الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / عن ماهية الوجدان وتطوره (2) كيف لا نحبس الظاهرة فى لفظها؟

عن ماهية الوجدان وتطوره (2) كيف لا نحبس الظاهرة فى لفظها؟

“يوميا” الإنسان والتطور

17-11-2007

عن ماهية الوجدان وتطوره (2)

كيف لا نحبس الظاهرة فى لفظها؟

مقدمة:

عرفت الآن سبباً آخراً هو مسئول أيضا عن تأخر نشر هذه النظرية، بالإضافة إلى طبعى الخاص، ووقتى المزدحم، إنه الخوف من العجز عن توصيل ما أعنى من خلال هذه المباشرة “العلمية” المتشكلة فى كلمات.

رجعت إلى أطروحة قديمة تناولت فيها مخاطر وصف مشاعرنا باستعمال كلمات مترجمة من لغة أخرى بديلا عن كلماتنا النابعة من عمق ممارساتنا الحياتية الخاصة، تاريخاً وحالاً، بما يترتب عليه تشويه وجودنا، أو محو تميّزنا (لا أعلى ولا أدنى، مجرد تميّزنا)، فوجدت أن هذه الأطروحة لا تمثل إلا جانباً واحداً من القضية (الترجمة القاصرة، والسجن فى اللفظ الساكن المُسْتورد).

وجدت أننا ونحن نتناول الآن من جديد موضوع “العواطف والوجدان” علينا أن نراجع حتى التسميات التى نسميها نحن بها، وقد تصورت أن تقديم أية عاطفة “لها اسم” سوف يترتب عليه أن تجرى الأمور على الوجه التالى:

1) نستعمل لفظا (وهل عندنا سبيل آخر؟) لتَسْمية العاطفة التى سنتناولها، مثلا “الخوف” أو “الحزن” أو غيرها.

2) يقفز إلى وعى المتلقى ما يعرفه عن هذا اللفظ (لا تنسى أننا فى سياق علمى).

3) يقفز فى نفس الوقت ما يثيره فيه سماع أو نطق أو قراءة هذا اللفظ (واعيا بما يجرى أو غير ذلك)

4) تختلط خبرته، بمرجعيته المعلوماتية، بموقفه الأيديولوجى، ومواقفه الأخرى فيحدد (شعوريا أو لا شعوريا) ما ينوى التعامل به مع هذا اللفظ (مازلنا بعيدين عن الاقتراب من الظاهرة التى يشير إليها اللفظ، ناهيك عما إذا كان – اللفظ – قادر على تضمينها داخله أم لا).

5) قد تزيد حيرته (المتلقى) فيلجأ إلى المعاجم (أو إلى موسوعة، أو مؤخرا يلجأ إلى “سيدنا جوجل” أو “مولانا ياهوه”!).

6) قد تدعم المعاجم والمواقع موقفه المبدئى، أو تعدله.

7) قد تحل تحديدات أو تعريفات المعجم (أو الموسوعة أو حتى المرجع العلمى) محل موقفه الشخصى، بدرجات مختلفة حسب مرونته أو صلابته !! إلخ

8) ثم يبدأ فى قراءة النظرية (الأطروحة) من خلال ذلك الموقف الشخصى جدا، أو الشخصى المَعْجمى، أو الشخصى المرجعى.

9) بعد ذلك يصله أو لا يصله ما أردناه ونحن نحاول سبر غور الظاهرة تحت الفحص.

وبعد

لو صحّ كل هذا أو بعضه، فالأرجح أننا سوف نتكلم عن أشياء مختلفة، مع أننا نستعمل نفس الألفاظ.

هل معنى كل ذلك أن الأوْلى بنا أن نبتعد كلية عن الموضوع ونترك المسألة لجدول ضرب المفردات العاطفية فى لعبة الكلمات المتقاطعة شبه العلمية،  لتزجية الوقت أو للتباهى بالمعلومات الجاهزة هربا من المسئولية؟

إلى متى؟ إلى اين؟

كالعادة: ليست عندى إجابة.

عانيت كثيرا وأنا أرد على محاولات خنق لفظ الفطرة فى تعريف معجمى، أو استنادا إلى ترجمته إلى Instinct، كما عانيت أقل وأنا أتعامل مع لفظ السعادة وربما هذا ما دعانى أن أوصى فى النهاية إلى استبعاد استعماله (ربما هذا ما يفسر تحفظى أيضا ضد استعمال لفظ “الحب”)،

وبعد

فقد أردت أن أعرض هذه الإشكالة عن علاقة الكلام، باللغة، بالظاهرة المعنية، حتى يبذل المتلقى جهدا ناقدا مناسبا طول الوقت، قبل أن يسارع بالقبول أو الرفض، ناهيك عن التصفيق أو الشجب.

فجاءت هذه المقدمة الثانية

جذور اللغة (بيولوجيا)

….. اللغة‏ ‏ليست‏ ‏إضافة‏ ‏لاحقة‏ ‏بظاهر‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى، ‏الفردى ‏أو‏ ‏الجماعى، ‏بل‏ ‏هى ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏فى ‏أرقى ‏مراتب‏ ‏تعقده‏، ‏إذ‏ ‏هى ‏التركيب‏ ‏الغائر‏ ‏الذى ‏يمثل‏ ‏الهيكل‏ ‏الأساسى ‏الذى ‏يصدر‏ ‏منه‏ ‏السلوك‏، ‏وبالتالى ‏فهى ‏جزء‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏التركيب‏ ‏البيولوجى ‏للمخ‏، ‏خاصة‏ ‏باعتباره‏ ‏القائد‏ ‏الحيوى ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏نوعية‏ ‏وحركية‏ ‏مسيرتنا‏ ‏الجدلية‏ ‏المتضفرة‏. ‏

‏ ‏الدراسات‏ ‏الأحدث‏، ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏المراجعة‏ ‏الأوعى، ‏تشير‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المخ‏ ‏البشرى، ‏فى ‏كليته‏، ‏إنما‏ ‏يتواجد‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏نشاط‏ ‏دائم‏، ‏دورى ‏الأطوار‏، ‏بالغ‏ ‏المطاوعة(1)، ‏وأن‏ ‏تنظيماته‏ ‏المتداخلة‏ ‏تتعلق‏ ‏تعلقا‏ ‏شديدا‏ ‏بنوع‏، ‏وكم‏ ‏المعلومات‏ (2)‏المتاحة‏، ‏سواء‏ ‏تلك‏ ‏المُتَمَثَّلَةْ‏ ‏فى ‏الذاكرة‏ ‏الوراثية‏ (‏الجينات‏)، ‏أم‏ ‏الواردة‏ ‏من‏ ‏معطيات‏ ‏البيئة‏ ‏المحيطة‏، ‏ثم‏ ‏من‏ ‏تفاعلهما‏ ‏معا‏ ‏فى ‏جدل‏ ‏ولافى ‏دائم‏.‏

اللغة‏ – ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏- ‏هى ‏ذلك‏ ‏الكيان‏ ‏البيولوجى‏: ‏الراسخ‏/‏المرن‏/‏المفتوح‏: ‏معا‏، ‏وبالتالى ‏فهى ‏دائمة‏ ‏التشكيل‏ ‏والتشكل‏، ‏وليس‏ “الكلام” ‏إلا‏ ‏بعض‏ ‏ظاهرها‏ ‏فى ‏سلوك‏ ‏رمزى ‏منطوق‏ ‏أو‏ ‏مكتوب‏، ‏على ‏أن‏ ‏الكلام‏ ‏وهو‏ ‏يؤدى ‏بعض‏ ‏وظائفه‏ ‏للتواصل‏ ‏والاقتصاد‏، ‏يعود‏ ‏فيؤثر‏ ‏ارتجاعا‏ ‏على ‏الكيان‏ ‏اللغوى ‏ذاته‏، ‏أى ‏على ‏تنظيم‏ ‏وجودنا‏ ‏وفاعليته‏، ‏لذلك‏: ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏يصيب‏ ‏الكلام‏ ‏من‏ ‏وهن‏ ‏أو‏ ‏تشويش‏، ‏يفقده‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الإثارة‏ ‏والحفز‏، ‏أو‏ ‏يطمس‏ ‏دلالته‏ ‏ويجهض‏ ‏إيحاءاته‏، ‏فيرتد‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏مؤثرا‏ ‏على ‏وجودنا‏/‏لغتنا‏، ‏بما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يهز‏ ‏معالم‏ ‏كياننا‏ ‏الحيوى ‏الأساسى ‏نفسه‏، ‏فنتعرض‏ ‏إلى ‏نكسة‏ ‏تدهورية‏ ‏أو تشويه مخلّ، أو كليهما.

جدل الظاهرة مع تشكيلها اللغوى

‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏الظاهرة‏ ‏الوجودية‏ ‏التى ‏يمكن أن‏ ‏تصاغ‏ ‏فى “كلمات” ‏هى ‏ظاهرة‏ ‏أسبق‏ ‏وأشمل‏ ‏من‏ ‏التركيب‏ ‏اللغوى ‏الذى ‏يحاول‏ ‏احتواءها‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏اللفظ‏ ‏الذى ‏يحاول‏ ‏إعلانها‏، ‏يترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏يجد‏ ‏الإنسان‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏مأزق‏ ‏حرج‏ ‏وهو‏ ‏يحاول‏ ‏عبور‏ ‏الهوة‏ ‏بين‏ ‏الظاهرة‏ ‏القبْلية‏ ‏المتحررة‏ ‏نسبيا‏ ‏من‏ ‏التشكيل‏ ‏اللغوى، ‏وبين‏ ‏احتوائها‏ ‏فيما‏ ‏يمكن‏ ‏التعبير‏ ‏عنه‏ ‏بالتنظيم‏ ‏الإشارى ‏الدال‏ ‏عليها‏، ‏وأرجح‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المأزق‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏وصل‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏وعى ‏صاحبه‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏أدق‏ ‏الخبرات‏ ‏البشرية‏، ‏وأى ‏استسهال‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏عبوره‏، ‏بالقفز‏ ‏فوقه‏ ‏تجاهلا‏، ‏أو‏ ‏بطمس‏ ‏الوعى ‏دفاعا‏، ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يترتب‏ ‏عنه‏ ‏إجهاض‏ ‏للمعرفة‏ ‏الأدق‏، ‏ونكوص‏ ‏إلى ‏اختزال‏ ‏خطر‏ – ‏وقد‏ ‏رجحت‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏محاولات‏ ‏تحديد‏ ‏مصطلحات‏ ‏علمية‏، ‏أو‏ ‏تحديث‏ ‏المعاجم‏ ‏بصورة‏ ‏عصرية‏ ‏متخصصة‏، ‏إنما‏ ‏يقع‏ ‏ضمْن ‏هذا‏ ‏المحظور‏.‏

هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏هى  ‏محاولة‏ ‏للتنبيه‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الخطر‏ ‏الزاحف‏ الجديد بتشويه أو اختزال ظواهر بشرية نحن أحوج ما نكون إلى التعرف عليها بطريقة أعمق وأشمل.

تظهر‏ ‏آثار‏ ‏هذا‏ ‏الخطر‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏بشكل‏ ‏محدد‏ ‏فى ‏محاولات‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏صياغة‏ ‏الظواهر‏ ‏الكيانية‏ ‏الأساسية‏، ‏والوظائف‏ ‏النفسية‏ ‏الأشمل‏، ‏فى ‏إطار‏ ‏اصطلاحى ‏محدد‏، ‏لايكاد‏ ‏يصلح‏ ‏للإحاطة‏ ‏بالظاهرة المعنية‏، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏يؤذى ‏العملية‏ ‏المعرفية‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏نحتسب‏، ‏فضلا‏ ‏عما‏ ‏يترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏تشويه‏ ‏للكيان‏ ‏اللغوى‏= ‏وجودنا‏ ‏الأعمق‏.‏

أبعاد المشكلة:

لنتدرج‏ ‏أولا‏ ‏مع‏ ‏الخبرة‏ ‏الإنسانية‏ ‏بدءا‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ “قبل‏ ‏اللغة”، ‏منتهين‏ ‏إلى ‏التعريفات‏ ‏الإجرائية‏، ‏مارين‏ ‏ببعض‏ ‏محاولات‏ ‏الإبداع‏ ‏الشعرى، ‏عارجين‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏الأمثلة‏ ‏من‏ ‏السكون‏ ‏أو‏ ‏التحريك‏ ‏المعجمى‏.

ما قبل اللغة

‏بالنسبة‏ ‏للكائن‏ ‏البشرى، ‏فإنه‏ ‏يصعب‏ – ‏بما‏ ‏هو‏ ‏بشر‏ – ‏أن‏ ‏نفترض‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏مرحلة‏ ‏معرفية‏ يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏أنها‏ ‏مرحلة‏ “ما‏ ‏قبل‏ ‏اللغة”، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏توجد‏ ‏مرحلة‏ “ما‏ ‏قبل‏ ‏الكلام” ‏أو‏ ‏مرحلة‏ ‏ما‏ ‏قبل‏ ‏اللغة‏ ‏القائمة‏ (‏مرحليا‏)، ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏يستحيل‏ ‏أن‏ ‏توجد‏ ‏ظاهرة‏ ‏بشرية‏ ‏أصلا‏ ‏ليست‏ ‏ملتحمة‏ ‏التحاما‏ ‏كاملا‏ ‏بلغتها‏، ‏بمعنى ‏تركيبها‏ ‏الحيوى ‏الغائر‏، أى التشكيل الذى يمثل الهيكل الأساسى القادر على التجلى فى سلوك ظاهرة مثل الكلام وغيره.‏

‏ عادة‏ ‏لا‏ ‏تصل‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏اللغوية‏ ‏الأولية‏ ‏إلى ‏الوعى ‏الكامل‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العادية‏، ‏لكنها‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الخبرات‏ ‏الإنسانية‏ ‏الأعمق‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تقترب‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏بدرجة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى، ‏وأشهر‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏هى ‏الخبرة‏ ‏الصوفية‏ ‏التى يعجز صاحبها أو يرفض إحالتها إلى ألفاظ متبادلة.‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏طبيعة‏ ‏هذه‏ ‏الخبرات‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏تحول‏ ‏دون‏ ‏إمكانية‏ ‏تناولها‏ ‏بالأدوات‏ ‏التعبيرية‏ ‏العادية‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏الدراسة‏ ‏المنهجية‏ ‏ثم‏ ‏الخضوع‏ ‏للوصف‏ ‏بالكلمات، ‏وبالتالى ‏فهى ‏مرحلة‏ ‏تنذر‏ ‏بالخطر‏ ‏إذا‏ ‏استسهلنا‏ ‏القفز‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يحتويها‏ ‏من‏ ‏تراكيب‏ ‏كلامية‏ ‏سابقة‏ ‏التجهيز‏، ‏أو‏ ‏ألفاظ‏ ‏محكمة‏ “ساكنة”.

 ‏التاريخ‏ ‏الطويل‏ (‏المجهول‏) ‏للمعرفة‏ ‏الباطنية‏ (‏أو‏ ‏الجوانية‏)، ‏وللتواصل‏ ‏غير‏ ‏اللفظى ‏إنما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏حقيقة‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏جوانب‏ ‏وجودنا‏ ‏البشرى ‏لابد‏ ‏من‏ ‏استنتاجه‏ ‏وتصوره‏ ‏واحترامه‏ ‏رغم‏ ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏الإحاطة‏ ‏به‏، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏التواجد‏ ‏فى ‏ألفاظ‏ ‏محدودة‏ ‏مبررا‏ ‏للإنكار‏ ‏الدفاعى، ‏وإلا‏ ‏فنحن‏ ‏نتنازل‏ ‏عن‏ ‏أصل‏ ‏من‏ ‏أصول‏ ‏وجودنا‏ ‏الأعمق‏ ‏بلا‏ ‏مبرر‏ ‏إلا‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏سوء‏ ‏الفهم‏، ‏أو‏ ‏القصور‏ ‏عن‏ ‏دقة‏ ‏التناول‏ – ‏وهذا‏ ‏وذاك‏ ‏مبرران‏ ‏للحذر‏، ‏والصبر‏، ‏والتأجيل‏، ‏والبحث‏ ‏عن‏ ‏الوسيلة‏ ‏المناسبة‏، ‏ولكنهما‏ ‏أبدا‏ ‏ليسا‏ ‏مبررين‏ ‏لإنكار‏ ‏الحقيقة‏ ‏الأولية‏: ‏الأهم‏ ‏والأخطر‏، ‏وهى‏: ‏إن‏ ‏الظاهرة‏ ‏الوجودية‏ ‏اللغوية‏ ‏هى ‏أصل‏ ‏الأصول‏، ‏ظهرت‏ ‏أم‏ ‏لم‏ ‏تظهر‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏السلوك‏، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏السلوك‏ ‏الكلامي‏.‏

لزوم الشعر

‏فى ‏مرحلة‏ ‏الجدل‏ ‏الحركى ‏الولافى ‏بين‏ ‏الظاهرة‏ ‏الوجودية‏ ‏الأعمق‏، ‏وهى‏ ‏تتفجر‏ ‏فى ‏علاقات‏ ‏وتركيبات‏ ‏جديدة‏، ‏وبين‏ مستوى ‏التشكيل‏ ‏اللغوى ‏الجاهز للتعبير عنها‏، ‏والعاجز‏ ‏عن‏ ‏استيعابها‏ ‏تماما‏ فى نفس الوقت، يلزم‏ ‏الشعر‏.

 ‏ينشأ الشعر‏، ‏حين‏ ‏ترفض‏ ‏الظاهرة‏ ‏أن‏ ‏تظل‏ ‏كامنة‏ ‏فى ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏لفظا‏ ‏متاحا‏ ‏للتواصل‏،

 ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏حين‏ ‏ترفض‏ ‏أن‏ ‏تحشر‏ ‏نفسها‏ ‏فى ‏تركيب‏ ‏لغوى ‏جاهز‏ (‏مسبق‏ ‏الاعداد‏)

 ‏فالشعر‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏إعادة‏ ‏تخليق‏ ‏الكيان‏ ‏اللغوى بأكثر من آلية على أكثر من مستوى ‏فى ‏محاولة‏ ‏الوصول‏ ‏إلى ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏الخبرة‏ ‏الوجودية‏ ‏المنبثقة‏، ‏ومع‏ ‏النجاح‏ ‏النسبى ‏لهذه‏ ‏العملية‏، ‏تزيد‏ ‏اللغة‏ ‏ثراء وإثراء‏، ‏أى ‏ينمو‏ ‏الكيان‏ ‏البشرى جنبا إلى جنب مع هذا التخليق اللغوى المتجدد‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ قد ‏يعنيه‏ ‏بعض‏ ‏النقاد‏ ‏والشعراء‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏القصيدة‏ ‏تخلق‏ ‏الشاعر‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يخلقها‏ ‏الشاعر.

يبدو أن هذا هو ما حضرنى شعرا منذ حوالى ربع قرْن، قبل أن أتناول المسألة بأى تنظير علمى مثلما أفعل الآن، وهذا بعض ذلك:

تدقُّ‏ ‏بابى ‏الكلمة

أصدّها.‏

تُغافل‏ ‏الوعى ‏القديم‏،‏

أنتفضْ‏.‏

أحاولُ‏ ‏الهربْ‏،‏

تلحقنُى.‏

‏ ‏أكونُها‏،‏

‏ ‏فأنسلخ‏ْْ.‏

***

أمضى ‏أغافل‏ُُ ‏المعاجِمَ‏ ‏الجحافل‏ْْ، ‏

بين‏ ‏المَخاضِ‏ ‏والنحيبْ‏.‏

أطرحُنى:‏

بين‏ ‏الضياع‏ ‏وَالرُّؤى.‏

بين‏ ‏النبىَّ ‏والعدَمْ‏.‏

أخلّق‏ ‏الحياة‏ ‏أبتعث‏.‏ ‏

أقولُنى ‏جديدا‏،‏

‏ ‏فتولًدُ‏ ‏القصيدةْ‏.‏

14/9/1983

‏الاختزال إلى أقرب لفظ سائد

 ‏لكن‏، ‏ليس‏ ‏كل‏ ‏انسان‏ ‏شاعرا‏ (‏وإن‏ ‏كان‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كذلك‏ ‏بهذا‏ ‏المعنى ‏الأعمق‏ ‏والأشمل‏ ‏للشعر‏)، ‏لهذا‏ ‏فإن‏ ‏الشخص‏ ‏العادى ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يختزل‏ ‏خبرته‏ ‏اللغوية‏/‏الوجودية‏ ‏الأعمق‏ ‏إلى ‏أقرب‏ ‏لفظ‏ ‏سائد‏، ‏فيتعامل‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏، ‏بأقل‏ ‏فأقل‏ “مما‏ ‏هو”، ‏فضلا‏ ‏عما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكونه‏، ‏لكن‏ ‏عدم‏ ‏اقتصار‏ ‏الشخص‏ ‏العادى ‏فى ‏تعامله‏، ‏وظهوره‏، ‏على “الكلام” ‏كوسيلة‏ ‏أولى، ‏أو‏ ‏وحيدة‏ ‏للتعبير‏ ‏والتواصل‏ ‏المعرفى‏، ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يخفف‏ ‏قليلا‏، ‏أو‏ ‏كثيرا‏، ‏من‏ ‏آثار‏ ‏هذه‏ ‏المضاعفة‏ ‏المتواترة‏، ‏تلك‏ ‏المضاعفة‏ ‏التى ‏تتكثف‏، ‏وتتفاقم‏، ‏حين‏ ‏نرضخ‏ ‏لمزيد‏ ‏من‏ ‏تحديد‏ ‏الحركة‏ ‏بتقديس‏ “المقرر” ‏من‏ ‏المصطلحات العلمية وشبه العلمية التى‏ لا ‏تكتفى بأن تظل ‏ ‏محدودة‏ ‏فى ‏مجالها‏ ‏المتخصص‏ ‏بالنسبة‏ ‏للعلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏خاصة‏، ‏إذْ‏ ‏هى ‏تمتد‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الوصاية‏ ‏التخصصية‏، ‏والإغارة‏ ‏الإعلامية‏ معا ‏إلى ‏وعى ‏الناس‏، ‏تمتد‏ ‏حتى ‏تشغل‏ ‏مساحة‏ ‏رحبة‏ ‏من‏ ‏حياتنا‏ ‏اليومية‏.، وكأنها غطاء لفظى هابط من أعلى، وليست ناتجا طبيعيا هو ثمرة الخبرة من الجذور إلى الساق إلى الفروع فالثمر والأوراق،

 وياليت هذا الغطاء “البلاستيك” الهابط من أعلى من صنعنا، بل هو عادة مستورد، معرّب أو مترجم غالبا!!

الإغارة الإعلامية

تتمادى أكثر فأكثر‏ ‏الإغارة‏ ‏الإعلامية‏ وهى ‏تلاحق‏ ‏وعى ‏الناس‏، ‏تفرض‏ ‏عليهم‏ ‏ألفاظا‏ ‏قاصرة‏، ‏بل‏ ‏وتساهم‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏آخر‏ ‏فيما‏ ‏يؤدى ‏إلى ‏رخاوة‏ ‏فى ‏اللغة‏، ‏وتخلخل‏ ‏فى ‏المفاهيم‏، ‏وأكتفى ‏هنا‏ ‏بالإشارة‏ ‏إلى ‏ظاهرتى “التعتيم” ‏و‏”التقريب(3)، ‏لأن‏ ‏استعمالهما‏ ‏استشرى ‏فى ‏التأثير‏ ‏على ‏اتجاهات‏ ‏مجاميع‏ ‏الناس‏، ‏وحركة‏ ‏مشاعرهم‏ ‏فى ‏مجالى ‏السياسة‏ ‏والدعاية‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏حيث‏ ‏درج‏ ‏المناورون‏ ‏على ‏استعمال‏ ‏الألفاظ‏ ‏المحملة‏ ‏بالمشاعر‏، ‏والمثيرة‏ ‏للاحتياج‏، ‏بطريقة‏ ‏تجعل‏ ‏اللفظ‏ ‏مجرد‏ ‏غطاء‏ ‏لإخفاء‏ ‏معالم‏ ‏المحتوى ‏الضائع‏ ‏بين‏ ‏ألاعيب‏ ‏السياسة‏ ‏وانفعالات‏ ‏العامة‏، ‏ومن‏ ‏ذلك‏ ‏فرط‏ ‏الاستعمال‏ ‏المغرض‏ ‏لألفاظ‏ ‏مثل‏: “الحرية”، ‏و‏ “الديمقراطية”، ‏و”الاشتراكية” ‏و‏”الثقافة”، ‏و‏”الحضارة” – ‏حتى ‏أصبح‏ ‏من‏ ‏الممكن‏ ‏أن‏ ‏يدل‏ ‏اللفظ‏ ‏على ‏الشيء‏، ‏ونقيضه‏، ‏أو‏ ‏على ‏الجزء‏ ‏بدل‏ ‏الكل‏، ‏أو‏ ‏العكس‏، ‏كما‏ ‏يتغير‏ ‏المضمون‏ ‏بتغير‏ ‏قائل‏ ‏اللفظ‏ ‏وغرضه‏، ‏فى ‏وقت‏ ‏بذاته‏.‏

ويساهم سوء استعمال أبجدية بعض ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏تبرير‏ ‏وتشريع‏ ‏هذا‏ ‏الخلط‏ ‏‏المشبوه‏ ‏القصد‏، ‏مثلما‏ ‏شاع‏ ‏فى ‏إدخال‏ ‏بعض‏ ‏مصطلحات‏ ‏الطب‏ ‏النفسى (‏السياسي‏!!!) ‏فى ‏مجالات‏ ‏المناورات‏ ‏المفاوضاتية‏.‏

دور المعاجم

إن‏ ‏دور‏ ‏المعاجم‏ ‏فى ‏إنقاذ‏ ‏اللغة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الفضفضة‏ ‏والرخاوة‏ ‏هو‏ ‏دور‏ ‏محدود‏، ‏وتتوقف‏ ‏آثاره‏ ‏على ‏فهم‏ ‏معنى ‏ومرحلة‏ ‏وظروف‏ ‏كل‏ ‏معجم‏، ‏إذ‏ ‏ينبغى ‏التنبيه‏ ‏ابتداء‏ ‏على ‏أن‏ دور ‏المعاجم‏ ‏ما‏ ‏هو ‏إلا‏ ‏إعلان‏ ‏وتحديد مرحلة‏ “فى ‏تطور‏ ‏اللغة‏، ‏وليس‏ ‏فرض‏ ‏وصاية‏ ‏على ‏حركيتها‏، ‏ولعلنا‏ ‏نلاحظ‏ ‏أن‏ ‏أغلب‏ ‏المعاجم‏ ‏الأقدم‏ (4) ‏تقوم‏ ‏بوظيفتها‏ ‏بأكبر‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏المرونة‏ ‏حين‏ ‏تعرض‏ ‏اللفظ‏ “‏فى ‏حركته‏” ‏بأكثر‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏المرونة‏  ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏اتجاه‏، ‏حسب‏ ‏موقعه‏ ‏من‏ ‏السياق‏، ‏أو‏ ‏حسب‏ ‏تشكيله‏، ‏أو‏  ‏حسب‏ ‏حرف‏ ‏الجر‏ ‏اللاحق‏ ‏به‏ (‏أو‏ ‏السابق‏ ‏عليه‏.. ‏الخ‏)، ‏فهذه‏ ‏المعاجم‏ ‏لا‏ ‏تعطى ‏للفظ‏ ‏تعريفا‏ ‏محددا‏، ‏وإنما‏ ‏تورده‏ ‏مباشرة‏ ‏فى ‏استعمالاته‏ ‏المتنوعة‏ ‏حسب‏ ‏السياق‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏الجملة‏ ‏الواحدة‏، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يمتد‏ ‏إلى ‏الفقرة‏ ‏الكاملة‏ (‏أو‏ ‏حتى ‏الموضوع‏) – ‏وهكذا‏ ‏تقوم‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المعاجم‏ ‏بدورها‏ ‏فى ‏عرض‏ “مجالات‏ ‏الاستعمال‏، ‏وتوجّهات‏ ‏الدلالة” ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏حبس‏ ‏اللفظ‏ ‏فى ‏تعريف‏ ‏ساكن‏، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يغلب‏ ‏على ‏المعاجم‏ ‏الأحدث‏ ‏فالأحدث‏ (5)، ‏والذى ‏كاد‏ ‏أن‏ ‏يجعل‏ هذه ‏المعاجم‏ ‏الأحدث بمثابة‏ ‏تثبيت‏ ‏لحركة‏ ‏اللفظ‏ ‏حتى ‏الصمود‏ ‏العاجز‏، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏الخطر‏.

السجن الاصطلاحى

 ‏فإذا‏ ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏السجن‏ ‏الاصطلاحى (‏العلمى ‏مثلا‏) ‏فإننا‏ ‏قد‏ ‏نجد‏ ‏مبررا‏ ‏قويا‏ ‏يؤيد‏ – ‏بل‏ ‏ويدعو‏ ‏إلى – ‏التحديد‏ ‏المبدئى ‏لمضمون‏ ‏أى ‏لفظ‏ ‏يرد‏ ‏فى ‏الاستعمال‏ ‏العلمى، ‏وخاصة،‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏باتخاذ‏ ‏منهج‏ ‏إجرائى ‏محدد‏ ‏لفحص‏ ‏ظاهرة‏ ‏بذاتها‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏خاصة‏ والنشاطات المعرفية المرتبطة بها، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏ننتبه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التحديد‏ – ‏مع‏ ‏فائدته‏ ‏المبدئية‏ – ‏إنما‏ ‏يحمل‏ ‏مخاطر‏ ‏الاختزال‏ ‏والتسكين‏ ‏معا‏. ‏إن التوفيق‏ ‏بين‏ ‏ضرورة‏ ‏التعريف‏، ‏وبين‏ ‏مخاطر‏ ‏التقليص‏ ‏والهمود‏، ‏يمكن أن نجد له حلا جزئيا بالإلتزام بتحديد‏ ‏هذا‏ ‏الاستعمال‏ ‏الخاص‏ فى كل سياق على حدة، ‏وقصره‏ ‏على ‏إجراء‏ ‏بذاته‏، ‏بحيث‏ ‏يكون‏ ‏إجراء‏ ‏موقوتا‏ ‏ومشروطا‏ ‏بشروط‏ ‏الدراسة‏ ‏الجزئية‏ ‏المختصة‏ ‏بجانب‏ ‏معين‏ ‏من‏ ‏الظاهرة‏ ‏المعنية‏، لكن‏ ‏الذى ‏يحدث‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال‏، ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحيان‏، ‏هو‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏ ‏تماما‏، ‏حيث‏ ‏يؤثر‏ ‏الاستعمال‏ ‏الخاص‏ ‏على ‏الاستعمال‏ ‏العام‏ ‏تحت‏ ‏زعم‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏تعبير‏ ‏علمى ‏هو‏ ‏أدق‏ ‏وأصدق‏ ‏مما‏ ‏هو‏ ‏استعمال‏ ‏شائع‏،

 ‏وهكذا‏ ‏يختلط‏ ‏المفهوم‏ ‏العلمى ‏بالمفهوم‏ ‏العام‏، ‏ثم‏ يأتى دور الإعلام غير المسئول، والاستعمال الاستسهالى، ‏فيتراجع‏ ‏المفهوم‏ ‏العام‏ ‏رغما‏ ‏عنه‏ ‏لتتوارى الظاهرة التلقائية‏ ‏داخل‏ ‏مفترضات‏ ‏علمية‏ (= ‏شبه‏ ‏علمية‏) ‏غير‏ ‏جازمة‏ ‏وغير‏ ‏مفيد‏ ‏تعميمها‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏حتما‏ ‏ضار‏ ‏وخطر‏، فما بالك إن كان كل هذا من مصدر مستورد (مترجم) أساسا؟

من أين نبدأ؟

يصدق ذلك بوجه خاص بالنسبة‏ ‏للعلوم‏ ‏النفسية‏، ‏كما‏ ‏تتناولها‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏حديثا‏، ‏فقد‏ ‏وقعت‏ ‏فى ‏أخطاء‏ ‏عديدة‏ ‏جعلتها‏ ‏تتحرك‏ ‏فى ‏نطاق‏ ‏شديد‏ ‏الضيق‏ ‏وهى ‏تتناول‏ ‏بعض‏ ‏ظاهرات‏ ‏مترامية‏ ‏الأبعاد‏ ‏مكثفة‏ ‏الشمول‏، ‏مع تحديد‏ ‏بداياتها‏ ‏‏‏من‏ “ترجمة لفظية” ‏لما‏ ‏سبق‏ ‏بحثه‏ ‏فى ‏بيئة‏ ‏أخرى، ‏بلغة‏ ‏أخرى، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الترجمة‏ ‏لا‏ ‏ترجع‏ ‏إلى ‏فحص‏ ‏الظاهرة‏ ‏المعنية‏ ‏أساسا‏، ‏وإنما‏ ‏تبدأ‏ ‏من‏ ‏اجتهاد‏ ‏معجمى (‏ترجمى‏ عادة) ‏قاصر‏، ‏وحتى ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏البداية‏ ‏المشبوهة‏ ‏لا‏ ‏ترجع‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ‏إلى ‏التاريخ‏ ‏التضمينى ‏اللغوى ‏للفظ‏ ‏المستخدم‏، ‏فتكون‏ ‏النتيجة‏ ‏فى ‏النهاية‏: ‏أننا‏ ‏نتحرك‏ ‏على ‏أرض‏ ‏لا‏ ‏نعرفها‏، ‏فى ‏مساحة‏ ‏لا‏ ‏تسعنا‏، ‏منقطعى ‏الجذور‏ ‏عن‏ ‏تاريخنا‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وعن‏ ‏نبض‏ ‏وجودنا‏ ‏اللغوى ‏الأصيل‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى‏.‏

حبس مشاعرنا فى مصطلحات مستوردة:

بما‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المضاعفة‏ ‏الأخيرة‏ ‏هى ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إلى ‏تخصصى، ‏فسوف‏ ‏أقدم‏ ‏فيها‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏ما‏ ‏قد‏ ‏يدعم‏ ‏ما‏ ‏أزعمه‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏من‏ ‏مخاطر‏ ‏حبس‏ ‏مشاعرنا‏ ‏الإنسانية‏ ‏فى ‏سجن‏ ‏المصطلحات‏ ‏المستوردة‏.‏

بدءا‏ ‏من‏ ‏منطقة‏ ‏بالغة‏ ‏الحساسية‏ ‏شديدة‏ ‏الأثر‏، ‏وهى ‏المنطقة‏ ‏الخاصة‏ ‏بما‏ ‏يسمى ‏عاطفة‏ ‏أو‏ ‏انفعال‏ ‏أو‏ “وجدان” – ‏سيكون‏ ‏انطلاقى ‏لمناقشة ‏لفظ‏ ‏الوجدان‏ ‏فى ‏أصله‏ ‏اللغوى، ‏بالمقارنة‏ ‏بمحاولة‏ ‏اختراله‏ ‏إلى ‏مصطلح‏ ‏علمى (6)، ‏وذلك‏ ‏كمثال‏ ‏لما‏ ‏أعنى ‏من‏ ‏أسبقية‏ ‏الظاهرة‏ ‏الكيانية‏ ‏اللغوية‏ ‏على ‏ما‏ ‏يليها‏ ‏من‏ ‏محاولات‏ ‏علمية‏ ‏اختزالية‏ ‏خاطئة‏، ‏كما‏ ‏سأحاول‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏هذا‏ ‏اللفظ‏ ‏ابتداء‏ ‏فى ‏حركته‏ ‏المتشعبة‏، ‏وتوليده‏ ‏المتفجر‏، ‏لإثبات‏ ‏خطورة‏ (‏أو‏ ‏استحالة‏) ‏اختزاله‏ ‏إلى ‏ماهو‏ ‏دونه‏، ‏فضلا‏ ‏عما‏ ‏هو‏ ‏غيره‏، ‏ولعلى ‏بذلك‏ ‏أنجح‏ ‏فى ‏بيان‏ ‏قدرة‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏على ‏الإيحاء‏ ‏بالوافر‏ ‏من‏  ‏التوجهات‏ ‏الواجب‏ ‏الاستجابة‏ ‏لها‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏أريد‏ ‏الاقتراب‏ ‏الأدق‏ ‏من‏ ‏حقيقة‏ ‏الظاهرة‏‏البشرية‏ ‏كما‏ ‏أحاطت‏ ‏بها‏ ‏لغتنا‏ ‏القادرة‏.

وسوف نواصل غداً تطبيق ما ورد فى هذه المقدمة على لفظىْ “الوجدان” و”الحزن” (الجزء الرابع من مقدمة الكتاب).‏

[1] – مفهوم‏ ‏المطاوعة‏ ‏العصبية‏ Neural Plasticity ‏يعنى ‏قدرة‏ ‏الجهاز‏ ‏العصبى ‏المركزى ‏خاصة‏ ‏على ‏التغير‏ ‏والتشكل‏، ‏بل‏ ‏النمو‏ ‏والتطور‏، ‏تبعا‏ ‏لمؤثرات‏ ‏البيئة‏ ‏واستجابة‏ ‏للتبادل‏ ‏والتنسيق‏ ‏مع‏ ‏المستويات‏ ‏بعضها‏ ‏مع‏ ‏بعض‏.‏

[2] – المعلومات‏ Information ‏هنا‏ ‏تعنى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يصل‏ ‏المخ‏ ‏البشرى ‏من‏ ‏مؤثرات‏ ‏جاءت‏ ‏من‏ ‏الوراثة‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏البيئة‏ ‏المحيطة‏، ‏ولا‏ ‏يقتصر‏ ‏معنى ‏المعلومة‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏شائع‏ ‏من‏ ‏معرفة‏ ‏رمزية‏ ‏محددة.

[3] – بالإضافة‏ ‏إلى ‏ظاهرتى ‏التعتيم‏ ‏والتقريب‏ ‏قمت‏ ‏بنحت‏ ‏لفظ‏ “التلتين” (‏لتن‏: ‏استعمل‏ ‏ألفاظا‏ ‏لاتينيه‏ ‏بحروف‏ ‏عربية‏ ‏ونطق‏ ‏عربى، ‏وقد‏ ‏فضلت‏ ‏ذلك‏ ‏عن‏ ‏لفظ‏ ‏التعريب‏ ‏المستخدم‏ ‏لهذا‏ ‏الغرض‏، ‏لأننا‏ ‏مع‏ ‏إفراطنا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏العملية‏ ‏لا‏ ‏نضيف‏ ‏بل‏ ‏ننتقص‏ ‏منها‏ ‏ونمسخها‏.‏

[4] – مثلا‏: ‏لسان‏ ‏العرب‏، ‏وأساس‏ ‏البلاغة‏.‏

[5] – الوسيط‏ ‏مثلا‏ (‏وإلى ‏درجة‏ ‏أخطر‏: ‏المعاجم‏ ‏القائلة‏ ‏بتخصصها‏ ‏فى ‏ترجمة‏ ‏فروع‏ ‏العلوم‏ ‏المختلفة‏، ‏وخاصة‏ ‏العلوم‏  ‏الإنسانية‏) ‏

[6] – سبق‏ ‏لى ‏محاولة‏ ‏مراجعة‏ ‏ونقد‏ ‏ثلاثين‏ ‏تعريف‏ (‏بالإنجليزية‏) ‏لما‏ ‏هو‏ ‏انفعال‏، ‏أو‏ ‏عاطفة‏ ‏مبينا‏ ‏قصورها‏ ‏جميعا‏ ‏عن‏ ‏الوفاء‏ ‏بتحديد‏ ‏الظاهرة‏ ‏المعنية‏، ‏وحين‏ ‏لجأت‏ ‏إلى ‏استعمال‏ ‏لفظ‏ “وجدان” ‏تبين‏ ‏لى ‏أنه‏ ‏لفظ‏ ‏أكثر‏ ‏احتواء‏، ‏وأدق‏ ‏نبضا‏ ‏من‏ ‏أغلب‏ ‏الألفاظ‏ ‏المقابلة‏ ‏والريبة‏ ‏فى ‏لغات‏ ‏أخرى، ‏حتى ‏أننى ‏اقترحت‏ ‏نقله‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏إلى ‏اللغات‏ ‏الأخرى ‏متى ‏ما‏ ‏نجحنا‏ ‏فى ‏استلهام‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يحدد‏ ‏الظاهرة‏ ‏التى ‏يحتويها‏، ‏أو‏ ‏يشير‏ ‏إليها‏، ‏انطلاقا‏ ‏من‏ ‏موقعه‏ ‏فى ‏لغتنا‏ ‏نحن‏، ‏وحينذاك‏ (‏كما‏ ‏اقترحت‏) ‏سوف‏ ‏يكتب‏ ‏بالإنجليزية‏ ‏مثلا‏ ‏هكذا‏: Wijdan ‏دون‏ ‏ترجمة‏. (‏الإنسان‏ ‏والتطور‏ – ‏السنة‏ ‏الخامسة‏ – ‏ابريل‏ 1983 ‏ص‏ 108 – 150‏).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *