يحيى الرخاوى طبيب نفسى
“يومياً” الإنسان والتطور
5-3-2008
العدد: 187
فتح ملف الادمان (4)
ما الذى “تقوله” ظاهرة الإدمان؟
ونحن نحاول الإنصات لما تقوله هذه الظاهرة أثناء العلاج الممتد، والتتبع الطويل حاولنا أن نقوم بترجمة مبدئية لبعض المعانى التى بدا لنا أن هذه الظاهرة تعلنها من خلال انتشارها بهذا التواتر، وأنها تؤكدها من خلال إظهارها لكل هذه المقاومة لمعظم أنواع العلاج:
1- إن الإدمان يعلن الحاجة إلى “المعنى”
ففى الوقت الذى يبدو فيه المدمن “هاربا من”… نتبين أنه “هارب إلى“….
هارب من آلام الوحدة إلى صحبة متخيلة، أو سلبية
هارب من غياب المعنى فى أى شئ إلى معان تلوح له أنها جديدة، بلغة جديدة، تصلح لملء الوعى، باللاشئ (فى النهاية)…..إلخ
ومع حسابات البدايات والمآل، من واقع الاستجابات العلاجية الأولية فالتتبع، لاحظنا أن المدمن إنما يتوجه لنوع من التماسك بتكوين منظومة وعى بديل، لكنه فى نفس الوقت يحتاج إلى تعتيم مستوى الوعى السائد.
2- الإدمان يعلن الافتقار إلى الفكرة المحورية الغائية التى تجمع تركيبات الذات إلى مسار التجمع فى واحدية واعدة جدلاً
ومع أن هذه القضية ليست خاصة بالمدمن، بل هى متضمنه فى نوع سائد من الحياة المعاصرة، المجزأة والمغتربة، إلا أن المدمن:
ا- يكاد يدرك هذا النقص ويرفضه،
ب- ثم هو يكاد يهم بالبحث عنه لكنه فى النهاية – وربما من البداية- يُجهض، أو يُرفض.
جـ- فيرتد أكثر خواء وأبعد عن الغائية المحورية الضامة، فى وجود متصلب بارد
ء- فيلجأ إلى ملء خوائه بهذه الكيمياء السامة الطبيعية أو المصنَّعة.
هـ- وفى نفس الوقت هو يحرك جموده بهذه النقلة الكيميائية المباشرة.
و- وهو بلجوئه إلى هذا الملء الزائف، وإلى التحريك المفتعل يحقق نوعا من التقارب بين بعضه وبعضه، وبالتالى يحقق نوعا من التقارب بين بعض ذواته، لكنه يفشل عادة، فيستبعد أى ذوات تحول دون تحقيق غائية الإدمان، فكأنه يحقق “واحدية” زائفة مؤقتة، لكنها مريحة تكفى لتحقيق متطلبات الموقف المتعلق بالتعاطى! خداع النفس، والحركة فى المحل.
المدمن يعلن الافتقار إلى الفكرةالمحورية، وفى نفس الوقت هو يهم بتعويض ذلك بالمواد الإدمانية، فينخدع دون أن يدرى
3- الإدمان يلوّح بإبداع يعد بالكشف، حيث يسهم بشكل ما فى تغيير الوعى نوعيا، إذْ يتغير إدراكه، لنفسه ولمن حوله.
لكن سرعان ما يحدث التورط:
مع الوعى الغامض بالافتقار إلى المعنى، والشعور المؤلم بالخواء فى الوحدة، يبدأ التحرك فى اتجاه البحث عن الفكرة المحورية، التى يمكن أن تعد بأن تضمه فى “واحد”، فتلوح له فى مساحة ما من وعى غائر أنه: “باللعب الكيميائى” فى مساحات الوعى المتبادلة، يمكن أن تجرى محاولة إعادة تنظيم على مستوى أعلى (إبداع) حول محورٍ ما.
إلا أن هذا يتكشف عموما عن وعد كاذب.
[وإن كان فى قليل من الأحيان قد يصدر عنه إبداع حقيقى فى ظروف خاصة كما يشاع عن بعض المبدعين، الأمر الذى ينبغى مراجعته، فالإبداع لا يتم فى مستوى وعى آخر بديل منفصل، ولكنه يتخلق من وعىٍ فائق مشتمل، وفى النادر، قد تقوم المواد الإدمانية بتحريك مستويات الوعى الكامنة معا، وهذا ليس إبداعا فى ذاته، إن لم يلحقه تشكيل لهذه المستويات فى وعى فائق قادر على تخليق الجديد،
4- بعض الإدمان قد يخمد الحاجة (الحقيقية) إلى الآخر، مع إحياء تواصل سطحى بديل.
ففى الوقت الذى لاحظنا فيه دفء التواصل بين أفراد هذه الفئة بعضهم ببعض، وبينهم وبين غيرهم من المرضى، تبينا قصر عمر هذا الدفء ولا جدواه فى نهاية النهاية، اللهم إلا فى تسهيل التقمص والاعتماد على منطق جماعى يبرر هذا الحل مؤقتا (الإدمان) على مستوى ما من مستويات الشعور، له عمر افتراضى قصير الأجل.
فالحاجة للآخر عند المدمن تتحرك فى إلحاح (ربما أكثر من الشخص العادى)، لكنها حركة بدْئية على مستوى غير ظاهر، وهى حاجة حقيقية عارية ملحة عادة، وإن كانت مهتزة مجهضة فى النهاية (!!!).
ورغم ظاهر الصدق الفطرى فى بدء هذا الإعلان الذى نلمحه كثيرا وراء الظاهرة، إلا أنه يكون مصاحباً عادة بما يشكك فى حقيقته وأصالته، فالمدمن – مع ذلك- لا يتحمل دفع متطلبات هذا النوع من التواصل، وكأنه يريده “من الخارج إليه“ أكثر مما يسعى هو إلى ذلك فى نفس الوقت، لكنه لا يتراجع أمام الوعى بالصعوبة، فيظل الإلحاح يتمادى فتلوح بعض الحلول الواعدة كما يلى (كأمثلة):
- التغافل عن شروط التواصل، عن طريق التسهيل الكيميائى الذى يبدو أنه يعد بالاندفاع نحو الآخر، وبذلك فهو يكسر الوحدة (ظاهريا) فى نفس الوقت الذى يخفف من ثقل الحقيقة، ومسئوليتها. لكن ذلك كله أو أغلبه سرعان ما ينكشف خواؤه باختبار الواقع، وتحديات المثابرة. بمعنى أن هذه العلاقات قد تورى انتماء سهلا غير مكلف، ولكنها تتساقط بسرعة هائلة تحت اختبارات الواقع وامتداد المدّة وتصاعد المسئولية.
- ثم إن نوعا آخر من الحل يطرحه المخدر على من تلح عليه حاجة التواصل هذه، وهو حل الاستغناء، وهو يشير إلى أنه بعد تعتعة ذوات الداخل، تتاح فرصة الرى ”منه فيه” (كله يدلع نفسه !!!) دون حاجة إلى آخر خارجى أصلاً!!!
5- الإدمان يلوح بتدين كيميائى، ويعد بجنة أقرب:
لاحظنا أن المدمن قد يظهر من الطقوس والولاء العقائدى لموقفه من الإدمان ( وثلة الإدمان) ما أثار عندنا فكرة أن الإدمان قد يقوم بدور المكافئ لما هو تدين سلبى بشكل أو بآخر، وهذا ما أسميناه بالتدين الكيميائى، وتكملة لهذا الفرض وجدنا أن الجنة التى يعد بها هذا التدين الكيميائى -إن صح التعبير- هى جنة أقرب، تحقق له فورا وعيانيا ما تعد به، والمدمن لا يستطيع الانتظار إذ هوعاجز عن التأجيل وبعد النظر عادة، وبالتالى فجنّته الآن جاهزة عنده حالا، وهى بالتالى أقرب للتصديق فورا.
6- بعض الإدمان يبدو نوعا من العلاج الذاتى:
العلاج هنا لا يعنى علاجا حقيقيا، ولكنه يعنى أساسا تخفيف أو إزالة الألم، بما يشمل تحوير الأعراض، أو تأجيل التدهور. والأبحاث التى أجريت لتحقيق هذا الفرض بوجه خاص، أقّر بعضها احتمال إسهام المواد الإدمانية فى التخفيف عن مظاهر بعض الأمراض، وإن كانت خبرتنا لا تؤكد الأمر بهذه الصوة، فلقد وجدنا أن هذه المواد تعمل كعلاج (بالمعنى السابق) فى المراحل الإرهاصية المنذرة لمرض بذاته، مثل الوعى بالألم النفسى قبيل الاكتئاب، أو إدراك التهديد بالتناثر قبيل الفصام، فهذه المواد الإدمانية قد تؤجل ظهور المرض القادم، بل وقد تحول مساره من مشكلة مواجهة مرضية صريحة إلى مشكلة سلوكية سماتية (وأحيانا مشكلة قانونية وأخلاقية)، ويثبت هذا الزعم بدراسة التاريخ الأسرى، حين يمكن أن نرجح أن مدمنا ما، له أقارب من درجة قريبة، مصابون باضطرابات وجدانية متواترة، أو بالفصام أو غير ذلك، يمكن أن نرجح صحة هذا الفرض (التداوى الذاتى)، حتى لو لم تظهر على المدمن أية أعراض لأى من هذه الأمراض، إن الاعتراف ببعض صحة هذا الفرض ليساعدنا إلى ضرورة الأنتباه إلى علاج المرضى التحتى وراء الإدمان، كما أنه قد يفيد أيضا فى الاسهام فى تحديد الاستهداف للإدمان فى بعض الأحيان، وأخيرا فإنه قد يفيد فى كيفية تفسير بعض أعراض الانسحاب وطبيعة التعامل معها.
7- الإدمان يبدو أحيانا مكافئا للثورة (وبديلا عنها):
وهو فى ذلك لا يختلف إلا قليلا عن كثير من غائية بعض الذهانات فى بداياتها، إلا أن الحال هنا يبدو أكثر دلالة، وأخطر قياسا:
ذلك لأن الثورة الزائفة التى تتمثل فى الإدمان تتحقق المرة تلو المرة، ويعلن فشلها المرة تلو المرة، فهى قد تتحقق بشمة واحدة، أو شكة واحدة، يعلن المدمن من خلالها الرفض والاحتجاج والرغبة فى التغيير والوعد بالتطوير إلى آخر أبجدية كل الثورات…، لكن المدمن للأسف – من واقع ما لاحظناه – لا يتعلم من فشله بعد كل شكة أو شمة أنها ثورة زائفة، وخدعة كبيرة، فهو يتصور – فى مستوى ما من شعوره أن الثورة فشلت لأسباب خارجة عنه، وأنها -فقط- تحتاج إلى جرعة أكبر، أو محاولة متكررة أكثر، وهكذا، إلى غير نهاية.
وبالمقارنة نجد أن المريض النفسى -غير المدمن- (الذهانى خاصة) إذ يهم هو أيضا بثورته الزائفة، يتمادى – بالأعراض – فى طريقها، ويدفع ثمنها: عزلةً وألماً وتمزقاً ونفياً، وهو إذ يتبين زيفها، بعد حين يكون الظلام قد عم حتى لا يعود يميز المريض بين ما هو ثورة وما هو انقلاب إلى أدنى.
8- الإدمان يحقق توقيفا للزمن، وتعميقا للحظة، بقدر ما يكون إلغاء لها:
بقدر ما لاحظنا موقف المدمن العدمى من الزمن حين أنه لا يتعلم من الخبرة السابقة، لاحظنا أيضاً سهولة معايشته “للهنا والآن” فى العلاج الجمعى بكل وعود إيجابية الوعد بالزمن “الآن”.
وقد أْبلَغَنَا هذا وذاك أن معايشة الهنا والآن عند المدمن فى بداية رحلته ليست مبادرة لاختراق الاغتراب العادى (فى الماضى والمستقبل) بقدر ما هو إلغاء للخبرة السابقة من ناحية، وتهرب من رؤية العواقب من ناحية أخرى. وهذا مناقض (لدرجة العكس) لاحتمال ممارسة المدمن – فى مرحلة لاحقة- للمعنى الإيجابى المؤكد لمبدأ “هنا والآن”، والذى يؤكد ضرورة مواجهة الواقع الآنى كما هو، وضرورة البدء فى الحركة مِنْ هنا حالا، شريطة أن تكون اللحظة الراهنة هى حلقة واضحة فى التواصل التتابعى الذى يُدخلها فى كلية المسار الزمنى، دون أن تنسلخ عن نفسها (اجترارا أو تأجيلا)
وبألفاظ أخرى: ففى حين أن المدمن يبدأ بأن يعمق الهنا والآن ”هربا من الوعى ببعد الزمن”، فإنه حين يلتحق بالعلاج الجمعى الإيجابى عادة ما يسعى إلى توليد الماضى والمستقبل معا ليتخلق منهما عمق المواجهة الآنية.
9- المدمن يختصر – بإدمانه- خطى النمو بأيسر السبل (= بأخطر وأفشل السبل!!):
ذلك أننا لا حظنا أن المدمن لا يستسلم بسهولة لتجمد النمو (كما قد يحدث حتى فى الحياة الراتبة العادية)، لكنه بدلا من أن يمضى قدما فى جدل الاستمرار، يروح يختصرالطريق بتحريك زائف نحو مطلق جاهز، فيشعر – من خلال هذا التحوير الكيميائى، ومع إلغاء الزمن – أنه حقق التكامل فى اللانهائى (غاية غايات النمو) بهذه القفزة العملاقة الخادعة.
وبعـد
آن الأوان أن نغلق مؤقتا ملف الادمان، فغداً مع نجيب محفوظ، ثم بريد الجمعة، ثم تعتعة السبت، لنعود إلى فتح ملف الادمان فى وقت لاحق.