدراته المعرفية (المناسبة لسنه غالبا- القريب من سنى شخصيا)، ثم ما تطرقت إليه أنت فى وصفك لحالته حتى قلت:
د. رفيق (سابقا):
….. وإن كان هناك إمكانية إحداث Faire D’avenir نقلة أو تجاوز أو تغير غير مطروحة عند المريض للضرر الذى أصاب الجهاز العصبى، إلا أن هذا لا يأخذ فى الاعتبار إمكانية نقلة عند من يصاحب المريض فى هذا المشوار الصعب. النقلة المحتملة والآتية إيمانا ليست فردية بالضرورة و لكنها تشمل من يحملون مشقة تحمل العلاقة.
د. يحيى:
هل أعدت قراءة ما كتبتُ سابقا لنا؟ وهل له علاقة بموضوعنا؟ خاصة وقد كنت قد كتبت أنت أيضا ما يلى:
د. رفيق:
…إن من واجبى كطبيب أن أرافقه فى هذه الرحلة، وأن أكون سببا فى حركةٍ ما عنده أو عندى بالرغم من يقينه اليائس المقبول عاطفيا ….
د. يحيى:
وأيضاً أنت الذى قلت هناك:
د. رفيق:
تساءلتُ ماذا يمنع مريضنا المسن وهو يفقد تدريجيا قدراته المعرفية والجسمية أن يكتسب نوعية أخرى من الوعى بالأشياء تمكنه من تجاوز رؤيته اليائسة والتصالح مع الأشياء وتأسيس معنى مغاير لوجوده؟
د. يحيى:
أليس فى كل هذا ردّ ضمنى لما أحاول أن أقدمه فى النشرة الأخيرة هذه، ألست أنت القائل أيضاً.
د. رفيق:
… قفز فى ذهنى مفهوم متعلق بالعلاج النفسى إذ يرتبط التحسن أو زوال الأعراض بعملية إحداث أو حدوث تغير غير متوقع و غير محسوب من خلال مفردات متاحة بشكل من الأشكال Faire D’avenir. مثلا…
د. يحيى:
ولا أنت ترجمت Faire D’avenir ولا انا فهمت قصدك تماماً
ثم دعنى أذكرك بقول آخر قلته أنت أيضا فى نفس اليومية.
د. رفيق:
لا يكون التحسن بزوال المعتقد الضلالى فحسب وإنما بتغيرٍ مَا فى طريقة إدراك الواقع و التعامل معه.
هذا التغير ونوعيته غير محسوب، ولكن ترقُّبـَـهُ يدخل فى صميم مفهوم العلاج النفسى وأكاد أقول فى أى علاج إلا أنه فى العلاج النفسى يأخذ ترقب التغير مكانا محوريا بل يُسعى إليه من خلال طرق علاجية مختلفة…
د. يحيى:
كل هذا يجعلنا نتفهم أكثر فأكثر ما نعنيه حين نتكلم عن “الاختيار” (القرار، الإرادة، التغيير) الاختيار فى الجنون الذى أعنيه، وقد يعنيه كل من يتناول هذه القضية من هذا المنطلق (مستبعدا الجنون الفوضوى العشوائى الناتج عن الضمور والالتهابات والنقص الأولى يا شيخ)، إن هذا الموقف بالذات هو الذى أشكرك يا رفيق لأنك نبهتنى أن أؤكد من جديد أن مفهوم الجنون الاختيار الذى نتداول فى أمره يكاد ينحصر فى الفصام ، ثم فى كل الذهانات التى هى – فى تقديرى – دفاع ضد جنون الفصام بجنون أخف منه (راجع unitary concept)
لهذا تعجبت من تعميم اعتراضك ليشمل الفصام مع الذاتوية الطفلية وعتة الشيخوخة، توقفت طويلا عند قولك:
د. رفيق:
“كيف يكون الجنون فعلا عند الفصامى المتفسخ”؟
د. يحيى:
لا .. لا .. لا ..
من هنا يبدأ الاختلاف حتى الشجار، لايمكن أن أتصور أن يصدر عنك أنت بالذات هذا التساؤل يا شيخ، لا أريد أن أُُرجعك إلى كل المصادر التى سبق أن أشرتُ إليها فى هذه اليومية من أول ياسبرز حتى فهرس كامل للفصل الثالث فى كتابى حركية الوجود وتجليات الإبداع الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة، الفصل بعنوان “عن الحرية والجنون والإبداع” ويمكنك –إن كان لديك الوقت- أن ترجع إليها لأن هذه المسألة بالذات يصعب إيجازها كما تعرف.
وسوف أعود إلى التطبيق بالتفصيل حين أفتح ملف الفصام.
يكفى أن أذكرك أن التفسخ فى الفصام وراءه غلبة العقل البدائى من ناحية، ثم هزيمة وتفكك العقل الأحدث المغترب من ناحية أخرى، وأن الاختبار كما أذكر أننى ذكرت فى النشرة، هو جماع الأثنين.
د. رفيق:
..إن الأبحاث حول المطاوعة العصبية أثبتت أن نمو الكائنات الحية يمر بمراحل حرجة تسمح باكتساب مهارات أو قدرات. مثلا إذا حرمت فئران حديثة الولادة من الإثارة البصرية فى زمن حرج فهى تفقد القدرة على الإبصار دون وجود إصابة عضوية.
أن نمو الكائن البشرى يمر أيضا بمراحل حرجة تحدد المسار المقبل و إذا كان ما يحدث فى هذا الزمن الحاسم يندرج تحت الاختيار و القرار فهذا لا يصح فى المراحل التالية بل و يمكن القول أن ما يحدث من قبيل القرار و الاختيار يمكن أن يكون سابق للولادة و يرثه المولود دون قرار و لا اختيار. ما يحدث فى هذه المراحل الحرجة لا يتعلق بالفرد فحسب و إنما بمن حوله القرار هنا و الاختيار شائع بين أولى الأمر، إن ما يحدث فى تلك المراحل الحرجة ليس فقط من قبيل القرار أو الاختيار أنما قد يكون حدث عضوى جسيم غائر الأثر.
د. يحيى:
لم أستطع يا رفيق أن التقط جيداً العلاقة التى تريد إيضاحها، ومع ذلك أوافقك مع الاختلاف فى التفاصيل، ودعنى أعقب على ما جاء فى آخر رأيك فيما يتعلق بأن المسألة ليست فردية أساسا:
فإذا كان ثّمَّ عقل بدائى، فى لحظة فشل وتراجع العقل الأحدث قد رجَّح اختيار الجنون (من وراء ظهر صاحبه قبل أن ينكسر فيعترف) فإن احترام ذلك، هو احترام للمريض، الذى هو السبيل إلى البدء فى تنشيط عقول المريض الأخرى، جنبا إلى جنب، فى تضافر تفاعلى، الأمر الذى يتم (المفروض يعنى) مع تنشيط عقول (مستويات وعى) الطبيب،
إن جماع هذا معا هو الذى يختار العودة، ليس إلى العادية فقط بل إلى الطبيعة السوية.
إن العملية مشتركة وهى تأخذ فى الاعتبار باستمرار: تجدد كل المستويات معاً ثم توجهها – اختيارا بالمعنى الأعمق – نحو استعادة مسار النمو.
د. رفيق:
إذا كانت الفاعلية فى علاج الأمراض النفسية توجب الأخذ فى الاعتبار هذا البعد الاختيارى والإرادى إلا أنه خطأ فادح أن يهمل التشخيص البنية الآنية و تقييم جسامة الضرر المتراكم و مدى الحركة الممكنة وحجم فاعلية الاختيار والفعل الممكن.
د. يحيى:
ومن قال أن هناك أى احتمال لإهمال أى من هذا؟
ثم أنى تعجبت يا رفيق بعد كل ذلك أن تربط بين هذا المعنى الصعب للاختيار وبين مفاهم اختزالية ذكرتها أنت، وقد بلغنى –بصراحة- أنها خارج السياق وذلك فى قولك:
د. رفيق:
إن طرح مبدأ الاختيار و الإرادة فى الجنون بالرغم من دلالته كان وراء تجاوزات مثل مفهوم الأم محدثة الفصام schizophrenogenic mother أو ربط الذاتوية الطفلية بسمات شخصية الوالدين، هذه النظريات أخطأت بهذاالتبسيط المخل فى فهم الأمور بشكل أشمل.
د. يحيى:
لقد وصلنى استشهادك بهذين المفهومين خارج السياق،
لا أظن أن تأثير الأم (المجنى عليها أحيانا) فى مفهوم الأم محدثة الفصام أو ربط شخصية الذاتوية الرضيعية بسماتٍ عند الوالدين هو خطأ على طول الخط، ولا هو أمر يصح المبالغة فى قبوله بربط سببى مسطح، لكنها عوامل متضفرة توضع فى الاعتبار طول الوقت، ولا تنفى فكرة الاختيار كما نتناولها، وليس كما تنفيها هذه السببية التى تبدو حتمية أحيانا.
……………
……………
يا ترى يا رفيق هل تتابع تلقائية وشطحات الابن رامى عادل، الذى حسبه الدكتور منير زميلا طبيباً. ما رأيك أن نبدأ فى جمع ما نشرناه له (وهو ليس كل ما كتب لنا) لنتعلم كيف يكون الجنون اختيارا، وكيف يكون الشفاء إبداعا (اختيار أيضا)
دعنى أنهى هذه اليومية بالمقتطف السابق وروده فى ردى على د.منير ثم بالمقتطفات التى وصلتنى هذا الأسبوع من الابن الصديق رامى عادل دون تعليق.
وعموما، فأنا فى انتظار وصولك يا رفيق مصر بعد أيام، كما قالت لى “أمانى” ولكن إياك أن تفتح هذه المواضيع فى إجازتك، فتحرمنى من بناتى، دعنا نمارسها فقط.
والآن: استسمحك أن نستمع إلى بعض التعقيبات حول نفس النشرة.
****
د. منير شكر الله
أشكرك بالغ الشكر على هذا الرد المفصل الذى أجاب عن الكثير من أسئلتى والذى حفزنى للتساؤل عن أشياء اكثر والذى أيضا زاد من حيرتى فى بعض الجوانب _ وأنا أعلم ان هذا طبيعى فى مجالنا!!!
قرأت أيضا التعليق البليغ للزميل رامى عادل الذى ربما لخص و كثف فيه الكثير من أفكار حضرتك. بالطبع سأحتاج بعض الوقت لكى أهضم كل هذا الكلام ولكى أقرأ المقالات والكتاب التى أشرت إليها حضرتك. وأستأذن حضرتك فى إرسال إستشارة أخرى قريبا لحالة سيدة تعانى من الفصام
وأنا حاليا أكتب هذه الحالة لإرسالها لهذا الباب وأستأذن حضرتك فى تزويدك بمقتطفات مطولة من كلامها كما قالته حرفيا وكما سجلته حالا فى وقت نطقها به. و أنا افهم بالطبع أن مساحة الإستشارة لا تحتمل بالضرورة نشر كل كلمة عن الحالة.
د. يحيى:
أهلا بك يا د. منير، وبحالاتك وقتما تشاء، أكرر شكرى، ولك وللابن رامى عادل، المكافح الأزلى، وهو ليس زميلا بمعنى طبيب أو معالج، بل هو صاحب خبرة خاصة جدا، يمكن أن ننهل منها – كما قلت لرفيق حال – إذا أذِنَ بقدر قد ينير لنا كثيرا من جوانب المسألة.
ثم إننى لاحظتْ يا د.منير أنك – ولك الخيار– فى حاجة إلى أن تشاركنا الحوار الذى بدأ مع د. رفيق الآن وقد يمتد، لأن المسألة لا تقتصر على إجابات أو توصيات لحالة بذاتها، وإنما هى قضية شائكة أرجو أن نصل فيها إلى رؤية عملية مفيدة نسبيا، أما التنظير فأظن أنه سوف يكون أصعب.
د. نعمات على
أعجبنى فى البداية اسم اليومية جدا وعند قراءتها لا أعرف لماذا أنا حسيت بالصدق فى كل كلمة فيها ولكنى بعدها تساءلت؟ كيف يقدر الإنسان بعد ما يكون مجنونا أن يرجع فى رأيه؟ فإذا كان الجنون قرارا؟ فما دور المعالج فى ذلك؟
د. يحيى:
الذى وصلنى بعد طول خبرتى هو أنه فى عمق معين أثناء مسيرة العلاج، وعلى مستويات متعددة، تصبح الإرادة العلاجية هى جُمّاع إرادة كل من المعالج والمريض، هذه المستويات لا تقتصر على اتخاذ قرار سلوكى ظاهر محدد بقدر ما قد تمتد إلى أعماق وجودية، ربما تكون على علاقة بإرادة الحياة أو إرادة التغير أو إرادة الإبداع من يدرى؟
أعتقد أن هذا يجرى فعلا لكن يصعب رصده أو فصله.
د. محمد أحمد الرخاوى
من تجربتى المتواضعة وانا ادعى انى احمل زخم قوى جدا من جينات فائقة التطور ارى ان الوعى الكامل هو موجود غالبا وهو اكبر من اى شرح او تنظير
اعنى ان تضفر الوعى بكل مستوياته-وانا اوافق ان للوعى مستويات- مع البصيرة -حالة كونها الوجه الآخر للابداع- مع الفعل القاصر الحتمى الآنى قد تؤدى الى نوع من الوجود يسبق كثيرا ما هو موجود حالا وفى نفس الوقت قد يفشى ما قد خفى من ارهاصات التقدم او التدهور.
كل هذا قد ينقذ من الجنون بمعنى فقدان هذا التضفر من ناحية وفى نفس الوقت يزيد من وحدة صاحب هذا النوع من الوعى .
اذن ماذا
اذا كان للانسان ان يستمر كنموذج لكائن حى فائق التطور فعليه ان يسلك هذا الدرب فهى الامانة التى رفضت السموات والارض والجبال ان يحملنهاوحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا
د. يحيى:
هذا طيب ، شكراً لك، أرجو ألا ترجع يا محمد للخطابة والتعميم لو سمحت، ثم لا تنسى أن هذه الجينات التى أسميتها “فائقة التطور” قد تكون هى هى جينات الجنون، (حسب نظريتى). يبدو أنك لا تعرف شجرة العائلة جيدا.
د. هانى الحناوى
ردا على افتراضية \”كيف يكون للجنون عقلا\” تذكرت اول تساؤل لى فى اول مرور للدكتور يحى الرخاوى و قد بدأ رده وقتها مناديا لى بأسم أخر \”يا دكتور عبد الستار\” و كانت مخاطبته لى هى بداية \”حركة الوعى\” لمفهومى عن الطب النفسى عموما و خاصة ان بداية ممارستى له كانت فى \”قالب\” مدرسة مختلفة تمردت عليها بعد ذلك .. المهم ان رد الدكتور يحيى وقتها كان بخصوص سؤالى عن رموز الذهان فى مريض وسواس قهرى و عندما قرأت رده اليوم فى معنى \”هدف الجنون و عقله\” تذكرت خبرتى فيما تعلمته منه عن \”ارهاصات الذهان الاولى\” و هى ربما تكون بمثابة بوابة معرفية لفهم\”ميكانيزمات العقل و رموزه فى الجنون او الذهان\” تلك التى نسمعها كثيرا من المحيطين بالمريض قبل ظهور الاعراض الواضحة \”لهم\” و هذه \”الارهاصات\” لو يتم تحليلها معرفيا و ربطها بالمعطيات المعرفية والزمنية -بنقلاتها- فى شكل منحنى تحليلى لربما وجدنا صياغة مختلفة لمعنى الامراضيةالباثولوجية للمريض و بالتالى المآل الخاص بحالته …
د. يحيى:
هذه الظاهرة المتعلقة بدرجة ونوعية ومستوى ما نسميه “الاختيار” لا تظهر قبل بداية الجنون عادة (بعد استبعاد ما أشرنا إليه من الأنواع الأخرى فى الرد على د.رفيق) ولا هى يمكن فحصها فى عمق وتمادى خبرة الجنون، فهى تكون أوضح ما تكون فى الجنون (الفصام بالذات)، المبتدئى Incipient Psychosis ، وأيضا فى النقاهة النشطة الممتدة (إلى ما هو أفضل مما كان قبل خبرة الجنون)
وربما ما يمثله لنا فنتعلم منه، نشاط والتزام وطلاقة الابن رامى عادل هو ما أعنيه بتعبير: النقاهة النشطة، ويمكن متابعة بعض تجلياتها منذ بداية النشرات، لكن دعنى الآن اجمع بعض انطلاقاته التى وردتنى هذا الأسبوع دون تعليق لأنهى بها بريد اليوم
* * *
رامى عادل: حوار/ بريد الجمعة 18 يوليو 2008
قد يعجب شخص بالجنون كفكر وفعل خارج، الا ان إدمانه – بعد التخطيط له- طريق شائك بالغ الخطر، ومن عمق اثارته يستحلى الشخص اللعبه الطائشه اللانهائيه. فيختار واقعا مغايرا لا يكتمل ابدا. متأرجحا بينه وبين الهزيمه. رافضا التخلى او التنازل عن يوتوبيا يسكنها الخلل. لكن شيئا من الجنون قد يكون مسكنا فعالا مستعيضين به عن لوازم الواقع
* * *
أ. رامى عادل
وسط المخاض واستحالة الرؤية. تغشانى الحمى ويتجاذبنى القهر.استحل المرض.تبردنى المحاوله، تتدافع الحلول.تتشابه ردود من حولى احيانا، فاتاكد وتتوازى الطرق.تتساوى الفرص نهائيا. ويحى على ما اصابك يا يحيي، فلا تدع سن قلمك .. فقد ابرمت الحبكة. هزلت خطاى .. ولدى واينع صباك.
د. يحيى:
هل أستاذنك يا رامى أن أعرض مداخلاتك، وأطرحها أمام د. رفيق، ود.منير، وبقية المشاركين اليوم دون تعليق لأننى أخشى انقطاع طلاقتك لو شعرت أننا نضع تلقائيتك تحت الفحص والمناقشة
شكراً مقدماً،
وإن كنت لا أعرف مخرجا من هذا المأزق دون المساس بتلقائيتك التى قد تحرمنا منها أو منك.
* * *
أ. رامى عادل
استقلالية المريض – فى وقت الجلسه/الاختبارنفسه – باهظة التكاليف وغير متوقعة وقد تحدث فى جزء من الثانية، بعد كدح مرير ويشترك المعالج والمريض فى بعض الاحيان فى كشف مفاجيء. اقصد انهما يتعرضا سويا لنفسالخطر (الفيروس). ويكون ابتكار احدهما لوسيلة فعالة ومكافئة هى الفيصل. عذرا للايجاز.
د. يحيى:
لا تعليق
*****
أ. رامى عادل
جنونها خرق وشغب ، كثيرا من جنونه عتاله واوهام قوه ، وللقائهما وزن لا يضاهى، ان تنزل للحضيض بإرادتها، ان تقبضه اليها، ألا يصدها، فيتواءما .شكرا
د. يحيى:
لا تعليق
*****
المقامة الرابعة: ليلةُ قدْر
أ. رامى عادل
يرنو لهاتف يسرى عنه، يتلقاه فى وسط الأخاديد فلا يكاد يسيغه، تتلوه أقاصيص دهر مندثرة، تعيقه عن الفهم، يقصد بجلبابه القصير جنون الأزقه، يتمهل اللحن الصديق يقطره، مازال يقطره يبغيه، ينشده، خاصمته الهرر الصامته،ضالته.
د. يحيى:
لا تعليق، إلا الإشارة إلى أن تعقيب رامى كان عن المقامة الرابعة، وهى بعيدة عن هذه النشرة، لكننى وجدته أقرب إليها.
*****
أ. رامى عادل
….. ولذلك تجب الثقة في قدرة الطبيب علي النفاذ وإيجاد حلول لم تكن مطروحة من قبل وكل بطريقته.
ومن المدهش ان نفاجا بما لم نكن نحن إلا في حضرته بالذات, فيكون كما يكون دون وصايه عبئيه.ونكون نحن كما لم نكن من قبل.
د. يحيى:
ليس كل طبيب طبيب يا رامى
ربنا يخليك
*****
(اعتذار مكرر: سوف نواصل الرد على بقية تعقيبات النشرات الأسبوع القادم)