- الإهــداء والمقدمة
- الفصل الأول:
- الفصل الثانى:
- الفصل الثالث:
- الفصل الرابع:
- الفصل الخامس:
- الفصل السادس:
- الفصل السابع:
- الفصل الثامن:
- الفصل التاسع:
- الفصل العاشر:
- خاتمة
ثلاثية المشى على الصراط
[الجزء: الأول]
الواقعة
يحيى الرخاوى
الطبعة الأولى 1977 الطبعة الثانية 2008
الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980
الإهـــداء
إلى الناس الذين لا أعرفهم،.. والذين هم على طريقى
دون علمى، يتحدثون بغير لغتى، أهدى هذا السهم،
لعله يشير إلى ما نسعى إليه ….. “
يحيى الرخاوى
من تصدير الطبعة الأولى
” ……………………..
… فى وسط حطام كل شئ.
ومن بين أكوام بقايا البشر.
ينبعث صوت يقول:
إننا لابد أن نعيش..
… وأننا نستطيع.
……………………….. “
كلمة فى صفحة
مستقلة فى الطبعة الأولى.
ومن يتجاوز الظاهر، يجازف بكل شئ”.
“أوسكار وايلد”
المقطم فى أكتوبر 1977
مقدمة الطبعة الأولى:
مثل العادة، أقدم رجلا؛ فأجدنى أهم بأن أقول كيف حدث كل هذا…..؟ وأؤخر أخرى؛ لأدع العمل لأصحابه يرونه كما يشاؤون.. دون النظر إلى ظروف ولادته ومناخ نشأته. وما بين مقدمات برناردشو التى تفوق أحايانا النص حجما وتفصيلا، وصمت نجيب محفوظ الفيلسوف لابس عباءة الرواية (قبل مرحلة يوميات الأهرام) أجدنى حائرا مترددا.
ثم أخضع أخيرا لحق القارئ على، لأن لى صفة أخرى غير الكتابة يعرفنى بها، صفة طبيب يمارس المهنة: فعلا يوميا، ولابد أن أفصل بين هذا وذاك حتى لا يختلط الأمر على الناس، ولابد بالتالى أن أكتب كيف كان ذلك، وكيف خرج هذا العمل إلى حيز الوجود.
حقيقه أن مادة خيالى نبعت من واقع مهنتى ومن حياتى الخاصة…، إلا أنها فى النهاية خيال محض، لاتصف أحدا بذاته، لا مريضا.. ولا طبيبا، وعلى ذلك فهى وجهة نظر، أتحمل وزرها وأكتوى بنارها، أو أجنى ثمارها وأسير فى نورها..ولكنها فى كل حال ليست الحقيقة الدامغة ولا القول الفصل فى أسلوب علاجى بذاته، أو منهج حياتى خاص.
لتكن صيحة عاجز ضاقت به السبل فى لحظة ما، أو مجرد قصة، أو رؤية علمية لبست هذا الثوب الروائى، وعلى من يقرؤها أن يكون مسئولا عما يصله منها… كل بطريقته.
قد يجد القارئ فيها من التناقض فى الشكل والمحتوى (أو عدم التماثل على الأقل) ما يجعلنى ملزما بتفسير ذلك، فقد كان الفرق بين كتابة الجزء الأول والجزء الثانى أكثر من عام (وإن استغرق كل جزء بضعة أسابيع – بعض الوقت -) مما جعل طبيعة كل جزء وأسلوبه يختلف عن الآخر، كما أننى لابد وأن اعترف أن الفصول الأربعة الأخيرة من الجزء الثانى قد كتبت قسرا وضد مقاومة هائلة من داخلى، لأنى أحسست وأنا أنتهى منها أنى أودع الفنان فى بعد أن عجز عن أن يخرج عملا فنيا خالصا، حيث ظل مكبلا دائما بالالتزامات العلمية والنظريات. حتى فى محاولاته الشعرية (ديوانا: “سر اللعبة”فى علم السيكوباثولوجى”بالفصحى، “وأغوار النفس”- العلاج النفسى، بالعامية المصرية).
لابد، إذن، أن اعتذر عن إقحام تفاصيل علمية فى الجزء الأول خاصة، حين اضطررت أن أحكى عن أساليب مهنية شائعة فى علاج الأمراض النفسية لا تمثل تخصصا بذاته. بقدر ما تمثل مرحلة من مراحل تطورى كطبيب نفسى، دون أى تلميح إلى زميل أو أسلوب علاجى خاص، أما الجزء الثانى فقد نجح أن يتخلص من هذا القيد، حيث هرب تماما من وصف أى جلسة علاجية وصفا مباشرا، وترك الأحداث تدور قبلها وبعدها باستمرار، حتى أن شخصية الطبيب لم تظهر إلا فى لقطة سريعة فى الخاتمة.
وقد حاولت شخصيا أن أقيم هذا العمل بعد كتابته، لأدرجه تحت صنف بذاته، فعجزت، إذ شعرت أحيانا أنه رواية بما تعنيه الكلمة، وأحيانا أخرى أنه رسالة طبية لا أكثر، أو أنه مجرد محاورات عقلية. وخطر ببالى أن أعيد كتابة النص مرة أو مرات كما نصحنى بعض الأصدقاء الذين أثق فى رأيهم ورؤيتهم، ولكنى وجدتنى سوف ألقى بنفسى إلى التهلكة، حيث لن أدرى من الذى سيطغى على الآخر داخل نفسى، القاصّ أم العالم أم الطبيب الممارس.. الخ. وضد كل الحسابات غامرت وألقيت بالمسودة الثانية إلى المطبعة.
(المقطم فى أكتوبر 1975)
ومر عام، وعام ونجح العالم فىّ – جبنا أو عقلا – فى تأجيل النشر طول هذه المدة…، وحين عدت إلى العمل أتصفحه – ولا أقرؤه تفصيلا – وجدته يمثل مرحلة سابقة.. مجرد مرحلة…ولو عدت أكتبه الآن فربما ظهر بشكل آخر، وكان على أن أختار: إما أن أغامر بالظهور هكذا ليسجل تاريخى بعض مراحل تطور فكري.. وإما أن أعيد النظر فى كل شي. اخترت السبيل الأول بعد أن أحسست أنه أكثر صدقا…وشجاعة.. وخاصة وأنى لم أعد أنتظر تقييما علميا ممن أخشى رأيهم، بعد أن وصلت إلى نهاية المطاف التقليدى، وعلى إذا أن استغل هذا الذى دفعت ثمنه غاليا… فأستدرج به الناس لأقول لهم كلمة أعتقد – فى لحظة ما – أنها الحق.
على أن عمق هذا العمل.. لم يصل – كما كنت أود – لخاصة الخاصة الذين عرضته عليهم، مما جعلنى أتساءل: إذن لمن أكتب إن كان هؤلاء الخاصة لم يصلوا إلى لب المشكلة الكيانية، الكونية، التى حاولت أن أعرضها فى شكل روائي…؟.
رجعت أقاوم ترددي… وأحول دون تشويه العمل بمزيد من الإيضاح.. أو المباشرة.
وهكذا خرجت اليكم…أطرق بابكم الخلفي.. بعد أن حال عجز العلماء بوسائلهم الحالية أن أصل إليكم مباشرة..
موجات الفن عاتية,. ولكن شراعكم ملئ بالحنان.. وأنتم تحتضنون ريح الشمال.
المقطم فى أكتوير1977
مقدمة الطبعة الثانية:
بعد أكثر من ربع قرن، تظهر هذه الطبعة بمناسبة كتابة الجزء الثالث من هذه الثلاثية”المشى على الصراط”. باسم”ملحمة الرحيل والعود”.
انتبهت أننى لم أقرأ هذه الرواية بعد نشرها الأول، حتى كتابة الجزء الثالث.
قرأتها أثناء التجارب لهذه الطبعة. فوجئت بعكس ما ذكرت فى استدراك مقدمة الطبعة الأولي. لاحظت أن هذا العمل لا يمثل مرحلة من تطور فكرى بقدر ما أنه يحدد الفكرة المحورية التى يدور حولها وجودى حتى الآن .
ما وصلنى- قارئا- كان قدرا من الرؤية لم أكن أتصور أننى كنت قد وصلت إليه حينذاك (1975)، أحسست بوحدتى أكبر.
اضطرتنى هذه المراجعة أن أعدل كلمة هنا، أوجملة هناك.
آن الأوان أخيرا أن يمثـُل العمل بأجزائه الثلاثة فى متناول وعى الناس.
على أنه يمكن قراءة كل جزء كعمل مستقل.
الإسكندرية 20 أبريل 2002
الفصل الأول
فى البدء كان الكلمة
-1-
– الاسم يا سيد؟.!
قالتها تلك المرأة القابعة وراء الشباك للواقف فى أول الصف، شىء عادى تماما، إذ لابد أن لكل واحد منا اسم، ولابد لنا أنا نسأل عنه إذا كان غيرنا لا يعرفه، ولكن فى ذلك اليوم لاحت علامات الساعة من خلال هذه الكلمة العابرة “الاسم يا سيد”.
الصف الطويل ينتظر، الموظفة المتلكئة وراء النافذة تراجع الأوراق وتحدث جارتها بين الحين والحين، وكأنهما يتناقشان فى شيء ذى بال، شعرها معقوص للخلف ووجهها خال من أى تعبير خاص، مليء بحبوب متناثرة، لا هى حب الشباب ولا هى “نمش” الشيخوخة، ليس لبشرتها لون، وإن كان الناس قد اعتادوا أن يقولوا عن مثيلاتها “سمراء”،لكنها فى هذه اللحظة كانت بلا لون، أو قل كانت بلون الأرض قبل بدء الخليقة، أو لون الموت، إن كان للموت لون.. ولكن لا يمكن أن أنفى أنه كان لها لون فى يوم من الأيام.
طال الانتظار.. الصف يتحرك ببطء شديد، قوة تجذبنى إلى الخلف حتى حسبت أن الواقف ورائى يشدنى من قفاى، تلفت حولى فإذا بينى وبينه حاجز طبيعى متكور دفع بنصف جذعه للوراء، شئ يطمئن، قفاى ليس فى متناول يده، رجعت أنظر إلى المرأة معقوصة الشعر، خيل إلى أنها تدبر مكيدة يفنى بها العالم حتى تتخلص من عملها هذا، طردت هذه الأفكار التى كانت تراودنى بين الحين والحين، وكنت اعتبرها من قبيل الفكاهة، ولكنها بدت اليوم وكأنها عين الجد، الوقت يمر ببطء. بالأمس كان عندى ذلك السباك الطيب، كان هادئا وديعا مستغرقا فى عمله وهو يصلح الصنبور. عمل تافه ولكنه كان يؤديه بعناية وإتقان وكأنه يصلح أحوال الكون، وجهه رائق يشع نورا لا تعرف طبيعته أو مصدره، يخرج بعد الإصلاح وكأنه يتسحب خوفا من أن يضبطه أحد فيرغمه على أخذ حق الإصلاح. لحقت به عند الباب فى آخر لحظة ومددت يدى بما قسم، نظر إلى الأرض قائلا:
- لزومه إيه يابيه؟.
- حقك ياعم محفوظ.
- الحق عند الله.
أغاظنى هذا الرجل غير المحتاج إلى شيء، ستة أولاد، الأسعار نار والعمل بسيط والأجر زهيد، ثم ينسحب خجلا من المطالبة بأجره. شئ يغيظ بحق، من أين له بكل هذه السكينة والرضا؟. من أين له بثمن الخبز إذا هو لم يتقاض منى ومن أمثالى أجره؟. هذا شئ سخيف لا أفهمه.
صور الأمس تواصل ملاحقتى: يحضر جارنا الأستاذ غريب بعد خروج عم محفوظ السباك مباشرة. إنسان يعيش فى عالم سحرى هو الآخر، يبدو عليه الاهتمام المستمر بشيء ذى بال، أحيانا استطيع أن أفهم اهتمامه بحرب فيتنام ومجاعة بنجلادش. وأحيانا لا أدرى ماذا يفعل بهذا الاهتمام. أعتبره من هواة النكد، لا يكاد يعرف كم قرشا يقبض آخر الشهر، نظراته جادة وذكية وحزينة فى نفس الوقت.أحس فيها بإشفاق شديد خال من الاحتقار فى معظم الأحيان.
أحيانا.. أبادله نظرة عدم مبالاة تحمينى من اختراق عينيه. هذا الإنسان الذاهل يحاول أن يستدرجنى إلى شيء لا أعرفه، شيء لست فى حاجة إليه.. لا…لن يحدث “ذلك مهما (كان “ذلك” الذى لا أعرفه هو سر الوجود)، ومع كل هذا حاولت أن أتلطف معه أمس. بلا مناسبة – بعد انتهاء المكالمة الهاتفية، دعوته برغبة حائرة.
- إجلس يا أستاذ “غريب”.. تفضل.
- أخشى أن أضيع وقتك.
ماذا فى رأس ذلك المتوحش؟. فيم أضيع وقتى إن لم يكن فى الجلوس معه ومع أمثاله. لا ليس مع أمثاله، مع أمثالى أنا. قلت :
- بالعكس، كيف حالك؟.
نظر إلى نظرة ما، هذه نظرة لا أقبلها، لن أسكت على هذا الوغد، إن كان يحتقرنى إلى هذا الحد فلابد أن أبدو فى غاية السعادة، هو الذى يحتاجنى. عندى تليفون وليس عنده حتى جرس للباب، لم يهتم أن يصلحه منذ فسد، إنه يحضر عندى لتلقى المكالمات فى منزلى علما بأنى لست مضطرا لاستقباله، أنا “أنجح” منه و”أسعد”.
قطع على أفكارى:
- الإنسان مقهور أكثر من طاقته.
يا نهار أسود، أساله عن حاله فيقول إن الإنسان مقهور، ما أغبانى إذ أفتح الحديث مع مثل هذا المتوحش الأبله، إما أنه لايفهم معنى الكلام أو أنه يستهين بى وبترحيبى وبحديثى من حيث المبدأ، ومع ذلك سوف أريه.
- عندنا قهوة بيتى، وهى من مزايا الزواج، تشربها على الريحة أم مضبوطة.
سوف أعدد له كل المزايا التى أتمتع بها زيادة عنه قبل أن يخرج.
- شكرا.. أفضل الانصراف.
قالها وهم بالاتجاه إلى الباب، فزاد إصرارى على الحديث معه وكأنى على وشك الانتصار.
- لايمكن، ما رأيتك من زمان.
أطرق إلى الأرض وكأنه يفكر فى حل مشكلة الحدود الصينية السوفيتية.
- هل حقا تريد رؤيتى؟.
ترددت فى الإجابة لأنى لا أريد رؤيته إذا كان ذلك ممكنا، ولكن طالما هو كائن حى له جسم يتحرك فى الشقة المقابلة فلابد من رؤيته حسب القوانين الطبيعية لبقاء المادة، أنا لا أطيق وجوده أصلا. ينبغى أن يباد هذا الصنف من البشر من على ظهر الأرض، أولئك الناس الذين لا ينظرون إلى وجهك، الذين تحس بنظراتهم تثقب أحشاءك مباشرة، ليسوا منا. يتصورون أنهم يعيشون وغيرهم فى عداد الأموات، يتلطفون معنا ليستعملونا “كأشياء” ليس إلا، ثم هم لا يتركونا فى حالنا، سوف أحطم هذا المتوحش.
- طبعا.. الناس لبعضهم.
هيه ! أفحمته حتى يعرف أنى أعرف انتهازيته، وأجامله بمحض اختيارى، وكفى تظاهرا بالزهد تبريرا للعجز. قال على غير توقع:
- وكيف حالك أنت؟.
حالى؟. أنا أسأله لأنه مسكين وغامض ووحيد، أما حالى أنا فهو ظاهر للعيان. من الذكاء أن أرد عليه فورا “الحمد لله” حتى لا يظن بى الظنون، فى نظراته صدق غريب حنون وكأنه يسألنى عن حالى فعلا- تعودت أن أسمع هذا السؤال للمجاملة وقطع الوقت، أما أن يكون سؤالا ذا معنى وراءه اهتمام جاد فهذا مالا يمكن السكوت عليه، ماله هو ومال حالى؟. هل يريد أن يتأكد أنى ميت؟. وهو الذى لا يعرف للحياة طعما، هو لم يغير سترته منذ ست سنوات بالتمام، ماله حالى؟. أليس عنده نظر؟. ألم ير قماش “الأنتريه” الجديد؟. ماذا يريد على وجه التحديد؟.
طال سكوتى أكثر مما ينبغى، لابد أن أرد عليه بشجاعة حقيقية، لابد أن أقول له إن تليفونى ليس تحت أمره بعد الآن، لابد أن يعرف حدوده، وأن حالى هو هذا المنزل السعيد وهذا التليفون وهذا” الأنتريه”، أما غير ذلك فهو خارج عن اختصاصه. لابد أن يلزم حدوده وإذا كان يريد أن يتلقى المكالمات عندى فليعرف أن هذا وحده نتيجة أن حالى عال العال. حالى مثل حاله على أقل الفروض. سأقولها له وما يكون يكون، لابد أن يشعر بفشله حتى يكف عن اقتحام الناس. هاك ردى بكل جسارة:
- الحمد لله.
لم يرد هذا المتوحش. ظل ناظرا إلى الأرض فى تفكير عميق. ليس فى الدنيا ما يحتاج لكل هذا التفكير. كل شيء عنده مختلف. هل يشك فى إجابتى؟. لا يصدق أن حالى على ما يرام، لماذا لا يعلن ما بنفسه حتى أرد عليه؟. جبان، سوف أحتفظ برأيى فيه حتى أستدرجه. لماذا يحتفظ لنفسه بحق الحكم على الناس؟. إنه هو الذى لا يعرف شيئا إلا من خلال كتبه. سخيف تافه يعيش على الهامش، مغرور يتصور أنه يستطيع أن يعدل الكون. عاجز غبى، لن يدخل بيتى بعد اليوم – يرتشف القهوة فى شماتة وكأنه وحده الذى يعرف طعمها – يدير الفنجان ببطء ويتأمله كأنه لم ير مثله من قبل. جار سمج، لعن الله اليوم الذى قابلته فيه – ينظر إلى ثانية وكأنه لا يصدق شيئا لا يعرفه، ماله بى؟.
قام فى هدوء ومد يده مصافحا – يبستم، أكاد أبصق فى وجهه، أكشر عن أسنانى أرد له ابتسامته الحانية فى غضب، لست فى حاجة إلى شفقته المهينة، قال قبل أن يغادر الشقة:
- شكرا.
- تحت أمرك
……
انتبهت على صوت المرأة ذات الشعر المعقوص والبشرة بلا ألوان:
- الإيصال باسم من؟.
من؟. باسمى طبعا، كان ينبغى أن أستعد أثناء تحرك الطابور حتى لا تحدث المفاجأة، صحت فى تعجب
- باسمى طبعا.
ارتفع حاجباها باشمئزاز ضجر.
- ليس هذا مجال العبث يا أستاذ، الزم حدودك أو أفسح الطريق لمن بعدك.
أخذت أحاول أن أنطق باسمى حتى ينتهى هذا الموقف ولكن كل شيء كان قد انتهى فعلا. نظرت إليها فى احتجاج وكأنى أرد على غريب: هل أنت أيتها الجثة الهامدة، هل أنت أيضا؟. تسأليننى عن اسمى وكأنك تشكين فى وجودى، أليست الأوراق أمامك؟.
- أستاذ. الناس وراءها مصالح.
اكتشفت أنى لم أقدم لها الأوراق، ولكنها تسألنى عن هويتى، تشك فى، طال صمتى وكدت أعجز حتى عن الحركة.
- أرجوك يا سيد ماذا تنتظر؟.
مرة ثانية تسمع صوتها أذنى، لكزنى الواقف ورائى متعجلا، انتقل بصرى بينه وبينها، عيناه تتهمانى أيضا. أحسست بالعرق يتصبب على وجهى.أكاد أبصر حبات العرق على جبهتى. كل حبة مثل حرف من حروف الهجاء، أحاول أن أجمع الحروف لأكون اسمى بجهد بالغ، أكاد أنجح ، ولكنى لا أتذكر على وجه التحديد لماذا جئت إلى هذا المكان، وقبل حدوث مالا يحمد عقباه، تركت الصف فى صمت ووليت هاربا.
ماذا جرى؟.
خرجت إلى الشارع، رأسى خال تماما. أخذت أنظر إلى المارة وكأنى أراهم لأول مرة، هؤلاء الناس: أين كانوا قبل اليوم؟ من أين جاءوا؟ أشكالهم تبعث على التساؤل، لكل منهم عينان اثنتان، لماذا لا يستعمل أى منهم ولو عينا واحدة؟ إذا لرأوا بعضهم البعض مثلما يرى غريب قدح القهوة. الآن، أكاد أتعرف عليه، أكاد أفهمه، وعم محفوظ أيضا. أصبح فجأة مفهوما لدى. لعلى ولجت باب المجهول بلا استئذان. ماذا حدث؟. من أين تأتى تلك الرؤية الجديدة؟. رجعت أنظر إلى وجوه الناس رغم أنى لا أكاد أعرف أيا منهم إلا أنى أعرفهم واحدا واحدا. أصبح لكل منهم لون حقيقى يختلف عن لون الآخر، تذكرت المرأة المعقوصة الشعر بلا لون، لو رجعت لها الآن لعرفت أن لون بشرتها مثلا هو 5734 / 9 أو أى رقم آخر، لكنه رقم محدد. لكل إنسان لون خاص به يمكن أن يوضع فى فاتورة البشر، هناك درجات من اللون الأسمر ومن كل لون، خضرة الشجر ليست كخضرة الحشيش ليست كخضرة أرقام سيارات الدبلوماسيين. هذا شيء رائع: أن يكون لكل شيء لون. ولكن أين اختفت الألوان قبل ذلك؟. أين كنت أنا طوال هذه السنين؟. أحس برغبة هائلة فى الجرى إلى المنزل حتى أسأل الأستاذ غريب عن حقيقة ما هو فيه، وهل هناك شبه بين ما حدث لى وبين موقفه الغامض؟ .
ولكن ماذا حدث لى؟. رأسى الذى كان متصلبا فارغا بدأ يمتليء بكل ثروة الحياة، جمادها وأحيائها، الوحوش وطيور الزينة فيها جنبا إلى جنب، أكاد أطير إلى هناك، ولكنى هنا بينهم لابد أن أتعرف عليهم أولا.
تقدمت إلى أحدهم لأسأله نفس السؤال الذى سألتنيه تلك المرأة، من أنت؟ أنت تعيش باسم من؟ الاسم يا سيد” الإيصال باسم من؟. قلت فى نفسى إذا تعرف هو على نفسه فلابد أننى أستطيع التعرف على نفسى، كيف؟. لست أدرى. ولكنى أستطيع تأكيد هذه المعادلة السهلة دون حاجة إلى برهان: لو أن واحدا فى هذه اللحظة عرف من هو، فلسوف أعرف أنا -أيضا -من أنا.
تقدمت إليه، ربت على كتفه فى رقة، فالتفت إلى فى هدوء، قلت فورا:
-كم الساعة من فضلك؟.
- آسف ليست معى ساعة.
- شكرا.
الحمد لله، انتهى الموقف بسلام، حصلت على الإجابة بطريقة أسهل، ليس ضروريا أن يحمل أحدهم ساعة ما دام الآخرون يحملون ساعات، ولكن هل الذى يحمل ساعة يعرف “من هو”؟. لابد من تكملة البحث. تقدمت إلى آخر بعد أن تأكدت من وجود الساعة فى معصمه، احتك كتفى بكتفه، نظر إلى نظرة بين التساؤل والاحتجاج، نظرت إليه نظرة اعتذار، ومضيت مرتاحا وكأنى حصلت على الجواب.
حتى الذين يحملون ساعات، لا يعرفون من هم!!.
ربما كان من سر الوجود، حتى تسير هذه الجموع بهذه الصورة بالغة النظام بالغة التعقيد والاضطراب – ألا يعرف أحد “من هو؟.”، إذ ماذا يكون الحال لو حاول كل منا أن يعرف من هو؟. سوف تتوقف الحركة مثلما توقف عقلى أمام تلك المرأة منذ قليل، لا…ليس ضروريا أن يعرف أحد شيئا.. ولابد أن هذه المرأة لم تقصد شيئا جادا. سوف أرجع لها بأوراقى لأثبت لها أن سؤالها هو الجواب ذاته. سوف أجيب عليها مثلما فعلت قبل ذلك آلاف المرات، وبمجرد أن أجيب سوف، يسقط السؤال.
ما هذه الدوامة التى تدور فى ذهنى؟. إن ما يزعجنى أنها بالنسبة لى بالغة البساطة والوضوح… ومع ذلك! لقد اهتديت أخيرا إلى الحل: “الناس يجيبون على أسئلة بعضهم البعض حتى يثبت أن هذه الأسئلة ليس لها إجابة، ذلك أنهم لو حاولوا أن يجيبوا على الأسئلة المطروحة فى كل لحظة بجدية حقيقية لاختل توازن الكون، أو توقفت العجلة مثلما حدث هذا الصباح، أو قد يعم الشذوذ مثلما يعيش الأستاذ غريب، أو ربما جاعوا مثلما أخاف على عم محفوظ السباك.
يبدو أن ما أصابنى اليوم سوف يهدينى إلى فكرة جديدة أحل بها مشكلة الوجود.
”لابد من الإجابة “فورا” على كل سؤال، حتى لا نضطر إلى البحث فعلا عن إجابة له”!.
ما أسهل هذا الكلام رغم أنى لا أجرؤ أن أقوله لأحد خشية أن يتوقف نهائيا عن الأسئلة والأجوبة فيموت، أو يبعث من جديد، يا حلاوة أصبحت فيلسوفا بقدرة قادر، وسر موظفة الشباك!.
ما هذا الكلام الفارغ ؟.
***
رجعت إلى الموظفة وراء الشباك، حاولت أن أتبين لونها هذه المرة، أخذت أبحث عن موقعها فى خريطة العالم التى احتلت مخى فجأة، فاكتشفت أنها تعيش فى الصحراء الكبرى وقد اكتسبت لونها من الأعشاب الجافة والرمال الساخنة المختلطة ببقايا زيوت متناثرة من حفار شركة أمريكية تبحث عن البترول ولم تجده. ما أروع ما حدث اليوم، بعد أن كانت المرأة بلا لون أصبحت الصورة بالألوان الطبيعية: كالحة، جافة، لزجة فى نفس الوقت. الحمد لله، الآن تتضح الأمور.
لم يبق فى الصف إلا اثنان، خشيت أن تتذكر وجهى. طأطأت رأسى ناظرا إلى الأرض حتى لا ترى عينى، أسعدنى أنها كانت تدفن رأسها هى الأخرى فى الأوراق.
رفعت رأسى حين خطر ببالى أنها لا يمكن أن تتذكر وجهى لأنى ساعتها لم يكن لى وجه، فقدمت لها الإنذار.
- أنا عبد السلام المشد، أريد أن أدفع إيصال النور قبل أن يقطع عنى…
قلتها بصوت مرتفع وسريع وكأنى أستظهر آية فى حصة الدين. لم أنظر حوالى لأرى وقع ألفاظى على من حولى، لايهم، المرأة لم تنزعج، أخذت الورقة فى صمت ووضعتها على جانب. أخرجت رزمة من الإيصالات. بحثت عن اسمى، ذكرت رقما ما من النقود، أخرجت ما معى، أخذت الإيصال، لم أنتظر حتى آخذ الباقى، بضعة قروش فى داهية، وأهرب أنا بجلدى، لم تستوقفنى المرأة حتى آخذ الباقى، عادة جديدة فى حضارتنا المعاصرة لإصلاح الكادر الوظيفى بالحلول الذاتية.
***
هربت إلى الشارع، لم أحاول أن أدقق النظر هذه المرة فى وجوه الناس، لهم عينان أو أربع وأربعون .. مالى أنا.. أحاول أن أوقف هذا الشيء الذى حدث بالإنكار والإهمال والتفكير فى أى شئ آخر، مصاريف المدارس للأولاد مطلوبة، سوف أغير التليفزيون، عندى قطعتا صوف وارد الخارج سوف أذهب إلى الخياط لحياكة إحداهما،لابد أن أعود فورا، رأسى تكاد تنفجر، تضطرب بين الامتلاء بالطبيعة والصخور والمحيطات وخريطة العالم، ثم الفراغ حتى من نسمة هواء جافة. أين المهرب؟.
اقتربت من المنزل وقد ملأنى الخوف من الدخول هكذا”. خائف أن يكتشف أمرى. كدت أدق جرس غريب بدلا من جرس شقتى. تذكرت أن جرسه معطل. خيل إلى أن هذا سبب كاف للعدول عن الذهاب إليه، اقتربت أكثر فسمعت صياح زوجتى فى ابنتى “أخسر دينى إذا لم أقل له”. تخسر دينها أو تكسبه مالى أنا؟. أنا لا أعرف ردا عليها فى الأحوال العادية فما هو الرد الآن؟. إذا كنت قد عجزت عن الرد على سؤال الموظفة عن اسمى، فكيف أرد على ما ينتظرنى من شكاوى وطلبات وتساؤلات؟. أسترجع ردودى زمان وأحاول أن أحفظ بعضا منها مما يصلح لكل المواقف، ربما أنجح كما نجحت فى أن أحفظ اسمى منذ قليل.
صوت أقدام على السلم، حدسى يقول لى إنه “هو”، أتلكأ فى دق جرس بابنا، يقترب وقع الأقدام، أخاف أن أنظر إلى خلف خشية أن يكون “هو” أو ألا يكون “هو” فى نفس اللحظة. لأول مرة أتبين أن الخوف خوفان (على الأقل). بل إن مصدره من داخلى مختلف: كنت أنتظر الأستاذ غريب مثل الطفل الذى سيأتنس بأخيه الأكبر، وكنت أخاف ألا يأتى فيتركنى وحيدا فى يدى زوجتى التى كادت تخسر دينها منذ لحظات إن لم تقل لى ماذا فعلت ابنتى. كنت فى نفس الوقت أحاول أن أتجنب لقاءه حتى لا يعاقبنى على فعلة لم أفعلها. اقتربت الأقدام أكثر، هو فعلا الأستاذ غريب، حيانى بهمهمة لم أسمعها، أخرج مفتاح شقته وأدخله فى ثقبه وأداره فى هدوء، دخل من الباب، قبل أن يغلقه نظر إلى وجهى وابتسم ابتسامة رائعة لم تكتمل، يبدو أنه لاحظ شيئا فى وقفتى أمام الباب، تردد قليلا حتى تأكد من وجود أصوات الأولاد بالداخل فأقفل الباب فى هدوء. كاد يسألنى “مالك” قبل أن يحكم إغلاق الباب. ليته فعل. الحمد لله أنه لم يفعل، أصابنى شعور غامر بالكراهية تجاهه حتى كدت أناديه لأقول له إنى ألعن اليوم الذى اصطبحت فيه بخلقته، هذا التناقض الهائل جعلنى أدرك أنه كما أن هناك خوفين فهناك كراهيتان وحبان وصدقان وكذبان… هناك دائما اثنان على الأقل.
هل هذا هو الجنون؟.
لا.. أنـا مازلت أعرف الأيام والساعات والطريق إلى بيتى وأسماء أولادى، إذن فهى الفلسفة. يبدو أن فلسفة هذه الأيام تعدى مثل الانفلونزا والتيفود، ولابد أنى أخذت العدوى من الأستاذ غريب، هذا هو جزاء مساعدة الناس، نفتح لهم بيوتنا، ويستعملون أشياءنا، ولا نأخذ منهم إلا العدوى بالأفكار الهدامة التى تشبه الفلسفة، حتى ولو لم يتكلموا حرفا واحدا.
دققت الجرس ودخلت، انهارت على لكمات الأطفال من كل جانب، ملت إلى زر الكهرباء لأتأكد أن النور لم يقطع بعد. اطمأننت أن مهمتى الصباحية قد تمت بنجاح فى الوقت المناسب وأن الحكومة لن تتدخل فى شئونى الخاصة. كنت أهرب من محاولتى أن أفهم أى شيء مما يدور حولى حتى لا أفشل فشلى السابق. كان بصرى أحد من أذنى، أخذت أنظر إلى حركة الشفاه المفتوحة المنغلقة تصدر منها أصوات عالية كالكلمات. تعجبت لهذه القدرات الفريدة التى تتمتع بها هذه الحيوانات الناطقة، قلت بضع همهمات ملخصها أن” بعدين بعدين”. أى شئ يمكن أن يتم فيما بعد، حتى بعد أن حدث ما حدث، فإنى على يقين من أن شيئا ما سيتم فيما بعد.
جاء صوت زوجتى من الداخل:
- مين يا بت؟.
جمعت كل قوتى القديمة ومررت عليها أمام المكنة وأبلغتها أنى دفعت النور، لم ترفع بصرها من على طيات القماش وحركة الإبرة، حيث كانت الطيات فى وضع حرج، وكانت الإبرة صاعدة هابطة فى نشاط وثقة تلم شمل الطيتين، أحسست أنى فى أشد الحاجة إلى مثل هذه الحركة، شيئان فى داخلى انفصلا عن بعضهما البعض، أريد أحدا يمسكنى “منهما معا” يلم أطرافهما على بعضهما البعض، يغرز فيهما هذا المثقاب الواثق النشط، ذا الخيط المتين، ويا حبذا لو كان سلكا من الصلب يضمنى إلى بعضى حتى أعود “واحدا” كما كنت. لكن: هل كنت واحدا أبدا؟. إذن فلماذا لم أذكر اسمى فورا عندما سئلت عن هذا الواحد؟. ومن الذى كان يخاف الأستاذ غريب ويتعجب من عم محفوظ؟. كيف يحدث ما حدث؟. أحاول أن أنسى فلا أستطيع، إما أن أعرف من “أنا” ومن “هو”؟. وإما أن أبحث عن ورشة تحكم ربط أجزائى بعضها إلى بعض. أخبرت زوجتى أنى سأدخل لأرتاح قليلا.
دخلت حجرتى. طالعتنى المرآة بالرغم منى. شىء أصفر صفرة الموت، يقبع بين كتفى اسمه رأسى، ليس رأسى أنا. ازددت هلعا، أخذت أزدرد ريقى وأحاول أن أبتعد عن المرآة تماما، كدت أتناول أقرب شيء صلب أحطمها به. تمالكت نفسى فى آخر لحظة. مازال بى شىء عاقل يحسب العواقب. كلما ظهر هذا الشئ العاقل زاد الصداع فى رأسى. أكاد أتمزق.. لم يهدئنى فنجان القهوة السادة، والأسبرين لم يعفنى من الصداع.
حاولت أن أنام. أن أذهب إلى الأستاذ غريب. أن أصحو، أن أقرأ صحيفة اليوم، لم أستطع أيا من ذلك.
دخلت تحت الغطاء وإذا بجسمى ينتفض وكأن به حمى، لم أسمع فى حياتى أن كلمة عابرة من موظفة أمام شباك إيصالات النور تقلب إنسانا عاليه سافله مثلما فعلت فى تلك الكلمة، هل أصبت بالحمى؟. ترى هل كانت الحمى بأحشائى منذ زمن ولم أتبينها إلا هذا الصباح أمام هذه المرأة؟. وما علاقة الحمى بالفلسفة؟. هل هذا هو التخريف الذى يصحب الحرارة أم أن هناك فلسفة باردة وفلسفة ساخنة تماما مثلما هناك المسقعة والبليلة الساخنة؟. هل هذا مجال السخرية والقفشات؟. الرعشة تزداد وزوجتى تدخل على لترانى فى هذه الحال؟. أخاف من شىء مجهول. تضع يدها على جبهتى ورائحة المطبخ مازالت تفوح منها، شوحت بيدها فى طمأنينة أو فى استخفاف، قائلة إننى بارد كالثلج، وبرغم نظرات الرفض المصاحبة فقد كان فى عينيها خوف ما، ولما أكدت لها أنى أرتجف بالرغم منى بدت وكأنها على وشك أن يداعبها اهتمام نسبى.
لو أن الأمر انتهى بعد كل هذه المغامرة إلى مشكلة طبية لأصبحت أسعد الناس، عرضت عليها الفكرة، اتجهت نحو الصيوان تستشيره فى إمكان استشارة الطبيب، فتحت درجا يتوقف محتواه على السماح بمثل هذه الرفاهية من عدمه (الذهاب إلى الطبيب عندنا لا يعتمد فقط على درجة المرض المتقلبة). انفرجت أسارير زوجتى إذ يبدو أن الدرج كان يحوى بقايا “جمعية” قبضتها منذ أيام مما يسمح بأن أذهب للطبيب لمعرفة طبيعة هذه الحمى الخبيثة التى أصابتنى إثر “كلمة عابرة” ذات صباح.
الفصل الثانى
إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ
-1-
فى قرارة نفسى، شعرت بشئ من الراحة حين تصورت أن ما بى يمكن أن يكون حمى أو حتى مجرد مرض يمكن أن يعالجه طبيب، ولكن جزءا منى كان يعرف أنى مسهم فيما حدث بشكل ما. هو لم يأت هكذا مثل القضاء والقدر. أعلم الآن أنى كنت أسعى إليه، أنتظره، أو أتمناه، ربما. برغم أنى كنت أخاف منه، أتحاشاه، أهرب من مجرد احتماله – غيظى من الأستاذ غريب، ضجرى مما كنت فيه، تساؤلاتى حول عم محفوظ، لو قالوا لى ألف مرة ومرة، قبل أن يحدث ما حدث، إن الإنسان يمكن أن يسهم فى اختلال توازنه لهزأت بهم واعتبرتهم قساة القلوب جهلة، أما بعد تلك الكلمة ذلك الصباح، وبعد أن دار رأسى، وأفرغ، وامتلأ، وانقلب عاليه سافله، عرفت أن وراء الأمور أمورا، وحمدت الله أن أحدا لا يعلم هذه الهواجس وإلا اتهمونى بالتمارض والادعاء. لو كنت أعلم أنها كانت ستكون بمثل هذا العنف والرعب والسخرية والغرابة لما سعيت إليها أبدا، ولكنى لم أسع إليها.. بل هى التى سعت إلى.. ولكن يبدو أن “هي”.. ليست إلا “أنا”.
هلمن سبيل إلى التراجع؟.
لعلى أجده عند طبيب الحى حين يكتشف المرض بإذن الله، ولكن ماذا سأقول له؟.
شئ عجيب هذا الذى فى – كيف يأتى وكيف يذهب؟. لست أدرى. أحيانا أشعر بانقلاب السماء على الارض، تتملكنى الرعشة من رأسى إلى قدمى وأحس كأن رأسى كتلة من السحاب أو من القطن المندوف، أو من الدخان القاتم المتكاثف، ويقوم بينى وبين الناس ساتر كثيف وكأنهم يتحركون على بعد لا أعرف مداه. وأحيانا أحس بصفاء كامل مع تغيير شامل فى نظرتى للحياة وكأنى كنت مسافرا لعدة قرون ثم رجعت فجأة، وأحتار بين غربتى ووحدتى وأصاب فى فترة صحوى بميل قاس إلى فكاهة عابر السبيل الذى لا يعنيه إلا أن يربط بين الأشياء ربطا خاصا جديدا وفريدا. تتشابك فى عقلى العلاقات والرموز بشكل أقرب إلى قفشات الحشاشين، أكتم هذه التعليقات فى داخلى خشية أن يضبطونى متلبسا فيصدرون أحكامهم على: إما بالجنون، أو بالتمارض. فى كلتا الحالين لن أسلم من أيديهم.
يا ويلى لو راحت عنى الرعشة قبل ذهابى إلى الطبيب، ولم يبق عندى إلا هذه السخرية الحشاشة، ما الذى سوف يقوله؟. متصنع أنا؟. ربك يستر.
دخلت عيادته وكلى أمل أن أجد حرارتى مرتفعة حتى بدون رعشة، أو أن يكتشف فى عقلى جنينا غير شرعى يمكن أن يخلصنى منه كما سبق أن فعل مع زوجتى حين خلصها من ضيف الصدفة الذى استقر فى أحشائها على غفلة منا بنية إفشال جهود تنظيم الأسرة وتهديد العالم بالمجاعة. مازلت أذكر أن هذا الطبيب الإنسان قام بعمل اللازم فى أمانة وثقة، واعتبرته أيامها بطلا وطنيا إذ أسهم فى تخفيف أعباء الوطن – وخصوصا وزارة التموين – بهذا العمل السياسى السرى: إجهاض زوجتى.
كان طبيب أمراض نساء وأطفال أساسا، وكنا نستشيره فى كل شئ من أول التخلص من ذلك الزائر المشاغب، حتى مشاكل كحك العيد. فجأة ضبطت نفسى متلبسا بهذه السخرية. ارتعشت، وانزعجت، وأخذت أبحث عن ذلك الشخص القديم الذى كان يخاف من زيارة الطبيب ويخرج من قبل السؤال عن الميعاد، ويشغل باله كل الوقت بكل تفاصيل طلبات زوجته غير المفهومة.. فلم أجده، هدأت قليلا وتجسد أمامى عم محفوظ فوجدتنى أنظر إلى اللافتة المعلقة “أخصائى أمراض نساء وولادة وأطفال”. أشعر بسعادة غريبة لأنى متأكد- بشكل ما – أن مابى لا يتعدى هذه التخصصات الثلاثة، إذن: فأنا الشخص المناسب وهذا هو المكان المناسب. هذا الطبيب نفسه سبق أن خلص زوجتى من الجنين الذى كاد يفرض وجوده رغما عنا. هو إن لم يستطع أن يخلصنى من الطفل الغريب الذى دخل عقلى أيضا دون استئذان، والذى أكاد أشعر به أحيانا وهو يخرج لى لسانه بين الحين والحين، فقد يخمدنى حتى أنام بعض الوقت. أكاد أتذكر أنى تخايلت به (الطفل فى عقلي) أثناء ذهابى إلى النوم ليلة أمس وهو يكاد يقفز من مخى بالرغم منى ليجرى فى الحجرة حولى. أكذب نفسى وأحاول أن أتناسى هذا الأمر خشية أن يظن بى الظنون. حاولت أن أتجاهله فى كل مرة يظهر فيها كما حاولت أن أطمسه بالانشغال والتوهان وربما بالرعشة، لكنه كان يتقافز داخلى كلما طارته جادا. ذات مرة أخرى ضبطته ينهنه نهنهة مكتومة فى صدرى بالرغم من أنى ساعتها كنت أكلم زوجتى، وحمدت الله على أنها لم تسمع.
دخلنا جميعا إلى الطبيب (الرجل الحامل، الذى هو أنا، والطفل الشقى، وزوجتي)، أكرمنا الممرض فقدم دورنا لصداقة قديمة، بعد أن تأكد من إشفاق الآخرين على لما يصيبنى من رعشة بين الحين و الحين. ما زالت نظرة الممرض تتابعنى. تلك النظرة التى نظرها إلى بشك بعد أن أخذ حراراتى وهو يعلن نتيجة مقياس الحرارة، قائلا: “ستة وثمانية” (كدت أرد عليه: أربعتاشر). خشيت وأنا داخل إلى الطبيب أن تتكرر تلك النظرة على مستوى أقسى، خاصة وأنى كدت أقفز على كتفه لما نادانى للدخول. تحكمت فى نفسى بسرعة وجهد، ولم أحاول أن “أنهرني” أكثر حتى لا تزداد الرعشة، فأتعثر، وأقع. توكلت على الله. ودخلنا..
ما إن جلست أمامه حتى نسيت كل ما كان، حتى الأفكار الخاصة بالأعراض اختفت. تركت لزوجتى المجال لتحكى له قصة لا تعرف عنها شيئا، وبعد التحيات والسؤال عن بقية الأولاد… اتجه إلى مستفسرا.
- كيف الحال؟.
شتان بين هذه وتلك، فليأت الأستاذ غريب ليتعلم كيف يسأل الناس الطيبون عن الحال. أجبته نفس الإجابة:
- الحمد لله.
يبدو أنه لم يسمعنى، كان مجرد تلطف عابر يسمح له بعد ذلك أن يعرينى ويضع آلاته على جسدى وكأنه يبحث عن شئ يمكن العثور عليه، فى حين أنه مشغول – على أحسن الفروض – بعدد الكشوف الباقية، أو بميعاد زوجته التى تنتظره أمام الكوافير، كنت قبل ذلك أخشى التمادى فى مثل هذا التصور وأتهم نفسى بسوء الظن، أما اليوم فأنا أكاد أقرأ أفكاره، أكاد أقسم أنه أصدر قراره بطردى لتفاهة حالتى بعد أن اطلع على الورقة المكتوب عليها نتيجة قياس الحرارة. على الرغم من أننى كنت على يقين من كل ذلك إلا أنه كان عندى أمل فى حدوث شئ آخر يفسر الأمور، شئ أقرب إلى السحر.
- مم تشكو؟.
- لا شئ.
”زغرت” لى زوجتى “زغـرة” المذعور وكأنها تقول”: كسفتنا الله يخيبك”. نظرت إليها بارتباك، وأحسست أنى فى امتحان، وينبغى أن أقوم بتسميع ما حدث، وهى لا تدرى أن ما حدث، هذا مازال حادثا فعلا، ولكنه يأتى بمزاجه الخاص، يفعل بى الأفاعيل، وينتهى فجأة دون تدخل منى.
أنهـى الطبيب الموقف بأن قال:
- على كل حال، دعنى أطمئن عليك، هيا إلى الكشف.
حمدت الله على أنه أنقذنى من تحقيق طويل لم أكن واثقا من نهايته السلمية. خلعت ملابسى من على نصفى الأعلى وفرحت حتى كدت أضحك لأنى تصورت أنى فى الحمام مثل زمان حين كانت خالتى أم صبحى تدخل معى ليلة العيد الصغير، تليـفنى. كنت أسعد سعادة غامرة حين أتخلص أمامها من كل ملابسى وصوت وابور الغاز يتماوج تحت الطشت النحاس ذى الوسط المخنصر القائم فوق الوابور فى شموخ وأنفة، وبخار الماء والدخان ورائحة الغاز تختلط بغناء أم صبحى فى كتلة واحدة تملأ جو الحمام، وأنا سعيد بهذا العرى، وسعيد أكثر بأنى عريان أمامها بالذات. كنت ألمح أحيانا نظراتها تقول: “والله كبرت ومابقى إلا أن تتزوج” فأحس بفخر الرجال، حتى أكاد أقفز إلى رقبتها وأقبلها، وأنتظر حتى ينتهى الحمام فتلفنى فى “البشكير”، وتحملنى فوق ظهرها الطرى فألتصق بها فى فرحة التصاقا لا يبرره خوفى من الوقوع، ويدى تحيط بعنقها من خلف حتى أكاد أضمها حتى تضعنى بجوار أمى مازحة “اسم الله عليه، بسلامته عايز يتجوز”. يشرق وجه أمى بالفرحة النسائية الخاصة التى ترى على وجوه نسوة ذلك الزمان حين تصل قفشاتهم إلى تلك المنطقة الخاصة التى “تدغدغ” وجدانهم وتهيئهم لأعمال الليل الممتعه فى تسليم وانتصار معا.
انتهيت على صوت الطبيب وهو يحدث زوجتى عن اختفاء الصابون، وكأنهم قد ضبطونى متلبسا بخيالات الحمام ودفء ظهر أم صبحى، والإشراقة الجنسية على وجه أمى. تقدم الطبيب ووضع السماعة على أجزاء مختلفة من صدرى، تلك الآلة السحرية التى ينحنى أمامها وتحتها أعظم عظيم فى تسليم واحترام. لم أكن مهتما إلا بقراءة أفكار الطبيب وهو يضع السماعة على صدرى، رأيته فى خيالى مشغولا بحساب الميكانيكى، وهو يشك فى أنه قد غير قطعة الغيار كما وعده، ويتساءل: هل ستسير العربة بعد هذه السرقة دون عطل، أو أنه موال لا ينتهى؟.
- خـذ نفسا.
ترى: هل يقولها لى أم للميكانيكى؟. كدت أضحك بالرغم منى وأنا أكاد أمد يدى إلى مطاط السماعة كأنها نرجيلة فى قهوة الفيشاوى آخذ منها نفسا، نظرت إلى وجهه لاتأكد أنه لا يقرأ أفكارى كما أقرأ أنا أفكاره. اطمأننت إلى أنه لا تصل إليه إلا طاعتى العمياء. أفكارى وذكرياتى ونزعاتى هذه تتم فى أقل من ثانية. أحاول أن أقارن بين هذا الطبيب، وبين الميكانيكى الذى تصورت فى خيالى أنه يتهمه بالسرقة. الميكانيكى يتعامل مع مئات الماركات دون أن يسمع شكواها، أما الطبيب فهو لا يتعامل إلا مع الآلة البشرية، وهى ذات تركيب واحد. أعظم ما فى حالتى أنها حالة سرية، فعلى الرغم من اعتقادى بأننى أقرأ أفكار الناس، أصبحت متأكدامن أن أحدا لا يستطيع اختراق أفكارى، إذ من ذا الذى يستطيع أن يتابع هذا السيل من الشطحات والهرج العظيم. خطر ببالى أن أذهب إلى ذلك الميكانيكى أستشيره فى حالتى إذا ما فشل هذا الطبيب فى إجهاضى، أو علاج طفلى، أو اكتشاف حمى الفلسفة التى أصابتنى.
أخذت نفسا، ونفسا، وسعلت، وتقلبت على الجنبين، وحين انتهى دور السماعة وبدأ ينقر على ظهرى كدت أسمع ذلك الطفل بين ضلوعى يقول:
- مين؟.
ولم يرد عليه أحد.
- “مين اللى بيخبط”.
ولم يرد عليه أحد.
انتبهت إلى ما يدور حولى بوعى عادى، وبسرعة اختفى كل شئ فى الداخل، عاد الغمام يظلل فكرى وانتبهت إلى موقعى من الحجرة، وإلى وجود الطبيب بجوارى، وأحسست أننى لا أذكر متى جئت وكيف، وكدت أعتذر له عن بعض أفكارى، نظرت إلى وجهه أستفسر إن كان قد وصل إليه أى شئ، لم أجد إلا هذا الجمود الطبى الباسم فى حرفية حتى يحمى نفسه من شطحات أمثالى.
الصداع يكاد يقتلنى. اختفت كل أعماقى ولم تبق إلا قشرة جافة داخلها خواء يتردد فيه الصدى، بدأت أرتجف بعنف وبدت على زوجتى مسحة من فرح حتى يرى الطبيب الحالة بنفسه ولا تضيع أجرة الكشف هباء. لاحظت بدورى بعض الاهتمام على وجه الطبيب، ولكنه اهتمام العارف ببواطن الأمور مسبقا.
قال فى هدوء:
– إنك ترتجف من البرد، لست متعودا على التخلى عن ملابسك فى حجرة واسعة مثل هذه.
لم أرد، ولكن زوجتى اعترضت قائلة.
- هذه هى الحالة يا دكتور، وهى تأتيه بنفس الشدة وهو متدثر بكل ملابسه، حتى وهو تحت اللحاف.
- لا تخافى، فهى نوع من الحساسية للجو.
كنت أتابع الحديث عنى فى استسلام وتحد معا. استسلام من لا يملك من أمره شيئا، وتحد لثقتى فى أن أيا منهم لن يصل إلى داخلى ولو بأشعة الليزر. لكن الرعشة اشتدت بى، وملأ الغيام عقلى حتى أخذت أصر على أسنانى بعنف لأوقف هذه الدوامة من الفراغ التى تلف فى رأسى، ولم يلاحظ الطبيب شيئا.
فى الوقت الذى كنت مطمئنا إلى أن أحدا لا يرانى، كان جزء منى يتمنى أن يرونى بأية درجة فيها ظل مما يجرى. تمنيت أن يسألنى أكثر، وألا يدعنى أزوغ منه، أن يتبين كيف أن نارا تغلى فى داخلى حتى لو كانت حرارتى صفرا، كنت أعرف أنه رجل طيب وماهر فى صنعته، وكم انبهرت بذكائه قبل ذلك، ولكنه فى هذه المرة لم يكد يلـمحنى أصلا.
تناول قلمه وأخذ يكتب بعض الأشياء التى لابد أن أتناولها قبل الأكل أو بعده، كما أخذت زوجتى تستفسر منه عن بعض التفاصيل، ورد عليها بأن كل شئ مبيــن بالتذكرة.
سألته سؤالا أخيرا:
- والنوم؟.
قال:
- كل شئ سيعود كما كان بعد استعمال هذه المقويات، ضعف عام وإرهاق، ليس إلا.
* * *
خرجنا من العيادة وأنا أكاد أحس بنظرات زوجتى تلكزنى فى جنبى، وكأنها تلومنى على هذه المصاريف الضائعة، وعلى ضعف احتمالى، وربما ضعف شخصيتى بالمرة.
كدت أنكمش خجلا من نفسى، وحاولت أن أصور الأمر على أنه كابوس وسينقضى إن عاجلا أو آجلا. بدأ الصداع الحاد يحل محله ثقل غريب يكاد يقفل عينى، وسرت بجوارها وكأنى منوم أحاول أن أختبئ فى ملابسى عن أعين الناس حتى لا يعرفوا أنى متمارض، أو بى مس من تحت الأرض.
* * *
أمضى الليل مع الوحوش والثعابين والصقور والحيتان، أصارع الفهد على حافة البحيرة، والزواحف تلتف حولى من كل ناحية، والصقور تأكل جثتى فى منظر آخر. أقوم من النوم فزعا ولكن فى صمت، أنظر إلى وجه زوجتى وأحمد الله أنها نائمة، وأنها لم تكن معى فى تلك الغابة التى زرعت فى رأسى فجأة، وامتلأت بكل أنواع الحيوانات والهوام والطيور الجارحة، أحاول أن أنام فلا أستطيع، أذهب إلى زجاجة الدواء وأشرب من فوهتها مباشرة، بلا فائدة، أشعل سيجارة وأحاول أن ألتهم دخانها بتلاحق حتى أصاب بذلك الخدر الذى قد يساعدنى على النوم. أنجح أخيرا فى أن أغفو بعض الوقت. أصوات القطارات تتلاحق فى غير انتظام، تخرج عن قضبانها، تطير فى السماء، تصطدم بطائرة جانبو خطفها أحد الفلسطينيين، يتساقط الأطفال بالأجنحة من نوافذ القطار والطائرة إلى أرض الجنة، الموسيقى الخاصة تملؤ أرجاءها حتى تكاد الأشجار تتمايل معها، الأنهار تجرى من تحتها، ينزع الأطفال أجنحتهم ويسبحون فى أنهار الجنة، آخذ جناحين وأحاول تركيبهما فى ظهرى، أحس أن هذا ممكن، أصفق بهما من خلف مثل الإوز حين يجرى فجأة صائحا فى جماعات دون هدف، يتناثر رذاذ الماء حول جسدى، أزيد من حركة الجناحين، أطير، يملؤنى الخوف، أتحسس جناحى فلا أجدهما، أبدأ فى السقوط، الرعب من التهشيم يملؤنى، تبتعد الأرض عنى، أتمنى السقوط حتى الموت بدلا من هذا الرعب بلا نهاية، أصرخ أصرخ أصرخ، تهزنى زوجتى، أصحو، أنظر فى عينيها.
- مالـك؟.
أخاف منها بقدر خوفى من السقوط إلى الأرض، أخجل أن أحكى لها الحلم، تقول:
- اخز الشيطان وقل بسم الله الرحمن الرحيم.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم.
تضع يدها فى رقة على جبهتى، أحس بالراحة لها لأول مرة منذ فترة الخطوبة، أتمنى أن تفهمنى أكثر، ولو قليلا، أرعب من هذه الفكرة. لا.. لا.. ينبغى أن تفهمنى أو أن ترانى من داخل، أنظر فى الساعة، السادسة والربع: الحمد لله جاء النهار وسأذهب إلى عملى. كيف سأعمل؟. رأسى يصبح فارغا حين أفكر فى أشيائى اليومية، ويمتلئ حين أسبح فى دنياى الجديدة المليئة بكل ما لا أعرف. كيف سأذهب إلى عملى اليوم؟. كيف سأراجع الملفات وأرص الفواتير؟. كيف سأقابلهم هذا الصباح وهو ليس مثل كل صباح؟. فيما مضى كان الذى يخفف من هول الصباح أنه مثل كل صباح، أما أن يكون جديدا مختلفا فهذا أمر آخر. هذا صباح يلوح بالموت مثلما يلوح بالحياة. من الذى سيرجح الكفة؟. هذه حالة لا تطاق، ماذا جرى لى يارب؟. ما هذا الذى حدث؟. لماذا يتضخم هذا الشئ كلما حاولت أن أستهين به؟. شئ ما قد حدث يا ناس، شئ خطير يهز الدنيا ويفجر البراكين: – القارعة – الزلزال – الحاقة – الواقعة، أى شئ له هذا الوقع الضخم المرعب. بدا بسيطا لا معنى له، ثم ها هو يتضخم كل يوم. انقلبت الأمور أو انعدلت. لست أدرى. زادت تعقيدا أم أصبحت أبسط من أن تعقد. أتذكر الأستاذ غريب وعم محفوظ السباك فأهدأ قليلا. الشئ !! هذا الشئ !!!! الذى حدث!!!!! الذى أنا فيه: هو أضخم من كل شئ، دون معالم. ماذ يفيدنى هذا الهدوء الظاهرى؟. ماذا أقول لهم فى العمل؟. أقول لهم إن حرارتى ستة وثمانية؟. أقول لهم إنى ذهبت إلى طبيب أمراض نساء لأنى حامل فى طفل لا يريد أن يتركنى فى حالى؟. أقول لهم إنى نسيت اسمى وإنى أتعرف على الألوان لأول مرة فى حياتى.
ليس لى خيار. عملى هو مصدر رزقى الوحيد. هو فى نفس الوقت المهرب الشرعى من البيت. أذهب إليه حتى لايموت أطفالى جوعا أو أموت أنا اختناقا، “كل شئ تغير، كل شئ تغير”. حقيقة لم يعد فيها جدال حتى لم تعد ترعبنى. لم أعد حريصا على مقاومتها أو رفضها، وعجبت أنى استسلمت هكذا فى خلال هذه المدة القصيرة. ينبغى على أن أبدأ من جديد، أن أتعرف على الأشياء والناس من الأول، ولكن هناك مشاكل عاجلة لا تنتظر. كيف سأقوم بعملى وأنا لا أكاد أتذكر جدول الضرب؟. كيف أكتب المذكرات وأنا أجاهد لأجمع حروف الهجاء لأكون كلمة؟. ومع ذلك فأنا لا أملك إلا المحاولة والمواجهة والاستمرار.. ياعبء كل شئ عادى، يا عبء كل شئ غير عادى. الهواء له قوام ملموس باليد !! كيف سيدخل إلى صدرى..يا ناس!!؟.
فى نفس الركن من الحجرة جلست أمام مكتبى أحاول أن أختبئ منهم حتى لا يظهر على ما بى، أخرجت الملفات ووضعتها بجوارى وأعدت رصها. كنت قد حاولت أن أقرأ تعابير وجوههم وأنا ألقى عليهم تحية الصباح لأختبر فيها أى انطباع غير عادى، حمدت الله أنى لم ألاحظ شيئا. الغريب أنى تعرفت عليهم هذا الصباح”ككتلة من البشر” مجتمعين بلا تمييز. أنا أعرف اسم كل واحد منهم على حدة، لكننى لا أستطيع أن أذكره وحده، كلما ذكرت اسما لاحقه أو صحبه اسمان، ثلاثة، عشرة، الجميع، وكأن عقلى قد أصبح جهازا من نوع آخر، جهازا يرفض أن يميز بين الناس وبعضهم البعض، يحقق بطريقته الخاصة – وفى وقت واحد – جوهر الدين وهدف الشيوعية، أما عواطفى فإنى أحس أن شيئا ما قد استيقظ منها حتى اختلت كل القيم التى ارتبطت بها، ثم امتد الخلل إلى تضارب أو تناقض ليس له تفسير. فى الوقت الذى تيقنت فيه أنى لم أعد أحب أو أكره أو أحزن أو أفرح مثل زمان، أدركت أنى لم أحب أو أكره أو أفرح زمان أبدا. ماذا حدث؟. ربما اختلف نوع الحب والكره أو هدفهما أو معناهما. أنا الآن أستطيع أن أحب مثلا ولكنى لا أجد من أحبه، وفى أحوال أخرى أخاف أن أحب بهذه الدوافع الجديدة لأنى أحس أنها من نوع آخر، ربما أكثر صراحة وربما أكثر وقاحة، أما كيف ولماذا؟. فهذا ما يكاد يطرحنى أرضا بعد أن يـنهكنى التفكير فى مالا علم لى به.
أستسلم فى النهاية إلى الفراغ بلا قاع.
أحاول ثانية: فأتذكر مشاعرى نحو زميلى أسعد. أو سيادة المدير أو الأستاذ نصحى، فأجدنى متبلدا لا تهز أسماؤهم شعرة فى داخلى.
حين أنظر إلى آمال بجوارى، أجدنى أستطيع أن أعترف بحبها. أعترف لمن؟. هو حب من نوع آخر، كأنى كنت أحبها منذ بدء الخليقة، أو كأنى أحبها هى الآن ولا أحب ما كنت أعرفه عنها. شئ ما تفجر فى داخلى فى هذا الاتجاه أيضا يدفعنى إلى الاقتراب منها دون حساب ولا استئذان، ولا يمنعنى من الاعتراف بحقى فى الرغبة من الاقتراب منها حتى الالتصاق، ليس جنسا على وجه التحديد. لكن له طعم الجنس.
لا أكاد أصدق أن أحدا يمكن أن يتصور هذا التناقض. إما أننى أعيش اللامبالاة بكل برودها وجمودها، وإما أننى أتفجر بالحب والصدق الوقح الذى لا يستبعد الجنس مع امرأة فاضلة ومتزوجة وحامل وفى شهورها الأخيرة. فهمت الآن معنى تعبير “العجب العجاب” !!!!.
كل الناس تعرف أشياء أخرى غير الحقيقة التى أعيشها هذه الأيام، كنت مثلهم، وكنت أحس أن حبهم هوالحب، وأن أدبهم هو الأدب. الآن أعيد النظر وأنا فى رعب الوحدة ودهشة الغريب. تأكدت أن شعورى نحو آمال ليس شاذا ولا بشعا. إنه مجرد تفجير شئ موجود منذ عهد سحيق، قبل ذلك كنت أتجنبها وأعاملها بشئ من الجفاء. لم أكن أميز ذلك الشئ المختبئ بين أحشائى نحوها، وإن كنت دائما أخشى نظراتها الثاقبة التى تتخطى حدودك الظاهرة لتستقر بين ضلوعك مباشرة. قبل ذلك كنت أحتمى من هذا الفيض المقتحم بمزيج من الحياء والتبلد والجفاء. يبدو أن هذه النظرات والذبذبات تتراكم على مر السنين، فإذا اختفت المشاعر القديمة انطلقت من عقالها بلا توجيه.
نظرت إليها من وراء الصحيفة، فوجدتنى مثلما كنت زمان. زمان قبل هذا الزمان، كنت قد أيقنت أنى نسيت هذه المشاعر تماما، أو أنها كانت من خداع الطفولة والمراهقة، مشاعر تغمر خلايا جسمى قبل قلبى و عقلى وتدغدغ أعمق أحاسيسى. قد تظهر على سطحها شهوة ما، ولكنها ليست بالضرورة شهوة.
حين فتح الباب المجاور فجأة اختفت كل هذه المشاعر فى جوفى مثلما يغلق التلميذ الصغير درجه فجأة على قصة غرامية أثناء دخول والده عليه، لم يبق على وجهى إلا بقايا تقلصات جمدت مكانها من سنين، وإن كانت الآن قد أصبحت عبئا لا أحتمله. ما أسخف أن تشعر بعضلات وجهك أو أن ترصد حركاتها وكأنها تتحرك “بالسرعة البطيئة”.
ما هذا كله؟.
أريد أن اختبئ أنا نفسى تحت المكتب. لم يكف أن أخفى مشاعرى فى الدرج مثل القصة الغرامية. أخشى أن يرانى هؤلاء الناس من حيث لا أدرى، أن يروا مالا أراه أنا مثلا. لست واثقا من حدودى ولا من مداخل ذاتى، ملقى صريعا بين الامتلاء الغامر والفراغ الدائر إلى أسفل، وبين ما يدور فى رأسى بسرعة خمسة آلاف كيلوسيكل فى الثانية. هذا الفراغ الهلامى الهائل. لا أتبين خيط وجودى.
هل أنا أحب آمال السيدة الفاضلة الزميلة الحامل؟. هل هذا هو الحب؟ هل هناك مخلوق يعرف معنى الحب؟. هل يمكن أن أحب وأنا أعرف أن مشاعرى كلها قد اختفت؟. فإذا لم يكن هذا حبا فماذا أسميه؟. هل لابد من لغة جديدة تنجح فى وصف هذه المشاعر الجديدة؟. ثم: هل هذه المشاعر خاصة بآمال فقط؟. هل أنا أشعر بالتعاطف معها لأنى حامل مثلها؟. أنا أشعر بهذا الطفل غير الشرعى يجوس خلال دروب عقلى فى السر، أما طفلها فوجوده معلن مستقر. أحس بمشاعر مشابهة تجاه أخريات لسن حوامل، وتجاه آخرين أيضا. “أماني” مثلا، ابنة جارتنا، لمحتها هذا الصباح فى الشرفة فكدت أقفز إليها، ألقى لها بتحية الصباح بشعور مغاير لشعور الأبوة والجيرة، قبل ذلك كنت لا أعير وجودها فى الشرفة اهتماما إلا بقدر اهتمامى ببائع الصحف يجرى فى الشارع، أو قدر الفول على الناصية، حتى مشاعرى تجاه الممثلات تغيرت. سعاد حسنى التى كنت أستثقل دمها حين أراها وكأنها تتحدانى بحيويتها بدأت التعرف عليها من جديد. بدأت أحس نحوها بهذه المشاعر الحية المقتحمة. فى الأتوبيس غمرتنى نفس المشاعر نحو تلك التى كانت تجلس بجوارى ونحو العجوز التى كانت تمسك بحفيدتها، ونحو حفيدتها، ونحو سائق الأتوبيس. مع كل هذا الفيض الذى لا أعرف اسمه فأنا فى قمة اللامبالاة إذ أننى على يقين من أنى لا أحب ولا أكره مثل زمان.
أنتزع نفسى من بين سطور الصحيفة التى كنت أختبئ وراءها لأفكر فى حرية، أحاول أن أنظر فى وجوه زملائى فلا أجد عليها إلا آثار فول الصباح، أعظم مضاد للتفكير الخلاق. مالى أنا وما “للتفكير الخلاق”؟. لا أتذكر متى سمعت هذه الكلمة من قبل ولكنى ألاحظ هذه الأيام أن كلمات تقفز إلى ذهنى لم أكن أتصور أنها مرت على فى يوم من الأيام، ربما دخلت إلى عقلى من وراء ظهرى، ثم ها هى ذى تقفز إلى سطحه وكأنها تتحدانى، بل إنى ألاحظ هذا الصباح أن قراءتى للصحيفة اليومية قد اختلفت. فى اللحظات التى استطعت أن أتعرف فيها على الحروف مرة ثانية وأنجح فى تكوين الألفاظ، لم أتمكن من قراءة الأخبار العادية التى كانت تجذبنى قبلا (البخت والإعلانات والوفيات وأخبار الإصلاح الوظيفي) ينجذب نظرى إلى المواضيع التى كنت أضعها تحت بند الكلام الفارغ والضحك على الدقون: “انتحار الفكر الجديد”، “المد الثورى فى العالم الثالث”، “مخاطر المجاعة وانقراض الإنسان”، كانت هذه العناوين تصيبنى بالإعياء، أما الآن…؟.
ماذا حدث لى دون إذن منى؟.
هل أنا أخدع نفسى بالترقى مباشرة إلى “كادر المثقفين” بعد أن تخطانى الإصلاح الوظيفى؟. ما سر صداقتى السرية مع الأستاذ غريب، وفى نفس الوقت مع عم محفوظ السباك؟. ما وجه الشبه بينهما؟. الأستاذ غريب بكل علمه، وفكره، وصمته، وكتبه، وغموضه، وعم محفوظ بكل أمانته، وأمنه، وبساطته، وزهده، وخجله، وأسراره. ثم أنا: عبد السلام المشد… حتى اسمى له وقع غريب على. عندما أنجح فى استرجاعه أسارع فأقسمه إلى أجزاء. عقلى هذه الأيام متناه فى صفاته: إما أن يستقبل كل شئ مع كل شئ، وإما أن يفصل أى شئ عن أى شئ، حتى يكاد يقسم الحرف الواحد إلى قسمين، اسمى يرعبنى حين ينفصل إلى أجزاء عبد..السـ…لام..,المشـ.. ـد: “أنا”، ربما كان هذا هو السبب الذى حال دون تذكرى اسمى أمام تلك المرأة الكالحة ذلك الصباح.
من هو هذا الذى هو “أنا” تحديدا؟.
أكاد أقوم من على مكتبى أسألهم من أنا، حتى أتأكد أنى إن لم أكن عبد السلام المشد، فلابد أن أبحث عمن أستطيع أن أقضى به أبسط حاجاتى وألزمها من أول صرف شيك البنك بالمتأخرات حتى شراء تموين السكر والزيت قبل نهاية الشهر.
- الملفات يا أستاذ… صباح الخير.
أصاب بالفزع. دخل صوت عم جمعه البسيونى إلى جسمى مباشرة غير مار بأذنى كأنه ناقوس يأتى من عالم آخر يعرض على اختيارا فرعيا “إما أن تعود أو نقتلك”. نظرت إلى بسمته الآمرة وعينيه الواثقتين، وفهمت لماذا يصورون الجلاد معصوب العينين. قلت له على الفور.
- حاضر عينى الاثنين، صباح النور.
مازلت قادرا على العودة بسرعة لا يلحظها أحد، وبرغم الصداع والتوهان والانفجارات المتلاحقة، يعقبها الصمت الميت، فإننى مازلت قادرا على الاختباء وراء المدعو ” عبد السلام المشد”…
* * *
لبست قناع اللامبالاة وأخليت رأسى وصدرى وخلاياى من أى إحساس معوق وحاولت الاختباء. بدأت أقلب فى الملفات، واكتشفت أنى أستطيع. لبست نفسى وتركت القلم يتحرك على الأوراق، يجمع هنا ويطرح هناك. ويؤشر على هذه الصفحة ويشطب تلك، وبعد فترة وجدتنى قد انتهيت من هذه الأوراق، وأخذت أقلب فيها وأتعجب كيف قمت بهذا العمل دون أن أعرف حرفا أو رقما. أحسست أن مخى مازال قادرا كما كان، على شرط ألا أضبطه متلبسا بالعمل، إذ ينبغى أن أظل بعيدا عنه ولا أحاول التعرف عليه، ولا إدراك قدراته. حمدت الله أنى أستطيع أن أنسحب بين الحين والحين تاركا ورائى ذلك الجزء الفعال يهيئ فرص كسب العيش، والرد على التحيات الصباحية، وارتداء الملابس وخلعها، وعمل “زى الناس” من أكل وشرب وخلافه….
إلى متى يدوم هذا الحل,….؟. وماذا لو فشل؟.
* * *
اختفت الرعشة بعد بضعة أيام، وكدت أنظم عملية فض الاشتباك بين أجزائى حتى صرت قادرا على أن أواصل سعيى فى الحياة دون أن يلحظنى أحد، وفيما عدا تلك الأوقات التى تضبطنى فيها زوجتى متلبسا بالتفكير، وفيما عدا الصداع الذى ينتابنى عندما أقابل الأستاذ غريب على السلم، وفيما عدا صعوبة ما قبل النوم مع زوجتى، فيما عدا هذه المشاكل الداخلية !!! كنت أتحايل حتى لا يبدو على شئ ظاهر، وحتى أنجح فى الاستمرار فى الحياة العادية، وكأنى أسرق الأيام والساعات من أصحابها، أو كأن كائنا من كوكب آخر نزل يتخفى فى ثوب إنسان ليجمع المعلومات عن هذه المخلوقات العجيبة التى تسعى فى غرور متناه لإثبات أن هذا العالم البشرى كيان حى له هدف ما.
أصابنى شئ من “الفلسفة التلقائية” التى أضفت على تفكيرى نوعا من الحكمة دون أسباب، ودون جهد، حتى أصبحت أشاهد الناس فى الأتوبيس والشارع والمكتب والبيت يؤدون أدوارهم بإتقان سطحى، وتكرار ضرورى، لزوم غياب المخرج الذى ذهب يبحث عن المؤلف الذى مات فجأة قبل أن يضع نهاية للمسرحية الكبرى، فترك المخرج فى هذا الحرج العظيم، وبدلا من أن يسدل المخرج الستار فى استسلام العاجز الذكى، ركبه العناد وأمر كل واحد أن يستمر فى دوره كما هو حتى يعود المؤلف، وهولم يعد بعد ذلك، ويبدو أنه لن يعود أبدا. الممثلون كل منهم يؤدى دوره، أو يأتى بشبيهه الذى أعده فى ليالى الشتاء أو نشوة إجازة صيف، وقام بتمرينه خلف الكواليس ليكمل نفس الدور بنفس الحركات. الضجة فى الكواليس تعلن مدى الازدحام: فالاطفال الزينة، والطلبة، وصبية الورش، وعيال الفلاحين، يتدربون على الأدوار البديلة ويستعدون للظهور على المسرح فى الوقت المناسب. كل ذلك فى انتظار المخرج الذى ذهب يبحث عن مؤلف مات فى السر قبل أن يتم الرواية.
ما هذه الحكمة التى حطت على دماغ أهلك بدون مناسبة… ياسى عبد السلام يا سبع الليل؟. ما أروع اللعبة الجديدة! هى مشاعرى الخاصة والله العظيم دون تأليف ولا خيال. أنا جدع.. فهيم (هل فهيم كلمة عربية؟.).
كنت أتعجب وأنا القادم من الكوكب الآخر من هذا الإخلاص الغريب والوفاء الذى يتصف به هذا الكائن البشرى، ولكن بعد أن طالت فرجتى بضعة أسابيع علمت أن المسألة ليست مجرد إخلاص، بل إن أى واحد يتوقف عن أداء دوره أو يحاول أن يسأل المخرج أو ينقد المؤلف لابد أن يرسل فورا بأمر شيخ الممثلين ليبحث بنفسه عنه، ولا أحد يعرف مصيره لأنه لا يعود أبدا كما كان، حتى لو تاب واستغفر فإنه يعود بشكل آخر يؤدى دورا آخر، دورا ثانويا بمهارة ميتة، وحماسة فاترة، وخوف أكبر، ونظام أدق، وكل همه ألا يرسلوه ثانية إلى الخارج… ليبحث عن شئ لا يعرفه.
خطر ببالى بلا مناسبة أن المخرج اسمه: “حسن”، “أين حسن”؟. سخيفة.
أما أنا، فقد تعلمت بعدما جرى الذى جرى أن أرسل شبيهى الانسان يؤدى دورى على المسرح بعض الوقت مما أتاح لى أن أجلس أغلب الوقت فى مقاعد المتفرجين لابسا طاقية الإخفاء. كم كنت أتعجب منه وأعجب به وأنا أتساءل: لماذا لا أصبح إنسانا مثلهم ما دام شبيهى الانسان شاطرا هذه الشطارة؟..
ماذا لو اكتشفونى؟. لا بد أن يظنوا أنى أتيت للتجسس عليهم لصالح مواطنى من الكواكب الأخرى. أتذكر نظرات عم جمعه البسيونى وهى تهددنى: “إما أن تعود أو نقتلك، إما أن تعود أو نقتلك”. أخاف. أتبين أنه لا يستطيع أن يميز بينى وبينه. أحسن. هكذا سمحت لى أن أتظاهر بالعودة حين اهتديت إلى هذا الحل السرى المتجسـس.
أنجح فى معظم الأوقات أن أستمر راسما على وجهى الآخر بسمة الناقد الذى يتظاهر بالفهم، وأفشل أحيانا فى خداع نفسى حتى تساورنى رغبة غبية فى الذهاب للبحث عن المخرج، ورغبة أغبى فى البحث عن المؤلف. ربما تكون إشاعة موته خدعة ليس إلا، وأحيانا أخرى يبلغ غبائى أن أحاول أن أضع نهاية لهذه المسرحية، أو أن أقوم أنا شخصيا بدور المخرج الهارب الجبان الذى تركنا دون ضابط ولا نص، أو أن أكمل المسرحية وأضع النهاية بنفسى.
* * *
طرقت باب الأستاذ غريب دون سابق موعد، كنت قد تأخرت بعض الوقت عن ميعاد عودتى إلى البيت دون سبب، فقد تعودت فى الأيام الأخيرة أن أترك قدمى تنفصلان عن جسمى وتتصرفان بوعى خاص، أما أنا فقد كنت أنتهز الفرصة وأواصل الفرجة على هذا العرض المستمر بلا ملل. أتذكر أيام الطفولة حين كنا نختبئ، فى دورة مياه دار السينما بعد انتهاء حفلة الماتينيه، وذلك حتى نحضر حفل السواريه بدون مقابل: نفس الفيلم، نفس الأحداث، لا مفاجأة ولكن مجرد الفرجه مرتين أو ثلاثا كانت ضربا من شطارة الفلاحين التى اصطحبتها معى من القرية إلى المدينة. فى بعض دور العرض الأخرى كان مسموحا “بالعرض المستمر” دون حاجة إلى الاختباء فى دورات المياه.
حين كانت قدماى تسوقانى إلى حوارى سوق السلاح، والسيدة زينب، والمغربلين كنت ألاحظ أن التمثيل هناك من النوع “الواقعي” جدا: الأدوار مسبوكة والحركة طبيعية حتى تكاد تظن أنها ليست تمثيلا أصلا بالمقارنة بما يجرى داخل الشقق ووراء المكاتب التى تتطلب بعض الفكاهات البذيئة، وأحاديث السياسة الدائرية حتى تكسر الملل من المسرحية المعادة بلا نهاية.
فى تلك الساعة المتأخرة من النهار طرقت باب الأستاذ غريب بدلا من بابنا، وأحسست بقرون استشعارى تسعى إليه تحاول البحث فى موقفه: تـرى هل هو ممثل فى مسرحية لا أعرفها أو أنه متفرج مثلى؟. أشعر أنى بإقدامى على هذه الخطوة أدخل دنيا جديدة على تماما، دنيا تختلف عن تلك التى كنت أعيشها فى حالة التنويم السابقة وعن تلك التى أحاول أن أعيشها هذه الأيام، ولو أنى أدركت أنى لا أعيش هذه الأيام ولكنى فقط، أحاول تأجيل مصيرى الذى لا أعرفه بالفرجة، والمكر، وادعاء الحكمة، واختراع نظريات جديدة.
فتح لى الأستاذ غريب الباب بعد فترة. كانت تبدو عليه آثار النعاس، يبدو أنى لم أنظر فى ساعتى لأتبين أننا قرب العصر، وقت القيلولة، نظر إلى فى دهشة برغم أن جزءا منه بدا عليه وكأنه ينتظرنى منذ عهد بعيد. مرت فترة صمت كادت تفسد على توازنى، هذا الرجل لا أستطيع أن أعامله مثل سابق علاقتنا. ما العمل؟. تـرى ما الذى جعله يختلف عنهم إلى هذا الحد؟. هل جاء من كوكب آخر غير كوكبى؟. هل له شبيه إنسانى مثلى؟. هل هو دائم الفرجة من قديم مثلما أصصبحت؟. وهل هو سعيد بذلك أم شقى؟. ولماذا هذا الشحوب الحزين؟. أنا متأكد أنه كان يتفرج على فيما مضى من أيام، فهل يستطيع الآن؟. قطع على تساؤلاتى بقوله:
- خيرا يا عبد السلام أفندى، تفضل.
كدت أدخل إلا أنى سمعت آخرا “فى داخله” يقول من خلال عينيه بشماتة متوسطة (أخيرا جئت!!). رفضت، وملكنى عناد شائك يحفزنى أن أقبل التحدى رافضا بحزم سرى أنه” لا…. لم أحضر”. يا غريب أفندى، أنا أتمتع بالفرجة وحدى ولن أسمح لك بالفرجة على بعد الآن. سوف نلعب مع بعضنا البعض، “كيكا عا العالي” كلما صعدت درجتين لتنظر من فوق، صعدت أنا أعلى درجتين لأنظر لك من فوق الفوق، أنا الآن – مثلا – استطيع أن أعرف أنك وحيد تماما، وأنك خائف مثلى، وأنك تبحث عن شئ لا تعرفه، وأنت بدورك قد تعرف عنى مثل ذلك، ولكن بلا فائدة؟. أنا لم أحضر بعد، كما أنى لن أحضر أبدا”.
لكن الذى صدر منى كان كلاما آخر يقول بأدب ليس لزجا:
- آسف لإزعاجك، ولكن النور انقطع لدينا فأردت أن أعرف هل عندكم نور أم لا، حتى أبلغ المصلحة؟..
- دقيقة واحدة.
ذهب إلى الداخل وكأنه يلتقط أنفاسه لإكمال المبارزة، غير أنه حضر بادى الامتنان وقال:
- نعم… ليس عندنا نور أيضا…شكرا، لقد نبهتـنى قبل دخول الظلام.
- لا شكر على واجب، الناس للناس، عندى التليفون وسوف أقوم باللازم.
* * *
هذا عجب، والمصحف الشريف هذا عجب، جاءت هذه المرة سليمة، بل ورائعة أيضا، ليس عنده نور!! مجرد صدفة، ولكن أنا؟. من أين لى أن أعرف أنه ليس عندنا نور أيضا؟. هل هذه آخر أخبار الزلزال؟.
هل كشف عنى الحجاب؟.
دخلت إلى حجرتى مباشرة بعد أن تخلصت برفق من ابنتى التى تعلقت برقبتى هاتفة لمجيئى. أخذت أقلب فى بقايا الكتب التى علاها التراب فوق الصيوان، تعجبت أنى فى يوم من الأيام اقتنيت مثل هذه الكتب، أخذت أنفض عنها التراب وأعجب لأسمائها وكأنها لم تمر على من قبل. أو كأنى ودعتها منذ عهد بعيد، رفعت الحشية عن الأريكة العربى التى تستعمل مخزنا فى نفس الوقت، فتحتها، وأخذت أخرج محتوياتها من كتب وأوراق، ما هذا كله؟. هل أنا أمتلك هذه الكتب فعلا؟. متى نقلتها من بيت أمى. أرادت أن تتخلص منها ردا على زواجى، أخذت أقلب فى العناوين: “الحيوان” “سقوط الدولة الرومانية” “الوجود” “الأبله” “من هنا نبدأ”، أين ذهبت هذه الأشياء جميعا من عقلى طوال عشرين سنة، ماذا حدث لى وأين كنت طوال هذه المدة؟. كيف نسيت تماما كل شئ؟. كيف غفوت حتى نمت عشرين سنة؟. لابد أن هناك مسحوقا تضعه الحكومة فى الماء مثل الكلور يقفل مسام عقول الشباب رويدا رويدا حتى لا يفكروا الا “فيما يفيد”، ينساب هذا الغازالسائل فى خلايانا لنكف عن التساؤلات السخيفة التى تقضى على فترة من شبابنا دون مبرر، ويبدو أن خلاياى قد استجابت لهذا المطهر بطريقة قصوى حتى لم أعد استطيع- حتي- قراءة الصحف. ثم جاء هذا الزلزال ليشكك فى مفعول هذا المطهر العظيم. آه لو علمت الحكومة بتأثير هذه الزلازل على مخططاتها، إذن لطهروا جوف الأرض جميعا من كل الطاقات والحمم.
مالذى حدث لى حتى انتهيت إلى تلك الحال قبل الزلزال؟.
جاءنى شعور خاص أن شخصا ما سرقـنى، وبدلا من ضياع الوقت فى البحث عن “حسن” ينبغى أن أبحث عن هذا السارق لأنتقم منه أو أشكره، أو حتى أسأله عن الطريقة التى تمت بها السرقة لإعجابى الشديد ببراعته: سرقة من أحدث طرق التحايل، عملية نصب عالمية تمت وراء ظهرى. المصيبة أنها لا تتم دفعة واحدة ولكنها عملية نزيف مستمر، شئ أشبه بالاختلاس المنتظم الذى لا يـكتشف أمره إلا حين تخرب عقولنا تماما.
وأحاول أن أتذكر شيئا معينا فلا أستطيع.
أرجعت كل شئ مكانه بعد أن احتفظت ببضعة كتب قد أحتاجها فى المبارزة مع غريب، وإن لم يكن لدى نية قراءتها، كما أخرجت كومة من الخطابات عثرت عليها وقد علاها التراب وهى مربوطة بخيط من “الدوبارة”، وما أن قلبت فيها حتى تذكرت أنها الخطابات المتبادلة بينى وبين زوجتى فترة الخطوبة، وضعت كل ذلك على المنضدة القديمة فى ركن الحجرة وجلست بجوارها ويدى على خدى، حتى فى زواجنا كانت تحيطنا آمال وأحلام بلا حدود. كنا نتحدث كثيرا ونتحمس كثيرا وتمتلئ خطاباتنا بأفعال نابضة مثل “نقرأ… نحاول…. نعمل… نغير… نتألم” هذه الأفعال الخمسة كان لها بريق ونبض يدل على أنها صالحة للاستعمال، نتبادلها على الورق أو حول قرطاس ترمس على الكورنيش، ثم حلت محلها الأسماء الخمسة ” الأولاد… الأسعار…الحسد… الستر… حسن الختام”.
ماذا حدث؟. وماذا يحدث؟.
كيف تنقلب الأفعال إلى أسماء؟.
المصيبة أن ما حدث لى هو نفس ما حدث لسعيد عبد الراضى (شاعر اتحاد الطلبة) وعبد المهيمن المنقبادى (قائد المظاهرات) وسعاد زهران (راكبة الدراجة محطمة التقاليد) وسميحة عبد الوارث (الحالمة بالجنة على الأرض) وسناء، وفتحى، وعبد الودود، وسميه رمضان (الشابة الحاجة ذات الإيشارب والحماس لإرجاع الكون إلى أصله)، كلهم استبدلوا الأسماء الخمسة بالأفعال الخمسة، ولم يبق منهم إلا “التهامى محمود” الذى يبدو أنه احتفظ ببعض الأفعال حية فمازلت أسمع بعض تعليقاته بالصدفة على برامج الموسيقى التى لا أفهمها.
”الله يخرب بيوتكم”.
قلتها بصوت مرتفع وأنا أنظر إلى الخطابات، ولكنى لم أكن أوجه إليها السباب، ولم أكن أوجهه إلى أحد على وجه الخصوص، استمررت غارقا فى دهشتى لما يحدث ولـما حدث. هل أذهب ثانية لسؤال الأستاذ غريب عن السر؟. ولكن يبدو أنه ليس فى الأمر سر لأنها القاعدة، كما يبدو أن السؤال ينبغى ألا يقتصر على حالتى. ما الذى أعادنى ثانية إلى تلك الفترة؟. ما الذى يحاول أن يوقظ فى الأفعال الخمسة؟. كيف أهرب ثانية إلي”الأسماء” الساكنة المستقرة؟. كنت أعيش، وهم جميعا مازالوا يعيشون، فلمصلحة من أرجع وحدى وأفيق من خدر الأسماء لأواجه أفعالا تتحدانى وأنا لا أفعل شيئا؟. وماذا سيكون مصيرى حين أعجز عن الاستمرار فى لعب هذا الدور المزدوج؟.
دخلت زوجتى على وأنا مازلت أنظر إلى الخطابات ساهما، ويبدو أنها سمعت صوتى دون تمييز..
- هل كنت تنادى؟… لقد تأخرت اليوم. هل أعد الغداء؟..
انتبهت إلى الكتب على المنضدة، فعلت وجهها الدهشة، ولكنها حين التفتت إلى كومة الخطابات ابتسمت ابتسامة حنون وكأنها التقت بعزيز غائب، غير أنها لم تستطع أن تتمادى فى هذه المشاعر، وكأنها خافت هى الأخرى من أن يتحرك شئ فى داخلها. نظرت إليها فى بله، فقالت فى تساؤل:
- ما الذى ذكرك؟.
- كنت أبحث عن أوراق خاصة.
- كنا أطفالا. مشاكل الدنيا أكبر من الآمال والكلام.
قالتها وكأنها تحاول أن تقنع نفسها بما تقول أو أن تبرر شيئا مفروضا عليها فرضا. لم أصدق أنها ما زالت تستطيع أن تحس هذه المشاعر، وحين تصورت أن هذا محتمل ارتبكت…، حاولت أن أتجاهل الموقف برمته. هل هذا محتمل؟. ارتبكت غاية الارتباك وداخلنى رعب خفى، لقد استرحت فى وحدتى ومكانى بين المتفرجين، حتى غريب أفندى ذاته لن يستطيع أن يدخل إلى أو يشاركنى مقعدى، ثم تأتين أنت تلوحين بهذا الذى دفناه بغير شهادة وفاة؟. إلا هذا… إلا هذا ياولية انت!! حذار!
”أن أنشق من داخلي”، هذا محتمل.
”أن أنسى اسمي”، هذا أمر جائز.
” أن أمضى طوال النهار وجزءا من الليل أحدث نفسي”، هو فى حدود الطبيعى.
”أن أعالج عند طبيب أمراض نساء وأطفال”، إجراء على قدر فلوسى.
أما أن أحس بأن هناك من يشاركنى فى هذه اللعبة الخاصة أو يحاول أن يعيشها معى فهذا هو الخطر الأكبر. ما طمأننى من غريب أنه من كوكب آخر. أشعر الآن بالتهديد خشية أن أجد كوكبى مسكونا بمخلوقات غيرى، والمصيبة الكبرى أن تكون زوجتى من بين هذه المخلوقات، زوجتى الصورة التى أعدمت أصلها منذ زمن سحيق ولم أقرأ نعيها إلا بعد أنزلزلت زلزالها.. وأخرجت أثقالها.
زوجتى؟. نعم. تلك المرأة التى اغتالت خطيبتى (صاحبة الخطابات) تأتى الآن لتشاركنى فى تأبينها، أو لتمثل شخصيتها!! لا. لا أحتمل. سوف ألغى من عقلى ومن جسمى كل ما رأيت. كنت قد أصدرت عليها حكما بالإعدام حين ثبت أنها هى التى اغتالت الأخرى، وحين قرأت نعيها بعد الزلزال تأكدت من أن القصاص يأخذ مجراه ولو بعد حين، فلماذا تأتى الآن لتطل على فجأة من بين كومة خطابات؟. لابد أن فى الأمر خدعة.
- خدعة خدعة.
قلتها بصوت عال. وقد حسبت أنى أكلم نفسى، لكن يبدو أن زوجتى قد سمعت.
- نعم خدعة، ولكنها كانت خدعة لطيفة، كنا أطفالا وكان لابد أن ننخدع فى الألفاظ الحلوة والآمال الكبار.
الآن أستطيع أن أهدأ. رجعت الأمور إلى نصابها وتأكدت أنها حفلة تأبين، وليست طقوس إحياء الموتى. كل ما خطر ببالى أو لمحته سواء بين الخطابات أو بين ملامح وجهها هو من وحى أرواح الضحايا التى تحوم حول القتلة فى هيئة الذباب الأخضر. هذا الذباب ليس ضارا ولا يحمل إلا معنى الرمز والذكرى.
الآن أستطيع أن أرجع إلى مقعدى بين المتفرجين مرتديا طاقية الإخفاء أكمل المسرحية التى ليس لها نهاية، وأنا فى أمان أننى الكائن الوحيد فى كوكبى الكونى الخاص.
الفصل الثالث
يـمـامتـان
منذ ذلك اليوم وأنا فى أسوأ حال. أصبحت حذرا من لقاء زوجتى أو مبادلتها الحديث ولم أعد أطيق العيش تحت تهديد الاقتحام، وحتى دورى الآخر على خشبة المسرح أصبح يرهقنى حتى كدت أفضح فى بعض المواقف حين أتوقف عن التمثيل وأنا مازلت على خشبة المسرح. هذا الخلط بين التمثيل والفرجة هو الخطر بعينه: إذا ذهبت لأقابل المدير فى عمل جاد نسيت ما ذهبت إليه وجعلت أتفرج عليه، وأعجب من هذا الإنسان اللامع، وأحاول أن أتتبع حركة يده وهى تقترب من شعره دون أن تلمسه، أو حركة أصابعه وهى تمر على رباط عنقه، وأتساءل عن الوقت والجهد الذين أنفقهما لينتقى هذا الرباط النادر، وأكتشف السبب فى أن الناس تحب اقتناء الاشياء النادرة جدا مهما بهظت أثمانها حتى لا يشاركهم فى اقتنائها إلا القليلون. أفسر ذلك بأنهم عجزوا أن يكونوا من كوكب خاص مثلى، فعوضوا عجزهم بهذه الأشياء الخاصة. ضبطنى المدير غائبا عما يقول.
- مالك يا أستاذ عبد السلام.
- تحت أمرك يا افندم.
- هل أنت معى أو أن هناك ما يشغلك؟.
- آسف، أنا مصاب بحمى لم يعرف الأطباء تشخيصها، وأنا محتار بها بينهم، والحالة تزداد سوءا.
(هذا من مزايا المرحلة، الكذب التلقائى الفلسفى، حلوة حكاية الفلسفى هذه).
- لا بأس عليك… ولكن هل الحرارة لا تزال مرتفعة؟.
- لا حرارة ولا يحزنون.
- ماذا تقول يا عبد السلام افندى؟. حمى دون حرارة.
- هذه هى المصيبة يا افندم.
أين تذهب بى ألفاظى؟ كدت أصرح له بكل شئ. ولم يبق إلا أن أكلمه عن مسرحى الخاص وعن طاقية الإخفاء.
- لا عليك، إن الأمراض هذه الأيام تغيرت عن الأمراض زمان، حمى بدون حمى، وفقر دم بدون دم، وحساسية بلا إحساس. وكل هذا يسمونه اضطرابا فى الأعصاب. أنصحك أن تستشير أحد المختصين فى الأعصاب.
- أطال الله عمركم. ربنا يبعد عنكم الشر إن شاء الله.
-ربنا يطمئننا عليك يا عبد السلام افندى، هموم الدنيا أكبر من احتمال الناس!!.
جاءت سليمة!!.
منذ ذلك اليوم وأنا أمضى أكثر حذرا، ولكن كلما تذكرت احتمال عودة الروح إلى زوجتى اختل توازنى. بالإضافة إلى الذهول الذى كان يصيبنى بين الحين والحين. رجع إلى الصداع بطريقة بشعة، ورجعت الوحوش والهوام تشاركنى مخدعى، والصقور تنهش جثتى، وزادت نوبات فزعى الليلى وصراخى المكتوم، وقد لاحظت أن زوجتى تستيقظ إثر هذه النوبات ولكنها لا تحاول إحراجى بأن تعلق على ما سمعت. ما أقسى هذا الشعور البشع، أن تخفى شيئا عن شخص يعلمه، أو يمكن أن يعلمه. هى السبب فى كل ما جد على حالتى. كنت قد استرحت إلى وحدتى وفرجتى بعد فض الاشتباك بين أجزائى، ثم جاءت هى لتشعر بى. لماذا تشعر بى؟. إنى أعلم أنها غير قادرة على شئ. لا هى ولا غيرها. أحيانا أرتاح لاحتمال أن تكون هناك رائحة بشر على بعد آلاف الأميال. واحد فقط يكفى. لو سقطت لعبة التمثيل والفـرجة فقد يسمح وجوده أن ألتقط أنفاسى قبل أن أجن. الوحدة محتملة إذا أتقنت الدور وأخذت تقفز بين الكواليس تسجل الملاحظات، وتندس وراء الستائر، تداعب الأطفال وتشاهد الممثلين وهم يحفظون أدوارهم فى حماس أقرب إلى تبلد الشعور. يمكنك أن تلعب أيضا بعض أدوار الكومبارس دون أن يميزك أحد. حل فنى رائع.
ماذا لو فشلت؟.
سوف أدفع حياتى ثمنا لهذا الفشل، سوف أرفض أن أفقد سيطرتى على الموقف بكل وسيلة. إن هذا الإغراء الذى تلوح لى به روح خطيبتى التى تخايلنى وراء ملامح زوجتى وهى نائمة هو الخطر الأكبر. سوف أقتلها قبل أن تهددنى بالفشل وتشككنى فى قدرتى على أن أستمر فى لعبتى الرائعة.
فى البدء قتلت زوجتى خطيبتى، واستولت على جسدها، والآن على أن أقتل أنا روحها التى تهدد أمن وحدتى الرائعة. ليس على الآن إلا أن أذهب أبعد من متناول يدها. سوف أقتل احتياجى لها. سوف أخفى هذه الخطابات بين قمامة الذكريات، سوف أطرق كل الأبواب التى أتأكد مسبقا أنها لن تفتح لى. سوف أبحث عن بديل لهذا الخطر المحدق بى، على شرط أن أمسك كل الخيوط بيدى طول الوقت.
سوف أبدأ بآمال…
……
- صباح الخير يا آمال.
- أهلا عبد السلام.
من أين لى بهذه الشجاعة؟ آمال! هكذا بدون مدام، ولكنها هى أيضا قالت عبد السلام فقط، هل تنوى أن تخترقنى هى الآخرى؟. لا أكاد أذكر أن امرأة نادتنى باسمى منذ سنوات طوال، بل منذ الأبد. حتى أمى لم تنادنى باسمى أبدا، كنت “الولد” أو “المغدور” أو “اللى ينخفي” أو “اللى ينحش فى وسطه”، أما زوجتى – فبعد فترة الخطوبة التى تكاد تنمحى من ذاكرتى – لا أعرف بم تنادينى إن كانت تنادينى أصلا.
إننى أهرب إليك يا آمال من روح خطيبتى التى تطل من وراء وجه زوجتى وهى نائمة. هل ستهدديننى أنت الأخرى بأن تطرقى كوكبى الخاص وتقلبين المسألة جدا؟. سوف لا أطمئن إلى وحدتى إلا إذا غامرت بفشلى معك، وساعتها سأتأكد من أن كوكبى هو لى وحدى، ومع ذلك فأنا أحبك.
-آمال.
- نعم.
- الله ينعم عليكى.
عيناها تلمعان. هل ترانى هذه المرأة كما أنا؟. هل ترانى كما لا أعرف نفسى؟. لماذا كل هذه الطمأنينة فى عينيها وهذه اللمعة السحرية من حولهما؟. هل هو إشعاع خاص بى وحدى أم أنها هى هكذا، أنا ألمحها تفيض على كل الناس، كل الناس من أول عم جمعه… حتى سيادة المدير، من هذه المرأة هى الأخرى؟. هل هى من فصيلة عم محفوظ السباك أو من قبيلة الأستاذ غريب؟. هى امرأة. إن أحاسيسى تجاهها مختلفة، لا أستطيع – أيضا – أن أستبعد منها الجنس، ولكنى لا أستطيع أن أقول إنها جنسية. أريد أن أقترب منها إلى آخر خلية فى جوفها، أريد أن أرى طفلى فى أحشائها. هل هذا هو الجنس؟. ليس تماما، ليس هو الشئ القبيح الذى أتذكره إذ نتبادل قفشات المباهاة بالفحولة ولا هو ما يذكر فى النكات البذيئة. هو شئ آخر لم يسبق لى أن عرفته فى حياتى، ماذا لو قرأت هذه المرأة أفكارى؟. أكاد أحس أن الموقف لن يتغير، أكاد أموت غيظا من ترحيبها الجرئ غير المشروط. أحس أن شيئا مطلوبا منى، كيف أطلب أنا ما أريد؟. أنا لست فى محل بقالة أو صيدلية. أحس أننى أركب قاربا يتماوج فى نهرها العذب. أميل على جانب من جوانب القارب حتى تلمس شفتاى الماء. أعب منه مباشرة دون حاجة إلى أن أصطنع وعاء بكفى، ولكن الغريب أن بقية الناس حولى بالمكتب يشربون من هذا الماء العذب، ربما يشربون بطريقة أخرى غير هذه الطريقة الطفلية الخطرة، وهى لا تبخل على أحد مهما كانت الطريقة.
أفقت من كل هذا على صوتها العذب.
- خيرا يا أستاذ عبد السلام.
الحمد لله دخلت “أستاذ” فى الموضوع، وعلى أن أقفز إلى الشاطئ، إلى الأرض، وكأن لفظ “الأستاذ”، هو السقالة التى أخطو عليها من القارب. لو أسعفتنى قدماى لأخذت أجرى بعيدا عن النهر، وعن القارب، وحتى عن الشاطئ ذاته خوفا من الغرق.
- كنت أريد الاستفسار عن الملفات التى لم أستطع أن أكملها أمس.
- لا عليك، أنا أعرف ظروفك هذه الأيام وسوف أقوم باللازم.
يثور فى نفسى نمر مفترس. ماذا تعرفين عن ظروفى فى هذه الأيام؟. من أنت أيتها الحسناء المغرورة حتى تتصورى أنك تعرفين الظروف التى لا يعرفها أحد حتى أنا.
- أريد أن أراك بعد العمل…
هكذا… قلتها دون تفكير، وبصوت مثل طلقات المسدس الصامت.
- وأنا أريد أن أراك على انفراد..
-…
- إنتظرنى على الناصية.
- أنا أحبك.
- أنا أعرف.
- ولكنى أحب أخريات.
- أنا أحبك.
- سأنتظرك.
- سأحضر.
مضى اليوم عاديا واستغرقت دون مناسبة فى العمل وكأنى نسيت ما حدث تماما، أو كأن ما حدث هو يحدث كل يوم، ولكننى كنت أحس فى فترات فجائية وصارخة وموقوتة أن أمرا هائلا وشيك الوقوع، وكأنى أحاول تسلق جبال الموج دون طائل. ألف كرسى المكتب حتى أستعيد توازنى. أتلفت حوالى فلا أجد أحدا قد لاحظ شيئا.
انتهى الهدوء الظاهرى فجأة قبل ميعاد الانصراف بنصف ساعة، وأحسست بالكرسى من تحتى يشتعل نارا. لم أستطع الجلوس عليه. حاولت أن أصنع أى شئ حتى لا أحترق. ذهبت إلى دورة المياة وإلى البوفيه وكدت أدخل حجرة المدير دون مبرر، وصعدت إلى إدارة المحفوظات ونزلت حتى البواب، وكان نفسـى يلهب جوفى مثلما كنا ننفخ “فى الراكية” ونحن نشوى الأذرة. تزيد النار اشتعالا وتكاد تلفح وجهى أو تصل إلى خلايا مخى حتى أخشى أن تسيح منى. أكاد أتمنى ذلك حتى أرتاح من هذا التفكير المتناقض المستمر، ماذا فعلت بنفسى؟. أين تلك الرغبة التى كنت أشعر بها فى داخل أعماقى سرا، كنت أحس أنى أحمل كنزا رائعا من المشاعر اكتشفته بمحض الصدفة، وحتى لو ثبت أنه من زجاج فهو يبرق أمامى فى أصالة لم أعرفها قبلا، سوف آخذه معى لأعرضه عليها، هذا هو كل ما أملك، ثم يحدث بعد ذلك ما يحدث، ولكن أين هو الآن؟. وماذا أفعل بلقائها بدونه؟. والناس؟. وهل ستسعفنى الألفاظ؟.
خرجت قبل ميعاد الانصراف بخمس دقائق، وفى همس واضح مررت عليها واعتذرت لها عن الميعاد.
ولم ترد..
انتهت القصة قبل أن تبدأ، أخذت حقيبتى بسرعة ووقعت فى ساعة الانصراف وأخذت أقفز السلالم رباع رباع. هربا وفرحا، لا يمكن أن تصلح الألفاظ فى وصف المشاعر، ماذا تقولون على لو قلت لكم إنى كنت أقفز إلى أعلى وأنا أنزل الدرج، كنت أهبط الدرج صعودا، صدقونى أو اتركونى وحيدا على قارعة الطريق.
بمجرد أن استنشقت هواء الشارع أحسست بمشاعرى الفياضة ترجع إلى، كنز الجواهر يعود ليشع بريقه فى كل خلية من خلايا جسمى، يا خسارة، لو كنت أعرف كيف يأتى وكيف يذهب.
لم أتجه إلى محطة الأتوبيس ولكنى وقفت على الناصية التى كنا تواعدنا على اللقاء عندها وكأنى لم ألغ الميعاد، ربما، من يدرى؟. لعلها تصر لم تخرج أمامى، انتهى خروج الموظفين ومازلت أنتظر.. ربما تلكأت حتى لا يلحظها أحد. ما أغرب هذه المرأة. المدير أيضا لم يخرج مع الموظفين، ليس هناك عمل يستدعى وجوده حتى هذه الساعة، وهى؟. أين هى؟. فى مكتبه؟. ما أروع قضاء هذا الوقت فى ذلك المكتب المكيف الهواء، كل شئ يتم فى هدوء ودفء. كم كنت أتساءل عن السبب الحقيقى فى وجود تلك الأريكة العريضه فى حجرته. لم تتملكنى الغيرة بل ارتسمت على وجهى ابتسامة بلهاء. مر أمامى بائع عناقيد الفل. نظر فى وجهى ويبدو أنه رأى بريق الكنز. تعاطف معى بحب حقيقى ويبدو أنه كان يتتبعنى منذ فترة طويلة. ناولنى عنقودا من الفل وهو واثق من أنى سوف أشتريه. استسلمت ليقينه وأعطيته عشرة قروش بأكملها، ابتسم منصرفا وهو يقول.
- إن شاء الله ستحضر حالا، ربنا يخليها لك.
ابتسمت بسعادة لا مبرر لها.
شعرت برغبة فى أن أصعد إلى حجرة المدير حاملا عنقود الفل أنثره عليهما فى لحظة النشوة. أين مشاعرى العادية مثل بقية البشر؟. ينبغى فى مثل هذه الظروف أن أحس بالحقد أو بالغيظ أو بالغيرة. رويدا رويدا زاد يقينى أن مابى شيئا خطيرا إلا أن له وجها طريفا. تحسست جبهتى لأتأكد أنها خالية من أى بروز. اتسعت ابتسامتى، وعرفت السبب فى أن خيالهم يرسم مخلوقات الكواكب الأخرى بقرون صغيرة لطيفة، والآن فقط عرفت معنى قفشات أولاد البلد حين يصفون أمثالى ممن ينثرون الفل على سكان الجنة بأنهم من ذوى القرون. زادت ابتسامتى اتساعا حتى كدت أقهقه. تقدمت إلى الباب. حيانى البواب وتساءل عن سبب عودتى. ادعيت أنى نشلت فى الأتوبيس وأنى احتفظ ببعض النقود فى درج مكتبى. تأثر الرجل تأثرا حقيقا وعرض على كل ما معه (ستة وثلاثون قرشا) معتذرا بأن المكاتب أغلقت، وأن عم جمعه السيوفى قد انصرف. شكرته ذاهلا وتناولت منه عشرة قروش فقط وهممت بالإنصراف. نظر إلى عقد الفل فى يدى فى دهشة وادعة.
سألته فجأة.
- والبيه المدير؟.
- أجاب فى دهشة.
- انصرف من الصباح، عنده لجنة.
- والأستاذة آمال؟.
زادت دهشة البواب ولكن وداعته وبشرته اللامعه شجعتنى أن اتمادى معه فى الابتسام. قال وهو لا يزال يبتسم فى حسن نيه مفرطة:
- ألف سلامة يا سعادة البيه، عقبال أولادك، الست آمال وضعت منذ ثلاثة أيام رزقها الله بنتا كالقمر، مثل أمها تماما.. زرتها أمس وأعطتنى الحلاوة، أسمتها “نهى”..، الخالق الناطق الست آمال، ناس طيبون. ربنا يخلى الناس الطيبين.
شكرته وانصرفت كالصاروخ.
أهكذا تتطور الأمور بهذه السرعة؟. آمال التى حدثتها اليوم وتبادلنا ألفاظ الحب، وتواعدنا على اللقاء واعتذرت لها فى آخر لحظة، لم تحضر اليوم من أصله؟. آمال فى إجازة وضع منذ ثلاثة أيام؟.
وأتذكر فجأة أننى أنا شخصيا الذى وقـعت إقرار القيام بعملها حتى تعود؟.
ما هذا الذى يحدث؟. ما هذا الذى يحدث؟.
خيال؟. أوهام؟. مرض؟. جنون؟.
لم تزعجنى فكرة الجنون ذاتها بقدر ما أزعجنى أن يكون البواب أو أحد من الزملاء قد لاحظ على شيئا. بل أننى أعجبت بنفسى حين اكتشفت فيها هذه الموهبة العظمية على تحقيق الخيال بهذه الحنكة الواقعية. هكذا يمكنك أن تحصل على ما تشاء بمجرد التفكير، شئ مثل الجنة. تجلس على إحدى الأرائك، وتتمنى تفاحا فيأتى لك ما تتمنى على أصص مرصوصة، وإن كنت لا أعرف معنى كلمة أصص، وقد حاولت أن أجرب هذه المقدرة فى تجسيد الأفكار، فتمثلت آمال أمامى جالسة على مكتبها وأنا واقف بجوارها أناولها ملفا ونهداها تحت مستوى نظرى وقد برزا من أعلى فتحة الرداء، متلاصقان فى وداعة دافئة، لا يفصل بينهما إلا ذلك الشق الرائع، يمامتان بيضاوان تصدران هديلهما فى نغم هادئ، يختلط فيه الحزن بالغناء بالتسبيح ” اذكروا.. ربكو ” وأترك نهى ترضع من الثدى الأيمن واحتفظ لنفسى بالثدى الأيسر، يقطر الثدى فى فمى قطرات اللبن مثلما تضع اليمامة حبات القمح فى فم صغارها.
دخلتها من أوسع أبوابها يابن المشد.
كنت دائما أتساءل أين ستكون الجنة؟. قالوا فى مصر، وقالوا فى عدن، وقالوا فوق السماء السابعة، ولكنى الآن قد تيقنت أنها لن تكون إلا فى كوكبى الكونى الخاص.
لا مرض.. ولا جنون.. ولا يحزنون.
هى الجنة..
* * *
شهر كامل وأنا أتنقل بين الجنة والمسرح ومؤخرة الصالة دون أن يلحظ أحد على شيئا، حتى زوجتى بدأت توارى نظراتها المتسائلة عما يجرى بعد أن اكتشفت أننى اضطرب لمجرد سؤالها عن حالى. لا أطيق أن يدخل أحد على كوكبى حتى ولو استأذن، بل إن مجرد الاستئذان يخل توازنى بضعة أيام، لم أجد صعوبة فى أن أخفى عليهم أى شئ، وكل شئ.لا أحد يهتم بأحد إلا بمقدار ما يسمح له هذا الأحد. عرفت مفاتيح أسرارى، وحذقت إدارة كونى الخاص بشفرة لا يعلمها إلا أنا.
حضرت آمال بعد إجازة الوضع أكثر نضرة وأكثر إشراقا، يبدو ان المرأة الخالقة بطبيعتها تتوازن مع خلاياها كلما أتمت صنع كائن بشرى جديد. صافحتها باليد حتى أتأكد أنها هى بلحمها ودمها وقد عرفت من ذلك اليوم أن الفرق بين الحور العين وبين مخلوقات هذه الأرض هو الملامسة الجسدية، ولم أخدع بعد ذلك ابدا. حتى أتأكد أن يدها فى يدى ضغطت عليها. لم تحاول هى أن تسحب يدها. حلوة دافئة ملمس البطاطا الساخنة أمام المدرسة الإبتدائى فى أيام الشتاء، اتسعت ابتسامتها وأحسست بقطرات اللبن تنساب من منقار ثديها وأنا فاتح فمى فى انتظار رحيق الحياة.
- كيف حالك يا أستاذ عبد السلام.
- الحمد لله، و كيف حال نهى.
- مثل القمر، هيا أحضـر لها العريس.
- هذا الجيل لم نعد نعرف طبيعته، لم يعد للأهل حل ولا ربط فى أمور أولادهم.
- لكنهم أسعد منا بلاشك.
- بل هناك دائما شك.
- أنت تتفلسف هذه الأيام يا أستاذ عبد السلام.
- أعيد النظر.
- لا تفكر كثيرا، انتهى عهد التفكير بالنسبة لنا، أنا لا أسمح لنفسى بالتفكير بعد أن كاد يطيح بى.
- لا تفكرين!!! إذن كيف تدبرين أمورك؟.
- أثق فى إحساسى. أنا أشعر بك ياأستاذ عبد السلام وكثيرا ما خايلتنى صورتك أثناء إجازتى، فقد تركتك وأنت على أبواب شئ ما، لون بشرتك، نظراتك، بريق عينيك، والآن تأكدت من أن شيئا ما يحدث فيك هذه الأيام، أكاد أحب هذا الشئ.. ولكنى أخاف منه.
وقعت الواقعة. خافضة رافعة، هذه المرأة لا تستأذن، سوف أجمع نفسى حالا بعد أن كدت أتبعثر.. لأهرب عند أول منحنى..
- من أدراك كل هذا؟.
- قلت لك كاد التفكير يطيح بى يوما و لكنى أنقذت نفسى باحترام إحساسى وتغليبه. خطر خطر. أعلم أنه كذلك. سبحان المنجى.
(استمرت فى حديثها رغم تحذيري)
- و لكن الله سلم، لم تغب عنى يا عبد السلام طوال هذه الفترة.
إلى أين تستدرجيننى يا أيتها المرأة؟. لا بد أن أبدأ بالهجوم الدفاعى.
- لقد حلمت بك أنا أيضا حلما رائعا.
امتلأ وجهها بالحياة أكثر، وتوهج بالدماء على ما فيه من نضارة.
- خيرا.. اللهم اجعله خيرا.
- أظن أن هذا ليس مكان تفسير الأحلام.
- ماذا تعنى؟.
- أحس بقرب شديد منك، وكنت أتمنى ألا تفتحى لى بابك، ولكنك أنت التى بدأت، وأقترح أن نقفل هذا الباب إلى غير رجعة.
- ولكنى لا أخاف لهذه الدرجة، ولا مفر من أن أحترم إحساسى وحدسى.
- ماذا تريدين منى؟.
- أقف بجوارك هذه الأيام.
- والناس؟.
- معنا.
- ماذا تعنين؟. عيون الناس لا ترحم.
- قلت لك أنا لا أخاف.
- نلتقى فى مكان أهدأ لنكمل الحديث.
- وهو كذلك…..
الحمد لله أنى لم أشعر بتلك المشاعر التى غمرتنى فى تجربة خيالى، أحسب أنى لو اطلقتها فسوف توردنا التهلكة، وحتى ثقة هذه المرأة بنفسها ليست كافية لطمأنتى.
* * *
فى ركن قصى من ذلك المطعم الخالى تقريبا، وجدتها قد سبقتنى إلى هناك. انطلق وجهها بالبشر حين رأتنى. لا أذكر أنى شعرت بمثل هذا الإحساس قبل الآن، لذلك لا أستطيع أن أسميه، ولا أحسب أنى سأشعر به بعد الآن.
تعجبت من نفسى فهذه أول مرة فى حياتى أخرج فيها مع امرأة غير زوجتى. لم أكن خجلا ولا مترددا ولا خائفا وكأنى ملك الحلبة منذ دهور، كنت دائما أحسد زملائى فى الجامعة على نجاحهم فى هذا العمل البطولى المجيد أو ما كنا نسميه حينذاك “تعليق النساء!” وها أنذا أفعلها وحدى. أمضى فى سبيلى إليها مثل السكين فى عجين مختمر. بعد أن بلغت هذا العمر ولى امرأة وثلاثة أولاد، فعلتها دون تردد، أين أصدقاء الجامعة ليرونى الآن؟. ما أفعله الآن شئ آخر لا يدخل تحت هذا البند، هو شئ أقرب للعبادة، ولكن ما أدرانى وأنا لم أعرف الشئ الأول حتى أسمح لنفسى بالمقارنة، لعل مثل هذه الأمور جميعا تبدأ بالفاتحة وتنتهى بالتحيات.
أقبلت عليها فى خشوع، لم أنظر إلى يمامتى اليسرى، لم أكن فى حاجة إلى قطراتها العذبة. كنت مرتويا من داخلى. مضت فترة صمت حلو تغلفها نظراتها الحانية من كل جانب. نصـل السكين يختبئى أغلبه داخل العجين، ولمس الفقاعات الناتجة عن الاختمار تدغدغ جانبيه، أخشى أن يذوب النصل من تأثير هذا الغاز السحرى، أسحبه بسرعة.
- كيف حال نهى؟.
- تزداد جمالا.
- يسعدها الله.
- وأنت؟. وأولادك؟.
(الحمد لله لم تسألنى عن ” المدام”).
- شكرا.
- لم نأت هنا لنتبادل المجاملات.
- ماذا تريدين منى؟.
- لا شئ على وجه التحديد، ولكنى أحس بك.
- إحساسك هذا يروينى، يكفينى، ليس عندى مطلب آخر.
- وحلمك؟.
- لم يكن حلما على وجه التحديد.
- حدسى قال هذا.
(عندك!! لابد من إضاءة النور الأحمر، صعب، ليكن).
- وماذا قال لك حدسك أيضا؟.
- أنك وحيد.
(يانهار أسود كيف الهرب).
- وماذا أيضا؟.
- وخائف.
- إذا كنت تعرفين كل شئ، فلماذا الكلام؟.
- هل تصر على ما أنت فيه؟.
- أنا لا أملك من أمرى شيئا. هذا أمر يحكمه غيرى.
- من؟.
- لا أدرى، ولكنى أكاد أعرف أن غيرى هو أنا فى نفس الوقت، ولا أعرف من يدلنى على.
- اسأل مجرب.
(مجرب؟. لا يمكن أن يكون هناك من مر بتجربتى، خل عنك، ولا تسمعى كلام القصص. مزيد من الهجوم واجب).
- وكيف حال زوجك؟.
- أحبه وأرعاه، وهو يعرف أنى معك الآن.
(مزيد من الرعب. الفضيحة على الأبواب).
- معى أنا شخصيا؟.
- ليس على وجه التحديد، ولكن مع زميل فى أزمة.
من أنت يا آمال؟. من أى طينة أنت؟. ثقتك تكاد تفقدنى توازنى.
مضت فترة من الصمت انتهينا فيها من احتساء قدحى الشاى. استغرقت فى النظر إلى قدحها الفارغ، ثم قالت:
- زوجتك سيدة فاضلة ورائعة وتحبك، لماذا لا تحاول معها؟.
(خاب أملى فيك والحمد لله. حتى لو كنت صادقة فليس هذا هو، ما هذا؟).
- من أين لك بكل هذا اليقين، الناس تقرأ فنجان القهوة، وأنت تفتحين البخت وتقرئينه من قدح الشاى الممتلئ بعد؟!.
- قلت لك إن حدسى يهدينى.
- أنت ترعبينى دون أمل.
- قلت لك لا بد من المحاولة، ولا تسرع بقفل الأبواب.
أحسست بدوار عنيف يكاد يقسم رأسى إلى نصفين، أريد أن أذهب، أريد أن أذهب، لاحظت اضطرابى. لم تحاول تهدئتى، قالت مكملة:
- لن أتدخل فى حياتك بعد الآن، ولكنى سأكون دائما بجوارك.
أفقت من الدوار وشعرت برغبة عارمة فى قتل هذه المرأة حالا، إما القتل أو الاختفاء.
ناديت الجرسون بعد نظرة مستأذنه. دفعت الحساب. خرجنا صامتين كدت أن أتجنب مصافحتها خوفا من أن تنتقل إلى موجات فوق احتمالى، لم أستطع، يدى باردة كالثلج ويدها مثل قطعة الخشب. نجحت فى أن أقضى على أى نبض للحياة فى أى منا، استطعت أن أتهرب من نظراتها العاتية المتسامحة، نظرت إلى الأرض محاولا الغوص، لكنها لم تمهلنى وغاصت أعمق تخترقنى بلا هوادة.
انصرفت وكل همى أن يطلع على الصباح لأطلب نقلى إلى إدارة أخرى أو مصلحة أخرى. لا أستطيع – ولا أريد – أن أنظر فى وجهها بعد الآن.
كيف السبيل إلى التعتيم؟. إلى الإنكار؟. إلى النسيان؟.
الفصل الرابع
اللهو الخفى
كلما حصلت على درجة من التوازن، أو عقدت صلحا خفيا بين شخوصى، أو حاولت أن أكمل ما بقى لى من حياة بطريقة سرية، انقلبت موازينى فجأة بمجرد اقتراب مخلوق بشرى منى اقترابا صادقا خطرا. لو أنى كنت أملك القدرة على فعل شئ آخر، غير الفرجة والتخفى والمخاطرة غير المحسوبة، لاستمر توازنى – بشكل ما – لفترة أطول، ربما أصبحت فيلسوفا، أو ممثلا فى فرقة مجهولة، أو على أسوأ الفروض “مثقفا”مثل الأستاذ غريب، ولكنى كنت خلوا من المواهب – رغم فترة المراهقة العنيدة التى أمضيتها فى البحث والقراءة التى انتهت بفرمان سلطانى بالكف عن إضاعة الوقت فى الكلام الفارغ، بعد أن تكرر رسوبى فى شهادة “الثقافة العامة “. قاومت هذا الفرمان بعض الوقت إلى أن استسلمت له لما لم أجد جدوى من كل هذه القراءة، وكأنى أصدرت أنا الفرمان الفعلى من داخلي. أتعجب حين أذكر كيف صدر هذا الفرمان فجأة. انتقلت من النقيض إلى النقيض. الظاهر أن كل التغيرات الحقيقية فى حياة البشر تحدث فجأة، إما إلى أعلى أو إلى أسفل، ولكن من المؤكد أنها تحدث فجأة، أو على الأقل: هى تبدأ فجأة.
منذ لقائى الفريد مع هذه المخلوقة العجيبة التى وضعتها بين السماء والأرض، قدمها على الأرض بلا جدال ورأسها فى السماء بلا تفكير، وأنا فى دوامة أكاد لا أفيق منها. نجحت فى الانتقال إلى مكتب آخر، واستقبلنى الزملاء الجدد بالترحاب وحب الاستطلاع أول الأمر، ولكن سرعان ما تغير الحال. لم أحاول أن أبيدو طبيعيا طول الوقت، فهم لا يعرفونى قبلا ولا مجال للمقارنة بين ما كنته وما هو أنا الآن، تصرفت بتلقائية نسبية حتى يحسبوا أننى “هكذا”منذ البداية، فيقبلوني”هكذا”أيضا. صمتى المفاجئ، وحديثى البعيد عن اهتماماتهم، وتعليقاتى الساخرة أحيانا، الشاذة أحيانا، هى أنا. عرفت بينهم “هكذا”: إنسان غريب الأطوار، وكأنى طول عمرى “هكذا”. أحسست أن من حقى أن أفرض عليهم بعض أطوارى التى أصبحت جزءا من وجودى هذه الأيام، حتى أتمكن من الاستمرار، ومع ذلك فأنا غير قادر على الاستمرار. الهمس يزداد، وأحوالى الداخلية لا تهدأ، تذكرت كلمات المدير فى ذلك اليوم البعيد “كل هذا يسمونه اضطراب فى الأعصاب أنصحك أن تستشير أحد المختصين فى الأعصاب”.
وماذا فى ذلك؟. خلق الله الطب والمرض، ولكنى سأذهب هذه المرة خفية من وراء زوجتي. يبدو أن حياتى كلها قد أصبحت حلقات فى مسلسل سري. ربما نحن نعيش جميعا بعقود سرية، وغاية ما يمكن عمله هو أن ننقل هذا السر من جيل إلى جيل لنحافظ عليه من الضياع حتى يتوصل الجيل الأخير إلى اللغز، أو لا يتوصل أبدا. كل من يحاول أن يكتشف هذا السر يصيبه ما أصابنى هذه الأيام، فما بالك بإفشاء هذا السر..!! يكفى أن أعيش وحيدا بطريقتى الخاصة فى كوكبى الخاص حتى أكفــر عن خطيئتى حين اقتحمت المنطقة الخطرة فى محاولتى للأكل من الشجرة المحرمة، حين جرؤت ذات صباح أن أبحث عن معنى لما يقال، لأجيب بصدق عن سؤال تلك المرأة عن “هويتي”. بالرغم من كل ذلك فسوف أذهب إليه، ربما وجدت عنده بعضا من هذه الوصفات الكيميائية التى تتزايد مع عدد الأتوبيسات ومسلسلات التليفزيون.
دخلت إلى عيادته المزدانة حوائطها بأشياء كثيرة، وشهادات عظيمة، وعضويات فى جمعيات عالمية عليها رموز علمية لا أفهم منها شيئا، إلا أنى أعرف أنه كلما زادت الحروف المرصوصة بجوار الاسم زادت كمية العلم المرصوص فى الدماغ، كما يوجد على حوائط العيادة عدد من المعلقات الشعرية التى ذكرتنى بمعلقات الكعبة فى الجاهلية، وهى تحوى قصائد مديح تطمئن كل من يبحث عن العون من أهل العون، إلى ما ينتظرهم من معجزات. استرعى نظرى من بين هذه المعلقات قصيدة تبدأ هكذا:
”أتيناك وقد شلت أيادينا، خرجنا من لديك وقد شفيـنا”.
أى والله. إذن فأنا فى رحاب ساحر عالم قادر والحمد لله. يبدو أننى اهتديت أخيرا إلى ضالتي. تلفت حولى أرى الزملاء فى المرض، فوجدت عددا لا بأس به ممن شلت أياديهم أو أرجلهم، وقلت فى نفسى “إن شاء الله سوف يخرجون من لديه وقد شفوا بإذن العليم القدير”. أخذت أنظر إلى أعضائى أبحث عن عجز مشابه حتى أشارك فى هذا الأمل الأكيد، ولكنى لم أجد شللا قد أصاب عضوا بذاته. تعجبت وخشيت أن أكون فى المكان غير المناسب، لكن طمأننى أن هناك آخرين مثلى لا يبدو عليهم علامات الشلل الخفي. سمعت صوت أمى زمان وهى تدعو على غاضبة بأن أصاب “باللهو الخفي”. ربما يكون هذا هو مرضى الحقيقى أو ربما يكون الشلل قد أصاب مخى دون أطرافى، فكثيرا ما يخوننى مخى فجأة حين يعجز عن مواصلة تتبع فكرة معينة كنت ألاحقها بإصرار. أتعجب من هذا الذى الذى يحدث: الفكرة فى متناول يدى، ألمسها، وأتركها تبتعد قليلا لألاحقها بثقة القط يلاحق الفأر، ولكن المطاردة تنقلب فجأة لتصبح بين غزال جامح ودينصور غبى، يركض الغزال ويختفى بين غابة من المشاعر المتضاربة، والدينصور فاتح فاه فى دهشة الأبله المتجمد من هول المفاجأة. أليس هذا هو الشلل بعينه: أن تنقلب المطاردة بين القط القادر والفأر العاجز إلى مطاردة بين الغزال الهارب والدينصور الغبي؟. هذا هو مرضى :”شلل فى العقل”.
كيف كنت أفكر قبل ذلك؟. لماذا لم ألاحظ هذا الانفصال العجيب بين الفكرة والمفكر قبل اليوم؟. ما أروع أن يسألك أحدهم سؤالا فتجيبه على الفور. عمل تلقائى يفرز الأفكار فى كتل متراصة بطريقة آلية مثل ماكينة الجيلاتى فى ليالى رمضان فى سيدنا الحسين أو على شاطئ الاسكندرية. يضغط على الذراع فيخرج قمع الجيلاتى متعدد الألوان فى كتلة مخروطية متماسكة. هكذا يعيش إنسان اليوم دون حاجة إلى تفكير آخر. يبدو أن المرض يبدأ حين تضطر إلى تقليب أرشيف مخك للبحث عن إجابة مناسبة ذات معنى لسؤال ليس له معنى، فأنت معرض أثناء تقليبك الأرشيف أن تقفز إليك أسئلة لا حصر لها ولا لزوم لها، وكأنها مجموعة من الكلاب الضالة الصغيرة التى التقت بصاحبها بعد طول هجر، ثم تمضى فى تقليبك للأرشيف تبحث عن معنى حتى تقترب من الطبق الأوسط المغطى منذ الأبد، والمحرم رفع غطائه كشرط لإكمال الوليمة، فإذا كنت أهوج أحمق فسوف تفعلها، وهنا يقفز الفأر من تحته ويجرى على المائدة يقلب الآنية ثم يقفز ليختبئ فى ركن من أركان الحجرة، وتبدأ المطاردة بين القط والفأر النشط. حتى هذه اللحظة أنت ما تزال متمكنا من اللعبة، تترك الفأر وقتما تشاء لأنك واثق أنك ستلحقه كما تشاء، ثم تثور عاصفة المشاعر الهوجاء لتجد نفسك فى غابتها، وتنقلب المطاردة إلى لعبة الغزال والدينصور ويحدث الشلل المرعب.
يا “نهار أسود”.. كيف تتوارد هذه الأفكار بهذا التسلسل الغريب العميق..؟. على كل..، شئ يقطع ملل الانتظار! فلأستمر فى التفكير (وكأنى أستطيع ألا أفعل):
لست أدرى إلى أين تجرنا تلك الحماقة التى حذرتنا منها كل الأديان والأساطير القديمة”لا تأكل من الشجرة المحرمة” ” لا تسأل عما لا يعنيك، “لا تسألوا عن أشياء إن تـبد لكم تسؤكم”.”لا يغلبك حب الاستطلاع حتى تكشف غطاء الطبق الأوسط، لا تفتح الحجرة المقدسة فى سرداب سكة الندامة”. كل هذه النصائح الأزلية هى لتحافظ على آلية ماكينة الجيلاتى التى تضخ الأفكار السابقة التجهيز حتى لا يصير الإنسان إنسانا قبل الأوان. متى الأوان؟.
وأنا؟. أنا مالى بكل هذا؟. لم يخطر فى بالى أن أكون “إنسانا”فى يوم ما. أنا لا أعرف معنى الكلمة. كنت قد تبت إلى الله أن أعود لهذه المحاولة من بعد خيبتى فى المراهقة. ما ذنبى أنا الآن فى كل هذا؟. أنطق بشئ كالحكمة، وأبحث عن مجهول اسمه الحقيقة، وأدعى إمكان المعرفة دون قصد.
المصيبة أننى لا أكف عن التفكير فى هذه المسائل وتناولها بجد وحماس لا يتناسب مع إدراكى بأنى مقحم فيها دون إرادة كاملة. تـرى هل سأجد عند رب الطب هذا أجوبة لهذه الأسئلة؟. هل سيعيد حبـك الغطاء على الفأر الهارب؟. وإذا فعل فكيف أستجيب له؟. يبدو أن المحظور قد وقع بغير رجعة. حتى لو عاد الغطاء إلى مكانه فإنى أعلم أن تحته فأرا. هذه الخدعة لا تصلح إلا للمواطنين المسالين الذين لم يرتكبوا هذه الحماقة أصلا. أما من فعلها مثلي… فماذا يكون مصيره؟.
أفقت من ذهولى الظاهرى على صوت الممرض يسألنى هل أخذت ميعادا سابقا؟. لماذا؟. هل هو موعد غرامى لابد من الاتفاق عليه مسبقا؟. ولكن النظام هو النظام لا يستثنى إلا بنفحة سخية لإقناع ماسك مفاتيح خزائن الحكمة.
- حالة مستعجلة… الله يستر عرضك.
- ربنا يشفى، ولكنك……..الحمد لله.
- الله لا يوريك، تعبت من الجرى وراءه وأريد من يمسكه معي.
- آه…!!!.
قالها بشفقة حقيقية وكأنه وصل إلى التشخيص المبدئى لحالتي. حمدت الله أن حالتى لها تشخيص سهل يمكن أن يدركه رضوان من جملة أو اثنتين، ومع ذلك فقد وقف فى هدوء حذر وعيناه تقولان شيئا آخر، ناولته ما قسم، فأصبحت بقدرة قادر من الحاجزين. الوقت يمر ببطء، لا أحاول أن أتبادل الحديث مع أحد، يقترب منى بنظراته شاب خجول من المنتظرين، يهم بالكلام ثم يعاود الصمت قبل أن يبدأ. أحمد الله على أنه لم يبدأ. أمتلئ شعورا به، أكاد أقول “لا”دون أن أعلم على ماذا أعترض.
….
دخلت إلى غرفة الكشف، واستقبلنى هذا النطاسى العالم بابتسامة بشوشة مرحة، الغليون فى فمه، والدخان الرمادى يتصاعد منه فى هدوء الواثق الذى يشبه هدوء صاحبه. المكتب بينى وبينه يبدو كبيرا جدا، يزداد حجمه فى نظرى بسرعه هائله حتى أتخيل أنى أحتاج إلى بضعة شهور لو حاولت أن الف حوله لأصل إلى الجانب الآخر. عقلى لا يتركز فى حالى، دائم التخيل والشطح، دائم السخرية. نظرت إلى عينيه وراعنى ذلك المنظر المهيب خاصة فوديه اللذين صبغا باللون الرمادى وقد غزاهما الشيب على استحياء. أحسست أنى أمام مخلوق بشرى “خاص”. صحيح أنه من كوكب الأرض ولكن لا بد أن موطنه الأصلى فى قارة اخري. أحسست أنى أجلس على شاطئ الإسكندرية وهو على الشاطئ الاخر، وأن المكتب هو البحر الأبيض المتوسط.
أخذ يسألنى عن اسمى، وعنوانى، ووظيفتى، وعدد أولادى، وأخذت أجيب عليه بما سمح له أن يقوم بتسجيل أشياء محددة فى سجل أمامه، وبما سمح لى بمواصلة محاولة تحديد موطنه الأصلى عبر البحر المتوسط، فسمرة وجهه تقول إنه من جنوب إيطاليا، وتلك الراء اللدغاء تقول إنه من فرنسا، يسألنى:
- ماذا يقلقك الآن؟.
كدت أقول إن ما يقلقنى هو تحديد موطنه الأصلى، ولكنى سارعت فى آخر لحظة بالإجابة.
- النوم.
- ماله النوم؟.
ما أدرانى ماله، لو كنت أعرف، لما جئت هنا.
- صعب على هذه الأيام.
- بسيطة.
بسيطة !!!؟. ما هى تلك التى هى “بسيطة”؟. طريقة العلاج؟. أم صعوبة النوم؟. لماذا لا يأخذون المسائل جدا؟. وكيف يصلون إلى هذه الأحكام بهذه الثقة والسرعة؟. أم هو نوع من التشجيع الطبي؟. بسيطة، بسيطة. أنا مالي..,هو أدري. أنا عملت ما على، ولتعالجنى البساطة، “عالباساطه الباساطه”. كم أحب هذه الأغنية فعلا، لابد أن موطن هذا النطاسى هو فرنسا لأن العلاقة بين فرنسا ولبنان مثل العلاقة بين صباح والبطاطة.
طال صمتى وإن كان وجهى قد أشرق بهذا الاكتشاف. نظرت إليه فوجدت أن وجهه قد أشرق هو أيضا بهذا البشر البادى علي. لعله اطمأن من ابتسامتى أن الحالة فعلا بسيطة. وأنه استطاع أن يطمئنني. ظهر البشر على أكثر لما أيقنت أن الهوة بيننا تتسع، مضى يسأل فى اهتمام ظاهر:
- وماذا أيضا؟.
- تغيرات لا أعرفها ولكنى أصاب أحيانا بدوار ويقل انتباهى عما حولى، ولا أتذكر أسماء الأشياء جيدا فى بعض الأحيان.
- وماذا أيضا؟. مم تشكو غير ذلك؟.
أشكو؟. أنا لا أشكو ولكنى أتعجب من الذى يحدث، أريد تفسيرا، أحس أننى بعيد، بعيد جدا، بعيد عن ما لا أعرف. ثم هب أننى شكوت فهل تسمعنى وأنت على الشاطئ الآخر وأنا لم أتمكن من تحديد موطنك الأصلي. أحسست بإشفاق شديد عليه,إشفاق مشوب بالاحترام لقدرته هذا الإنسان على التخيل. رددت عليه فى هدوء أقرب إلى اليأس.
- أبدا.
طلب منى أن أخلع حذائى وتذكرت ذلك الموقف مع جارنا طبيب الأطفال وأمراض النساء، ولم أسمح لخيالى أن يرجع بى إلى هذا العهد القديم فوق ظهر أم صبحى أثناء حمام ليلة العيد، اكتشفت أن الحال غير الحال، ولم يعد خيالى ساذجا مثل الأول. الآخر كان طبيب أمراض نسا وأطفال، وكنت أنا بادئا فى الكار، أما هنا فإن تطور الأمور يلزمنى بالتركيز والمحاولة الجادة، رغم البساطة المطروحة كحل سعيد.
حيرة عجيبة تلك التى مررت بها مع هذا الإنسان العظيم الصبور العالم. لم يترك فى جسمى شبرا إلا وشكه بدبوس أزعجنى فى أول الامر، ولكنى رويدا رويدا أخذت استمتع باللعبة الجديدة. حاولت أن أتعاون معه إلى أقصى مدي: كلما شك شكة وطلب منى أن أقارن بين هذه المنطقة وتلك، ازداد احترامى لإتقانه عمله – ولكن يبدو أنى خيبت ظنه فى أغلب الأحوال لأن استجابتى للدبوس كانت تتوقف على أفكارى الخبيثة لا على مدى إحساسى بالشكة. حين وجدت وجهه يعبس، خفت وقررت أن أجامله بأن أصطنع فرقا بين إحساسى هنا وإحساسى هناك، حتى أعطى لعمله معني.
- لا… هنا أكثر.
- طيب… وهنا أكثر؟. أم هنا؟.
- أكثر قليلا.
- وهنا؟. أم هنا؟.
- لا.. هنا.
فشلت مرة أخرى فى إرضائه فقد”زغر”لى ” زغزة”طبية محترمة ألزمتنى حدودى وأعادتنى إلى أفكارى السابقة تاركا له جسدى يفعل به ما يشاء من ثنى ومد أشبه بتدريبات الرياضة البدنية، وحين طلب منى أن أرفع حواجبى وأصفـر، كدت أظن به وبنفسى الظنون. استمرت اللعبة حتى هرش أسفل قدمى بمفاتيحه. قلت بدأ “بالزغزغة”وربنا يستر. حاولت أن أقاوم الاستجابة للدغدغة فلم أفلح. انفجرت فى الضحك ولم يسكتنى إلا إطفاء نور الحجرة.
أحسست بهدوء غريب، وقدرت أننا نقترب من اكتشاف الحقيقة. أحسست به وكأنه قفز إلى من شاهق فى صاروخ عابر للقارات ليقترب منى فى هذا الظلام المريح. نور مستدير يصدر من جهاز بيده أيقظ الأمل فى بشكل لم أعرفه من قبل. هل يأتى النور أخيرا من جوف الظلام؟. اقتربت الدائرة أكثر ثم اختفت حين غمر عينى شعاع ساطع، اقترب هذا النكاسى الفذ منى حتى أحسست بلفح أنفاسه تغمر وجهي. الآن فقط تبينت أنه من لحم ودم مثل سائر البشر فهو يتنفس مثلنا، مثل الآخرين. انتقل النور من عين إلى عين وأنا فى حالة من الانتباه والانبهار والأمل معا. كنت أحس بجديته وهو يبحث فى عينى عن كنز خفى ويأمرنى أن أنظر إلى إصبعه، وأن أثبت نظرى حتى يتمكن من الرؤية، ذكرنى بمصباح ديوجين وهو يبحث عن الإنسان فى وضح النهار – هل يبحث هو الآخر فى عينى عن الحقيقة، يبدو أن الطب الحديث قد عثر أخيرا على طريق مباشر لاكتشاف الحقيقة فى أعماق العين. كان ينبغى أن يعلنوا هذا فى كل مكان حتى يستريح الناس “يا خلق يا هوه!! الحاضر يبلغ الغائب: إنهم وجدوا الحقيقة فى قاع العين، فلا ترهقوا أنفسكم وأنتم تبحثون عنها خارجكم” (حلوة هذه). لو بلغ هذا الإعلان جارنا الاستاذ غريب لتوقف عن الغوص فى كتب الفلاسفة بلا طائل، ولتوقف كثيرون غيره عن الشقاء والضياع والتساؤل. العلم الحديث قد نجح أخيرا فى تحديث مصباح علاء الدين السحري.
ملأ النور الحجرة فجأة. أفيق من سرحتى بسرعة مناسبة لأكتشف أن ذلك الإنسان العالم قد انتقل بقدرة قادر إلى الناحية الأخرى من البحر المتوسط، وأنه قد استغرق فى أوراقه بوجه حازم وأخذ يكتب أشياء واضحة باهتمام بالغ. هل هذا هو نفس الرجل صاحب الأنفاس الدافئة تلفح وجهي؟. هل هو نفسه الباحث عن أصلى وفصلى وحقيقتى فى قاع عينى بمصباحه السحري؟. أكاد أحس بأنهما شخصان على الأقل. هل هى مجرد خيالاتى التى صورته لى إنسانا دافئا جادا يحاول مساعدتى وهو فى الحقيقة ذلك الإنسان الآخر العالم ذو الغليون واللكنة الأوربية؟.
قال لى بوجه حازم.
- فعلا، بسيطة.
رجعنا إلى البساطة ثانية، سبحت خيالاتى مع رياح البر والبحر عبر الأبيض المتوسط. كتب لى بضعة أقراص بعد الأكل، وأخرى قبل النوم، كما أمرنى بالامتناع عن مأكولات عزيزة على منها الجبن والزبادى والفول، والطعمية والسلمون والسردين. ما علاقة هذه الأشياء بمرضى العصبي؟. هل هو تسمم غذائي؟. عادت تقتحمنى أغنية البساطة والبطاطة فلم أتردد أن أسأله:
- هل أمتنع أيضا عن الزيتون والبطاطة؟.
نظر فى دهشة، ولكنه قال فى علم أكيد.
- لا… هذه المأكولات التى منعتك عنها لا تتناسب مع بعض الأدوية التى ستأخذها، أما باقى المأكولات فأنت حر تأكل ماتشاء.
وفوق كل ذى علم عليم، ما علاقة الأقراص بالأعصاب بالجبن بالسلمون بالبساطة بالبطاطة، ما أعظم هذا العلم الحديث!! وإيش عرف الحمير فى علوم الجنزبيل.
خرجت من لديه شاكرا محترما كل ما حدث وإن تملكتنى شفقة غريبة عليه. هذا الإنسان الذكى العالم: ماذا عرف عني؟. من أنا؟. أين ذهبت به ظنونه؟. أيهما أقرب إلى الواقع: خيالى المريض أم خياله العالم؟.
خرجت وأنا شاعر بالامتنان، وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان. أثناء مرورى بالصالة لمحت المعلقة إياها فنظرت إلى نهايتها، كان آخر بيت يقول:
”سنبقى شاكرينك ماحيينا، وأنتم رب طب العالمينا”.
ملأنى شعور بالخجل أن أخرج “هكذا”بلا عرفان حقيقى بالجميل لـ”رب طب العالمينا”. كيف يكون هو كذلك، وأنا لا أحمل تجاهه إلا نوعا من الشفقة، وبضعة علامات استفهام تتراقص أمامى فى تحد، ثم شئ فى داخلى يخرج لي- وله – لسانه.
رغم كل هذا الجحود وتلك الشقاوة والشك والتردد تناولت الأقراص كما وصفها لى، ولم أستطع أن أخفى عن زوجتى هذه الزيارة حتى أجد مبررا لهذا النظام الغذائى الخاص. لم تخف زوجتى فرحتها بأنى عقلت أخيرا وذهبت لأستشير أصحاب الرأى، واطمأننت إلى أن مابى عارض يمكن أن يزول بأقراص بعد الأكل، وأخرى قبل النوم وممنوعات فى الطعام.
* * *
ليال وأيام لا أعلم كيف تمضي. أحس أن كابوسا هائلا يكتم أنفاسي. أصحو وكأنى نائم، وأنام وكأنى مستيقظ تماما، ولكنى مقيد الحركة فى الحالين. أحاول أن أتخلص من هذه الأقراص اللعينة التى نجحت فى تجفيف ريقى بقدر ما كادت تطرحنى أرضا. كانت عملية إعطائى الحبوب تذكرنى بشربة زيت الخروع التى كانت مقررة علينا ونحن أطفال كل شهر – لتغسل الجوف وتجلى الذهن وتعالج الدمامل. لم نكن نجنى منها إلا هذا الشعور بالقيء. كنت أحاول رشوة أبى ليعفينى منها لو أنى طلعت الأول فى امتحان الفترة الثانية. ماذا يعفينى من هذه الأقراص اللعينة الآن؟. أنا مستعد لأى شئ حتى لو وضعوا فى عيني”ششما”فإنه أرحم. لماذا لم يفكر هذا الطبيب فى ذلك بعد فحص عينى بمصباحه السحري؟. أنا طول عمرى أفضل الششم الأسبوعى على زيت الخروع الشهرى حتى لو كان كالشطة ذاتها. بدأت فى التحايل على إخفاء الحبوب ثم إلقاء بعضها خفية من وراء زوجتى حتى اختفت كل الأقراص من العلبة بحمد الله. أحسست كأنى كالطائر الحبيس الذى أطلق سراحه فجأة. رأسى صاف وأفكارى عادت تطير بأجنحة من نور فى كل مكان، لم يعد يقيدها هذا الثقل الكيميائي. استعدت حريتى فجأة وعرفت قيمتها ولن أفرط فيها ثانية تحت أى وهم من أوهام العلاج، حتى لو اقتضى الأمر أن أعيش فى السر بقية حياتى، سوف أخفى كل شئ. سوف أحذر كل نصيحة بعد الآن. المدير لا يفهم إلا فى الإدارة. والطبيب لا يفهم إلا فى الطب. ما عندى ليس طبا ولا إدارة. إنها أشياء لم تدخل بعد قاموس عالمنا الأرضي. لا يوجد فى الدنيا أغلى من الحرية.
* * *
خرجت إلى الشرفة ووجدتنى أستنشق الهواء بعمق طال شوقى إليه. لعلى كنت أتأكد أنى طليق بعد إزاحة هذه الأحجار الملونة عن خلايا مخي. رحت أرى العربات فى الشارع وكأنى أشاهد لعب الأطفال تتصارع للوصول إلى هدف غامض. أحس بخلايا جسدى تتحرك تحت جلدى فى يقظة حديثة لاذعة، لا أكاد أعرف لنشاطها هدفا معينا. يبدو أن مجرد محاولة البحث عن هدف هو شئ سخيف ليس أسخف منه إلا محاولة البحث عن معني. ماذا يقول لى هذا الإحساس الجسمى تحت جلدي؟. لا شئ إلا أنه يشعرنى بالحياة “كما هي”.. ربما دون هدف، تـرى هل كل هؤلاء الذين يتحركون فى الشارع يشعرون بهذا الشعور الخاص؟. وإذا لم يشعروا بشعور الحياة هذا فهل هم أحياء؟. وكيف؟.
تحول نظرى إلى الشرفة المقابلة فلمحتها:” أماني”. عصفورتى وروح قلبي. لوحت لها بيدى، كادت تقفز من الشرفة وهى تلوح لى هى الأخرى بعينيها ويديها ووجهها.. وصدرها.. وكلها. تذكرت مرة أخرى ذلك الإحساس القريب مما أنا فيه والذى غمر جسدى قبيل إعلان الرجولة. ذلك الإحساس اليقظ الذى يعطى نسمة الهواء معنى، كنت فى سن أمانى ولكنى لا أعلم متى وكيف اختفى هذا الشعور، ثم إنى لا أعلم أكثر لم عاد هذه الأيام. لماذا أشعر أنى فى سنها وربما أصغر؟. لماذا أحس بنبض كل خلية فى جسدى وعقلى حتى أظافر رجلي؟. يبدو أن هناك ما ينبغى أن يسمي”لغة الخلايا”وهى أعظم وأصدق وأبهج من لغة العيون أو لغة القلوب، ناهيك عن تلك الألفاظ التى دخلت قاموس الإنسان لتفصـل بين عواطفه وعقله وجسده. ربما كان هذا الشعور الكامل هو الذى أشعرنى أن أمانى تلوح لى “بكـلها”. خلاياها تقفز من تحت جلدها وخلاياى كذلك، لم تعد مثل ابنتى الصغيرة. أحس أن خلايانا يمكن أن تلعب سويا، تقفز الحبل، تتدحرج على الشاطئ، تطير فى السماء، تذوب فى البحر. لم تعد أمانى ابنتى، ماذا أصبحت لي؟. حبيبتي؟.. أختي؟ أمي؟ صديقتي؟ لا. هل هى “أنا “؟. يجوز.
اختفت من الشرفة. لمحتها بعد لحظات فى الشارع، نزلت دون تفكير. تسقط كل حسابات الأرض,.. ابنتى، عشيقتى، لوليتا، عفريتا، هذا آخر ما يمكن أن أفكر فيه الآن. نزلت هكذا والسلام.
كانت أمانى تمسك بشئ ما بين ذراعيها ضاغطة بهما على صدرها – كتب أو حقيبة – وكان هذا الوضع يجعل جسمها يتحرك بأكلمه فى نعومة متماوجة تتناسب مع توقف حركة المجدافين عن ضرب الهواء. كانت مثل السفينة الشراعية تسير حسب الريح رافعة رأسها لتلتقط موجات النسيم فتنساب فى سحر هادئ. أيام الثانوى كنت أعجب من هؤلاء الطلبة الذين يتناوبون توصيل الطالبات إلى المنازل من المدارس وبالعكس، محتفظين ببعد ثابت منهن مثل الكلاب الأمينة. كنت أتساءل عن جدوى كل هذا؟. يبدو أن فى الإنسان قوى جاذبة للمادة الحية لا تظهر إلا إذا ترتبت أجزاؤه مثلما كنا نمغنط الدبابيس فى حصة الأشياء والصحة. لازالت خلاياى نشطة تخاطب أمانى فى صمت. ضجرت من هذا الصمت وأصابتنى شجاعة ليست فى الحساب. قفزت إلى الرصيف الآخر بعد أن سبقتها ببضعة أمتار ثم تمهلت حتى اقتربت مني. كادت تتخطانى وهى لا تراني. تلفت إليها حتى لا تضيع الفرصة. أيه فرصة يا أكبر عيل؟. فرحت بى فرحة حقيقية، تحدثت معى بلا تردد وهى تكاد تتعلق برقبتى مثل ما تعودت منذ كان طولها لا يتعدى ركبتي. أطلقت فرحتى أنا الآخر دون خجل، مشاعر قريبة من المشاعر التى مرت بى مع آمال فى خيالى إلا أنها أعمق طفولة وأكثر جرأة أيضا. نفس الإشكال: لا تستطيع أن تسميها جنسية كما لا تستطيع أن تستبعد منها الجنس. شئ جديد أقرب إلى تفتح الزهر أو اهتزاز البطة لحظة خروجها من الماء، أو نشوة رذاذ المطر تحت الشمس. سألتها عن دروسها وعن واجباتها وعن ميعاد عودتها. أجابت فى فرحة غامرة عن كل سؤال، وكأن فى إجاباتها البسيطة إجابات لكل الأسئلة الحائرة فى الكون. عرضت عليها خدماتى فى الجبر والهندسة فسعدت بذلك سعادة بادية، ووعدتها بالمرور عليها لبدء الدروس تطوعا بعد استئذان والدتها الحاجة.
* * *
فى اليوم التالى مباشرة ذهبت إلى منزل أمانى فى الساعة الخامسة بعد الظهر، ولم أعن بأن أخبر زوجتى عن وجتهى أو لعلى تعمدت ذلك. لا علاقة بين العائلتين إلا تحيات الشرفات المتقابلة. طرقت الباب وفتحت لى “الحاجة”مرحبة داعية شاكرة، اتجهت إلى حجرة “الجلوس”. أريكتان عربيتان متقابلتان مرتفعتان عن الأرض بشكل ملحوظ. أمامهما منضدة مستديرة، عليها قرص من الرخام مشقوق من جانب وقد عض على المفرش القديم الملقى عليه فى إهمال عضة يبدو فيها الإصرار وعدم الأمان بعد الكسر. جلست وحدى أنتظر تلميذتى، وابنتى، وصديقة رذاذ المطر، فى لهفة يقظة ساخنة.
ماذا جرى لي؟. ماذا أفعل؟.
منذ أطلقت سراح عقلى بالكف عن تعاطى هذه العقاقير وأنا أتجنب مثل هذه الأسئلة خشية أن تؤدى بى مرة ثانية إلى إحدى هذه العيادات التى يديرها علماء جدا، ولكنى لم أكن أستطيع أن أوقف مخى عن التساؤل فى مثل فترات الانتظار هذه حيث تقفز الأسئلة دون استئذان. ولم يكن ذلك يخلو من فائدة على أى حال.
ماذا جرى لي… وماذا أفعل الآن؟.
لم تمهلني”الحاجة”إذ دخلت وقد وضعت على رأسها طرحة بيضاء تظهر بياض وجهها مشوبا بذلك الإشعاع الأحمر الهادئ الدافئ المشرب ببياض خفى . كانت ملامحها تشبه ملامح ابنتها ولكن على بعد من السطح كأنما هى ملامح مختبئة وراء غلالة تشى بما صنعه حج بيت الله، وزيارة الرسول، وسنوات العمر، ثم التفكير فى مرض زوجها وجنون الأسعار، كل ذلك معا. لكل ذلك وغيره فأنت لا تستطيع أن تتبين عمرها. لتكن طفلة لم تتعد العاشرة أو عجوز تخطت الستين. يتبادل الوجهان فى حذر وراء الغلالة التى لا تميز بينهما.
سألتنى:
- قهوة أم شاى؟.
تباطأت فى الإجابة عن عمد، ولكنى قلت فى النهاية.
- أريد أن أحدثـك.
كنت أريد أن أكتشف شيئا لاح لى من بعيد، كما كنت أريد أن أتعرف على حالتى أكثر.
قالت:
- لقد قالت لى أمانى كل شيء؟. لا أعرف كيف أشكرك.
كل شيء؟. ومن أدراها بكل شيء، لم تغير إجابتها اتجاهى الذى لا أعرفه.
- ولكنى أريد أن أطمئن على حضرتك أيضا.
- الحمد لله، صابرين على قضائه.
- أنا تحت أمرك.
- أكثر الله من أمثالك، أنت تعلم ظروفنا منذ مرض الحاج، والمدرسون أصبحوا ندرة، ولا بد من الحجز السابق مثل الأطباء هذه الأيام.
- أمانى ابنتى وأنا أحبها منذ كانت تحبو.
- فيك الخير يا إبنى.
إبنها؟. أنا إبنها وابنتها ابنتى. هى بنت من؟. ضاعت منى معالم الزمن. أحس أن كل الناس ليس لهم عمر، أو هم فى مثل عمرى، لا أرى فى الناس إلا ذلك الجزء من العمر الذى ليس عمرا. نحن الثلاثة أبناء بعض.. “هيه”!.
نظرت إلى الحاجة بعمق لا أعرف معناه، ولكنى تصورت أنه يحمل دعوة للعب مثلا. التقت نظراتها بموافقتى على ما لا أعرف. احمر وجهها حتى تراخت العضلات وتباعدت التجاعيد عن بعضها فأشرقت من وراء نفسها. أحسست برغبة فى الاقتراب منها أكثر. عاودت النظر إلى عيني. امتقع وجهها هذه المرة فى رعب لا مثيل له. ماذا فعلت بهذه العجوز الوديعة؟. ماذا أحمل هذه الأيام فى عيني؟. ماذا أريد؟. وإلى أين؟. عاودها بعض الهدوء بعد أن كادت تهرول خارجة دون حساب. قالت فى براءة خائفة.
- ماذا؟. ماذا يا عبد السلام أفندي… فيه ماذا؟.
أطرقت بسرعة وقلت بحزم حان.
- لا شئ يا حاجة… كل خير.
- خير يا ابنى اللهم اجعله خيرا… سأذهب أنادى لك أماني.
انصرفت، وأنا مازلت أتعجب مما جري. سمعتها تهمس قبل أن تغلق الباب ناظرة إلى بربع عين “يا ساتر استر على الولايا”.
* * *
جاءت أمانى بعد قليل كالوردة النضرة، “فرحانة”. لأول مرة أجد أن وقع هذه الكلمة له رنين خاص. تبدو كلمة أكثر تغلغلا فى الجوف من كلمات مرادفة مثل “سعيدة”أو “مبسوطة”. إنها تخرج من الأعماق مارة بكل خلية حتى تملؤ الحلق فى وداعة نشطة، جاءت أمانى “فرحانه”. كل خلاياها فرحانه. ليس فى كيانها كله خلية واحدة ضجرة أو صامته. إذا تحدثت رقصت عيناها حتى تحس بتيار الرقصة يصل إلى لون ساقيها، وإذا ضحكت خدودها بغمازتيها ضحكت أحشاؤها وأصابع قدميها، بل إنى رأيت التآلف ينتقل إلى الجماد من حولها. كانت تجلس على الكرسى وتضع يدها على المنضدة فتدب الحياة فيهما ويصبحان جزءا من نغم الحياة الغامر. مددت يدى، ربت على خدها متظاهرا بأمور غير موجودة، كنت أريد أن أتأكد أنها من نفس المعدن الذى صنع الله منه البشر، كنت أريد أن أتحسس خامتنا فى صورتها الأولى قبل أن تتراكم عليها طبقات الصدأ والخوف والجشع، وضعت يدى على خدها لم أربت عليه هذه المرة. لم تجفل أو ترتعش. سرت فى جسدى رعشة رائعة وكأنى نهلت من مادة الإنسان الخام جرعة تكفينى أن أفخر أنى كنت يوما ما من نفس هذا النوع من الكائنات. الآن تأكدت أن هذه العواطف التى تجيش بصدرى ليست جنسا، وهذه الرغبة فى الاقتراب ليست شهوة، شعرت براحة هائلة. تيقنت أننى إذا عدت بشرامثل البشر، لو يعاد صنعى من الأول بهذه المواصفات، فسوف أكون طيبا جميلا. هل تقدر الطيبة مهما كان لها من وهج جميل أن تواجه هذا العالم البشع؟. لا يمكن أن تكون هذه الإنسانه من طين إلا إذا كان هناك نوع من الطين المشع. ربما توجه البحث العلمى لإعادة اكتشاف هذا النوع حتى يعاد صنع الإنسان الذرى الذى يتناسب مع العصر. غير أن هذه المادة البشرية الخام غير قابلة للتحطيم أو الانفجار إلا إذا انفجر العالم كله، ربما أكون أنا هو حطام هذا التفجير الخفي. ثم إشعاع أمامى يعيد تجميع أجزائي.
قالت فى دلال:
- عمى عبد السلام. أين أنت؟.
- هنا معك.
- أنت تنظر إلى كأنك ترانى لأول مرة، هل بى شئ غريب.
– نعم.
- ماذا؟.
- أنا أحبك.
- أنا أعلم ذلك، أنت طول عمرك تحبني.
- وأخاف عليك من الصدأ.
- من ماذا؟.
- من التـفـتت.
- من ماذا؟.
- من الناس.
- ولكنى لا أخاف. إطمئن.
- لا أعنى ما تعنيه أمك “الحاجة”أو أبيك شفاه الله، لا أعنى أنى أخاف عليك من الغواية أو الفساد ولكنى أخاف عليك من خوفهم.
- أنت خائف يا عمي. أنا أحبك أيضا.
كدت أحتضنها حتى أذوب فيها ويتبخر رذاذ المطر تحت جلدى فى دفء حبات النور التى تشع من كيانها كله على شرط ألا أعود أبدا.
فتحت الحاجة الباب ودخلت تحمل فنجان القهوة فى الوقت المناسب.
- على الريـحه، حسب طلبك.. حصلت البركة.
- الله يبارك فيك ويحفظك يا حاجة.
لم أشعر بالحرج أو الذنب، لم يكن بداخلى ما يشين، يا حلاوة! هل يوجد فى العلاقات الإنسانية شئ مثل هذا: بلا جنس ولا ذنب ولا خجل. وبكل الجنس والطمأنينة وهذه الثقة؟. شئ لم نسمع عنه أو نقرأ عنه فى الكتب لأنه ليس فى متناول الوصف حيث هو أغنى من الألفاظ، وأكبر من مجموع الأجزاء؟. نظرت الحاجة بجانب عينها إلى الكتب التى لم تفتح بعد، وانصرفت دون أن يبدو عليها الرفض أو الخوف، غير أنى سمعتها تتمتم هذه المرة”يا منجى من المهالك يا رب”.
بدأنا الدرس مباشرة وتبينت أن أمانى لا تحتاج إلى جهودى التدريسية. بل إن حضورى يمكن أن يكون مضيعة للوقت، أصابنى نوع من السكينة يجعلنى أقول الصدق بلا حساب، حضرت الحاجة وأخبرتها ببساطة عما يجول بخاطري.
- أمانى شاطرة، وأخشى أن أضيع وقتها فى الدرس دون داع.
قالت الحاجة بانزعاج.
- هل تتركنا يا عبد السلام أفندى ونحن ما صدقنا.
صدقتم ماذا؟. أترككم؟.
- أنا تحت أمركم.
قالت أمانى بواقعية لا انزعاج فيها:
- تحضر لتراجع لي. وترى مستواى كل أسبوعين.
قالت الحاجة:
- وتسأل عنى يا ابني.
- أنا تحت أمركم، ياليت كل الناس مثلكم.
- أكثر الله خيرك يا ابني.
عادت الدائرة تدور: أنا ابنها وهى ابنتى، وابنتها ابنتى وربما تكون هى ابنة ابنتها، من منهما أكبر من الأخري؟. شتان بين جوع الأم وجزعها وبين واقعية الإبنة وثقتها، الدنيا تكاد تكتمل فى دائرة أنا أضعف حلقاتها.
لم أنس أن أسأل عن الحاج، دخلت حجرته فوجدت وجهه قد ازداد بياضا من طول بعده عن الشمس. أحسست بنفس الشعور الغامر من السكينة والنشوة مما أكـد لى أن الأمر كله مشاعر إنسانية جديدة – ليس إلا – ولا داعى لتشويهها بالذنب أو حتى بمحاولة التفسير. انحنيت على يده أقبلها وأطلب منه الدعاء، همهم بأصوات غير مفهومة، أخذت من المريض الأبكم المشلول أكثر مما أخذت من الطبيب المختص فى الشلل، استطاع أن يغمرنى بعاطفته وأحسست به وكأنه يعالج شلل عقلي. يا سبحان الله.
خرجت إلى الشارع وكأنى اكتشفت كنزا فى هذا العالم، شيئا نفيسا جدا ولكنه ليس مثل الجواهر النادرة التى أحسست بها زمان. هو شئ عادى ورائع فقط.
لو أن أى واحد رأى رؤيتى فى هذا اليوم لوجد أن الحياة تستأهل أن نعيشها بكل وسيلة وبلا هدف.
إذا كان هذا الشئ موجودا فى عالمنا فلابد أن الله موجود. ما علاقة هذا بذاك؟.
* * *
كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساء، وقدماى تقتربان من منزلنا. لمحت “الزاوية”فى الشارع الجانبى المؤدى إلى بيتى والتى تقع فى بدروم إحدى العمارات وكنت أتعجب وأنا أمر بها يوميا كيف يـعبد الله فى بدروم تحت الأرض؟. دخلتها دون تردد. أحسست أنى أدخل غار حراء. لم أجد بها إلا رجلا واحدا ملتحفا بعباءة تغطى رأسه ووجهه وهو يجلس فى ركن من أركانه. كان يهتز هزات رتيبه إلى الأمام والوراء، كأنه بندول الكون. اتخذت مكانى على بعد منه وجلست القرفصاء أنظر فى حجري. “أحسست”أن جسدى قد بدأ يهتز بنفس النظام فى هدوء ذى نغم. بدأت النشوة تنساب تحت جلدى إلى كل أجزائى ثم إلى كل ما يحيط بي. نظرت إلى أعلى المنبر المكون من درجتين خشبيتين متآكلتين، وخيل إلى أن المكان أصبح أكثر إشراقا ونورا.. صليت ركعتين دون أن أتأكد من وضوئي. أحسست بالخشوع الحي. طال سجودى حتى كدت أستوى بالأرض.
تسحبت فى هدوء إلى الخارج دون أن ألقى السلام على الإنسان المجهول القابع تحت عباءته يحسب الزمن الكونى باهتزازه المنتظم.
ما علاقة هذه الأشياء بعضها ببعض: أمانى، بالجنس، بالصلاة، بأمها، بالشلل، بالله؟ بالشيخ؟. بالسجود؟. بالجنون؟. هل تتآلف الأشياء هكذا ونحن الذين نبعثرها؟.
حين اقتربت من منزلنا لم أشعر بالرهبة مثل كل مرة. لم أشعر أنى غريب ينبغى أن أتردد فى الطرق على الباب وكأنه ليس له حق الدخول. لم يزل التآلف بين كل الأشياء يملك على كياني. وجدتها نائمة، قبلتها على جبينها. ابتسمت وهى نائمة وكأنها تحلم، أحكمت وضع الغطاء حول ظهرها. زادت بسمتها. أطفأت نور الأباجورة حتى لا تستيقظ. التف ذراعها حول عنقى وهى مازالت نائمة. أحسست بالعالم يتجمع بين يدى وكأننا عدنا إلى أيام الخطوبة أو بدء الخليقة. حين التحمت بها أحسست بخشوعى فى الصلاة، ونشوتى حين وضعت يدى على خد أمانى، وهى نفس مشاعرى حين قبلت يد والدها المشلول. خيل إلى أن استجابتها فى الأول قد خالطتها الدهشة أو الخوف إلا أن فيضانى أغرقها وسرى فى عروقها حتى حطم ترددها، وأسكت أسئلتها قبل أن تطرحها حتى على نفسها. فاحتوانا ما لا نعرف.
ونمت كطفل غلبه النعاس بعد أن شبع، وحلمة الثدى لا تزال فى فمه.
* * *
فتحت عينى فى الصباح وحاولت أن أتذكر الحلم الذى كنت فيه فلم أستطع. كان واقعا آخر اختلطت به أحداث أمس حتى ابتعد عن متناول وعيى الآن. أخذت أبحث عن المشاعر الغامرة التى ملكتنى طوال أمس بين منزل أمانى وزاوية البدروم وحضن زوجتى فلم أجد شيئا من ذلك كله. نظرت إلى وجه زوجتى وهى نائمة فوجدتها لا زالت تبتسم، لم أستطع أن أستجيب لابتسامتها بسكينة أمس.
أين ذهب كل ما حدث؟. لم يكن حلما كله. لم يكن حلما أصلا. أستطيع أن أقسم. أنا ما زلت أستطيع أن أفرق بين الحلم والواقع بوعى كامل وحذر غير محدود. منذ ذلك الحادث الأول وأنا لا أسمح لخيالى بأن ينفصل عنى ولا لثوان معدودة.
أمس كان واقعا كله. أين ذهب إذن الآن بمشاعره وكل ما كانه؟.
عقلى مازال يعمل بنفس النشاط، ولكن جسدى هامد مثل كيس الرمل. كأن شيئا أطفأ حبات النور حتى انقلبت حجارة من سجيل. إشراقة النور من وراء شفافية الحساب اختفت بعد أن أصبح السحاب كتلا من كثبان رمال متماوجة متحركة، رمال داكنة يمكن أن تغمر قافلة بأكملها فتقضى على كل نبض فيها.
إلى متى سأظل أعيش بالصدفة؟. تأتينى المشاعر دون إنذار فتدب فى الحياة وتغمرنى وأغمرها حتى أحس أنه فى قدرتى أن أسوى بشرا مثلى، ثم تذهب عنى دون استئذان فتتركنى مثل عود أذرة جاف فى مواجهة ريح الخريف ينتظر من يخلع جذوره، ويهرس خواءه.
متى يأتى اليوم الذى أضع فيه يدى على مفاتيح هذه المشاعر؟. آتى بها وقتما أريد، وأختزنها حين ترهقنى الحياة العادية، أو حين يغمرنى خدرها بما يفوق احتمالى أو يعوق حركتي. كيف يعيش بقية البشر؟. بها؟. بدونها؟. إذا كانوا يعيشون بها فكيف يتحملون تقلباتها تلك؟. وإذا كانوا يعيشون بدونها فلماذا يعيشون؟.
* * *
كان اليوم يوم جمعة بمحض الصدفة، واعتبرت ذلك عبئا ثقيلا لا قبل لى به، إذ كيف أمضى كل هذه الساعات تحت كثبان هذه الرمال المتماوجة بعد أن اختفى كل شئ آخر، وكيف أواجه زوجتى طول النهار؟. تـرى هل تتوقع تغيرا فى معاملتى بعد ما كان؟. أنا لم ألاحظ شيئا فى تصرفها حتى الآن. ربما كانت أكثر واقعية فاعتبرت الأمر كله مجرد حلم عابر. وعزمت ألا أفاتحها. لا أحد يضمن شيئآ. هل من مهرب؟.
لبست ثيابى بسرعة وخرجت وليس فى نيتى وجهة معينة، أقفلت الباب خلفى وقبل أن ألتفت إلى الدرج لأهم بالنزول، توقفت نظراتى على باب الشقة المقابلة. مازال ذهنى يستطيع أن يفكر بالرغم من انطفاء شعلة أمس. هذا وقت الأستاذ غريب. سوف أذهب لأبحث عن بعض مفاتيح هذه المشاعر التى اختفت. حتى لو كان هو بلا مشاعر فقد يعرف مفاتيحها حتى لو لم يحسن استعمالها. لن ألعب معه “كيكا عالعالي”، لن أسمح لتصورى أن يرسمه لى وقد غمرته الشماتة إذ أطرق بابه. لن يحول بينى وبينه شيء، لن أقرأ فى عينيه”أخيرا جئت”. لقد تقدمت في”الكار”وتمركزت على قاعدتى المقامة فى كوكبى الخاص الذى لا أتركه إلا لأحتوى أهل الأرض بلا تمييز. هذا ما حدث يوم أمس. أعتقد أننى أستطيع أن أعرف الآن من هو غريب على وجه التحديد، ولعلنى أعرف “لماذا”أيضا. مع أننى لم أعرف بعد من أنا. قدرتى على الحكم على الأشياء قد شحذت لما تطايرت الأقنعة القديمة رغما عني. أصبحت قادرا على الرؤية متحملا الخطأ. أتذكر أيام المراهقة وأحس بوجه الشبه، هناك اختلاف واضح، فأنا هذه الأيام لست متحمسا لأن أهدى أو أهتدي. أنا فقط قادر على المواجهة.
طرقت باب غريب وفتح لى مرحبا فعلا وكأنه كان ينتظرنى فى نفس اللحظة، لا شماتة ولا تحد كما توقعت، ربما كانت الشماتة فى المرة السابقة مجرد تصوراتى أنا.
- تفضل.
دخلت دون تردد، وجلست فى الصالة وبقايا قطعة جبن أبيض منزوية فى ركن طبق من البلاستيك على المنضدة، ونصف رغيف جاف يرتجف بجوارها من البرد، وأربعة كتب متناثرة بجوارهما، وكراسة مغلقة على قلم مختبئ فى طياتها فى استحياء. أحسست كأنى رأيت هذا المنظر قبل ذلك رغم أنى لم أدخل داخل شقته هكذا أبدا. بدا وجهه طيبا ومرحـبا عكس كل تصوراتى وأنا بعيد عنه. وجهه لم يخل- طبعا – من بعض الدهشة.
- تشرب شيئا ساخنا فى هذا البرد.
- شايا لو سمحت.
- ليس عندى شاي؟. عندى ينسون أو حلبة.
لم أتردد فى طلب شئ ما حتى تتاح لى فرصة التأمل والتفكير والاستعداد لشئ لا أعرفه تفصيلا. عندى رغبة فى الاستكشاف يصاحبها خوف من الامتحان. كنت أشعر أنى أفتح على نفسى بابا كنت أغلقته واسترحت، لكن ما وراءه ظل كامنا فى نفسى كالشقة المقابلة، حتى آن الأوان.
هل حقيقة آن الآوان؟.
ياليته يحدث.
ويارب لا.
ذهب غريب يعد المشروب الساخن.
من فرجة باب الحجرة المقابل لمحت سريره وقد تكور عليه غطاء كالح لا تستطيع أن تميزه إن كان “لحافا”أم بطانية. الملاءة البيضاء – تاريخا – أصبحت أميل إلى السواد. تسحبت إلى ابتسامة قديمة وأنا أتذكر القرادتى يسأل قرده “نوم العازب أزاي”. لم لا يتزوج هذا الغريب الطيب؟. كيف يصرف أموره؟.
- تفضل يا أستاذ عبد السلام.
- شكرا.
جلس بجوارى فى وداعة طفل، وأخذنا نرتشف هذا السائل الذهبى فى هدوء، وانتظر كل منا أن يبدأ الآخر بالحديث.
- لماذا لا تتزوج يا أستاذ غريب؟.
انزعج قليلا ولكنه سرعان ما استعاد ثقته وهدوءه.
- هل عندك عروسه؟.
هل بدأت المباراة؟. واحد صفر.
(……..)
سخيف هذا الصمت، لا.. لن أرد على الهدف حتى لو تمزقت شباكى كلها من كثرة أهدافه، سوف أغامر لأكتشف، ورزقى على الله.
- أنا أمر هذه الأيام بشئ جديد، تصورت أحيانا أنك تعرف عنه أكثر مني.
- خير يا أستاذ عبد السلام؟.
- الأسئلة عندى زادت عن الأجوبة، ولا أكاد أمسك بخيوط تفكيرى، أشعر أحيانا أن كتلة تفكيرى مثل لفة الصوف التى تشابكت خيوطها بلا أمل فى سـلسلـتها مرة ثانية.
- أنا سعيد بلقائك.
لا…. ليست شماتة… ولن تكون صحبة، هو مجرد لقاء، أنا لا أحتمل المشاركة الحقيقية لأى درجة. أنا لم أقفل باب زوجتى لأفتح هذا الباب، ليقف كل فى مكانه…”كما كنت”. سألته فجأة دون مقدمات ولا تردد.
- لماذا نعيش ياغريب، ياأستاذ غريب. هل تعرف؟.
- يقولون: لنعبد الله.
- هذا ما تعلمناه فى رياض الأطفال، ومن فوق المنابر، ولكن كيف نعـبد الله فى هذا الزمان؟.
- وأنت ما رأيك.؟.
- جئت هنا لأقول لك إنى لا أعلم.
- ولا أنا.
واتتنى الشجاعة لأواصل انسحابى الهجومي.
- – إذن. لماذا نستمر؟.
- لا أشعر أنى مستمر.
- وماذا تنتـظر؟.
- لا أدرى..
……. ولم تهتز خلجة فى وجهه!.
ترى هل مر يوما بمثل مشاعرى أمس، وهل يستطيع أحد أن يمر بمثل هذه المشاعر ثم ينتهى كهلا باهت اللون حاد القطع هكذا؟.
اسيقظ فى الإنسان السيف فجأة:
- ولكنى أحس أنك تدرى يا غريب.
شئ ما يحدث عندما تسقط الألقاب وحدها، أشعر أن حاجزا ما يتحطم؟. أشعر بالراحة أكثر من ذى قبل، لأول مرة أشعر أنى أصل إلى طبقة الخوف داخل أعماقه، تقدمت بخطوات حذرة، يتقدم هو الآخر.. ولكنه تراجع وأستأذن وهو يتساءل:
- كيف عرفت أننى أدرى يا أستاذ عبد السلام؟.
- انفتحت فى بلا مناسبة طاقة من المشاعر تصحبها معرفة تلقائية، قل لى يا أستاذ غريب ماذا تنتظر، ما دمت ترى أنك غير مستمر؟.
لابد أن يسلم، لا أحد- مثله – يستطيع توقى هذا الهجوم.
-لعلى أبحث عن السبب.
- كيف؟.
- فى هذه الكتب.
- السبب.. فى الكتب؟.
امتقع وجهه وزاد غموضا وتحفزا.
- إذن… أين نجده يا أستاذ عبد السلام؟.
- هذا ما جئت أسألك عنه.
تغير وجهه وأحسست أنى نجحت حين بدا مدافعا محتجا، قال على غير توقع:
- تجاورنى عشر سنوات، وتتجنبنى فى منزلك أغلب الوقت، ثم تزورنى بلا استئذان، لنتبادل حديثا كالاتهام، ماذا تريد منى الآن بالضبط يا أستاذ عبد السلام؟.
انهار اتفاق وقف إطلاق النار. اكتشفت أنه تخطى حدودا كان قد رسمها لنفسه، حاول أن يتراجع فلم يستطع. تماديت فى الهجوم مهتما ببحثى عن جواب لى، وليس لتحقيق أى نصر خائب.
- إلى متى ستنتظر يا غريب؟.
- حياتى انتهت إلى هذه الوقفة المتوازنة. ليس أمامى إلا مواصلة البحث وأنا أنتظر ما أنا على يقين أنه لن يكون.
- يخيل إلى أنك لا تبحث ولا تنتظر.
من أين لى بكل هذا يا ناس !.
- كل شئ وارد فى صفحات الكتب.
- فلا داعى إذن للبحث، مادام واردا بهذه الإحاطة.
- علينا أن يعثر كل واحد بنفسه على ما يؤكد له تمام نفيه.
انتبهت إلى أننا نتكلم عن مجهول يقينى بشكل ما، واصلت بالرغم من ذلك ولكنى غيرت الاتجاه حين تذكرت أنى جئت أبحث عن مفاتيح تلك المشاعر فأحالنى إلى قاضى القضاة، سألته مباشرة:
- أحسست يا غريب مؤخرا بشئ كالزلزال، هز كل كيانى، وكأن القيامة قد قامت، جعلنى هذاالشئ أشك فى كل شئ. كل شئ فجئت أسألك عن طريق لمعرفة ما حدث ظنا منى أن كثرة ما قرأت قد يفيدنى فيما أنا فيه، لكنك خيبت أملي.
يبدو أنى كنت صادقا دون قصد. رأيت وجهه يضطرب حتى اهتز جسمه، فتماسك بجهد قبل أن يقول وكأنه يحدث نفسه:
- لا…. لن أخوضها ثانية.
أدركت أنه يعرف ماذا أتحدث عنه أكثر مائة مرة من ذلك العالم الطبيب النطاسى صاحب مصباح علاء الدين، لكنه يعرفه من شئ جرى، وليس من هذه الكتب.
- أحس يا غريب أننا لو عرفنا مفاتيح تلك المشاعر فإننا نعرف مفاتيح الحياة ذاتها.
- هذا سبيل خطر، أنا كل همى أن أعرف ماذا عرفوا، لا أن أحاول من أول وجديد.
- ليس المهم ما عرفوه، ولكن كيف عرفوه.
- من أين جئت بكل هذا يا عبد السلام، يبدو أنى أسأت بك الظن، لم تشرب حلبتك.
- أريد ملعقة صغيرة، فأنا أحب أن آكل “الحصا”.
- طعمه مر.
- ليس أمر من أشياء كثيرة، ثم إنى أضع سكرا كافيا.
ذهب ليحضر الملعقة، ولماعاد أحسست أن فراغا قد ملأ رأسى بحيث لم أجد قدرة ولا رغبة فى مواصلة الحديث، جلس مترددا متحفزا على طرف الأريكة، طال الصمت بيننا فاستأذنت فجأة… ولم يحاول أن يستبقيني.
* * *
خرجت من عنده وأنا مضطرب متعجب، من أين جاءنى كل هذا الكلام الصعب؟. أنا لا أعرف مـن أنا ولا إلى أين، ولكنى كنت أتكلم معه وكأنى أعرف، أو كأنى أستطيع أن أعرف. ذهبت لزيارته وأنا أحسب أن تحت القبة شيخا، ولكنى وجدت أن ما تحت القبة كتابا، ليس مقدسا على أى حال. أحببته أكثر من أى وقت مضي. كنت أخاف منه، كنت أحس بالنقص تجاهه، أحسده على شئ لا أعرفه. ذهبت كل هذه المشاعر ولم يبق إلا الحيرة والشفقة والألم. ما معنى الألم؟. لقد نسيت هذا اللفظ فى زحمة المشاعر العملية المحسوبة مثل”الرغبة، والشبع، والعطش، وحتى الحزن لم يعد له شكل يحتوى معنى الألم. هذا ألم آخر غير ألم إصبعى “المدوحس”فى العام الماضى، ألم أحس معه بسريان الحياة وقسوتها فى نفس الوقت، بم يشعر الأستاذ غريب؟… هل يشعر أصلا؟. هل يتألم؟. هل يحب؟. وأنا؟. إلى متي..؟…إلى أين؟.
زمان – قبل الواقعة – كنت أحسب أن غريب يكاد يعرف كل أسرار العالم. كانت نظراته تقول لى دائما”أين أنت”؟. ماذا تهبـب؟.. أنا لا أنسى ذلك اليوم الذى وقعت فيه الواقعة حين كنت أقف أمام شباك إيصالات النور وأنا أستعيد زيارته فى اليوم الاسبق للواقعة، كنت أحس حينذاك أنه يدعونى – سرا – إلى عالمه، فلما استجبت له رغم أنفى وذهبت إليه…ولو بعد حين، بناء على دعوته تلك – بشكل ما- وجدته بلا عالم، كان مثل زهرة محنطة مضغوطة بين صفحات كتاب، لا هى تتحلل إلى ذرات يذروها الريح ربما وجدت بذورها أرضا أخرى، ولا هى تعلن موتها باختفاء لونها. مازال لغريب لون محدد . لون تحت الجلد، لكنه بلا رائحة. ألمح بذورا جافة يا غريب تلمع بين صفحات كتبك، هل مازالت يا ترى قادرة على الإنبات؟.
* * *
لم تمر هذه الحادثة بسلام، كأن ركنا هاما فى تكوين ما – كنت على وشك إقامته – قد انهار قبل أن أبدأ. لم أيأس. ولم آمل فى شئ محدد.
* * *
فتحت لى ” أمانى ” بنفس الوجه الصبوح وتخيلتها تقفز لتتعلق برقبتى مثل زمان، واستقبلتنى الحاجة بنفس الترحاب ونفس الطيبة، مع مسحة من الخوف ذى النداء الخافت، ولكن الأمر بالنسبة لى كان قد اختلف، ما حدث يوم اللقاء الأول لا يعود.
كنت أخشى أن تلاحظ موتى وكذبى، فضلت أن أجلس فى الصالة، أقبلت على الدرس وكأنى أنهى آخر ملفاتى فى العمل، أحسن ما فى الموقف أن أمانى لم تلاحظ شيئا واستمرت فى حيويتها تقفز كل قطعة فيها وكأنها نحلة تحمل العسل، لا تكف عن الطنين حوالي. تريد أن توقظنى بأى وسيلة حتى تمنيت أن تلدغني. جزعت حين تصورت أن لدغتها قد تنهى حياتها بلا ضمان لإحساسى بها، كنت على بعد ملايين الأميال، غبت فى عمق كونى البعيد غير مختار، مرت أمامى الحاجة عدة مرات بمناسبة وبدون مناسبة، كانت تنظر إلى فى كل مرة وكأنها تبحث عن شئ لم أحضره معى هذه المرة، وكلما تأكدت من غيابه أقبلت أقل خوفا وأكثر احتجاجا. كدت أسمعها
- لماذا لم تحضره معك؟.
- لست ولى أمره.
- إذن لماذا أحضرته معك فى المرة السابقة؟. فقلبت كياني.
- هو لا يستأذن فى حضوره أو غيابه.
- إخص عليك.
- إحذرى: إنه قد سمع نداءك.
أفيق من خيالى على صوت أمانى تسألنى سؤالا ما، فأجيب عليها إجابة صحيحة رغم ما كنت فيه. كيف أمكننى ذلك؟. لا أعرف. تقترب لحظة الانصراف التى كنت أنتظرها بفارغ الصبر فإذا بى أفزع. تغمرنى شهوة غريبة نحو أمانى، شهوة جنسية صريحه لاجدال حول طبيعتها. أو هدفها، شهوة مستقلة منفصلة عن كل شيء، ضبطت أعضائى متلبسة بها، خيالى يتصور أو ضاعا جنسية مبتذلة مع هذه الطفلة البريئة، أسرعت بجمع أشيائى وخرجت مهرولا أكاد أعدو.
* * *
فى المرة الأولى كانت مشاعرا من نوع جديد فريد، لا تصلح أن توصف بأى صفة من الصفات الشائعة، لم تكن جنسا ولا حبا ولا فرحة ولا نشوة. كانت كل ذلك مخلوطة بالألم والصحوة، لو أن لى حقا فى أن أسميها لسميتـها “الحياة”يمكن أن يخرج منها الجنس أو الشعر أو الثورة، يمكن أن تحطم بها الذرة، أو تغير تنظيم الكون، أو تجعلك تسبح فى السماء، أو تطير فى قاع البحر. أما هذا الشئ الذى حدث اليوم، وأنا أغادر بيتهم فهو الشبق الجنسى بلا زيادة ولا نقصان. الجنس جنسا مع طفلة هى ابنتى بكل المعايير العادية.
أمر ما يحدث فيقلب أروع الأشياء إلى أخبثها. أمر أنا لا أعرفه.
إذا انفصل الشئ عن الأشياء ضاع كل شئ فى اللاشئ.
ما هذا الكلام الفارغ.
ماذا يجرى فى الداخل؟.
هل أجرؤ أن أذهب إليهم ثانية؟. هل أنجح أن أهرب بلا عودة؟.
* * *
رجع الغيام يلف فكري. أظلمت كل مصادر النور ولم يبق لدى سوى هذه الشهوة التى أخذت تتزايد يوما بعد يوم، شهوة تذكرنى بحمار أزرق اللون كبير السن كان من علامات عراقة حظيرة المواشى عند أبى، وكان شديد الاعتزاز بنفسه، يحمل السماد والتراب دون بنى البشر، لا يقبل أن يستعمل “ركوبة”على ما فى ذلك من مزايا. كان ذو فحولة يخشاها بقية الحمير حتى حمار أبى الركوبة المزدان بما يليق. كانت إذا “طلبت”أتان الحمل احتكرها لنفسه بعد كل نقلة سماد، فلا يجرؤ غيره من الحمير الاقتراب منها فى وجوده. كان يجرى فى اتجاه أى أتان يلقاها فى الطريق فإذا حال دونه حائل رفع رأسه إلى السماء وكأنه يستجير بها فاتحا شفريه وهو يجز على أسنانه. كنت وأنا طفل أعجب به أشد الاعجاب وأرهبه فى نفس الوقت أشد الرهبة!! عادت صورته تراودنى وأنا أغلى بالشبق الجنسى المستقل وهو يدفعنى فى كل اتجاه وراء أى عضو أنثوى يظهر فى الطريق، وحتى المصائب التى كانت تحدث فى “الأتوبيس”أحيانا لم تنبهنى إلى تدهورى السريع.
ماذا جرى لي؟. هل أنا الذى لم يكن يعرف كيف ينظر إلى جارته فى مدرج الكلية؟. هل أنا الذى كنت أبتهل إلى الله ساجدا فى الزاوية منذ أيام حتى كدت استوى بالأرض؟. هل أنا الذى كنت أناقش الأستاذ غريب.. أدعوه للحياة وأرفض انتظاره السلبى؟. هل أجرؤ على الذهاب إلى بيتهم ثانية؟. لا مفر من معاودة التجربة…
لم تمر هذه الحادثة بسلام، كأن ركنا هاما فى تكوين ما – كنت على وشك إقامته – قد انهار قبل أن أبدأ. لم أيأس. ولم آمل فى شئ محدد.
* * *
فتحت لى ” أمانى ” بنفس الوجه الصبوح وتخيلتها تقفز لتتعلق برقبتى مثل زمان، واستقبلتنى الحاجة بنفس الترحاب ونفس الطيبة، مع مسحة من الخوف ذى النداء الخافت، ولكن الأمر بالنسبة لى كان قد اختلف، ما حدث يوم اللقاء الأول لا يعود.
كنت أخشى أن تلاحظ موتى وكذبى، فضلت أن أجلس فى الصالة، أقبلت على الدرس وكأنى أنهى آخر ملفاتى فى العمل، أحسن ما فى الموقف أن أمانى لم تلاحظ شيئا واستمرت فى حيويتها تقفز كل قطعة فيها وكأنها نحلة تحمل العسل، لا تكف عن الطنين حوالي. تريد أن توقظنى بأى وسيلة حتى تمنيت أن تلدغني. جزعت حين تصورت أن لدغتها قد تنهى حياتها بلا ضمان لإحساسى بها، كنت على بعد ملايين الأميال، غبت فى عمق كونى البعيد غير مختار، مرت أمامى الحاجة عدة مرات بمناسبة وبدون مناسبة، كانت تنظر إلى فى كل مرة وكأنها تبحث عن شئ لم أحضره معى هذه المرة، وكلما تأكدت من غيابه أقبلت أقل خوفا وأكثر احتجاجا. كدت أسمعها.
* * *
فتحت لى الحاجة بنفسها ووجهها الطيب هو هو، بسمتها الوديعة تملأ صفحته ورائحة المطبخ تفوح منها، وفى إحدى يديها حزمة ملوخية وفى الأخرى سكين، أمانى تكاد تقفز “من”داخلها لتتعلق برقبتى مرحبة. كدت ألتهم العجوز من أول وهلة، لاحظت نظراتى وبدا عليها الغضب والدهشة والرغبة فى آن واحد.
- أهلا وسهلا تفضل استرح من السلم، أمانى لم تحضر بعد، وسوف تتأخر فى حفل المدرسة السنوي.
هز الحمار ذيله فى أحشائى ودخلت دون تردد.
- كيف حالك يا فتحية (سقط لفظ “الحاجة”وحده، أو بفعل فاعل).
- الحمد لله…. ها نحن نحيا.
– ليس تماما، المرأة كالزهرة تذبل إذا لم يروها الماء المحمل بالطمي.
نظرت إلى فى دهشة حادة مستثارة، وتظاهرت بالغباء…
- كله من عند الله.
أكملت وكأنى لم أسمع.
- النار فى داخلك لم تهدأ رغم مظاهر ذبولك.
نظرت فى حذر أكبر، وتمادت فى التغابى.
- يرحمنا الله من عذابها ويهدينا جميعا.
- ربنا لا يرضى الظلم، وأنت تظلمين نفسك.
- هو أرحم الراحمين.
- خلقنا لنعيش.. نارك لم تنطفئ. أنا ألمح جمرها يتوهج تحت رماد الصبر المزعوم
احمر وجهها ولم تفلح فى أن تستمر فى الغباء. ارتجف جسدها وكأنه اشتعل فجأة، راح لهيبها يقوى العاصفة ويقاومها فى آن. حاولت أن تتمالك نفسها قائلة:
- النار للعصاة فى كل زمان.
قالتها وكأنها تذكر نفسها.. حتى لا تنسي.
- نار الآخرة فى علم الغيب.
- علمه عند ربى، كيف حال المدام يا أستاذ عبد السلام.
تجاهلت الإنذار للتذكرة، سقطت كل الحسابات التى لم تكن موجودة أصلا، واصلت بلا تردد.
- أنت لم تعرفى الحياة يوما. كل جزء منك ينبض ويستغيث قبل قهر السنين.
- ماذا جرى لك يا عبد السلام يا ابني؟. أنا فى عمر والدتك.
نهق الحمار بأعلى صوته وهز ذيله بلا انقطاع.
- أريد أن أريك شيئا لم تعرفيه فى حياتك… أنا أحبك.
رغم تحفـزها الدفاعى رأيت كيانها يهتز، كادت تسقط حزمة الملوخية من يدها.
لم أتردد.. شفتاها فى فمى والنار تغلى فى عروقى، دفعتنى بعنف، سقطت الملوخية على الأرض لم أتراجع. راحت تدفعنى بيدها الأخرى الممسكة بالسكين، لمع النصل فى عينى، ذعرت ذعرا حقيقيا وبدأت فى التراجع، وقبل أن أتبين ما يحدث غـمرت وجهى بصقة هائلة.
* * *
خرجت أجرى إلى الشارع، ليس معى منديل، أمسح السائل اللزج من على وجهى بأصابعى فينمحى معه كل ما كان، حتى معالم وجهى.
الفصل الخامس
عقل بالى
أخذت المشاكل تتصاعد بعد أن خانتنى ذاكرتى فى كل موقع. بدأت أول الأمر بنسيان أشيائى الصغيرة بالمنزل. البيت ستر وغطاء، وزوجتى صابرة حتى الآن. أما فى العمل فالأمر قد استشرى حتى امتلأت الملفات بالتأشيرات الحمراء تزيـن كل الصفحات وعرفت الأوراق الرجوع إلى مكتبى حتى تصورت أنها سترجع بعد ذلك وحدها دون أن يحملها الساعى إلى بعد المراجعة والتأشير عليها بما لا أفهم. ارتفعت الهمسات حتى أصبحت تلميحات علنية، أخذت شكل القفشات ذات المغزى، ثم أصبحت التعليقات تلقى فى وجهى مباشرة ولا شئ يوقظنى من ذهولى. وحتى الحمار الجنسى فى جوفى توقف عن هز ذيلة.
ذات صباح جاء الأستاذ نصحى عبد الصادق رئيسى المباشر وجذب كرسيا إلى جوار مكتبى، بدأ حديثه معى فى وداعة وأدب ظاهر مثل طلبة مدارس الفرير أيام زمان….. وجهه ملئ بالرقة والجـد معا، رجل طيب بلا شك.
- صباح الخير يا أستاذ عبد السلام.
- صباح الخير يا افندم.
- كيف حالك اليوم؟.
أى جديد تسوقه الأيام، وكيف أرد هذا الطارق وهو يجلس قبالتى طول النهار.
- مثل كل يوم يا افندم.
- أريد أن أتحدث معك على انفراد.
انـفراد؟. هل فى الأمر سر؟. تـرى هل لاحظ مشاعرى فى تلك الفترة التى انتهت؟. ماذا بينى وبينه من أسرار؟.
- أنا تحت أمرك.
قلتـها ولم أتحرك من مقعدى فاقترب أكثر بكرسيه وقال هامسا.
- أنا أعرف محللا ممتازا ساعد صديقا لى يمر بمثل حالتك وشفى على يديه تماما.
- مثل حالتى؟. مالها حالتى يا أستاذ نصحى؟.
- كلنا معرضون لمثل هذه الأمور، والمرض النفسى لم يعد عيبا هذه الأيام إنه علامة حضارية، من منا يستطيع أن يتحمل كل هذه الضغوط…؟.
- أنا علامة حضارية يا أستاذ نصحى؟. أى ضغوط وأى مرض تتكلم عنه؟.
- لن تخسر شيئا وأنا على استعداد للذهاب معك.
يبدو أن الوصاية بدأت تـفرض على من الخارج أيضا. لابد من مزيد من الحذر.
- إطمئن يا أستاذ نصحى لقد ذهبت من قبل للطبيب، وتبينت أنى طبيعى تماما، لن أشل عقلى مرة ثانية باستعمال تلك الأقراص. لقد توقف عن العمل وحده يا أستاذ نصحى دون حاجة إلى كيمياء.
- لا أقراص ولا يحزونون هو محلل نفسى ممتاز.. لا يعطى أقراصا.
- إذن ماذا يعطى؟.
- لا عليك من التفاصيل، ولكن صديقى يقول إنه يحسن الاستماع ويبحث عن الأسباب، وإذا عرف السبب انحلت العقد والمشاكل.
- إذا عرف السبب ؟؟…كان غريب أشطر.
- من غريب؟.
- آسف، لا شئ، الأمر غريب، ولا غريب إلا الشيطان.
- لست أمزح يا أخ عبد السلام، أنت صاحب أولاد والهمس يزداد من حولك والحالة بدأت تهدد عملك.
مزيد من اليقظة والحذر. التهديد أصبح علنا وليس عندى ما أضمن أن ينفعنى إذا أنا وعدته بإصلاح عملى. لم أعد أستطيع أن أحتفظ فى عقلى بأى رقم إلا لمدة ثوان لا تكفى لنقله من صفحة إلى أخرى. نسيت جدول الضرب، ولابد من الرضوخ ولو من باب المناورة أو التأجيل.
- شكرا يا أستاذ نصحى. سأحاول.
حاولت الانصراف إلى ما بيدى من ملفات ولكنه أكمل برقة وأدب دون تصنع.
- ماذا ستحاول يا عبد السلام يا أخى؟. إنك لم تسأل حتى عن العنوان.
- آسف كنت سأسألك فيما بعد.
-… أم أنك نسيت ما كنا نتحدث فيه؟.
يعايرنى بالنسيان. لا مفر من التسليم قبل أن يذكرنى بمصائب أدائى فى العمل.
- أيدا… ولكنى لا أحب أن أزعجك بشئونى الخاصة.
- إسمع النصيحة، لم يعد هذا الأمر من شئونك الخاصة، وأنت على هذا الحال، أنت تعلم أنى أتلقى الإهانات من المدير العام كل يوم بسببك، اعتبرنى صديقك يا أخى، جرب.
هو أمر إدارى إذن، وليست نصيحة !!! لا مفر من التسليم.
-.. أنا تحت أمرك.
تناول الأستاذ نصحى ورقة من فوق الكتب وكتب فيها بضعة كلمات تصورت أنها إنذار بالفصل، كورها وناولها لى، أخذتها فى صمت وانصرفت بعد أن ربت على كتفى فى حنان.
جلست إلى مكتبى لا أجرؤ على فتح الورقة. حاولت أن أسترجع الحديث كله أو بعضه فلم أستطع أن أتبين إلا أن إنذارا رسميا قد وجه إلى. بدأت حالتى تهدد رزقى. فى يدى ورقة تؤكد ذلك، انتهزت فرصة أن أحدا من الزملاء لا ينظر إلى وفتحت الورقة فى هدوء.
الدكتور “….. “.. مستشار نفسى، الإستشارة بميعاد سابق. ما علاقة هذا الدكتور بعملى بالإنذار بالفصل؟. لم أسمع عن حكاية “المستشار” هذه قبل ذلك. هل هو مستشار فى اللجنة الثلاثية قبل الفصل؟. لا أملك التراجع حفظا على مرتبى ووظيفتى ولن أعدم فائدة فى أن يكون عندى عذر دائم لأخطائى فى العمل، الأمر الذى سأرفضه حتى الموت هو التسليم لتلك الأقراص مرة ثانية. أكد لى نصحى أفندى أن هذا المحلل المستشار ليس له علاقة بالأقراص. ولكن خوفى مازال قائما.. لن أفعلها ولو كان مصيرى التسول على النواصى. شئ لله يا أم العواجز!!.
مر يومان وثلاثة وأنا أحاول أن أؤجل التجربة خوفا من المجهول، إلا أن نظرات الأستاذ نصحى المتسائلة كانت تلاحقنى مع تأشيراته الحمراء المنتظمة. حالتى تزداد سوءا. يبدو ألا مفر.
- التليفون دائما مشغول يا أستاذ نصحى. فكيف أحصل على ميعاد؟.
- لا بد أن تطلبه إلا عشرة…
- إلا عشرة؟. ماذا تعنى؟.
- إنه يرفع السماعة فيما عدا آخر عشر دقائق من كل ساعة حيث يتلقى المكالمات ويعطى المواعيد.
- ولماذا يا أستاذ نصحى.
- حتى لا يقطع أحد الجلسة أثناء العلاج، ألم أقل لك إنه عمل جاد، ليس مجرد أقراص، أو تطييب خاطر.
إذن فهو عمل جاد، قالها وهو يطمئننى. إلا أن ترددى زاد. كان فى نيتى أن أذهب لمجرد الوقاية من الفصل. أما أن يأخذ أحدهم الحكاية جدا فهذا مالا أحتمله. بدأ الشك يساورنى فى أن الأستاذ نصحى نفسه كان من بين زبائن هذا المستشار. وإلا فما الداعى لكل هذا الحماس والدفاع؟. ثم إن معلومات الأستاذ نصحى تبدو”نفسية جدا”. من أين له بها؟. هل يريدنى أن أشاركه شيئا ما، هل يريدنى أن أكون مثله حتى لا يخجل مما فعل؟. لكننى لست مثله. هو إنسان يتكلم بالحساب كأنه يقرأ من كتاب. يعامل الناس فى رقة تدعو للشك. يلمع ذقنه كل يوم حتى أتعجب كيف يفعلها بهذه الصورة. تساءلت مرة أيام نشاط عقلى الساخر إن كان يستعمل الزلطة التى كانت تستعملها خالتي”نجيبه” فى تزليط قاعة الفرن بعد دهاكتها. الفرق بين. إن كان هو يحتمل الوقوف أمام المرآة لإتمام هذه المهمة المعقدة، فهو لا بد يحتمل الخمسين دقيقة التى حدثنى عنها عند هذا”المستشار”. أنا لست هو. خاصمت المرآة منذ أخرجت لى لسانها. ليس عندى أدنى فكرة عن هذه الأمور”الجادة”. أحس أن عقلى قد تحلل بحيث لم يعد يحتمل أى نبش فى أنقاضه. أين المهرب؟.
كلما زادت مخاوفى تعجلت الذهاب إلى المغامرة حتى أنتهى من هذه التخمينات والمحاذير.
* * *
أخذت موعدا عجيبا بعد محاولات أقرب إلى المناورات العسكرية، كان الموعد خمسة إلا خمسة، ما هذه المواعيد المضحكة؟. هل هذا من لزوم الصنعة؟. التليفون إلا عشرة والموعد إلا خمسة. لابد اننا لسنا فى مصر العزيزة، كيف يمكن أن تكون المواعيد بهذه الدقة فى بلد بهذه الفوضى؟. من أين لى بالأتوبيس أو حتى بالتاكسى الذى سيوصلنى إلا خمسة. لهجته كانت حاسمة ومحذرة فى نفس الوقت. هو شخصيا الذى أعطى الموعد بلا وسيط. ليس أمامى إلا احترامه بقدر ما شعرت منه بالاحترام.
* * *
قبل الموعد بأكثر من ساعة كنت قد وصلت إلى باب العيادة، وجدته مغلقا بعكس عيادة النطاسى السابق حيث كان المنظر أقرب إلى جميعة استهلاكية. يبدو أنى على وشك الدخول فى تجربة جادة فعلا. دققت الجرس، فتحت لى سيدة فى منتصف العمر ولم تدعـنى للدخول. سألتنى ماذا أريد، فلما أجبتها بأن ميعادى الساعة كذا طلبت منى فى رقة أن أحضر فى الموعد. انصرفت محرجا منبهرا.
أين أقضى هذا الوقت؟. أليس عند هذا الدكتور حجرة لأمثالى من الرعية التى لا تستطيع أن تحضر فى الموعد إلا حسب الاحتمالات اللوغاريتمية للمواصلات العشوائية؟. تركت لقدماى العنان مثل أيام زمان. وكان عقلى قد كف عن الفرجة والفلسفة والنظريات، كما كف عن التفكير أصلا، وربما عن الإحساس اليومى حتى بلمس الأشياء. لم تأخذنى قدماى بعيدا فانحرفت إلى أقرب مقهى بلدى ذكـرنى بأيام تجوالى فى حوارى سوق السلاح والسيدة، طلبت شايا” كشريا” مثل أيام زمان. أخذت اتأمل من حولى ممن يشدون فى أنفاس الشيشة أو الجوزة فى هدوء وإتقان. أو يرتشفون المشروبات الساخنة فى تأن وتأمل. ذكرونى بعلاقة غريب زمان بفنجان القهوة. الوجوه تغيب بين الدخان والبخار ثم تظهر فى وضوح هادئ. لا حظت أن عقلى بدأ يعمل بدقة، هكذا وحده. أبعد هذه الأجازة الطويلة يصحو فجأة بعد أن كاد أن يكهن باعتباره لم يعد صالحا للاستعمال الآدمى؟. هل هى صحوة الخوف من المجهول؟. هل زال الكابوس تلقائيا..؟. رجعت إلى القدرة على التأمل الدقيق والتربيط الهادف. يبدو أن مفعول هذا”المستشار” أكيد حتى شفانى “على الريحة”. لعل عدم السماح بالانتظار فى عيادته هو جزء من التمهيد للعلاج الذى أتى بهذه النتيجة قبل أن يبدأ. استعاد عقلى نشاطه وقدرته على الربط بين الأحداث، حاولت أن أتذكر بعض المواقف التى كان يخيل إلى أنها قد غرقت فى طوفان النسيان. نجحت بشكل ملحوظ. إلا أن أياما وأسابيع قد اختفت برمتها تحت القاع. نظرت إلى كوب الشاى الذى يكاد ينتهى وابتمست. يا سلام!! منذ زمن لم أبتسم هكذا. رجع عقلى الساخر إلى نشاطه الحاد اللاذع حتى صور لى أن فى هذا الشاى مادة كيميائية تغسل الصدأ الذهنى. وأن كوبا آخر يمكن أن يتيح لى أن أفتح بقية خزائن عقلى. ثم خطر ببالى أن أغمس فى الشاى مفتاح الشقة الذى طالما عاكسنى وأنا أفتح الباب إلى درجة كنت أخشى معها أن يلحقنى الأستاذ غريب على السلم وأنا على غير استعداد للقائه. لمحنى الجالسون وأنا أهم بوضع المفتاح فى بقايا الشاى فتراجعت سعيدا بعودتى، فلتبق تلك الخزائن المجهولة مغلقة ما شاء لها الصدأ، وليرجع عقل بالى إلى نشاطه السرى الساخر حتى لو أصيب بالفلسفة. هأنذا أكتشف أخيرا أن لى عقلين على الأقل.. واحد علنى يتكلم مع الناس وليكن اسمه “عقلي”، والآخر يتكلم فى الخفاء وسوف أطلق عليه”عقل بالي” مثلما كنا نقول صغارا. يبدو أن هذا الحل السعيد يمكن أن يسهل على ما سبق أن حيرنى لما تبينت أن هناك صدقين، وكذبين، وخوفين، وحبين – على الأقل – تفسير مباشر، كل ذلك لأن لى عقلين على الأقل. يا حلاوة!! عقلى وعقل بالى. كنت أعلم من بعض قراءاتى القديمة أن المحللين النفسيين، مثل هذا المستشار الذى أنتظر لقاءه، يتكلمون عن الشعور واللاشعور فهل يا ترى أيهما يكون الشعور؟. وأيهما يكون اللاشعور؟. اللاشعور على حد علمى لا بد وأن يكون غير مشعور به(!!) وأنا شاعر بكل من العقلين بلا خلط ولا تردد، وفى نفس الوقت، لا بد أنى أتميز عن الناس بهذين الشعورين ياعم نصحى. كل الناس لهم “شعور” ” ولاشعور ” وأنا لى شعورين، فأيهما سوف يعالجه محللك المستشار يا عم نصحى. خصوصا وأنه فى الغالب مسكين مثلك ليس عنده إلا شعور واحد فقط. من يدرى؟. كلها ربع ساعة، ونرى.
نظرت إلى الساعة فوجدت أن الميعاد قد اقترب وحمدت الله أن يقظتى قد تمت قبل اللقاء الموعود حتى أستطيع أن أجتاز هذا الامتحان القادم بنجاح مناسب، وحمدت الله أكثر أنى انتبهت لهذه الصحوة قبل الكشف، حتى لا تختلط على الأمور أكثر، فأحسب أن ذلك من مزايا التحليل النفسى وآثاره. ربما تمت الإفاقة خوفا من التحليل قبل التحليل. هذا فضل على كل حال. خشية اللقاء هى التى أجبرت عقل بالى على النشاط فجأة، ثم تابعه عقلى. أنا استطيع الآن أن اسمع جدول الضرب. ولا بد أنى أستطيع أن أؤدى عملى بكفاءة تختفى معها تأشيراتك يا أستاذ نصحى، ومن ثم تلميحاتك بالرفت إذا أنا لم أعالج.
ما فائدة أن أذهب إلى هذا المستشار بعد هذه الإفاقة؟.إجراء لن يخسر، أنا دفعت الكشف، من حقى أن أمارس قدرا من حب الاستطلاع، والأهم من كل ذلك إسكات الأستاذ نصحى. أسرعت الخطى حتى دققت الجرس فى نفس اللحظة التى فتحت لى فيها الباب، لعلها سمعت وقع أقدامى، يبدو من منظرها أنها ربة هذا المكان وليست ممرضة أو مساعدة، أدخلتنى إلى الصالون مباشرة. ناولتها ورقة الحجز محرجا بناء على طلبها. قالت لى خمس دقائق من فضلك وانصرفت.
لا يوجد غيرى فى المكان. شككت فى وجود الدكتور المحلل. هل أنا فى عيادة أو فى منزل؟. هذا الصالون وتلك التحف توحى أن هذا منزله وأن هذه السيدة زوجته. شعرت بالراحة قليلا لما أحسست أنى فى بيت. لابد أن ساكنى هذا البيت من البشر العاديين. لكن ما هذا الصمت الذى لا يقطعه إلا بندول ساعة الحائط فى الصالة. صوت البندول يقطع الصمت فى أول الأمر إلا أنه يضاعفه بعد حين. أو لعلنى فى مدفن مثل مدافن الناس الأكابر تخليدا لتقليد قدماء المصريين. كله جائز.
مع دقة ساعة الحائط فى الصالة، حضرت السيدة الفاضلة تدعونى إلى الدخول. لم أعد أطيق كل هذا النظام والدقة. راحت يداى تهتز مثل البندول وأنا أتجه إلى حجرة المكتب، تذكرت جلستى فى القهوة البلدى منذ قليل وكيف عاد لى عقلى يحسب ويفكر ويعلق، وتعجبت للفرق بين الموقفين. تساءلت: تـرى لو أنى دخلت إلى هنا مباشرة هل كنت سأصحو هذه الصحوة؟.
المكتب جميل رقيق، والرجل يشبه المكتب كأنهما صنعا معا. كان جالسا فقام بنصف وقفة. لم يمد يده وإن كان أومأ برأسه نصف إيماءة، وابتسم إلى نصف ابتسامة، كل شئ “نصف” حتى ضوء الحجرة. هى أيضا نصف مضاءة. مازلت مأخوذا بالنظام والنظافة والصمت والدقة. جلست قبالته عبر المكتب. قشعريرة تسرى فى جسدى رغم جو الحجرة المكيف، حاولت أن أستقرئ وجهه فلم أستطع. كل شئ بالحساب مثل الموعد والصمت وحركة بندول الساعة. يداه أيضا تتحركان بالحساب، وحتى تجاعيد وجهه مرسومة بالحساب. هبـت على ريح الشمال الباردة، وتذكرت أدب الأستاذ نصحى ورقته التى تبعث الشك، لابد أن هناك علاقة بين هذا المكان وبين ما آل إليه الأستاذ نصحى من رقة ناعمة مثلجة. لم أحتر هذه المرة فى تحديد الموطن الأصلى لهذا المستشار الدكتور المحلـل مثلما احترت سابقا مع زميله العصبى. أستطيع أن أجزم أنه من سلاسلة مستوردة من النرويج على وجه التحديد، النرويج دون أى بلد من بلاد الشمال الباردة، أما لماذا النرويج… فلأنى لا أعرف عنها شيئا.
انتظرت فترة طويلة بعد أن أخذ اسمى وعنوانى ومعلومات مستفيضة مثل الأستاذ الدكتور النطاسى السابق وزيادة، سأل عن عدد إخوتى وترتيبى بينهم ونوع رضاعتى. كدت أضحك إذ كيف أتذكر نوع رضاعتى إلا إن كان يقصد عبث خيالى بفردة اليمامة اليسرى لزميلتى آمال. ساد الصمت برهة حتى كدت أستأذن فى الانصراف إلا أنى نظرت فى ساعتى ووجدت أنه لم يمض سوى دقائق محدودة، مازال من حقى، وربما من واجبى أن أبقى. ماذا أفعل فى المدة الباقية يا ترى؟.
قطع هو الصمت مشكورا بصوت يكاد يخرج من بطنه. كان وجهه يحمل نفس التعبير طول الوقت، فلا بد أنه يتكلم من بطنه فعلا. قال فى هدوئه الدمث.
- الآن تفضل,عليك الدور. تكلم… هات ما عندك..
قلت فى دهشة..
- ماذا أقول؟.؟.
- قل ما بدا لك.
(رد عقلى بالى فجأة.. وهو يلعب حاجبيه: “إحنا رجالك”).
إلا أن عقلى رد فى رزانه..
- أرسلنى الأستاذ نصحى عبد الصادق لما لاحظ كثرة نسيانى حتى أثـر ذلك على عملى، وهو رئيسى المباشر، ولكنى استعدت ذاكرتى منذ قليل والحمد لله.
خيل إلى أنه كان يعرف الأستاذ نصحى كما تصورت، لاحظت ذلك من خلجاته حين مر الأسم على سمعه ومضى يسألنى.
- متى استعدتها.
- قبل الحضور مباشرة.
سأل فى ثقة.
- هل أنت خائف…؟.
(قال عقلى بالى سرا:” بل أنت الخائف”).
قال عقلى.
- استطعت أن أتغلب على أكثر مشاكلى فجأة، بعد أن كادت تهدد مستقبلى.
قال فى ثقة.
- أنت تحاول أن تقاوم العلاج منذ البداية.
(قال عقل بالى فى صمت وهويتذكر بعض القصص والنوادر. “هكذا خبط لصق”؟.؟).
قال عقلى.
- فى الواقع أنا لا أعرف شيئا عن العلاج.
قال فى هدوء.
- أنت مصاب بفقد الذاكرة للأشياء التى لا يريد عقلك الباطن أن يتذكرها.
(قال عقل بالى “وأنت إيش عرفك بالباطن والظاهر” يا جهبذ !!!).
قال عقلى.
- لقد أدركت سر أخطائى.. وكان طمعى فى تسامح الأستاذ نصحى يجعلنى أتمادى فى الإهمال. هذه هى الحكاية..
استمر فى غير كلل.
- إذن فهى مسألة إدارية.
(قال عقل بالى: “بل…. ميتافيزيقية وأنت الصادق”).
قال عقلى.
- تقريبا.. حتى اسأل الأستاذ عبد الصادق.
سكت فترة وكأنه يفكر، ثم بدا هادئا غير مكترث…
- على كل حال نحن تعارفنا وأنا تحت أمرك. وقتما تشعر أنى أستطيع مساعدتك.
(قال عقلى بالى: “قلنا حانبنى. وادى احنا بنينا السد العالي”).
قال عقلى:
- شكرا وآسف لإزعاجك ولكنى أريد بعض الاستفسارات عن طريقة العلاج.
قال فى وضوح:
- تأتى فى الميعاد وتستلقى على هذه الأريكة لمدة خمسين دقيقة، وتقول ما يخطر على بالك، ويتكرر ذلك مرتين أو ثلاثا أسبوعيا حتى تشفى.
(قال عقل بالى: “ياليتنى أنام الآن، أريد أن أجرب هذه اللعبه الجديدة..)
وافق عقلى… فأعلنها بنفس الألفاظ لكنه توقف عند “أجرب”…
وافقنى الدكتور أيضا فأعجبت بديمقراطيته وصبره.
….
تمددت على أريكة لم أنم على مثلها فى حياتى، لست أدرى هل هى من ريش النعام أو من الكاوتشوك وارد الشواربى… استرخت عضلاتى وكدت أهزها إلى أعلى وإلى أسفل كما كنت أفعل حين نمت أول مرة على سرير “بملة”. طال الصمت حتى كدت أستغرق فى النوم.
جلس هو على كرسى خلف رأسى بعيدا عن مستوى نظرى، اضطررت أن أقطع الصمت لما بدأت أحس بالتوتر من هذا الوضع الشاذ.
- هل أتكلم وأنا نائم هكذا، ماذا أقول؟.
- أى شئ يخطر ببالك…
(قال له عقلى بالى: “يا نهار أسود,أنت توجه كلامك لى مباشرة، هل تحتمل ؟ لكننى أنا الذى سأدفع الثمن: الطرد أو السجن أو الرفت أو النفى، أيها أسرع).
خطر لى أنى لو تكلمت هكذا وأنا نائم فإن الكلام لابد أن ينزل فى قدمى كما كانوا يحذورننا من الشرب – صغارا – ونحن مستلقين… ولكن ربما كانت هذه هى الطريقة الحديثة للعلاج: أن ينتقل الكلام الزائد من رأسك إلى قدميك حسب نظرية الأوانى المستطرقة، وبذلك تثقل رجلاك ويصفو رأسك فى نفس الوقت، فتصبح “ثقيلا”و “راسيا” وكلاهما مرادف للعقل أو للدلال حسب مزاج سعاد حسنى، يا واد يا تقيل، أو حسب تعليمات مقتفى الأثر…
قطع المحلل على اكتشافاتى الجديدة قائلا…
- فيم تفكر الآن؟.
رد عقلى مباشرة بما يشغله هذه اللحظة وقد كان شيئا آخر غير شطحات عقل بالى (يبدو أن العقلين يمكن أن يفكرا فى نفس اللحظة).
- فى تكاليف العلاج.
لم يرد على الفور، هممت أن أرد أنا مع أننى أنا الذى ألقيت السؤال. هو الذى سبق أن قال لى: “أنت تنسى مالا تريد تذكره”، رأيت كيف، أنا لا أريد أن أتذكر تكاليف العلاج، ومع ذلك لم أنسها. خاب ظنك سيدى اللورد.
فوجئت بأنه رد أخيرا:
- كل جلسة مثل الكشف، ولكن الأهم هو الجدية والالتزام…
قفزت من فوق الأريكة كالملدوغ وقد تأكدت من عودة جدول الضرب إلى ذاكرتى
- أربعة وعشرون جنيها فى الشهر..؟.
(ذكرنى عقل بالى بأن مرتبى يزيد عن ضعف هذا المبلغ بقليل).
قال فى هدوء..
- هذا إذا حضرت مرتين فى الأسبوع فقط.
قلت فى انزعاج.
- هذا إذا كان الشهر أربعة أسابيع فقط.
(لعب عقل بالى حاجبيه وأخرج لسانه لأنه خدعنى وتكلم هو نيابة عن عقلي).
استمر عقلى وهو يستعبط وكأنه ليس هو، قال:
- آسف لابد أن أدبر أمورى أولا.
قال فى ثقة وتفهم:
- وأنا آسف كذلك.. ولكنى لا أستطيع خداع الناس، أو ظلم نفسى، وعلى أى حال إذا كنت جادا فى العلاج فسوف أضع ظروفك الاقتصادية فى الاعتبار.
(قال عقل بالى:” لا تقل له إننا اثنان، حتى لا يطلب ضعف الأتعاب).
يبدو أننى قلت بعض الجملة الأخيرة بصوت مرتفع سمعه الدكتور فحسب أننى أوجه له الحديث وقد كنت جالسا على الأريكة بعد لدغة العقرب، وكان هو مازال جالسا على كرسيه فى اتزان يرسل إلى نسمات من ريح بلاد النرويج… قال:
- عفوا؟.؟.
قلت معتذرا:
- لا، أبدا، كنت أختبر قدرتى الحسابية ووجدتها على ما يرام.
قال متفهما
– ما عليك لم تكن تنوى من البداية، فضلا عن الاستمرار.
(قال عقل بالى: لابد أن له عقل بال ينبئه بنوايا الناس).
قال عقلى:
- أنا عاجز عن الشكر، ولن أنسى لطفك ما حييت.
قال مودعا فى رقة حقيقة:
- أنا تحت أمرك، ليس عندى شك أنك سوف تجد طريقك. ولكن أرجوك أن تقدر طبيعة عملى.
شكرته واحترمت صدقه واعتزازه بمهنته وانصرفت مطمئنا بعد أن مد لى يده بالتحية، إذ يبدو أنه لا يسلم إلا مودعا إلى غير رجعة.
قبل أن أغادره لمحت وراء وجهه الأملس إنسانا رقيقا وربما محتارا مثلى، كانت الساعة “إلا عشرة”. خرجت مندفعا، خشيت أن أخل بالنظام. قابلت على السلم رجلا منمقا لامعا يتمهل الصعود خطوة خطوة، أغلب الظن أنه صاحب الموعد التالى، وأنه يتباطأ حتى لا يصل قبل خروجى، أحسست من رائحة العطر التى تفوح منه لتملأ السلالم، ومن مدى أناقته وهدوء خطواته، أنه الرجل المناسب للمكان المناسب، كما طاف بخيالى منظر وأناقة الأستاذ عبد الصادق، لكن هذا الخيال لم يمكث سوى ثوان. وأنا؟. أين مكانى المناسب؟. ربما فى القهوة البلدى أو فى السجن، أو فى مستشفى المجاذيب. المؤكد أنه ليس هذا المكان. مكانى لا يمكن أن يكلفنى شيئا مقابل أن أطلق لأفكارى العنان بصوت مسموع. يبدو أن الأستاذ نصحى حين أرسلنى إلى هنا كان يظن أنى مستور أو ابن ناس بشكل ما…، أو يبدو أنه تصور أن حديثى عن بلدنا أحيانا يعنى ثراء ريفيا يسمح لى بهذه المغامرة، إن كل ما أتلقاه من أمى هو بعض “الزيارات” العينية التى تعيننى على غلاء الأسعار، ولا أظن أن هذا المستشار يرضى أن أدفع له أتعابه بقدر من “البيض” أو ” أقراص الكعك” مثلما كنا نفعل زمان مقابل الحلاقة.
ما علينا. رجعت إلى لعبتى القديمة وسوف أدبر أمورى ثانية بعدما تأكدت أن لى عقلين وشعورين. كل المطلوب هو أن يلتزم كل منهما باختصاصاته حتى لا تعود الأمور إلى الاضطراب. ليختص عقلى بالمكتب والأعمال المنزلية، وللعقل الآخر الفرجة والفلسفة واختراع النظريات والخيال الجامح. جاءت سليمة هذه المرة والحمد لله..
* * *
- حمدا لله على السلامه يا عبد السلام، هكذا وإلا فلا..
- الله يسلمك يا أستاذ نصحى البركة فيك.
- هكذا تتحقق النتائج بأسرع ما نتصور، ولكن حذار أن تنقطع عن الذهاب، وإلا كنت مثل الراقصين على السلم..
أية نتائج، وأى سلم يا رجل؟. لن أحدثك عن شئ، وسأدعك سعيدا بأوهامك.
- ربنا يسهل يا أستاذ نصحى.
– أنا تحت أمرك ومادمت قد سمعت النصيحة فسأقول لك سرا، لقد كنت أنا الذى ذهبت إليه للتحليل والعلاج، وليس صديقى.
نظرت إليه، ولم أحاول أن أعقب حتى لا تفلت منى أننى كنت عارفا تقريبا، فمضى يؤكد بلهجة أقرب للزهو:
- وبالتحليل وبالتفسير تخطيت كل الصعاب.
لم أستطيع أن أمنع نفسى من الرد هذه المرة متعجبا.
- كل الصعاب؟.؟.
- حللت كل العقد، وفهمت مدى الكبت الذى كنت أعانيه منذ الطفولة حتى أصبحت “هكذا”.
كدت أسأله “هكذا…ماذا. يا هذا؟.” لكنى آثرت السلامة..
* * *
استطعت فى الأيام التالية أن أنظم أمورى أثناء النهار، أما فى الليل فما زالت المعارك تنتظرنى. مع كل مساء امتحان صعب، يبدأ أول الليل ونادرا ما أنجح فيه. ولكن نادرا ما يعلن فشلى فيه أيضا. كنت أذكى من أن أترك الأمور تخرج من يدى. المعارك مستمرة مع الهوام والوحوش متى ما غلبنى النعاس، وحين يشتد الصراع بلا حول لى ولا قوة يصبح النوم أملا وتهلكة فى نفس الوقت – أظل يقظا حتى الصباح خوفا من أن أفقد عقلى إذا أنا أغلقت عينى.
امتقع وجهه قليلا وبدا كأنه يرفض استعادة ذكرى.. ما.
أنت تسمى الأشياء بأسماء غريبة، إنها حالة نفسية اسمها القلق…
- هل أنت متأكد من أن اسمها “القلق”؟.
- طبعا.. وهى من الأمراض العصابية الناتجة من الصراع بين “الأنا والهو”…
”يانهار أسود” ذهبت إلى المختصين فلم يذكروا لى كل هذا العلم، ولكن الأستاذ نصحى شئ آخر، لابد أن هذا الـ “أنا”، هو عبد السلام المشد، وأن الـ “هو”، هو “عقل بالي”، ولكنى شخصيا لست عبد السلام المشد، “والهو” ليس عقل بال شخص مجهول الأصل والهوية. ثم إنه ليس “هو” واحد ولكنه عشرة أو عشرون أو مائة، هو يا أستاذ نصحى. إسمح لى يا ريئسيى العزيز: الله يخيبك.
……
- من أين لك بهذا اليقين يا أستاذ نصحى؟.
- من خبرتى من التحليل وقراءاتى، ثم دراستى فيما بعد.
- هل تدرس حضرتك ما أنا فيه الآن؟.
- يعنى. لقد أنهيت الليسانس وأحضر الآن الماجستير.
- وهل تترك التجارة والمحاسبة.
- ليس بالضرورة.
ترى هل يراد لى نفس المصير، أن أقلب كل مشاعرى هذه إلى أسماء وتحاليل ولافتات تلغى كل شئ حين تضعه تحتها؟. هل هذا هو الطريق لذلك العلاج المقترح؟. وهل لابد من الدراسة بنفس الحماس والتعصب؟.
- هل لابد من مثل هذه الدراسة. حتى أشفى يا أستاذ نصحى؟.
- لا. أبدا، هى مجرد هوايتى الخاصة.
حمدت الله أن جهلى حمانى من دراسة هذا التحليل النفسى الذى يبدو أنه أصبح من هوايات العصر الحديث. ما للتحليل النفسى و قيام القيامة؟. سمعت عن العقد والشعور بالنقص. ما أنا فيه ليس له علاقة بكل هذا، ليس له اسم. إنه انفجار مدمر تضيع فيه المعالم وتختلط الأسماء. ليس فيه نشاط معروف إلا الفرار، حيث يفر المرء من كل حوله، أمه وأبيه. صاحبته وبنيه. الفرار الفرار يا غريب ويا صبحى ويا كل الناس. أنا لا يعنينى إلا ما أنا فيه. وهو ما لا أستطيع تحديده. ما إن أخرجت الأرض أثقالها حتى تطايرت أفكارى كالحمم وغلت عواطفى كالبركان التدميرى، ترى هل عند نصحى أو محلله أو أى كائن كان اسم مناسب لهذا الذى حدث يوم “إيصال النور”؟. يوم نفخ فى الصور؟. مزيد من الاستفسار لن يضر.
- هل يشمل ما تسميه القلق يا أستاذ نصحى أن ينقلب كيانك كله وتزدحم رأسك بالأسئلة مثل النافورة التى تقذف ماء النار؟.
- نعم هو القلق، لكن وصفك له هو الغريب.
قلت فى تسليم ظاهر…
- قلق، أرق، كله مثل بعضه. أشكرك على اهتمامك.
- لا شكر على واجب يا عبد السلام، نحن زملاء، أصدقاء.
تراجعت عن التسليم ورجعت أسأل فى تخابث:
- أنت خير صديق، وأطيب رئيس يا أستاذ نصحى، هل يمكن أن تخبرنى كيف سيكون حالى حين يأخذ الله بيدى. كيف سأكون أنا؟.
قال فى فخر وثقة..
- ربما ساعدك الحظ وأصبحت مثلى.
أخرج لى عقل بالى لسانه فى شماته وغنى:
”تعالى يا شاطر، نروح القناطر”.
قلت لعقل بالى.
- إخرص يا غبى قد يسمعك.
رد عقل بالى:
- لا تخف. إنه لا يسمع ولا يرى ولا يحس.
- إنه رزين عاقل… وأنت تغار منه يا أرعن.
- إنه أسطوانة مشروخة لن أسكت حتى أكسرها.
- إخرس يا قاتل، أنا أعرف جبنك.
- أنا لست قاتلا، أنا أحاول أن أريك الحقيقة.
- أية حقيقة؟. لقد أحس بى ونصحنى بالذهاب إلى المختص.
- لما كثرت التأشيرات الحمراء وابتدأ المدير فى لومه.
- بفضل نصيحته تحسنت الأحوال وتحسن أدائى الوظيفى.
- لم لا يكون هذا بفضل الشاى الكشرى، لا بفضل صاحبه المحلل النرويجى.
- يهيئ الأسباب.
لم أسمح بالتمادى فى هذا النقاش العقيم خاصة بعد أن لعب لى عقل بالى حواجبه وهو يهم بتسفيه الأسباب ومهيئها. خشيت أن يسألنى، من هذا الذى يهيئها.
دأبت بعد ذلك أن أوثق أواصر الصداقة بينى وبين الأستاذ نصحى، وكأنى أحتمى به من عقل بالى. يستقبل الأستاذ نصحى ذلك بترحاب شديد، ويسألنى بين الحين والحين إن كنت مازلت أذهب إلى صاحبه، فلا أستطيع إلا أن أكذب عليه بطريقة تحتمل الصدق، فأشير من طرف خفى إلى أن هذه – على العموم – أسرار لا يصح التحدث فيها إلا بعد الشفاء. أعجب بقدرته على التمادى فى استعمال هذه اللغة طول الوقت. أتعجب من مثابرته وإيمانه بهذا الذى يقول وأحاول أن أجد فيه ما يغرينى على بيع حلى زوجتى لأخوض هذه التجربة كاملة بشكل ما. أحسبها فأجدنى سأتوقف فى أول الطريق. أحاول أن اتغلب على صعوبات الليل بالصبر والتدخين، وعلى صعوبات النهار “بالفرجة” واصطناع الفلسفة. صحبة الأستاذ نصحى أصبحت مصدرا جديدا للتأمل والتعجب. كانت محاولاته لإقناعى بالاستمرار لا تتوقف وهو يشرح لى أسرارا جنسية تتصل بحكايات إغريقية عن ملك اسمه أو ديب، وواحدة أخرى لا أذكر اسمها. وهو يتكلم عن جسم المرأة بطريقة غريبة إذ يقول أنه رمز للقضيب لأن البنت تحسد الولد على أن له قضيبا، وتثور أعماقى حين أتصور جسد البنت قضيبا. هذا علم جديد به قدر مريح من المسخرة اللذيذة!!.
كان الأستاذ نصحى ينسى أو يتناسى أنى أوهمه بالذهاب إلى ذلك المحلل فيأخذ فى ممارسة هوايته فى التفسير والتأويل. ذات مرة حاول أن يسألنى عن أحلامى فلما ألمحت له عن معارك الوحوش لم يعر الأمر اهتماما، ولكن حين ظهرت الثعابين فى الحلم قفز فى سعادة وكأنه وجد مفتاح القضية، فالثعبان “قضيب” بلا جدال، هكذا قال بيقين، وقد كنت فى طفولتى قد وقعت فى مثل هذا الخلط حين كنت أحس بأن قضيبى قطار الدلتا المار ببلدنا ليسا إلا ثعبانين لا أول لهما ولا آخر، ولما كبرت وواتتنى الشجاعة على لمسهما عرفت أنهما من الحديد، ولكنى أذكر أنى اضطررت للمشى عليهما أكثر من ساعة حتى أتبين أنهما لا يلتقيان مثلما كان يخيل إلى من بعيد. يومها كاد القطار يدوسنى وأنا منهمك فى محاولة إثبات أنهما ثعبانان يلتقيان فى مكان ما بعد مدى نظرى. هذه هى كل معلوماتى عن العلاقة بين الثعابين والقضبان. كنت أحيانا أخشى أن يفلت منى الزمام وأنا أستمع إلى الأستاذ نصحى وهو يقسم الناس إلى شخصيات “شرجية” وأخرى فميه.. إلى آخر هذه التسميات العجيبه. أمنع خيالى بصعوبة أن يقفز منى وأنا أمام سيارة المدير “الشرجي”، أو وأنا أحدث أسعد أفندى “الفمي”. لعبة جديدة لا تخلو من طرافة.
لست أدرى لم خطر ببالى أن الأستاذ نصحى لو حاول التحقق من أوهامه بنفس الطريقة التى حاولت بها التحقق من أوهامى حول قضيب قطار الدلتا، إذن لداسه قطار آخر لا أعرف معالمه.
سألته فجأة:
- هل فى بلدكم قطار دلتا؟.
أجاب فى دهشة:
- أى دلتا؟.
قلت مستعبطا:
- دلتا النيل.
قفز عقل بالى فى عناد يعرض نظرية تتناسب مع مقتضى الحال: راح يثبت لى أن الوجه القبلي”ذكر” لأن النيل فيه فرع واحد، أما الوجه البحرى فهو أنثى – وماعليك إلا أن تنظر فى الخريطة لتتأكد من ذلك، وإذا كنت رجلا مثلى، من وجه بحرى فقد يعتريك الخجل. ثم قد تستفز لتحاول إثبات رجولتك بالتاريخ الطبيعى مادامت الجغرافيا قد شرعت فى وجهك هذا الاتهام. لوح لى عقل بالى بأن مشكلتى ربما تنتهى بطلب نقلى إلى الصعيد…!!.
سألت الأستاذ نصحى عن ذلك، فأجاب فى استغراب:
- ولماذا الصعيد…؟.
أجبت بإحراج بادى.
- أظن أنى معقد من قطار الدلتا من صغرى، حتى أنى أتصور أن حالتى ستتحسن لو انتقلت إلى الصعيد.
انتبه صبحى أخيرا إلى تزايد شطحى دون أن يعتبر ذلك سخرية أو استهانة بنظرياته. نصحنى بحدة، بالقدر الذى تسمح به رقته، أن أكمل العلاج وكان مازال يخيل إليه أنى بدأته أصلا. خجلت من التمادى فى لعبة الكذب، وأحسست أن الأمور كادت تفلت من سيطرتى مثلما كان الحال فى أول المرض، وبدأت أتمادى فى الحذر عند الحديث معه، وكنت ألاحظ كثرة تعاطيه لبعض الأقراص فى أوقات غريبة وحين سألته عنها وعن شحوب وجهه أجاب أنها أقراص للهضم وحموضة المعدة ولا علاقة لها بالأعصاب. زاد فضولى لأعرفه أكثر بعيدا عن الكلام والنقاش والتحليل. لم أتوان عن تلبية دعوته لزيارته فى البيت التعرف على أسرته الصغيرة. ذهبت وفى نيتى التى لم أعلنها أن أتأكد من نتائج هذا العلاج السعيد.
* * *
فتحت لنا زوجته الباب بنفسها، سيدة نحيفة رقيقة تتحرك فى هدوء كأنهاتخاف على شعور الهواء وهى تخترقه، تعجبت من حضورى مع زوجها أو هكذا خيل إلى، إذ يبدو أن الزيارات تعتبر لديهم حدثا استثنائيا على حسب معلوماتى من حديثى معه. انحنت السيدة بأدب ظاهر ونظرت إلى الأرض، فغلبت الظن أنها تخجل من رفع عينيها فى وجهى من باب الحياء، إلا أن نظراتها تركزت على حذائى. أنقذ الموقف الأستاذ نصحى بأن تلكـأ وهو يخلع حذاءه بجوار الباب ويرتدى أحد” المنتوفليات” القابعة تحت الشماعة فى واجهة الباب. ترددت مع أننى فهمت أن المطلوب هو أن أحذو حذوه ولكن ترددى زال حين انحنى وهو يقدم لى فردتى منتوفلى آخر بدا لى جديدا. قررت أن أنفذ التعليمات فى صمت وهو يكرر أنه ما فعل ذلك إلا لأنه يعتبرنى كأحد أفراد الأسرة، وأن المنزل منزلى، وعليه فإن من حقى، حسب تعبيره، أن أفعل مثله تماما، تلكأت أكثر خوفا من المفاجآت، فأنا لا أذكر متى غيرت الجورب. فعلتها أخيرا وأغمدت قدمى فى المنتوفلى بسرعة مناسبة يمكن أن تخفى أية روائح خاصة.
دخلت وكأنى أزور معبدا من معابد العصر التحليلى النفسى، قادنى إلى الصالون وهو سعيد بى سعادة التقاء زملاء السلاح فى الحياة المدنية. راح يحدثنى عن زوجته التى استأذنت بعد أن اطمأنت لإنهاء الطقوس اللائقة. انهال عليها بالمديح وهو يقوم بإضاءة أنوار وإطفاء أخرى حتى يحسن توزيع الضوء حسب جلستنا الموقوفة عن التنفيذ لحين حضورها. ترددت فى الجلوس فعلا تحت زعم أنى أنتظر حضور” المدام”، فمازالت عندى فكرة عامة عن الذوق، ولكنى فى الحقيقة كنت أخشى على “الكرسى الفخم” من بنطلونى، نبهنى عقل بالى أن آخذ حذرى حتى لا يطلب منى أن أخلع بنطلونى تحت زعم أن المنزل منزلى أيضا. عادت زوجته بالسلامة تخطو بنفس الرقة.
بدأنا الحديث عن الطرق الحديثة فى تنشئة الأطفال. بدا الأستاذ نصحى أقل حماسا وأكثر خوفا، وكان ينظر إلى زوجته مستأذنا أو متسائلا عن الخطوة التالية. وجهه يزداد شحوبا أو احمرار حسب إيماءاتها. كان حضور زوجته مثالا للصمت المثقف والذوق الرفيع معا. أخذت تشير إلى بعض محتويات الحجرة من تحف ولوحات وتذكر لى أسماء لا أعرفها، وحين ذهبت لتحضر “الليموناده “بنفسها كان الأستاذ نصحى يستدعى الأولاد للسلام على والتعرف بى. أحسست أنى أستطيع أن أسحب نفسا عميقا من الهواء لأول مرة منذ دخولى وكأنى قد توهمت أن التنفس أيضا هنا بالحساب والأصول، ذكرنى الصمت المخيم على المنزل كله بذلك بالصمت الذى شعرت به فى عيادة صديقه المحلل، وإن كانت زوجة المحلل أكثر حيوية ونشاطا ويبساطة. تذكرت فكرة المدافن المصرية القديمة، وأحسست كأنى فى مقبرة عصرية فى وادى الملوك الجديد.. وأخذت أنتظر تشريف الأمراء من وادى الملكات.
عادت السيدة الفاضلة تحمل أكواب الليموناده فأغلب المشروبات والمأكولات لابد أن تصنع بالبيت كما قدرت، ثم عاد الأستاذ نصحى ووراءه ولدان متشابهان كأنهما توأمان لولا أن أحدهما أطول من الآخر، وعرفنى بهما ” لممعى، وجميل”، انحنيا معا ثم استقاما وجلسا على طرف الأريكة وبدأ الحوار: هذايقول وذاك يرد، ثم يصدر صوت من أقصى القاعة، فيتردد الصدى فى الجانب الآخر ويبدو أن ذلك كان عرضا لنموذج من التربية الحديثة وآثارها، وكانا، والحق يقال فى منتهى الثقافة التحليلية، حتى خيل إلى أنهما قادران على تفسير أحلامى.
زادت البرودة فى مفاصلى وانتقلت إلى كل جسمى وكأن رياح الشمال تهب من النرويج مباشرة فى أدب اسكندنافى. تمنيت لو أنهم يوزعون علينا بطانيات مثلما يفعلون فى برنامج الصوت والضوء فى ليالى الشتاء. الاختناق يزداد رغم رقة نسمات الهواء لكننى أجد صعوبة مع كل شهيق. هل لا بد أن يستأذن الهواء منهم قبل أن يدخل إلى صدرى؟. حين طلبت الانصراف لم يتمسك أحد ببقائى ادعاء لمزيد من الكرم والحفاوة. هكذا الحضارة وإلا…، خرجت إلى الشارع أكاد لا أصدق أنه أطلق سراحى.
قال عقل بالى فى شماته.
- هل صدقتي.
ثارت فى رغبة التحدى فقلت له:
- وأى عيب فى هذا البيت النموذجى، كفى عبثا وتذكر قصر ذيلك وخيبتك.
- إذن فأنت تريد أن تكون ” هكذا” بإذن العلم والتحليل.
- لم لا؟. سوف أفعلها لو اضطررت يوما. أليس هذا أفضل منك ومما تخبئ لى؟. هو أفضل حتما من أن أعيش تحت رحمة شطحاتك وسخافاتك ومفاجآتك..
قال عقل بالى وقد بدا عليه أنه يخشى هذا الحل السعيد:
- أقتلك لو تفعلها..أو فى القليل سأعلن جنونك على الملأ. دعنا نستمر أصدقاء فى السر أفضل.
قلت فى شماتة نسبية.
- إظهر على حقيقتك، أنت وغد تضحى بكل شئ فى سبيل استمرار شطحك، حتى لو كان الثمن هو الجنون ذاته.
- الجنون أفضل من برامج الصوت والضوء المعادة فى مقابر البيوت الحديثة..
ثار غيظى وأنا أرد:
- أنا الذى أقتلك لو خرجت عن طوعى
- دعنا نمضى مثلما كنا: كل فى إختصاصه.
- ولكنك تتدخل فى اختصاصى أثناء الليل دون استئذان.
- الليل مملكتى أنا، وأنا أسمح لك بالتواجد فيها أحيانا.
قلت فى تحد:
- أنا وراءك والزمان طويل.
- أنت رجل طيب لا حول لك ولا قوة.
قلت فى عناد:
- أنا لا أقبل شفقتك، إحتفظ بها لنفسك ودعنى أراجع حساباتى.
لعب لى حاجبيه قبل أن يختفى تاركا صداعا متفجرا.
* * *
لم تمض هذه الزيارة بسلام.
لم أعد أطيق سماع أحاديث الأستاذ نصحى وتفسيراته وتعليقاته، زادت تجاعيد وجهه كما شحب لونه أكثر، زادت رتابة صوته، لم أحاول أن أواجهه أو أجرح شعوره، ولكنى كنت دائم السؤال عن ” لمعى، وجميل، والمدام”، وكان هو مطمئنا بصفة عامة، طالما أنا أدعى الذهاب للعلاج.
وكأنى أذهب نيابة عنه..
* * *
لم يعد فى مقدورى أن آمل فى أى حل من الحلول التى لاحت لى هنا أو هناك، نشاط عقل بالى الساخر كان يبالغ فى تشويه هذا المآل الذى انتهى إليه نصحى وعائلته. أغلقت خلفى كل الأبواب منذ سمعتهم يغلقون باب شقتهم ورائى. إذا كان الشفاء هو أن أدفن حيا فى إحدى مقابر الملوك العصرية، فيفتح الله.
……
…..
أنا لا أستطيع الزعم أنه كان لدى أمل حقيقى فى التحليل أو غيره، تعمدت أن أنهر عقل بالى حتى لا ينفرد بى وأنا أفهمه ألا يبالغ فى التعميم، فلعل بيت الأستاذ نصحى فريد هو نتيجة لطباع مختلفة لم آلفها، ولا علاقة لها بالتحليل. رحت أعزو مقاومتى أن أسلم نفسى لعملية التجميل التحليلى هذه لاختلاف موطنى الأصلى. أنا لم أستطع أن أتخلص من قريتى بعد. أنا أحملها تحت جلدى. هذا الذى شممت رائحته عند الدكتور المستشار التحليلى ثم رأيته فى بيت الأستاذ نصحى لا يصلح لعلاج أمثالى ممن يقيمون فى المدينة كزائرين حتى لو مكثوا فيها قرونا دون الرجوع إلى قريتهم التى يحملونها معهم حيثما كانوا.
لم أزر أمى منذ لست أدرى متى.
الفصل السادس
الـزيـارة
- “سيدى عبد ربه يا سيدى”.
هكذا أعلنت ” البنت” قدوم ابن خالتى من البلدة على غير انتظار، أدخلته فى حجرة الجلوس، وبعد التحيات والأشواق الحارة من ناحيته، والردود الفاترة المخجلة من ناحيتى ساد صمت أحسست فيه بأنى متهم لابد أن يدافع عن نفسه. ماهى تهمتى على وجه التحديد؟.
- خيرا إن شاء الله!!؟.
قال فى وضوح بلا عتاب مباشر.
- والدتك تريد أن تراك يا عبد السلام أفندى. هى لم تطلب ذلك صراحة إلا أنها دائمة السؤال عنك وقد زاد انشغالها فى الفترة الأخيرة حتى حكت لى حلما شغلها.
ثار فضولى ولكنى لم أجزع.
- وكيف حال صحتها يا عبد ربه؟.
عظمة كبيرة، والأعمار بيد الله!!.
لم يكن لدى دافع واضح يدفعنى أن أزورها فى المدة الأخيرة منذ حدث ما حدث، حتى أنى لم أدعها لقضاء بعض الوقت بين الأولاد مثلما تعودنا كل عام. هل هذا أيضا من ضمن الأعراض، أو أنى اكتسبت صفات النذالة العصرية تحت حجح المرض والفلسفة الجديدة؟ ربما كان السبب هو اللامبالاة التى أغرقتنى حتى هامة رأسى، أو هو الفرار المستمر من كل من يقترب، وهاأنذا أفر منها ومن غيرها منذ نفخ فى الصور يوم حكاية إيصال النور. مضيت أسأل فى حماس خال من العواطف و الأشواق.
- هل هى مريضة يا عبد ربه؟ يبدو أنك تخبئ شيئا…
لعنت نفسى بكل لغة حين تذكرت أننى لم أزرها من زمان، بل إننى لم أتذكرها أو أحن إليها منذ كان ما كان.
- حالتها ليست خطيرة، ولكل أجل كتاب.
أنت لا تعلم يا عبد ربه ما هى الحالات الخطيرة فى الحياة، ولكل كتاب أجل.
- خير يا أستاذ، هل سمعتنى؟؟.
- طبعا.
- إن شاء الله خير…نراك عما قريب، أستأذن.
تصرفت تصرفا عصريا ربما تعلمته من زيارة بيت نصحى أفندى. تركته يخرج فورا دون دعوة إلى الغداء، وجعلت أهمهم بغمغمات ظهر من بينها “ربنا كريم” “وربنا يستر”، عبارات تصلح لكل المناسبات، نظر إلى عبد ربه نظرة كلها عتاب مكتوم، شممت منها رائحة مباراة العودة على أرضه فى البلد.
* * *
اقترب القطار من البلدة. حاولت أن أسترجع مشاعرى التى كانت تغمرنى حين كنت أذهب إلى هناك كل مرة فلم أشعر بشئ يذكر. لم تتغير البيوت ولا الأشجار، ومازال فؤاد افندى “الأشرجي” يلوح ببقايا راية خضراء. مئذنة سيدى علوان تنتظر الوعود السياسية والاشتراكية بترميمها. لا تنبض فى خلية واحدة بذكريات الطفولة، أين راحت أحاسيس الشوق لأشياء لا أعرف كيف كنت أشتاق إليها زمان؟ لماذا؟.
ترى كيف سأخفى هذا التغير عن أهل البلدة؟ مازالت نظرات عبد ربه تتخايل أمام عينى. لقد نجحت فى التمثيل والتخفى فى المدينة لأن كل واحد من أهلها يمضى فى حاله، لا تشغله إلا نفسه، بل إن كلا منهم يرحب بتمثيل وكذب الآخرين عليه حتى لا يتبين تمثيله هو وكذبه هو. أما هنا فما أعنف صوت الرفض وما أسهل إعلانه باستنكار مثل لذع السياط. اخترعوا لذلك ألفاظا لا أستطيع تصويرها إلا هكذا “إيهههيييه”. أنا لا أعرف لفظا يعطى هذه الموسيقى التصويرية مثل هذا النغم، فهو يحمل مزيجا من التعب، والاستنكار، والرفض، والتهديد معا. كما أنه يحمل فى نفس الوقت قدرا من السماح بالتراجع الفورى. شئ أشبه بالإنذار الدبلوماسى العنيف قبل إعلان الحرب.
فى بلدنا لا تملك إلا أن تكون متيقظا طول الوقت وإلا انهالت عليك التعليقات صراحة. أما إذا كنت أصبت بعض المكانة الاجتماعية (كأن أصبحت أفنديا بماهية، أو امتلكت طينا، أو بيتا ذا دورين بعد عودتك من السعودية أو ليبيا) فإنهم ينتظرون انصرافك على مضض لعقد ندوة خاصة بتقييم تصرفاتك وتحديد ما جرى لك، “كونسلتوا مجانا” ثم إنهم يصدورن أحكامهم بالتشخيص والتصنيف دون النظر إلى العلاج من فرط احترامهم للواقع – هكذا أخذت أفسر طباعهم فى خوف وحذر – وعليك بعد ذلك أن تدافع عن نفسك أو ترشوهم، أو تهرب إلى غير رجعه، وستفشل فى أغلب الأحوال، ويستمر لدغ السياط بغير توقف أينما كنت.
لا بد أن أستجمع كل قدرتى على التمثيل والتحايل فأنا مقبل على اختبار أصعب من اختبار المحلل النرويجى، وطبيب الأعصاب، ونظرات سيادة المدير. المصيبة هنا أنك لو فشلت فى الامتحان مرة، ولو بمحض الصدفة، فلن يشفع لك بعد ذلك أى تكفير أو نجاح لاحق. هم لا ينسون أبدا. بمجرد أن تقع حادثة جديدة أو غريبة مهما كان نوعها تصبح علامة زمنية يؤرخ بها لعدة سنوات حتى تقع حادثة أكبر وأغرب. تاريخهم يحكى أنه: “من ساعة جواز الواد معوض بالولية أم شلبى، أم السبع بنات !! – أو “من يوم ما ضبطوا ابن ابراهيم الاكتع مع الحمارة” إلى آخر هذه الحوادث التى قد تحدث كل يوم، ولكن ما يؤرخ به هو إذا تميزت بإعلانها فى جرسة أو كانوا متحفزين تجاه صاحبها (ربما لاسباب لا تتعلق بالحادثة ذاتها)، أما إذا كانت الحادثة ذات صفة يمكن أن تلصق بصاحبها فقد تتغير الأسماء وتتولد فروع عائلات جديدة، بأسماء جديدة، نتيجة لهذا الحادث العابر. لا أحد يستطيع أن يمنع هذا التفرع العائلى بأى قوة كانت. عائلة “أبو خروف” كانت أصلا من عائلة النبراوى ولكن أحد أفرادها سرق من صديق له خروفا صغيرا من غنم أبيه وذبحه فى المرعى وحاول أن يأكله كله قبل عودته من الحقل بعد أن شواه فى “الراكية” فأصيب بتخمه وكاد أن يروح فيها. منذ ذلك اليوم واسمه أبو خروف، وأولاده أولاد أبو خروف، أما أحفاده فقد تكونت منهم بذرة العائلة الجديدة “عائلة أبو خروف” وكاد الناس ينسون أنهم أصلا من عائلة النبراوى. كثير من الأسماء التى تسمعها ظهرت إثر حوادث عابرة توقف عندها زمن القرية يوما، ثم اكتسبت شرعيتها تلقائيا. جعلت أسترجع بعض الأسماء التى لا أعلم حكاية نشأتها على وجه التحديد ولكنى تصورتها بخيالى الخائف. يا ترى ماذا فعل أجداد “على الدهل” و”سيد الاهطل” و”زكى فرقع” ليكتسبوا هذه الأسماء الدالة. تزيد دقات قلبى وأستجمع قواى وأدعو الله أن أرجع للقاهرة وأنا مازلت عبد السلام المشد، أنا لا أعرف ماذا كان يشد جدى الأكبر حتى سموه المشد؟ مهما كان أصل الاسم فقد تعودت عليه وأنا لا أريد تغييره عن طريقهم. صحيح أننى كدت أتنازل عنه لموظفة شباك تحصيل الهكرباء، لكننى متمسك به الآن تماما لأسباب مشروعه. قريتنا لا تقبل هذا الكلام الفارغ الذى يسمح لأحد أن ينزلها بغير اسم وكنية ومعالم. أدخلها وأنا متمسك بعبد السلام المشد مائة فى المائة ولومؤقتا، و لا أريد أن أعود منها وأنا عبد السلام “المنزل” أو عبد السلام “أبو هفه”، أو عبد السلام عـقــلباله. أشعر بمدى تمسكى باسمى حين أحسست أن أحدا يمكن أن ينتزعه منى. مع أنى كدت أنفصل عنه حتى الجنون حين أحسست أنه مفروض على.
كلما اقترب القطار من المحطة فى سرعة يسبقها حمار العمدة زادت دقات قلبى خوفا من المجهول. لم أكن هكذا أبدا. ماذا ينتظرنى هذه المرة؟ هكذا؟.
كنت أذهب إلى بلدنا فأحس بالأمان والهدوء. أنا لا أحس الآن إلا بالخوف والحذر. لم أعد أستطيع أن أسمى ذلك الشعور القديم أمانا. يبدو أن كل ما كنت أستطيع الحصول عليه هو أن أنسى نفسى فى كتله البشر المتداخلة. كنت أضيع راضيا حين لا يهتم أحد بمن أكون مستقلا عن الكتلة البشرية. أهل بلدنا لا يعنيهم من تكون بقدر ما يعنيهم أنك”ابن من” وربما سألوا عن خالك واكتفوا. أما أنت، فمؤجل البت فى أمرك طول ما أنت حى. اختلف كل شئ هذه المرة، لا أنا أشعر بالأمان القديم، ولا أنا أريده، ولا أنا أريد شيئا آخر، كل ما أريده هو أن أعود بأسرع ما يمكن إلى لعبتى الجديدة. هذا “الزلزال” أيقظنى أم أماتنى؟! إذا كان أيقظنى فلماذا كل هذا التفكير؟ وإذا كان قد أماتنى فما كل هذه اليقظة والنشاط الذين يمارسهما عقلى الداخلى الذى أصبح مثل الكاميرا التى تلتقط كل التفاصيل، وأحيانا يكون مثل آلة العرض التى تسترجع كل التفاصيل فى تجسيد بشع. أين أهل بلدى من هذه الزلازل والبراكين؟ هل تحميهم كتلتهم، وعنادهم، وتسليمهم، وقسوتهم، وتسامحهم، من الزلزلة والأسئلة؟ حتى أرضهم ملساء وديعة لا تثور ولا تغضب، وغاية احتجاجها أن تتكاسل بعض المواسم عن الإنتاج، فلماذا زلزلت أرضى أنا برغم أنى منهم؟ لا.. لم أعد منهم. هل أجد إجابة محددة بعد هذه الزيارة؟ هل أنا ما زلت منهم؟ أم أننى لم أكن أبدا منهم؟ هم أيضا لهم زلازلهم. هم ليسوا الأرض التى أفرزتهم. علاقتى بالطين أقوى وأرسخ. راجع إليها بشوق غير تبلدى تجاههم. سوف أسألها مالها؟ هل ستحدثنى عن أخبارها؟ هل تفتح لى صدرها لأحدثها عن أخبارى؟…
وقف القطار فى المحطة التى تقف فى مكان ما بين دار خالتى أم عوض ومنزل حضرة الناظر. نزلت وكلى حذر ويقظة أتحسس طريقى إليهم وكانت آثار مطر غزير قد أحالت الحوارى إلى مستنقعات ومعاجن من طين يخترقها “مدق ” قد مهدته أرجل الناس والماشية وسط هذا المستنقع الطينى بطريقه تطمئن الإنسان على مستقبله. كان شكل المدق مثل الثعبان الملتوى – دون تفسيرات قضيبية يا عم نصحى – وقد خيل إلى أنه الثعبان الذى كان يحفظ جثث قدماء المصريين بعد الموت. هو يمر أمام الدور فتمتد ألسنته وأحيانا أرجله إلى داخلها بطريقه تتحدى الفناء وتنتظر البعث.
لم أقابل كثيرين أثناء سيرى وقد استقبلنى من يعرفوننى بالسلامات والهمهمات وحين كان أحدهم يصر على أن:
- تفضل.
فأرد كالآلة:
- الله يحفظك.
- تفضل.
- الله يخليك.
- تفضل.
- الله يكرمك.
ثلاث مرات لا تزيد ولا تنقص، كنت أتساءل هل هو يعنيها فعلا؟ وماذا لو تفضلت لمجرد ممارستى لهوايتى الجديدة فى معرفة معانى الألفاظ واختبار إمكانية تحقيقها؟ سوف يستقبلنى أيهم فى تساؤل، ثم فى حيرة، ثم فى شك حين يكتشف أنى تفضلت لمجرد أنه قال تفضل !! ألفاظ مع وقف التنفيذ.
* * *
دفعت باب منزلنا بعد أن سلمت على خالتى أم عطية الجالسة على المصطبة المقابلة. باب دارنا لا يغلق أبدا ليلا أو نهارا – ليس لفرط الأمانه المنتشرة بين أبناء بلدنا ولكن استنادا إلى الميثاق غير المكتوب الذى يضع المنازل من المناطق المحرم فيها السرقة، البيوت مكان مقدس، حتى عند اللصوص. أما الحظائر فهى عرضة للسرقة من غير أهل القرية، لكن الزراعات,باستثناء الحدائق، فمسموح فيها بالسرقة لملء البطن فقط وليس للتحميل إلى البيوت. قانون واضح وتفصيلى يعرفه اللص المحترف، واللص الجائع، والهواة من الشباب الجدد فى “الكار”. دفعت الباب- وكنا بعد العصر- فأصدر أزيزا طويلا طويلا ظل يطن فى أذنى حتى وصلت إلى “المقعد”. جاءنى صوتها من فوق كما اعتدت دائما…
- مييـ…………..ن؟
كان ممطوطا كالعادة وكأنه يكمل أزيز الباب.
لم أرد وإن كان قد غمرنى مزيج من الطمأنينة والسخط والخجل لأنى تأخرت فى زيارتها. أحسست بخجل أكبر لأنى حين فعلتها الآن جئت “هكذا”. هل يمكن ألا ترانى “هكذا”؟ صعدت الدرج الطينى الملتوى، وتعجبت كيف أنى لم أسقط من فوقه ولا مرة وأنا صغير، بل إننى لم أخف منه أبدا، فى حين أنى أخاف منه الآن حيث تبينت – ربما لأول مرة – أنه ليس له حاجز جانبى.
كانت جالسة أمام باب المقعد على الحصيرة فى مواجهة قرص الشمس المزمع على الرحيل وقد نشرت قميصها أمامها مستغرقة فى النظر إليه، وكأنها تبحث بين نسيجها عن شئ ذى بال. ربما عن حشرة تبحث عن الأمان بين طياته.
- مين؟؟.
قالتها هذه المرة بطمأنينة الواثــــق من صاحب وقع الأقدام على السلم.
- أنا يا أمى؟.
كادت تقفز من جلستها المتعبدة فى قرص الشمس. همت بكل جسمها ثم ارتدت ثانية كأنها عدلت عن رأيها وعادت إلى السكون المتعبد. تقدمت منها، وانحنيت على ركبتى وحاولت أن ألثم يدها. لمحت دمعة تترقرق فى عينيها فاهتز كيانى بمشاعر بعيدة عميقة غير قابلة للوصف، ولا لتتبع أصلها فى تاريخى القابل للتذكر، مشاعر تأتى من خلف كل شئ، وكأنها موجودة قبل كل شئ، وبعد كل شئ.
- خير يا عبد السلام يا ابنى أين أنت؟ وكيف حال العيال.
- يقبلون يديك.
ساد العتاب الصامت فترة حتى ملكنى خوف مبهم.
- خير يا أمى كيف حال صحتك أنت؟.
ردت وكأنها لم تسمعنى. لم أستطع أن أتبين بوضوح ما قالت. كان ظل دمعة يترقرق فى عينيها.. فيتهدج صوتها.
- الحمد لله أنى رأيتك.. الله يرحمه ويحسن إليه.
لماذا تذكره “هو” كلما رأتنى أو ذكرتنى !؟.
- هل أنت بخير يا أمي؟…. شغلنى عليك “عبد ربه”.
استمرت فى حديثها المتصل الذى يكاد يتجنب الرد أصلا على ما أقول أو أسأل.
- العفو عند صاحب العفو…….
لم يكن هناك مجال للاستمرار. تحاملت على نفسها وقامت تتلوى من فوق الحصير. ذهبت لتوها تنادى أم عطية لتساعدها فى الإمساك بدجاجة تعد لى بها وليمة العشاء دون انتظار. تعبير عيانى مباشر عن الترحيب والحنان، كأنها بذلك تلقمنى ثديها لأرتوى. داخلتنى طمأنينة ما، فتوقفت عن التكفير. سررت من هذا التحول وأحسست بسكينة تتسحب إلى حتى أنى لم أعد أحتاج إلى ذلك التفكير المستمر الذى كان يساعدنى على الشعور بالوجود. لم تعد الألفاظ فى متناول عقلى الساخر. داخلنى شعور فاتر بالذنب وكأنى طفل نسى نفسه فى اللعب فطالت غيبته حتى جاء وقت الحساب. انقلبت السكينة إلى شعور بالعجز، تمنيت لو أنى ما جئت، تمنيت لو أغمض عينى وأجد نفسى فى القاهرة حيث الوحدة والفرجة والسخرية تملأ الحياة باللاشئ، أعظم فرصة للوحدة تجدها وسط المحيط البشرى المجهولة شواطئه. كنت أحسب أنى أبحث عن معنى بسيط متسق، وها أنذا أصاب بالخزى وأشعر بالعجز وأود لو أهرب لما تصورت أنه فى متناول يدى. هل هذا هو المعنى الذى أبحث عنه فعلا؟ وماذا أفعل بوعيى بكل ذلك؟ يبدو أن المعنى يكون بسيطا حين لا تعيه أنه كذلك. كان يمكن أن يكون هذا المعنى هو أعظم صور الوجود لو أنى غير واع به.
ماذا تعنى حياتها أصلا؟ كيف تمر عليها الساعات وهى تتعبد فى قرص الشمس أو تطارد حشرة ضالة، أو تبحث فى قميصها عن سر الحياة وهدف الوجود؟ ترى هل ينبغى أن نبحث فى أشيائنا بمثل هذا الاهتمام الجاد بدلا من البحث فى عقولنا بلا جدوي؟ هذه زيارة من نوع آخر، كنت أحضر هنا قبل ذلك لأقبل يدها وأسمع دعواتها وآخذ ما تيسر من خيراتها، وأعرف كم ربحت من هذا المشوار على وجه التحديد بعد خصم أجرة القطار، أما الآن فأنا أواجه بشئ جديد تماما، أطلع على نوع من الحياة يدعونى لأن أعيد النظر فى كل شئ، أنا لا أنظر إليها هذه المرة على أنها أمى، تبدو لى كأنها إحدى آلهة الأغريق التى لم تكتشف حتى الآن، إلهة العناد مثلا تتحدى أى عبث يخطر ببال أمثالى من الضائعين، فضلا عن أمثال الأستاذ نصحى أو حتى الأستاذ غريب من النازحين من بلاد الحضارات الحديثة. هى تتمسك بالحياة بقوة عنادها الإلهي…حتى لو كانت حياتها كلها بلا معنى. المعنى هو فى مجرد عنادها للبقاء على قيد الحياة بدون هدف مفهوم إلا صراع الموت إلى آخر لحظة. هل يمكن أن أجرب أن أترك نفسى “هكذا” مثلها مثل عباد الشمس؟.
ربما وجدت الحل الحقيقى هو فى أن أعود نباتا متواضعا. “كل من انفصل عن أصله…يطلب أيام وصله…” لا أعرف أين ومتى قرأت أو سمعت ذلك. أدخل إلى داخل “المقعد” أفتح الدولاب القديم الذى أخاف عليه فى كل مرة افتحه فيها أن يكسر، وهو يأبى فى كل مرة أن يصاب بأذى رغم أصوات القرقعة المهددة، أخلع قميص الكتاف من يدى وقدمى وأرتدى صديريا. أرتبك وأنا أحاول أن أحكم رباط أزراره المائة (هكذا خيل إلي). أرتدى جلباب أبى وأخرج باحثا عنها فلا أجدها، اسمع صياح الدجاج فى العشة واستنتج أنها مختفية بداخلها تحاول الإمساك بالدجاجة وحدها بعد أن تأخرت عليها أم عطية. أسمعها تحدث الدجاج فى ألفة واعتذار. الدجاج يقفز من حولها صائحا فى احتجاج وثورة، أنتظرها حتى تخرج ممسكة بدجاجة سمية بنية اللون تحاول التخلص من يدها بعنف فلا تستطيع. تبادل الدجاج بعض الهمهمات المعتذرة المختلطة باللعنات على أم عطية التى لم تحضر حتى الآن. ترانى منتصبا أمامها فى جلباب أبى. تبتسم فى سعادة وحب وكأنها تراه “هو” وليس أنا، يمر على خاطر من الغيظ مع الرضا فى نفس الوقت – دائما “هو” وليس أنا، يدب فيها النشاط وتتغير نبرة صوتها وتمضى تدب فى الأرض وقد علت وجهها حمرة خفيفة كأنها تخجل من ذكرى تدغدغ مشاعرها………
- يرحم الله الناس الطيبين….
أدعها تجتر ذكرياتها السعيدة فى السر…
- أنا ذاهب يا أمى.
- لا تنسى أن تزوره.. يرضى عنك…
- طبعا.
لم أكن أنوى أن أزوره، فقد جئت لزيارة الأحياء مضطرا، فما بال الموتى. إن كان ثمة فرار فأنا أفر منه أكثر مما أفر منها رغم أنه غائب فى التراب.
فرارى منه لا ينتهى، وحاجتى إليه لا تهدأ.
خرجت إلى الشارع وفى عقلى سؤال واضح أريد أن أحدد بإجابته مصيرى “هل هذا هو مكاني؟ هل أجد الحل هنا؟.”
بدا لى لأول وهلة أن الناس يعيشون هنا بتوافق أكبر، وأن هذه المصائب المرضية التى سماها الأستاذ نصحى “علامة حضارية” لا وجود لها فى هذا العالم المتماسك المتناغم، أخذت أنظر إلى المواشى، والناس وهى عائدة إلى دورها تسبح فى سحابة من الغبار تطمس المعالم بين الإنسان والحيوان فلا تميز بينها إلا بانتصاب القامة وعدد الأرجل. يقفز إلى عقلى جواب حاسم عن السؤال: “نعم. هذا هو الحل…”. لأول مرة منذ نزلت من القطار يقفز عقلى الآخر فى تحد يسأل “هذا” ماذا؟ رعبت من هذه اللهجة القديمة التى يضطهدنى بها كلما اقتربت من حل ما. كان يرد على الأستاذ نصحى دائما بنفس الطريقة. كلما قال “أصبحت هكذا” رد عليه بلا إبطاء “هكذا ماذا”؟ هذا العقل الخبيث يحطم كل شئ قبل أن يبدأ. أعرف أنه ليس حلا ولا يحزنون، لكننى كنت أريد أن أستمتع بهذا الاحتمال رغم يقينى بخطئه. لم أرد على عقلى الآخر وأجلت المشاحنة. أحاول أن أذوب فى وسط سحابة الغبار وكتلة الحيوانات والبشر. لم أستطع. انسلخت بإرادتى وتوجهت إلى دكان البقالة الذى يجتمع حوله الناس بعد العشاء وطلبت علبة بلمونت صغيرة وأنا أحاول أن أجرجر خالتى شفيقة إلى الكلام…
- خير يا عبد السلام أفندي.. أين أنت يا رجل يا طيب؟.
لماذا يصرون على هذا السؤال؟ هل بدأت ملامحى تفشى السر…الحمد لله أنهم يسألون “أين أنت”؟ ولا يسألون “من أنت”؟ ولو حصل، لولـيت هاربا بلا رجعة.
- دنيا يا خالتى شفيقة.
- كان الله فى العون.
أخذت السجائر ومضيت فى طريقى ووجدتنى أتجه إلى المقابر رغم قرارى الأسبق، واكتشفت أنها مكان معقول لقراءة الفاتحة وفاء بوعدى الصامت لأمى. من المفيد أن يمضى بعض الوقت حتى ينفض تجمع الناس على البوابة فأتجنب عددا من العيون الجاهزة للرصد والحكم. وحتى -أيضا- تنتهى أمى من إعداد الدجاجة.
* * *
للمقابر عندى معان مختلفة حسب الظروف والهدف من الزيارة، فهى العيد والبلح والطيارة الورق والمراجيح، أو هى العفاريت والظلام والأرواح والجان، أو هى عذاب القبر وحساب الملكين. أشعر هذه المرة بمشاعر جديدة. أشعر أنها ليست مقابر يسكن فيها الموتى، ولكنها شكل آخر من أشكال الحياة. كأن الحد الفاصل بين الحياة والموت قد اختفى عندى حتى اختلط بعضهما ببعض فأصبحت أحس بأنى فى وادى الملوك عند الأستاذ نصحى، فى حين أنى فى مساكن الذين عرفوا الحقيقة وبخلوا علينا بها وأنا أزور المقابر.
توجهت إلى قبره مباشرة وأنا أفتقد أية مشاعر مثل الشوق والحنين مثل أيام زمان. حتى الرحمة لم أترحمها عليه. أحسست أن الحكاية مستمرة بشكل أو بآخر ولا داعى لكل هذا الجزع لمجرد الجهل بهذه الحقيقة الواضحة: “الحكاية مستمرة”، صرفت المقرئين والعجزة الذين تعودوا أن يحوموا حولى كلما ذهبت إلى هناك لأنى لم أجد مبررا لوجودهم هذه المرة. نفحتهم المعلوم وكأنهم قاموا بالواجب المعتاد كاملا. أردت أن أختلى به لأعيد التعرف عليه فى هذه الظروف الجديدة، اقتربت من المقبرة وأخذت أدقق البصر حتى وجدته جالسا يمسك بمسبحته الطويلة ويتمتم بالورد الذى لا ينتهى أبدا، يهتز أحيانا ويتصلب حينا وينتفض نادرا، ولكنه مستغرق فى دنياه الخاصة طول الوقت. ليست صورة رمزية نتيجة للتصور والخيال، وليست روحا تجسدت مثلما كنت أسمع فى حكايات الرعب. لم تخالجنى ذرة خوف. كنت متأكدا أن وجوده لاجدال فيه وقد تمثل لى حتى عشته بعمق ربما أكثر من أى وجود آخر يدعى الحياة لمجرد أنه يخرج أصواتا من فمه. كنت فى كامل وعيى أعلم تماما أن ما أراه ليس مجرد منظور للعين، كنت أحس أنه جزء منى أو من الطبيعة الكونية التى هى أنا أيضا بشكل أو بآخر. لا ذرة خوف ولا مجال للتساؤل عن طبيعة الأشياء، عجبت لهذا التحول الذى قلب كيانى فجعلنى أخاف من سلالم دارنا وكنت أقفزها ثلاثة ثلاثة وأنا صغير، وفى نفس الوقت أذهب عنى الخوف وسط المقابر والأرواح، وقد كنت أرعب لمجرد سماع سيرتها.
جلست على الأرض مسندا ظهرى إلى جدار قبره ونظرت إلى الأفق الرمادى. مازال هذا الوجود الحى متمثلا أمامى رغم أن ظهرى للقبر. قلت فى نفسى “أجرب أن أحدثه”. بدأ خوف آخر، خوف له مذاق آخر، بدأ من مفاصل أقدامى يصاعد إلى أعلى ثم توقف عند منتصف البطن.. كنت قد تعودت هذا الحوار الساخر بينى وبين عقل بالى وسميته مرة التفكير الداخلى، ومرة أخرى تصورته وسواسا، ولكنى أتقدم الآن نحو مسرحيات حية متعددة الأشخاص. يقينى بحيويتها لا يدع مجالا للشك فى صدق ما يجرى. لا أملك أن أتراجع، ماثل هو أمامى، فلا مناص من الحديث.
سألته:
- هيه؟.. هل يعجبك هذا؟.
استمر فى اهتزازه وأشار لى بيده أن أنتظر حتى ينتهى من السورة التى يتمتم بها، حاولت أن أرهف سمعى فإذا به يقرأ “وامتازوا اليوم أيها المجرمون” لم أحاول أن أدقق ولكنى ازددت خوفا.. عدت أسأله :
- ماذا تريد بعد ذلك؟.
وضع المسبحة فى جيب سيالته والتفت إلي:
- أنت السبب فى كل هذا….. وكم نصحتك؟.
لم أكن أتوقع بعد كل هذه السنين، وحتى وهو تحت التراب أن يستمر فى نصائحه ومعايرته لى بأننى السبب فى كل المصائب، سوف أتمادى معه حتى النهاية.
- وما العمل؟.
- ترجع إليه بلا تردد.
تشجعت هذه المرة وقلت له:
- وأنت.. ماذا فعلت بهروبك إليه؟.
تلكأ فى الإجابة ووضع يده فى سيالته يعبث بمسبحته دون أن يخرجها.
- أستغفره.. وأتوب إليه؟.
قلت فى تحد:
- ذنوبك لا تنتهى عند هذا الحد؟.
نظر فى غضب حتى تصورت أنه سيطردني:
– رحمته وسعت كل شئ، وأنا أطمع فيها وهو راض عنى.
- ومن أدراك؟.
- ما أنا فيه.
- وماذا أنت فيه غير التمتمة والاهتزاز والاستجداء؟ هل عرفت شيئا عن أى شئ؟ هل تستطيع أن تجيب عن سؤال واحد من أسئلة الوجود؟ أم أنك احتميت بجهلك وخوفك. الأمور تغيرت والناس تريد أن تعرف.
- هذا تطاول لا يجلب إلا الضياع.
- وهذا عمي.. لا يجلب إلا الفراغ.
- ليس هناك سبيل آخر.
- أعلن عجزك وفشلك…نتفاهم !! هو الله الذى لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
مضيت فى حديثى وكأنى لم أسمعه تماديت فى السؤال.
- أين الطريق ما دمت واثقا هكذا؟.
- الصور تختلف والسبيل واحد.
- تصر على أن أكون مجرد نسخة منك، وأن أمضى بقية حياتى فى التمتمة والاهتزاز.
- دعنى إذن…. واجن ثمرة تطاولك على ما لا تعرف..
يعيرنى بالضياع وسأعيره بالشقاء..
- وهل أنت سعيد؟.
قلتها بتحد حقيقى وشوحت بيدى وكأنى ألقى قنبلة يدوية. اهتز قليلا وعقد ما بين حاجبيه وظهر الألم على وجهه حتى كدت أبكى لألمه، ندمت على جرأتى وقسوتى، ولكن أساريره سرعان ما انفرجت بعد لحظات ليقول لى فى صرامة.
- أسعد منك على أى حال.
- أنا أعرف شقاءك فهل تعرف شقائي؟.
- كنت أتمنى أن تكون أسعد مني.
- هذا ما أحاوله. أنت لا تستطيع أن تتحمل عاقبة أمانيك، أنا أشك فى نيتك. ساعدنى إن كنت صادقا.
- كيف ترفض طريقى ثم تطلب منى العون.
- أنت نفسك تنتظر أن أجد بديلا.
تراجع فى صمت وكأنه يخفى ألما بعيدا يشككه و قال وكأنه يذكر نفسه لا يخاطبني.
- أطلب العون من أهل العون.
- ها أنت ذا ترى عجزك، ومع ذلك أنا لا أكرهك…بل أشفق عليك.
- سوف أدعو لك.
أخرج مسبحته من سيالته ونظر إلى الأرض وابتدأ فى الاهتزاز الرتيب من جديد. سمعته يقول فى ورده “قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شئ قدير”.
هل يدعونى للاستسلام إلى ما لا أعرف؟ هل كتب علينا أن ننتظر العزة والذل مغمضى العينين؟ هو نفسه لم يستسلم أبدا ومازال دائب السعى إليه – نظرت إليه فإذا به قد استغرق تماما فعرفت أنه لن يرد على مهما حاولت.
التفت إلى الأفق الرمادى فإذا بالسحاب الداكن يتجمع ليتعجل قدوم الليل، وحين رددت بصرى إلى حيث يجلس لم أجده. نظرت إلى جوارى فلمحت على مقربة منى كومة من الخرق الملونة القذرة، لم أكن قد لاحظتها من قبل ذلك، هممت بالانصراف ولكنى سمعت سعلة جافة ضعيفة تصدر من تحت كومة الخرق، انزعجت فى أول الأمر…إلا أن هذه الأماكن وما تحتويه لم تعد لتزعجنى بقدر ما تزعجنى زيارة عائلية عادية، سعلت الكومة مرة أخرى فتأكدت أنها كائن حى، هززتها بلا خوف، اهتز جسمها وأخرجت يدها تهشنى بها مثل ما تهش أى حشرة تحاول التدخل فى حريتها، أو تبحث عن وجبة دسمة من دمها. لم أتراجع فهززتها مرة ثانية حتى كشفت عن وجهها فى غضب واشمئزاز، عرفتها، خالتى “شلبية الهبلة”، حاولت أن ترجع إلى تكورها تحت كومة الخرق فهززتها أكثر مناديا عليها باسمها، أزاحت هذه الكومة من على جسدها فظهرت من تحتها كما عرفتها طول عمري.. لم يتغير منها شئ أبدا، لا عمرها ولا وجهها ولا بقايا جسدها…. ولكنى أنا الذى تغيرت حتى استطعت أن ألمح فى عينيها معنى آخر للحياة…
- كيف حالك يامه شلبية…؟.
نظرت إلى طويلا وهى تحاول أن تتعرف على، ثم أشاحت بوجهها عنى دون رد وكأنها عدلت عن الترحيب.
- أنا عبد السلام يا مه شلبيه…
قلتها رغم علمى أن هذا الاسم لم يمر على سمعها قبل ذلك أبدا، فأنا لا أذكر أنها نادت أحدا باسمه مرة واحدة…
نظرت إلى ثانية وقالت:
- إن شا الله .
فرحت بردها، كنت أود أن أسمع صوتها بأى ثمن، حاولت أن أتمادى معها فى أى اتجاه:
- إن شاء الله ماذا يامه شلبيه؟.
نظرت إلى باستنكار ثم ضربت على صدرها بيدها عدة مرات صائحة…
- خل الجدعان.. خل الجدعان…خل الجدعان…
ومضت مسرعة بين القبور حتى اختفت عن ناظرى تماما…و كأنها دخلت أحدها.
* * *
رجعت إلى البلدة أجر قدمى ولا أحاول أن أسترجع شيئا مما كان. هل كل ما حدث هو داخل مملكتى الخاصة؟ أشعر أننى فى حالة بين الائتناس والحذر، مما جعلنى أشعر بأنى أكثر قدرة على مواجهة الفلاحين دون أن يظهر على تغيير بين. أحس أنى أعود إليهم ومعى سند قوى من لقائى مع أبى ومع خالتى “شلبية”.لم أعد وحدى تماما.
كان الظلام قد احتوى البيوت حتى لم يعد يمكن تمييز معالمها. زاد من طمأنينتى أن ملامح الناس – وبالتالى ملامحى – قد اختفت هى الأخرى فى هذا الرمادى الزاحف، عرجت إلى “البوابة” واخترت ركنا منزويا خلف الظلال المتراقصة. أصروا على أن أتوسطهم تكريما للقادم من مصر، بدأ يتوافد على الدكان بضعة نفر ممن أعرف ومن لا أعرف، كان العدد محدودا فقد فضل الباقون اتقاء البرد فوق الأفران المحمية. جلست وسط جو من الترحيب المعلن والتعليقات الهامسة. لم يخطر ببالى أى تفسير سيئ لهذه الهمهمات من خلفى لأنى كنت متأكدا أن النور الخافت يخفى ملامح وجهى، كما كنت أعلم أن هذه هى طريقة استقبال القادم من “مصر”، فما بالك بعد طول غياب؟ رجع إلى السؤال الأول “هل هذا هو مكاني؟ هل أجد هنا الحل؟” تطلعت فى وجوههم فى حذر فتبينت قفزات البسمات اللاذعة والتحدى. غمرونى بالأسئلة عن مصر وأحوال مصر، وكأن لى مصادرى الخاصة تزودنى بالمعلومات السرية. كان على أن أجيب إجابات محددة، وألا أعتذر أو أوجل تحت أى ظرف، حتى حين طلب منى رزق المزين أن أوصى ناظر مدرسة الصنايع بالمركز على ابنه، لم يسمح لى بأن استفسر عن اسم الناظر تحديدا قائلا:
- دهدي…اسمه حضرة الناظر طبعا..
ولما سألته عن عنوانه قال فى دلال وعتاب…
- إيهييه…ماهو معكم فى مصر.
ولم أملك إلا أن أعده خيرا.
ابتدأت أحس بالاختناق من كثرة الأسئلة وطلب التوصيات من شخص عاجز جاهل وحيد مثلى، لم أشعر أن أحدا شعر بى منذ وصولى إلا شلبيه الهبلة. وأمى لبضعة لحظات، وأبى رغم عناده.
حتى فرصة التأمل الصامت لم يسمحوا لى بها. أستأذنت فى أول فرصة، وانصرفت مودعا بنظرات لا أعرف محتواها تفصيلا، ولكنها كانت كلها على حد إحساسى أحكاما، أحكاما، أحكاما تكاد تخترق ظهرى حتى كدت أجرى متجها إلى دارنا وأنا أتجنب أن ألتفت ورائى صائحا “والله العظيم ما عملت حاجة”. لم أكن أنفى الأحكام القاسية فقط، بل إنى كنت أرفض الأحكام كلها، وخاصة الحكم على بأنى “رجل طيب!!” .
- هل ذهبت لأبيك يا ابنى.
- طبعا يا أمى.
- روح يا ابنى الله يهديك ويزيح عنك.
كانت تروح و تجئ بنشاط بالغ وسعادة حقيقية. رحت أتعجب من هذه الحيوية التى دبت فيها، وكأنها ليست الهيكل المتهالك الذى استقبلنى قابعا تحت الشمس منذ ساعات، كدت أسألها “وكيف يهدينى الله وماذا يزيح عني؟ إيش عرفك أيتها العجوز بما بى، ياليتنى أعرف ماذا جاءنى بلا استئذان حتى أستطيع أن أزيحه عنى !، ياليت نظام النزح يصلح لتخليص الإنسان من فائض أفكاره التى تطفو على عقله حتى تفسده، لا بد أن للعقل فضلات مثل الجسم، ولا بد أن نعرف طريقا للتخلص من الأفكار الزائدة التى لا جدوى منها فى الحياة اليومية، ولكن كيف لمثلى أن يعرف الأفكار الزائدة من الأفكار الضرورية؟ لماذا ترك لنا الحكم والاختيار فى محتوى العقل ولم يترك لنا الخيار فى مسائل الجسم. أكاد أجزم أننا لو كنا نخير فى مسألة وظائف الجسم ويسمح لنا بالتساؤل حولها إذن لتوقفت جميعها نتيجة لغرور الإنسان وسوء استعماله للحرية.
هذا ظلم لا يرفعه إلا الجنون، إما أن نوهب التفكير على قدر احتياجنا له أو قدرتنا عليه، وإما أن نوهب نظاما ما نفرز به فضلات أفكارنا. لو كنت أعرف ماذا تقصد أمى بدعوتها “يزيح عنك”، ولو كنت أعرف ما يدعو لى به أبى، لساعدتهما وساعدت الله على تحقيق دعواتهما. أنا لا أعرف ماذا أريد أن أبقى وماذا أريد أن أدع. هل أريد أن اتخلص من عقلى بالي؟ وهو أقرب إلى من عقلي؟ هل أنا أريد أن اطمئن وأرضى. أم أن أعرف و أمضى..
* * *
أخذت أمى تنسق الطعام على الطبلية فى سعادة لا تخفى، ثم جلست أمامى على بعد قليل لا تشاركنى الطعام. هذه عادتها من زمان. الأكل عورة. ولكنها تريد أن تطمئن على أنى أتيت على الدجاجة المحمرة حتى آخرها.
فى هذه المرة لم أجد عندى شهية تتناسب مع إصرارها على ألا تتركنى إلا وقد مسحت آثارهها جميعا. حاولت أن اتحايل على أفكارى حتى أتفرغ لهذا الواجب ولكنى لم أستطع، فى أول الأمر نظرت إلى الساعة فتبينت أنها لم تتعد السابعة مساء، ياطول ما ينتظرنى من سواد الليل، هجمت على الوليمة أملأ بطنى بها، أخذت ألتهمها التهاما بلا رحمة وكأنى لم أنصرف عنها منذ قليل آملا أن تتخمنى فتخدرنى فأنام.
جمعت أمى بقايا الافتراس من عظام مهمشة، فى سعادة لا تتناسب مع طيبتها ورقتها.
* * *
خرجت فى الصباح التالى محملا بالزيارة التى كادت تنقطع بعد انقطاعى عن البلدة، وجلست أنتظر قطار الدلتا فى ركن خلف المقهى المكون من بعض جذوع الشجر المغطاة بأعواد القش والقابع فى مكان ما – هو أيضا – بين بيت حضرة الناظر ودار خالتى أم عوض.. انتهزت فرصة غياب القطار حيث لا موعد له وأخذت أرتشف الشاى الأسود واسترجع السؤال فى هدوء “هل أجد هنا الحل”؟.
كانت الحمير والجمال تمر على محملة بالسماد إلى الحقل، وبالتراب إلى الحظائر، يقودها الأطفال والرجال أو تقود هى الأطفال والرجال حسب موقعهم من بعض من أمام أو خلف، ملأنى الإعجاب بهذا العمل الدؤب الذى لا يتوقف ليسأل “لماذا”. “أو إلى أين”؟ هذا الداء الوبيل الذى يستشرى فى خلايا العقل مع انتشار القراءة والكتابة والتلويح بأحلام أرضية.
تقدم منى شاب أشعت أغبر يخبط على صندوق الأحذية، تبينت فيه “زينهم” الذى كان آخر عهدى به صبى نجار. جلس تحت قدمى دون اسئذان وحيانى بترحيب حقيقي؟. ناولته قدمى فى استسلام وانتهزت الفرصة لأتبادل معه آخر حديث قبل أن أغادر القرية مهزوما تماما.
هل تركت الأسطى عبد الستار النجار يا زينهم !.
- من زمان.
- وكيف حاله هو؟.
- مشى فى حب الله.
- كيف؟ حدثنى؟.
- حدث ما حدث بين يوم وليلة، أصبحنا فإذا به ينادى أخاه ويسلمه العدة، ويوصيه بالأولاد، ويملأ مخلاته بالخبز الجاف، ثم يخرج دون سلام. منذ ذلك الحين لا أحد يعرف عنه شيئا.. وإن كان يظهر أحيانا بالبلدة لبضعة أيام دون مناسبة، أو فى مولد سيدى الشيخ عمارة. وقد كثر الكلام ياسعادة البيه.
قالها وغمز بعينيه يستدرجنى لمزيد من التساؤل؟.
- خير يا زينهم…أى كلام؟.
- الكلام كثير، فمن قائل إنه عشق “الغزية “التى تحضر أيام المولد، ومن قائل إنه واصل ومن أهل الخطوة، ومن قائل إنه يدخل البيوت يساعد النساء العواقر على الحمل. أرزاق يا سعادة البيه!!!.
- كان سيد العاقلين وأنت خير من تعرفه يا زينهم.
- أحوال يا سعادة البيه، يدبرها سيدك؟.
إذا كان تدبير سيدى هذا هو التدبير الأمثل الذى يغرينى به كل ما يدور حولى فلماذا تصبح خالتى شلبيه الهبلة “هبلة”؟ وترفض هؤلاء الأحياء لتعيش بين القبور، ولماذا يسير عم عبد الستار النجار فى حب الله؟ ولماذا يقتلون كل من يشذ عن المجموع دون حيثيات أو مذكرة تفسيرية؟.
التفت إلى زينهم.
- وكيف حالك أنت يا زينهم.
أجاب وعيناه تلمع فى خبث الصياد حين تغمز سنارته.
- زفت كما ترى يا سعادة البيه، ربنا يتوب علينا….
- من ماذا يا زينهم؟.
- من البلاوى والغلب، ياليتك تجد لى عملا فى مصر.
صرخت كالملدوغ..
- فى مصر؟؟.
- أيوه فى مصر…مصر أم الدنيا… وهل هناك أحسن من مصر؟.
* * *
حضر قطار الدلتا فى دلال، وساعدنى زينهم فى حمل الزيارة إليه.
أخذت أنظر من النافذة والقطار يبتعد فى دلال أيضا عن البلدة.
ماذا أرجع به مع زيارة أمى؟.
أنظر من النافذة ولا أستطيع، والقطار يزيد من سرعته التى لا تزيد، أن أميز بين حيوان ونبات وجماد,.. وبين الناس.
الفصل السابع
وبالناس المسرة
طوال الطريق أثناء عودتى وأنا أحس بشعور جديد بزحف علىّ حتى غمرنى بثقل لا عهد لى به. منذ نفخ فى الصور ووقعت الواقعة عرفت الضياع والألم والنشوة والسخرية والحيرة ولكنى لم أواجه بمثل هذا الشعور الجديد قبل ذلك، بمثل هذه الصورة. شعور أعمق من الحزن وأخبث من اليأس لم أكن أطمع وأنا ذاهب لأمى إلا أن أطمئن على حياتها أو موتها سيان. ما وجدت نفسى فيه من مواجهة لأصلى أغرانى أن أرجع إليه لعلى أرتاح حياة سهلة تلقائية أجوبة حاسمة تلغى الأسئلة الحائرة قبل أن تظهر تسليم بالأمر الواقع وإصرار عليه وكأنه من صنعهم هم دون سواهم. ماذا يحدث لو أنى أصبحت إنسانا منهم أو حيوانا أو نباتا أو حتى شاهد قبر حين ياليت كان لابد أن ألغى وعيى بمصيرى وبطبيعة وجودى وهنا خاب أملى بلا حدود. تمنيت أن ألغى وعيى بكل وسيلة وتمنيت أن تكون لى كرة ثانية أرجع فيها إلى أصلى حتى ذرة التراب وأقدم تعهدا ممهورا بكل الضمانات أن أتوب توبة نصوحا ولا أحاول الخروج عن طوقى ثانية على شرط ألا أتذكر ما كان أبدا. لكن من أدرانى أنى لن أصاب بداء الحياة وأنا كتلة من طين سرعان ما تتجرأ فتدب فيها الحياة فأسير نفس المسيرة عبر كل السنين لأصل فى النهاية إلى نفس ضياعى.
لا لن أرجع إلى أصلى إلا إذا قـدمت لى الضمانات بعدم تكرار ما حدث، أما أن أذوب إلى ذرات تكفيرا عما كان ثم أنظر فإذا بجلدى يحددنى إنسانا مرة ثانية فهذا هو الحجيم ذاته… أذوب ذرات وأتجمع هيكلا لأذوب ذرات ثم أتجمع إلى ما لا نهاية لا وألف لا. يفتح الله.
حاولت أن أرجع إلى موقفى الساخر العابث الذى أنقذنى من الجنون والضياع ولو فى الظاهر. ذلك الموقف الذى سمح لى أن أواصل سيرى طوال هذه الفترة بين الناس دون أن أكتشف أو أفضح لم أستطع كلما خطر ببالى تعليق ساخر تذكرت نظرات والدى وغضبه فأنكمش فى خجل مفتقدا التحدى الذى كنت أحدثه به.
يزحف على كل وعيى هذا الشعور الجديد الثقيل الذى لم يعرفه أحد، حزن له شكل آخر. أذكر أننى شعرت بشئ يشبهه من عشرات السنين، تكاد رائحته تأتى من بعيد وكأنه هو ذلك الثقل الذى يكاد يوقف نبضات القلب، ينسحب إلى كيانى فى عصر أيام الجمع أيام المدرسة الإبتدائية حين أتذكر أن غدا هو السبت منقوع الزفت اللزج بكل همه وغمه وقسوته، كيف تمضى الساعات حتى بداية الحصة الأولى من يوم السبت اللعين، كيف يجثم الموت على نفسى بلا أمل فى الخلاص بقتله أو بقيام القيامة ثم ينزاح رويدا رويدا بعد الحصة الثالثة ليحل محله تسليم مقهور ثم تبدأ النشوة تداعب مشاعرى عصر الأربعاء انتظارا لشمس الخميس المشرقة ليتوقف الزمن عصر الخميس حيث كل شىء مسموح به. لكن المصيبة الكبرى تعاود الظهور عصر الجمعة حيث أكتشف أن الزمن مازال يمضى. تمضى الأيام ويزداد وعيى بقدوم السبت قبل أوانه وتعود مشاعر الغم تزحف رويدا رويدا حتى تلغى كل بهجة الخميس وتصبح حقيقة “السبت” قائمة كالقدر فى كل وعيى طول أيام الأسبوع لأن أى يوم لابد أن يلحقه يوم “سبت”ما، ولو بعد حين. حتى يوم السبت ذاته كان – وما زال- له سبت تال.
يرهقنى وعيى بالزمن والأيام وأنا أستسلم لقهر القدرما فائدة الوعى يالأيام ما دامت نهايتى دائما سبتا حزينا مثل برميل النفط يغرق فيه الأطفال. مات شعور الحزن الزاحف حين مات الوعى بالزمن تحت وطأة اليأس والتسليم، فما الذى أرجعه إلىّ هكذا وأنا راجع من البلد؟ كيف بدأ؟ وكيف تطور.!! ليس هو لكن ثمة صلة.
أتذكر حديثى مع أبى فى قبره ما زلت لا أستطيع الجزم أنه كان فى قبره إلا إذا استطعت الجزم أنى أنا كنت خارج القبر، كلتا الحقيقتين تتبادلان بلا يقين. الشى ء الذى استطيع الجزم به هو أننى لم أستطع أن أتخلص منه، بعد الزيارة ظلت كلماته تغرينى وتدعونى وتتحدانى وتهددنى وترعبنى فى آن واحد. بعد الوليمة الدسمة التى ساعدت فى هربى بالنوم الطويل صحوت لأجده ينتظرنى هذا الشعور الثقيل المتضخم فى بلادة وكأنه يزحزح الهرم الأكبر ليجثم على وعيى . أنجح أن أدفعه قليلا حين أتذكر أن الزيارة انتهت وأنى سأتخلص من آثار والدى وكلماته إلى الأبد لأكمل حياتى الخاصة ولو متفرجا ساخرا، وتمضى بضع ساعات فوق الأرض إلا أن جحافل الحزن تعود زاحفة مرة ثانية ويزداد ثقلها تدريجيا حتى تجثم على صدرى بلا أمل فى فكاك ثم تبلغ قمتها وأنا أقترب من بيتى.
ثقل رازخ على قلبى . ثقل حقيقى لا أعرف كيف أسير به حيث يرزح على كل خلية فى كيانى، هل هذه هى النهاية؟ هل هذا جزائى؟ لقد تخلصت منه طفلا بإلغاء وعيى به وبغيره، ثم ها أنذا أواجهه ثانية بعد يقظتى اللعينة، ماذا فعلت لأنال كل هذا الجزاء. وكيف أكفر عن ذنبى الموهوم حتى الكلمات تتباطأ فى فكرى وكأنها قد قدت من صخر الجرانيت الأسوانى؟ أكون الفكرة وكأنى أنقش على الحجر، هل آن الأوان أن يتوقف عقلى ويتخلص من هذه التناقضات برمتها؟ أين سخريتى اللاذعة وموقفى المسرحى وكوكبى الخاص؟ أين كل هذه الأفكار التى صحبتنى وأنقذتنى شهورا طوالا حتى حسبت أنى أكتشف الحل السعيد وأنى أستطيع أن استمر هكذا إلى ما لا نهاية؟ ثقل ثقل ثقل، حتى نَفَسى يدخل إلى صدرى فى بطء وكأن للهواء وزن، ويخرج منه فى تراخ وكأنه يحتاج مروحة كهربية لطرده، ثقل ثقل ثقل. كل شى ء بطئ بلا موت ولا حياة ولا أمل ولا حتى يأس فعال.
فتحت البنت الباب فربت على خدها وكأنى أراها لأول مرة هل أشفق عليها مما أنا فيه؟ هل أودعها بلا عودة؟ هل أكفر عن ذنبى؟ أشرق وجهها بالبشر لهذه اللفتة غير المتوقعة دخلت أجر ورائى “الزيارة” حتى ركنتها فى ركن خلف الباب ومضيت أطمئن زوجتى على صحة أمى حتى لا أتعرض لما لا أطيقه الآن من استفسارات دورية وأنا فى هذه الحال سألت عن الأولاد وتسلمت الإجابة ممهورة بالتوصيات والصبر الجميل.
ذهبت زوجتى تعد الحمام كما تعودت بعد هذه الرحلات حيث أرجع عادة محملا بالأتربة والحشرات، ولكنها لا تدرى بما عدت هذه المرة. لم أعترض رغم شعورى بأن هش ذبابة هو عبء فوق طاقتى كنت آمل أن ينزاح عن صدرى بعض اثقاله مع تراب البلدة وحشراتها، دخلت الحمام وبدلا من أن أستعمل الماء الدافى ء المعد وجدتنى أفتح الدش البارد لعلى أفيق بعض الشى ء نزلت على جسدى المياه كالثلج ارتجفت بعض الوقت ثم بدأت أتعود الماء. تسرى فى جسدى وعقلى يقظة خفية آمل أن تتزايد وتستمر، لم يستجب لى صنبور الدش وأنا أحاول إغلاقه فأخذ يلف بلا انقطاع .. تذكرت عم محفوظ .. واستقيظ فى وجدانى أمل بعيد سوف أستدعيه على الفور ليصلح الصنبور وأشياء أخرى إن أمكن.
* * *
دخلت عليه وقد انهمك فى عمله واضعا صندوقه الصاج بجواره ووجهه مشرق بضياء لا تخطئه عينى محتاج.
- مساء الخير يا عم محفوظ.
- مساء النور يا سعادة البيه.
- كيف حالك؟.
- رضا والحمد لله.
- كيف حال الأولاد يا عم محفوظ؟
- بخير والحمد لله.
كل شى ء رضا وخير والحمد لله كيف أفتح معه الحديث الآخر ماذا يقول عنى … لن أتراجع على أى حال وليكن ما يكون.
- أريدك فى كلمتين يا عم محفوظ.
- تحت أمرك يا سعادة البيه.
- أفضل الذهاب إلى حجرتى حتى لا يسمعنا أحد.
تعجب الرجل ولكنه تبعنى فى صمت.
جلست على الأريكة العربية وحاول أن يجلس على الكرسى المقابل فدعوته للجلوس بجوارى على الأريكة حتى أحس بالاقتراب منه، طال الصمت، بدا أنه لا ينوى أن يقطعه.
- أنا فى أزمة يا عم محفوظ وأعرف أنك رجل طيب وأطمع فى مساعدتك.
- أنا يا سعادة البيه؟ ربنا يستر عرضك.
هل يقفل على الطريق بهذه السرعة؟.
- أزمة حقيقة يا عم محفوظ.
- أنا رجل على قدر حالى ولا أنسى أفضالك علىّ. “مصاغ” زوجتى هو كل ما أملك وهو تحت أمرك حتى تفك أزمتك، والله يسترنا ويسترك.
هذا الرجل…. هذا الرجل! هذا الرجل. لم أستطع أن أتمالك نفسى ووجدت دموعى تنهار بلا مقدمات نظرت إلى الباب لأتأكد أنه مغلق، وانسابت دموعى أكثر فى صمت. انزعج الرجل أول الأمر ثم أخذ يربت على بحنان بالغ وقد أشرق وجهه بنور لم أر مثله، كدت أميل على صدره وأجهش بصوت عال لولا خوفى من الآثار المحتملة خارج الحجرة.
- الدنيا بخير يا سعادة البيه، المؤمن مصاب.
كدت أقول له أنى لست مؤمنا ومع ذلك فأنا مصاب مصيبة سوداء ولكنى تراجعت ليس لمجرد خوفى منه أو عليه ولكن لأنى لم أكن واثقا هل أنا مؤمن أم لا…. نظر إلى طويلا ومازالت الدموع تنهمر على خدى وكأنها تستغيث به أكثر، لمحت فى عينه دمعه تتدحرج فخجلت من نفسى وتذكرت بلا مناسبة نظرة والدى الحادة، توقفت عن البكاء وقد غمرتنى راحة لم أشعر بها منذ سنين.
- المسألة ليستت مسألة نقود ياعم محفوظ.
بدت على وجهه ظلال الدهشة ولكنها لم تحجب النور المشرق من دمعة لم تنزل قسمات وجهه الصبوح تحتوينى فى طياتها. أكملت حديثى بشجاعة أكثر.
- المسألة أنى لم أعد أعرف كيف أعيش، وأكاد أجزم أنى لا أستطيع الاستمرار.
قال لى فى يقين كامل…
- كفى الله الشر.. إخز الشيطان واستعن بالله…
- كيف يا عم محفوظ. كيف أستعين بالله. ياليتنى أستطيع.
صمت الرجل وأخذ يفكر بجد، حمدت الله أنه لم يتماد فى نصائحة وإرشاداته، كان أقصى ما يمكن أن أتعرض له هو أن ينتهى الموقف ببعض الدعوات والأيات، ظل مطرقا يفكر فى هم حقيقى، أحسست أنه يفكر معى وأنه وصلته حكاية “كيف” هذه، شعرت أنه يعرف “كيف” ولكن تعوزه الكلمات. ساد الصمت المملوء بتبادل المشاعر فترة لا أعرف مداها وتمنيت أن نستمر هكذا إلى مالا نهاية، هذا هو غاية الوجود: أنا مع إنسان آخر نبضة بنبضة دون ألفاظ أو استعلاء ولا امتحان ولا نصيحة ولا علم، الآن أستطيع أن أموت دون ندم، كفكفت دموعى وتسربت ابتسامة هادئة إلى وجهى دون دعوة أحسست أنى مثل طفل تأكد من أن أباه قد عفا عنه إلى الأبد، مازال عم محفوظ مطرق إلى الأرض وإن كان وجهه قد بدأ ينفرج عن رضا مشع وإشراق مضئ نظر إلى فى رحمة ورأى ابتسامتى البديعة فأشرق وجهه أكثر وكأنه دخل الجنة، قال فى يقين يكفى كل أهل الأرض.
- إن شاء الله.
اندفعت بلا تفكير أقبل يده فانزعج بلا حدود، وحاول أن يبتعد مستغفرا الله عدة مرات ولكنى صممت على تقبيلها، فقبل يدى بدوره.
عاد كل منا إلى موقعه. كنت حذرا فى تساؤل وكان خجلا فى وداعة الرضا السائد غلف كل المشاعر دون أن يحل محلها.
- لا تتركنى يا عم محفوظ.
صمت فى تقبل متواضع ولم يرد، أكملت أنا:
- أريد أن أزورك فى بيتك.
- تحصلنا ألف بركة، ربنا يخليك.
- ربنا يخليك أنت.
غلبه الخجل حتى لم يرفع عينه من الأرض ثم استأذن وانصرف بعد أن أخذت عنوانه.
***
لم أفهم ماذا حدث وكيف لم أكن أتصور أن المسافة بين الناس يمكن أن تنمحى فى لحظات بلا خوف ولا حساب. عم محفوظ يقبل يدى! يدى أنا! أنا أبكى على صدر حنانه؟ هل هى دعوات والدى أو رضا أمى بعد أن زرتها بعد غبية طالت، هل آن الأوان لأمشى فى ضوء القمر…ثم تشرق الشمس؟ هل حدث ما حدث فعلا أو هو حلم عابر من أحلام الجوع والحرمان؟. ناديت أولادى وزوجتى واجتمعنا بسرعة جلوسا على السرير كما لم نجتمع منذ شهور أرسلنا البنت تشترى فولا سودانيا ساخنا، وأمضينا ليلة عامرة بالود والدفء والأمل…
***
أخذت أقطع الحارة إلى بيته وأنا متردد يراودنى الشك أننى سوف أكتشف أن ما حدث لم يكن إلا حلما. الحجارة التى رصفت بها الحارة متآكلة، بقايا الإنسان تملأ الطريق وحوانيت الخردة لم تغلق جميعها، وإن كان الصبية يجمعون قطع الحديد والتروس والصناديق من أمامها ليدخلوها إلى جوف المحل استعدادا للإغلاق. يحسبنى أصحاب الحوانيت زبونا يبحث عن قطعة غيار فيتلكأ الصبية فى جمع الأشياء ونقلها للداخل ولكنى أمضى فى طريقى أتطلع إلى أرقام البيوت التى اختفى أغلبها متبادلا معهم أحيانا بسمه اعتذار خجلة، سألت عن منزله ودلونى عليه بعد الدهشة، صعدت الدرج الحجرى المتآكل وأنا أدعو الله ألا أكتشف أنى كنت فى حلم، داخلنى خوف آخر: أن أفاجأ به فى بيته إنسانا آخر من الذين يستعملون طيبتهم فى أوقات العمل الرسمية، فقط استبعدت هذا الخاطر- طيب- ماذا لو وجدته متزمتا مع أهل بيته وراء الأسوار؟ كان ينبغى ألا أبالغ فى تصويره بالصورة التى أريدها حتى أتجنب المفاجآت.
فتحت لى الباب سيدة بشوشة بضياء أقرب إلى الامتلاء ترتدى قميص نوم صريح متسامح، تربط رأسها بمنديل به ” ترتر” كبير الحجم مثل قسمات وجهها المنفرجة عن تلك الضحكة الموجهة فى غير تردد، الحمد لله، جاء صوته من الدخل فزادت طمأنينتى.
- مين يا زكية.
راحت الكلمات تزغرد فى حلقها.
- واحد بيه يسأل عنك يا أسطي.
تفضلت بناء على دعوتها الصريحة دون أن تنتظر الإذن من داخل. خفضت عينى بلا داع وأنا أمر خلال الدهليز الطويل وكان يغمرنى شعور بالامتنان والرضا ينتهى الدهليز بباب حجرة صغيرة فى آخره وباب حجرة أخرى على جانبه وكان عم محفوظ منهمكا فى إصلاح شى ء بين يديه تبينت فى ما بعد أنه راديو ترانزاستور (!!) رفع رأسه ليرى من الداخل وهم بالوقوف حين رآنى ولكنى لحقته لأجلس بجواره على الأرض. أخذ يحاول أن ينقل المسند الذى وراء ظهره إلى فى إصرار، جلست وكأنى أستظل بالسرير الحديد ذى القوائم السوادء التى ترتفع حتى تكاد تلامس السقف.
جاءتنى أصوات كوم “العيال”- كما كان يسموهم – من الحجرة الأخرى واستطعت أن أتبين وسط الضجة كلمات من كتاب المطالعة مختلطة بآيات قرآنية وسباب من واقع الحال دون تداخل …
- أهلا وسهلا يا سعادة البيه زارنا النبى.
- إسمع يا عم محفوظ حتى أرتاح لا تقل لى يا سعادة البيه.
- أستغفر الله. ماذا أقول إذن.
- قل لى يا عبد السلام.
- يا خبر….!!!.
- ألا تحب راحتي.
سكت قليلا ثم نظر إلى وكأنه يحتضننى بوجهه ثم ضحك بصوت رنان وقال وكأنه اكتشف الحل.
- أقول لك يا سيدنا..
انزعجت وتساءلت: إلى أى طريق يأخذني.
- ما هذا يا عم محفوظ.
- أنت سيدنا والله العظيم وسوف ترى …
- أرى ماذا يا عم محفوظ…. ماذا جري.
- كنت أكرم الناس لما نزل الماء الطاهر من عينيك وهذه كرامة الصالحين.
يبدو أنى أخطأت الطريق ثمة خطأ قد حدث ولابد من الإسراع بتصحيحه..
- أنت لا تعرفنى يا عم محفوظ.. وكل هذا الكلام يربكنى ويخجلنى أنا ما جئت هنا إلا لأطمئن أن بيتك فى متناولى، وأنك لن تتركى ..
قال بلا تردد:
- يوم الهنا يوم شرفتنا، أنت لا تعرف مقامك.
مقامى ماذا يا رجل؟! هذا الكلام لا يمكن أن يستمر وإلا فأنا عرضة لتصديقه.
تمنيت أن أصدق ما يجرى بشكل ما، فلربما يوجد تحت أكوام القمامة الممتزجة بالنفط شىء طاهر.
- يا عم محفوظ كفى هذا.. كتر خيرك، أخبـرنى عن نفسك.
- أنا عال العال بحسك.
لابد من الإصرار. لن أدع الفرصة تفلت من يدى تحت وهم طهارتى السرية.
- جئت أحدثك عن أزمتى يا عم محفوظ.
- لا أزمة ولا غيره، هذا رضا رب العالمين، كل الناس الصالحين لابد لهم من أزمة وأزمات. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكى حتى تتخلل الدموع لحيته، أنت لا تعرف نفسك فلا تحط من مقامك لأن الله كرمك.
- لست على يقين من أنه كرمني.
- الله كرم بنى آدم يا رجل لا تكفر بالله.
لم أعد أطيق هذه المفاجآت أين أنا؟ وأين هو؟ ماذا لو علم خبثى وأطماعى؟ ماذا لو علم نزواتى وعجزى هذه الأيام؟ لماذا يقطع على الطريق؟ إليه جئت ألتمس بركته فلم أجده إلا بعيدا عنى بقدر ما هو قريب من شى ء مما فى داخلى، ولكن من أين له أن يرى داخلى؟ أنا لا أعرف داخلى، لن أخدع نفسى فما أنا إلا كومة قاذورات.
الأطفال يتقافزون حولى، زوجته تتحرك فى سهولة ويسر، ووجهها يمتلئ بشرا كلما راحت أو جاءت وكأنها تكتشف فى كل لحظة معنى جديداً للحياة.
لن أستسلم. سوف أدافع عن قذارتي.
- يا عم محفوظ أرجوك أن تسمعنى وأن تقدر موقفى فما جئت هنا إلا لألتمس رضاك وأتعلم منك .
- ما هذا الكلام؟ لماذا لا تنظر إلى نفسك؟.
- المصيبة بدأت حين نظرت إلى نفسى.
- إحساسى لا يكذب لابد أنك لم ترها جيدا.
- أرجوك إسمعنى …
بدأ عليه الرفض ومع ذلك استمر فى ابتسامته المشرقة قررت أن ألقى عليه ما يفيقه. حتى أتمكن من إكمال الحديث كما أريد.
- أنا لا أصلى يا عم محفوظ..
صمت قليلا ثم قال:
- .. هذا شأنك معه.
لا أكاد أعرف معنى ما يقول.
- أخشى أن تكون قد أسأت فهمي.
- قلبى أحبك ولا أعرف غير ما أقول.
أصررت على التحدى سوف أتجاهل كل ما فات وأسأله مباشرة:
- لماذا تعيش يا عم محفوظ.
قال دون تردد:
- العيال أحباب الله ونحن نكسب ثوابا فى تربيتهم.
تذكرت “لمعى” و “جميل” أولاد نصحى افندى.
- كيف نربيهم ولماذا؟.
- حتى يملؤوا الأرض خيرا وبركة.
لن أصل إلى شى ء حتى لو حكيت له عن مقبرة “وادى الملوك” حيث يقيم نصحى وزوجته وأولادهما، أحسست أنى نسيت نفسى وكأننى أناقش الأستاذ غريب، قلت وقد بدأ الغيظ يتراكم داخلى:
- ولماذا يعيش من ليس عنده أطفال يا عم محفوظ.
- الأطفال ملء الأرض وأنت سيد العارفين..
لن أصل إلى شىء على أن أحترم كل ما يجرى دون محاولة فهم، حاولت أن ألغى ما حدث ويحدث، لم أستطع بأى درجة، فقد هزنى كل حرف نطقه. لم أنجح فى استجلاب الذهول أو النسيان حاولت تشويه الموقف فتذكرت بعض ما تعلمته من نصحى افندى، فلابد أن هذا الرجل يرى كل الناس مثله لا أكثر، لماذا لا يرى ضياعى وقذارتى؟ لعل له شيخا واصلا من أهل الله علمه هذا. هذا رجل هارب والسلام. لم ينجح كل ذلك أن يجعل وجهه أقل نورا وإشراقا هل يكون هذا هو الطريق.
تذكرت أبى فجأة….
- هل تمسك “وردا” يا عم محفوظ.
- لماذا الورد.
- لـتذكر الله.
- أنا أذكره ليل نهار، ما حاجتى للورد .
زادت حيرتى وتذكرت والدى وهو يتلو ورده اثنى عشرة ساعة فى اليوم طوال أربعين عاما. لم يغادر العبوس وجهه إلا لحظات معدودة، أين هو من كل هذا البشر على وجه عم محفوظ؟ ولماذا لم يعرف والدى هذا الطريق رغم طول تسيبحه؟ حتى حين ظهر لى من القبر كان مازال عابسا يتلو ورده الذى حجبه عن الناس، وكأن ما قرأه فى الدنيا لم يكفه فكان عليه أن يكمله فى الآخرة، كأن عليه أن ينقل عداد المسبحة إلى مالا نهاية قبل السماح له بدخول باب الرحمة. حيرتنى يا عم محفوظ الله يسامحك. من أين آتيك وكيف أفهمك.
- ليس لك ورد يا عم محفوظ فهل لك شيخ.
- رد بإصرار:
- قل شاء الله يا أهل الله.
- أعنى هل أخذت العهد على شيخ طريقة… هل تسلك مع السالكين.
- العهد عهد الله، ماذا جرى يا سيدنا؟ لماذا تصر على وصل العبد والله أقرب إليك من نفسك…
- من نفسى أنا أم من نفسك أنت لا تظن كل الناس مثلك.
- مثلى؟ ليس كمثله شى ء يا رجل، لا تكثر من التفكير، ولا تقلل من قيمتك.
إعرف نفسك إعرف نفسك ماذا جرى لك يا عم محفوظ يا ليتنى عرفتها، إذن لما جئت إليك.
لن يخدعنى كرمك وإلقاء البركة على دون حساب لابد أن أعرفك أنت أولا حتى أعرف نفسى .. لن تهرب منى يا رجل.
- وهل تخاف النار يا عم محفوظ.
- لماذا؟.
- نار الله للعصاة يا عم محفوظ
- وأنا مالى يا سيدنا؟.
- لم ترتكب معصية أبدا.
- ربك غفور وهو عنى راض.
- من أدراك؟.
- طالما أنا راض عنه فهو راض عنى والحمد لله.
سكت بعد يأس حقيقى من أن أهزه حتى يشاركنى قلقى الأرضى أطرقت إلى الأرض وساد الصمت فترة نظرت فيها إلى نفسى؟ هل أصدق أن فىّ خيرا ما؟ أين كان مختفيا قبل ذلك؟ وأين هو الآن؟ هل من حقى أن أشعر به فعلا وماذا لو شعرت به فصفعنى والدى أو بصق فى وجهى؟ هل يحمينى عم محفوظ بحسن نيته؟ يقينى يزعجنى ولا أعرف كيف أتخلص منه أو أشك فيه.
قطع على تفكيرى واضعا يده على كتفى فأحسست برعشة تتملكنى، صعبت على نفسى، قال فى حنان واضح وصدق لم أستطع أن أتجاهله.
- لماذا تشغل نفسك بكل هذه الأمور وأنت الخير والبركة، أنا أحبك ورأس سيدنا الحسين.
لم أستطع الاحتمال وأجهشت بالبكاء حتى علا صوتى، أقبل على يحيط بذارعه كتفى البعيد دون تردد، مال على يدى التى استراحت على ركبته يقبـلها وأنا فى استسلام ذاهل. شى ء فى داخلى يقترب فى تردد حتى كدت أصدق أننى “بركة”، ملكنى هدوء غامر ذكرنى بما عشته معه من قبل حتى عادت إلى نفس الصورة: “كأن طفلا تأكد من أن أباه قد عفا عنه إلى الأبد”.
حضرت زوجته تحمل أكواب القرفة ولم تفارقها الابتسامة التى استقبلتنى بها، يبدو أنها انتظرت حتى انتهى صوت النشيج الذى لم أجد حرجا فى أن أعلنه فى هذا المكان حتى لو وصل إلى أسماعها، هذا عكس ما شعرت به فى بيتى مع زوجتى، أخذت أحتسى كوب القرفة رشفة رشفة وأنا أتساءل: هل يكون علاجى بالحضور إلى هنا لأبكى على صدر حنانه كلما تعقدت الأمور.
نظرت إلى زكية ورأيتها جميلة جمالا آخر لم أره فى امرأة طول حياتى نظرت هى إلى بود حقيقى وقالت فى إصرار.
- والنبى تدعو لى يا عم البيه.
قلت لها فى تسليم مضحك.
- ربنا يكرمنا جميعا……
غمرنى ما شعرت معه أن كل خلية من خلاياى قد استقرت فى موضعها، ومع ذلك فإن الأفكار ظلت تلاحقنى: هل يكون هذا هو الحل؟ هل نعيش لنربى العيال؟ كل العيال، فيملؤون الدنيا خيرا وبركة؟ هل نجد معنى للحياة حين نجد من يشعر بنا دون أن نخاف؟ إذا كان عم محفوظ قادرا أن يعيش كل هذا اليقين فمن أين لى بمثله؟ كيف أضمن بقاءه ولو بضع ساعات دون فكر يفسده أو يؤكده فيشوهه؟ كيف أتجنب الهجوم من كل ثغرة سواء كانت فكرة فى عقل غريب أم تحليل فى عقل نصحى أم نظرة من عين زوجتى أم تعليق من أهل قريتى؟ كيف يحمينى يقينى من عالم مجهول وأنا عـرضه لنهش الصقور والذئاب فى كل موضع كل ليلة؟ إذا كان عم محفوظ قد وصل إلى هذا اليقين لسهولة حياته أو نقاء فطرته فكيف أستقر أنا عليه وأنا على قمة بركان لا يهدأ إلا ليعاود القذف بحممه فى كل اتجاه بلا هدف؟ عم محفوظ لم يمرض ولم يذهب إلى أطباء ولم يصاحب نصحى أفندى ولم ير خيالا قلت أسأله فى آخر جولة….
- هل أنا مريض يا عم محفوظ؟.
حمدت الله أنه لم يبادر باتهامى بالبركة والطهارة مثل كل مرة.
قال بعد تفكير:
- إيش عرفنى؟ لماذا تغلب نفسك بكل هذه الأسئلة.
- لقد ذهبت إلى أطباء وقالوا لى إنى مريض.
- القلب يمرض إذا نسى ذكره، وأنت لا تنسى ذكره… وعلى الطبيب أن يلزم اختصاصه.
ها هو يعاود اتهامى بالإيمان والبركة.. لم أحاول هذه المرة أن أعاود ما سبق أن حاولت تذكره حول فسادى وعصيانى فاستمر:
- وسوس لى الشيطان مرة فعكفنى عن الناس والعمل أكثر من شهرين، ثم أنعم الله على برحمته فاستعنت بالناس على الشيطان فى نفسى، فأصبح يخاف منى ومنهم..
ضحك من أعماقه حتى اهتزت أركان الحجرة.
قلت فى خبث:
- قلبت الآية ياعم محفوظ.
- أستغفر الله العظيم.
- تعوذ بالناس من شر الوسواس الخناس.
- لا فرق بين الناس ورب الناس.
- الناس شر يا عم محفوظ.
- يا نهار أسود ولا مؤاخذة الناس لا يكونون شرا إلا إذا ابتعدوا عنه، فغرتهم أنفسهم، الناس الذين خلقهم الله على شاكلته هم الناس، وأنت سيد العارفين.
فرحت أنى استدرجته لهذه الغضبة رحت أتساءل: إذا كان الأمر كذلك فلماذا يترك عبد الستار النجار الناس فى بلدنا ليمشى فى حب الله؟ ولماذا تترك خالتى شلبيه الناس الأحياء إلى المقابر لتأتنس بالموتى ولماذا كانوا ينهشون لحمى بمجرد أن أغفل ولو بضعة ثوان؟ أليس ناس بلدنا هم أقرب الناس إلى ما يقول لابد أن فى الأمر سرا ولن أستطيع الحصول عليه منه الآن، وحتى إذا حصلت عليه فلن آمن إليه مادمت لا أعرف كيف يجى ء وكيف يذهب.
لم أستطع أن أتخلص من السكينة التى غمرتنى بالرغم منى. خفت منها.
***
ذهبت إلى المكتب فى اليوم التالى بعد انتهاء الإجازة العارضة وما زالت الراحة تملؤ وجدانى رغم أن فكرى لم يكف على المناورة، استقبلنى الأستاذ نصحى بالترحاب حتى بدا الشوق فى عينيه، جزعت من هذا الاستقبال الحار إذ لم يعد عندى أى رغبة أو قدرة على مواصلة الحديث معه بأى صورة ولا لأى هدف.
اعتذرت له عن استدراجى للكلام بانشغالى بمرض أمى فلم يرتدع، ادعيت أن صاحبه نصحنى بأن أكف عن الكلام والتحليل والتفسير بعيداعن العيادة، نزل عليه هذا التحذير كالصاعقة إذ يبدو أنى كنت بالنسبة له “لقطة” يمارس فىّ هواياته الخاصة، بدا الشك فى عينيه وكاد يرفض، إلا أنه رضخ أخيرا بحماس كاذب.
- هذا هو الصواب بعينه وهو يدل على أنك وصلت إلى مرحلة متقدمة من العلاج.
- الحمد لله.. كله من فضله.
- من فضل من؟.
خطر لى خاطر أن أتمادى معه هذه المرة بطريقة أخرى وكأنى ألعب بإثارتهأو كأنها تحية أهديها لعم محفوظ قلت:
- من فضل الله.
حاول أن يخفى انزعاجه أو خيبة أمله فىّ، ولكنه لم يستطع الصمت فرد قائلا:
- هذه ألفاظ تعودنا عليها ومن الصعب التخلص منها. معك عذرك.
أعجبتنى اللعبة حتى رحت أبحث عن ذلك الجزء الذى زعم عم محفوظ أنه رآه فى بالرغم منى . لعله يساعدنى فى إكمال الدور، قلت فى خبث:
- عذرى؟ عن آية ألفاظ تتحدث… يا نصحى افندى .
- فضل الله… الحمد لله… !!! كله من فضل العلم والمعرفة..
نسيت نفسى وقررت ألا أكف عن إغاظته جزاءا وفاقا لما مارس فىّ من “تحليل” تحملته طوال هذه المدة، قلت متحديا بلا اقتناع:
- طبعا… ولكن العلم والمعرفة من فضل الله.
قال فى انزعاج أكبر:
- أنت تمزح، ما هكذا يقول التحليل. ألم تناقش هذا الموضوع مع المحلل.
خشيت أن يستدرجنى إلى لغة التحليل مرة ثانية، فكرت فى الانسحاب، ولكنى كنت قد استغرقت فى اللعبة فاستدرجته أنا:
- لماذا تنزعج من ذكر الله هكذا يا أستاذ نصحي.
- هذه أوهام نضحك بها على أنفسنا حتى لا نعرفها على حقيقتها.
- وماذا يمنع أن نعرف أنفسنا ونعرف الله معا؟.
قال وكأنه يخطب:
- هذه خدعة التسليم للخرافة جهل لا يتناسب مع العصر.
زادت رغبتى فى إشعال حماسه الخائف فقلت بلا تفكير وكأنى أكمل كلامه فى سخرية أولاد البلد حين يدخلون لبعضهم “قافية”:
- والعصر.. إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا….
كاد يفقد وعيه.. أحسست فى عينه بالقاتل يطل فى إصرار حتى اختفت رقته الجبانة، وعجبت من حاله لأنى أراه لأول مرة بهذا الرعب والتشنج رغم تظاهره بالمعرفة العلمية التى تفسر له كل الأشياء، قال يحاول أن يلغى كل ما سمعه وأن يدارى خيبة أمله فى فى نفس الوقت.
- أنت تمزح.
انسحبت فى اللحظة المناسبة وإن لم تخل لهجتى من سخرية لم يلحظها..
- طبعا.
انصرف عنى فى أسف علىّ، وربما اختلط أسفه بشئ من الاحتقار لم يخففه اعترافى بأنى أمزح، تبدو أن خسارته فىّ كمجال لممارسة هوايته كادت تخل بتوازنه.
عدت إلى عملى وأنا أتساءل هل كان ردى عليه مجرد لعبة ورغبة فى إغاظته أم أنه خرج من ذلك الجزء الخفى الذى يزعم عم محفوظ أنه أنا، هل أنا مؤمن رغم أنفى ..
أقبلت على عملى فى هدوء وثقة لم أعهدهما فى نفسى منذ زمن طويل.
ترى إلى متى يستمر هذا الحال؟.
***
اقترب منى أسعد افندى كميل دون مناسبة فقطع على استغراقى فى العمل وسكونى الداخلى معا… ومع ذلك أحسست برغبة فى، أو قدرة على، الحديث معه.
- أستاذ عبد السلام: سعيدة.
- صباح الفل.
- أنا ألاحظ علاقتك بالأستاذ نصحى منذ فترة وأحب أن أحدثك على انفراد.
- فى ماذا يا كميل افندى؟.
- أنا أعرف نصحى أكثر منك… وقد مر بظروف لا تعرفها.
ترددت فى السماح ولم أعلن الرفض صراحة لكنه التقطه ومع ذلك لم يردعه استمر فى إصراره وهو يتلفت ليتأكد أن أحدا لا يسمعنا أكمل هامسا:
- هو رجل ملحد أفسدته عقده النفسية وقد سمعت طرفا من حديثكما منذ قليل، وأعجبت بقوة إيمانك.
- قوة إيمانى .! أنا.
- لابد أن نحارب الملحدين فى كل مكان.
- نحارب من يا أسعد افندى.
- الملحدين…
- وكيف نعرفهم حتى نحاربهم؟ كيف نميزهم يا أسعد افندى؟.
قلتها وكأنى خائف على نفسى، تعجب أسعد افندى من سؤالى وظهرت فى عينه رغبة وعظية أكيدة أثارت فى نفسى الظنون والحذر، قال فى لهجة لا تخلو من استغراب:
- الملحد هو الملحد… يا أخى عجايب عليك.
الوقاية واجبة ضد الوعظ والإرشاد بالرغم من كل شى ء فأنا لم أحدد موقفى النهائى فى هذه الحكاية، كنت دائما أخاف من التسليم للإلحاد خوفى من الإيمان، قررت أن أنهى الموقف بسرعة خشية أن ينتهى بتصنيفى قبل الأوان. قلت فى بله فاتر:
- الملحد هو الذى لا يؤمن بالله أليس كذلك.
قال فى سعادة وكأنى أفتيت فى معضلة جديدة يبدو أنه استعاد ثقته بي.
- طبعا كل شرور هذه الأرض هى نتيجة لغضب الله علينا.
من أين ظهر لى فجأة هذا الواعظ فى هذا الوقت بالذات لقد رأى عم محفوظ شيئا فى داخلى لا أعرفه وقبل أن أتحسس طريقى إليه قفز لى هذا الخطيب المتحمس، لماذا لا يدعنى لفرصتى الجديدة؟ هل كتب على أن يعالجنى أو يهدينى كل هواة العالم؟ تفكيرٌ أبى أن يتركنى وكأنه يخاف أن أستسلم لسكينتى المتسحبة.
- وما العمل يا أسعد أفندى؟.
- الرجوع إلى الله…
ما أسهل الكلام وما أخفى الطريق سألته السؤال الخالد باهتمام بارد رغم مخاوف الجدل:
- كيف؟.
قال كأنه وجد ضالته:
- أنا أدعوك لزيادة دير فى الصحراء أتردد عليه عند الشدائد، وسوف تجد فيه الهدوء والمعرفة معا.
قلت وأنا أتذكر حارة عم محفوظ المظلمة ورائحة بيته الرطبة:
- فى الصحراء.
- نعم فى الصحراء.
- ولماذا فى الصحراء.
- هناك حيث الطبيعة صامتة قوية تظهر الحقائق، ويتوارى الشك هناك حين يختلط الأزرق بالأصفر تهبط رحمة الرب على الأرض، فتغمرك بلا حساب.
ابتسمت دون شفقة، حاولت أن أفهمه وجهة نظرى ومخاوفى من أننى سوف أرجع إلى الطين والتراب والأتوبيسات والمكتب حيث يختلط الأسود والأبيض ليخرج منه هذا البخار المغبــر الرمادى الثقيل الأملس فيجثم فوق صدرى بلا حل، أحسست أننى أبتعد عنه، أو أنه لا يسمعنى، ندمت على أنى تماديت معه فى الحديث، ومع ذلك حفزنى حب الاستطلاع ورغبتى فى تأكدى من مزاعم عم محفوظ أو نفيها بأسرع ما يمكن أن أغريه بالمضى فى وعظه وإرشاده، مع أن خوفا انتحاريا كان يدفعنى للهرب من الراحة واليقين، أيا كان المصدر، استمر أسعد أفندى وكأنه لم يسمع حرفا.
- أنت تعقـد الأمورعلى نفسك يبدو أن طول عشرتك للأستاذ نصحى قد علمتك التفلسف، أنا أخشى عليك.
واصلت اللعبة برغبة أكيدة فى الهرب بعيدا عما لوح لى به عم محفوظ، كنت أحس أن عم محفوظ ربما يكون قد سرقنى إلى منطقة منى دون أن يستأذنني.
- وهل يوجد هناك.. فى الصحراء ناس من أمثالي.
- الناس يزورون الدير يوميا، والصلوات تقام باستمرار والقداس لا ينقطع.
- ولكنى مسلم.
- المسلمون الذين يزورونه أكثر من المسيحيين، رحمة الرب تعم الجميع..
بدأت شكوكى القديمة تعوق فكرى وتحول دون التمادى فى المحاورة، هل هى دعوة تبشرية؟ هل هو استدراج نحو مصلحة شخصية؟ أسعد أفندى مرؤوسى ونصحى أفندى رئيسى يتنافسان فى علاجى بنفس التعصب والحماس. حين تستقر العقائد يتشنج اليقين وتدمغ الفتاوى، استغرقت فى تفكيرى حتى قطع أسعد الصمت بسؤاله:
- هيه ماذا تقول..
تذكرت رغبتى فى التخلص من آثار زيارة عم محفوظ فتحمست وقررت أن أمضى فى هذه اللعبة الجديدة. ماذا يضيرنى لو مضيت معه متفرجا لأنتقم منه على استدارجى إلى كوم الغبار والفكر؟.
قلت له فى غموض متعمد:
- لقد بحثت عنه فى الخلاء بين المقابر ولم أجده، ثم تخايل لى بعد ذلك واحدا من الناس البسطاء ولولا إصراره على أنى أنا شخصيا بركة، لحسبته حل اللغز.
نظر إلى مذهولا وكأنى لا أتكلم العربية ففرحت فى نفسى فرحتى بعمى نصحى أفندى منذ قليل.
سأل بانزعاج مترقب.
- هه؟ ماذا تقول يا أستاذ عبد السلام؟.
تراجعت بسرعة هذه المرة. كانت الرياح المتربة الثقيلة تعاود الهبوب على عقلى كالعاصفة:
-… الخلاء يرعبنى وأنا لا أجد راحتى إلا بين الناس، زدنى إيضاحا.
- أرواحنا تحتاج إلى الغسيل بين الحين والحين.
لم أتمالك نفسى وعدت إلى طعنه حتى يدعني:
- بلا أدنى شك… ولكنى أفضل الحمام التركى حيث البخار والناس والدفء والصابون أبو ريحة.
بدا واضحا أنى خيبت أمله بتطاولى فى السخرية فحاولت أن أرشوه وأسكته فى نفس الوقت. أكملت:
- وبالناس المسرة يا أخى ..
أشرق وجهه فى غباء حتى انفرجت أساريره وكأنه قد هدانى أخيرا إلى آية من كتابه، وفرحت بالخلاص.
***
أخذت أصعد الدرج وأنا أتراوح بين راحة أول أمس الغامضة وثقل رياح خماسين الأفكار والجدل. ثم فجأة تصفو سمائى دون مبرر.
أنا أسير فى طريق لم أسع إليه عن قصد. منذ قالها أبى فى المقابر: “ترجع إليه دون تردد” والمصادفات تقودنى إلى بدائل لم تكن فى حسبانى يوما، هل هى مصادفات فعلا؟ أطرق بابا فلا يفتح وينفتح على باب آخر لم أطرقه، لكننى حين أدخل منه لا أجد شيئا وراءه إلا الفراغ يلوح لى فى عينى عم محفوظ فأنظر فى نفسى أبحث عما حركه داخلى بيقين لم أستطع إنكاره فأجد أسعد أفندى قابعا ينتظرنى ليصحبنى إلى الطريق الصحراوى، ثم تهب رياح خماسينية فتكاد تعصف بكل شئ.
سمعت وقع أقدام خلفى وعرفت صاحبها فتباطأت حتى لحقت بى تبادلنا التحية بشوق فاتر تختلف أسبابه عند كل منا، اقتربنا معا من بابى فدعوت نفسى لا صطحابه دون استئذان لأشرب كوبا من الحلبة الحصا، أضمرت أن أقتحمه دون تردد لأعرف موقعه منه، بدا أنه التقط نيتى لكن نظرتى المتصنعة الود لم تسمح له بالتراجع فاتجهنا إلى شقته مباشرة وهو يتمتم بما لم أتبينه وإن كنت تصورته يقول إنه لا يخشى شيئا أو أن هناك من ينتظره، لست متأكدا.
طرق الباب فتعجبت لأنه لم يستعمل مفتاحه مثل كل مرة، من يا ترى بالداخل؟ أنا لم أعهد عنده أحدا قط، فتحت لنا وبدت كأنها لم تستيقظ بعد، ومع ذلك استقبلتـنا فى ترحاب ناعم رغم آثار النعاس خيل إلى كأنها تعرفنى من قديم أخذت تسوى شعرها الأشعث وتدعك عينيها وتكاد تتمطى، قطعت كل ذلك بضحكة قوية وكأنها قررت أن تصحو أخيرا لتكتشف الدنيا فى شخصى . لم تبد على غريب أية مشاعر وكأننا لسنا على باب بيته. قدمنا الأستاذ غريب لبعضنا البعض بإيجاز شديد، مجرد ذكر أسماء، ثم ذهب إلى المطبخ مباشرة وكأن الأمر لا يعنيه، ضحكت المرأة مرة ثانية وخيل إلى أنها غمزت لى غمزة لم أفهمها، دخلت إلى حجرة النوم دون استئذان ثم عادت بعد قليل وقد جمعت شعرها تحت منديل رحب، جلست بجوارى مباشرة فى هدوء حاسم، سألتنى دون تردد:
-……. صاحبه؟.
- لا.
دهشت للإجابة لحظة.
- حضرتك يعنى لا مؤاخذة من.. أقصد يعنى ….
كدت أتذكر لحظة بداية الزلزال – نفس السؤال – يلقى بشكل آخر- ضحكت وأجبت وكأنى أجيب الأخرى كاتبة تحصيل إيصالات الكهرباء.
- أنا عبد السلام المشد..
ضحكت حتى خيل إلى أنها لن تكف عن الضحك وكأن مجرد ذكر اسمى يدعو إلى ذلك:
- تشرفنا….
اضطررت أن أكمل دون دعوة:
- جار الأستاذ غريب، أنا أسكن هذه الشقة المقابلة.
- أنت زوج هذه السيدة التى كانت بالشرفة.
- تقريبا…
- تقريبا أو أحيانا… انتبه فالفرق مهم.
- أنا زوجها والسلام.. وإن كنت الآن لا أعرف لهذه الكلمة معنى …
- يبدو أنك تتفلسف مثل صاحبك، أنا أحاول أن أتوبه عن هذا… والعقبى لك
لم أفهم ماذا تعنى تحديدا أحسست بانقباض حين تذكرت الهدف الأصلى من الزيارة أردت ألا أفوت الفرصة.
- ليس تماما نادرا ما نلتقى، وقلما نتبادل الآراء إذا التقينا.
قالت وقد أشارت بيدها محذرة..
- يبدو أن تبادل الآراء تمنع تبادل أشياء أخرى أهم.
منعت نفسى من أن أتمادى فى الشك إلا أنى جزعت من لهجتها على أى حال.
حضر غريب وكان الصمت قد ساد إلا من طرقعة لبانة تلوكها فى فمها تحاول أن تخفى بها مشاعرها الأخرى التى أحسست فيها بطيبة حقيقية، لم تنجح فى التنكر لها.
جلس غريب يفرغ الحلبة فى الأكواب ولم أتردد فى فتح الحديث الذى جئت من أجله كنت قد قررت من البداية ألا أؤجله بعد أن فوجئت أنه ليس وحده، قلت وكأننا وحدنا، وكأننى أكمل حديثا سابقا مع أننى لم أفتحه أبدا. قلت فجأة.
- هل شغلتك مشكلة ” الله” يا غريب.
نظر إلى فى ريبة وربما فى استهانة ولكن ” صفية” انبرت وكأن السؤال موجه لها قائلة:
- سوف أحج إلى بيته بعد أن أتوب على شرط أن أكون قد انتهت من بناء الدور الثانى حتى آكل من إيجاره كل طوبه فيه بحبة من عرق هذا الجسد.
لم يرد الأستاذ غريب كما لم يعترض ولا بتعبير وجهه، يبدو أنه أراد أن يترك النقاش يستمر بينى وبينها حتى يلتقط هو أنفاسه ويستعد بالرد، أو أنه كان قد قررالعزوف عن الرد تماما.
قلت لها:
- خيل إلى فى أحد مراحل مرضى أنى دخلت الجنة فلا حاجة للانتظار.
لم أنتبه إلى أننى أعلن سرا دون داع إلا حين قالت المرأة فى دهشة.
- مرضك كفى الله، الشر أنت مثل الحصان، تستطيع أن تجر عربة كارو محملة بالنساء الذاهبات إلى القرافة.. ولا تعتق واحدة منهن.
حاولت أن أرضيها ببسمة شكر حاسمة، واستدرت إلى غريب ألح فى السؤال.
- ماذا تقول فى وجود الله يا غريب..
قال بعد أن أدرك إصرارى العنيد:
- هذه مسألة انتهيت منها من زمان، وهى لا تستأهل أن أضيع فيها دقيقة بعد ذلك.
- ماذا تعني؟.
- لا تضيع وقتك، وابحث عن الحقيقة.
- خيل إلى فى الأيام الأخيرة أن البحث عن الحقيقة أصعب من البحث عن الله.
- الحياة لا تقاس بالأسهل والأصعب.. ولكن بالأنفع والأهم.
- الأنفع…. الأنفع لمن…؟ ومن الذى يحدد المهم من الأهم؟.
- الأنفع للناس.
ما أخبث الألفاظ! كل الكلام متشابه و لا أحد يعرف ماذا يعني.
- كيف؟.
أطرق طويلا ثم قال:
- هذا ما أحاول البحث عنه.
- أين.
- هنا…
وأشار إلى مكتبته المكتظة بالكتب كيفما اتفق.
- الحقيقة.. والله… وما ينفع الناس نجدها بين صفحات الكتب هل تصدق نفسك يا غريب.
انتظر مدة أطول وكأنه يراجع نفسه بلا يقين:
- لابد أن نبدأ من هنا.
قالت صفية التى كانت تتابع المناقشة باهتمام وشغف لا تفسير لهما وقد علت وجهها نفس البسمة التى تصاعدت إلى ضحكتها القوية:
-… يا جماعة لابد أن نبدأ من هنا.
وأشارت إلى موضع ما.
الفصل الثامن
رق الحبيب
قبل أن أبدأ عملى بشكل جدى، ولم تكن الساعة قد جاوزت التاسعة، أرسل لى المدير يستدعينى على غير توقع. ملفاتى قد خلت من التأشيرات الحمراء منذ زمن، وأحوالى الظاهرة لا يبدو عليها تغيير إدارى. ليس بينى وبينه علاقة خاصة، فماذا هناك..؟ ذهبت إليه وأنا أدعو بالستر. لست فى حالة تسمح لى بالتساؤلات التى توردنى حقول الألغام المليئة بحسابات ليس لها آخر. أنا أعيش هذه الأيام كالإناء المشروخ من الداخل. أخاف أن يمتد الشرخ إلى الخارج فى أى لحظة فيتهشم الإناء تماما. جرعة من سائل ساخن، أو تلميحة جارحة، أو احتكاك بالأتوبيس أى من ذلك كفيل أن يجعلنى أنتكس فورا وأن أفضح على الملأ.
ماذا يريد منى المدير شخصيا؟. ربك يستر..
دخلت عليه مترددا ولم أحاول أن أسبق الأحداث، وهو لم يمهلنى، فقد قام من على مكتبة واستقبلنى فى منتصف الحجرة حتى كاد يغشى على من هول المفاجأة، كان وجهه صارما كالعادة.. إلا أنه بدا لى إنسانا أطيب مائة مرة مما كنت أحسب. لا بد أن وراء هذا الوجه الصارم قلب مثل قلوب الناس الأصلية قبل أن يصبحوا مديرين، اكتملت لما دعانى للجلوس على الأريكة وجلس بجوارى – أخذ قلبى يخفق بسرعة هائلة من المفاجأة والحذر معا. دارت بخاطرى شتى الظنون، ماذا يريد منى فى هذا اليوم المختلف؟. أنا بى ما يكفينى، ماذا صنعت على وجه التحديد؟.وماذا لم أصنع على وجه التحديد……؟.
– أستاذ عبد السلام أنت رجل مؤمن.
يا نهار اسود.. من أين بلغه الحوار الدائر فى رأسى، هل أفشى أحدهم السر؟.! هو الأستاذ نصحى ليس غيره، هذه نتيجة من يسلم نفسه للهواة لعلاجه أو هدايته، أو لعله أسعد افندى يرد الإهانة التى لحقته بالاستخفاف بدعوته للدير. ألم يقل لى لابد من حرب الملحدين، لابد أن سيادة المدير قد علم ما بى، وها أنذا أمثل أمام محكمة التفيش، ماله سيادة المدير ومالى إن كنت مؤمنا أو كافرا؟. ملفاتى سليمة وأوراق تعيينى مثبت فيها أنى مسلم. حضورى منتظم فى الأيام الأخيرة، هذا كل ما عندى له، أما حكاية ” الإيمان” هذه فهى من شئونى الخاصة، وحتى هذه الحكاية لم أقصر فيها فأنا دائم البحث “عنه” فى كل مكان، حتى الست صفية التى قابلتها عند غريب افندى تشهد بذلك. سوف أتمادى معه على قدر السؤال حتى تمر هذه المسألة بسلام.
- الحمد لله… يا سعادة البيه.
- هذا ما أعلمه فيك، لذلك قررت أن أواجهك بنفسى.
يواجهنى بنفسه؟. لا بد أنه أصدر قرارا خطيرا يحتاج أن يتنازل إلى هذه الدرجة وأن يطمئن على إيمانى قبل أن يلقيه فى وجهى. شئ يتعلق بمستقبلى بلا شك، تذكرت تهديد الأستاذ نصحى الذى تحايلت عليه، يا ليتنى أطعت كلامه وبعت حلى زوجتى لأعالج بانتظام عند صاحبه حتى لو انتهيت إلى السكنى فى إحدى المدافن العصرية فى وادى الملوك مثله. ربما كنت رحمت نفسى من كل هذا الذى يجرى. واجهنى بنفسك وخلصنى يا سعادة البك، هاتها والرزق على الله. أليس هذا دليل الإيمان.
– أمرك يا سعادة البيه.
وضع يده على كتفى حتى كدت أرتجف. يبدو أن المسألة لم تصل إلى الفصل، ربما بلغه مرضى فأراد هو الآخر أن يتطوع بعلاجى، أو ربما تطورت حالتى حتى يلزمنى معالج بدرجة مدير عام. من أدرانى ماذا قال له الأستاذ نصحى أو أسعد افندى بعد أن كفرت بإيمانهما معا؟. قال فى هدوء:
- لن أطيل عليك، البقية فى حياتك، والدتك تعيش أنت، جاءنى تليفون الآن لأبلغك، ثم انقطعت المكالمة، أنا آسف… شد حيلك، البقاء لله.
قالها وقام واقفا فى شهامة وهو يشد على يدى فى أسى صادق حتى حسبته سيبكى. حاولت أن أبحث فى داخلى عن التفاعل التلقائى فى مثل هذه الأحوال فلم يسعفنى شئ. كأن مشاعرى كلها قد اختفت بشكل جماعى. حاولت حتى أن أتذكر ما ينبغى أن يقال لأرد به فى مثل هذه الظروف حتى أظهر أمام الناس طبيعيا فلم أتذكر شيئا. طافت بعقلى مواقف مختلفة لم أستطع أن أنتقى منها المناسب. صراخ؟. بكاء؟.؟. إغماء؟. لطم؟. لا أقدر على شئ من ذلك، ماذا يقولون؟. لابد أن يبدو على أى تغيير أو تأثر. يقال إن شدة الحزن تجفف الدموع لهول الخطب. هذا هو الحل: أتمادى فى البلادة وليكن ذهولى القائم هو التفاعل المفضل، والحمد لله على الستر.
انتبهت ليد المدير فى يدى، أكملت السلام، نظرت إلى الأرض وتمتمت ببضعة كلمات وهممت بالانصراف، أمسك بى وعاد فوضع يده على كتفى ولم أعد أسمع ما يقول. قدرت أنها مجموعة ألفاظ للتعبير عن المواساة أو للتشجيع، لكنها انتهت وهو يضع يده فى جيبه ويخرج حافظته ويعرض على نقودا تتعلق بالمصاريف و”الخرجة” وأشياء من هذا القبيل. اعتذرت بشدة وخرجت شاكرا من قلبى فعلا. لم أكن أتصور أن هذا المنصب يمكن أن يشغله من يحمل كل هذه الرقة.
مضيت إلى مكتبى أجمع أوراقى ومازال عقلى فارغا تماما، جاءنى الأستاذ نصحى يسألنى عن نتيجة المقابلة لما رآنى صامتا أجمع أوراقى وأضعها فى الدرج. نظرت إلى وجهه بنفور، وفجأة أحسست أن عقلى قد استيقظا معا يريد كل منهما أن يجيب عليه مثل أيام زمان. رعبت من هول المفاجأة، هل هذا وقته؟. هل أمضى فى ذهول حزين منذ عدت من زيارتها حتى الآن، ثم إذا جاء وقت الحزن بحق انقسمت هكذا من جديد؟.
انطلق عقلى الساخر يحاول أن يرسم الناس وينطلق فى سبابه؟.. حياتى بالمقلوب، يظهر الحزن حين أطمع فى الراحة ويختفى حين ينبغى أن أحزن. ماذا أنا فاعل الآن؟. الحصانان يتسابقان للرد على نصحى افندى. من ذا منهما سيعامل الناس فى البلدة؟. وكيف يستمر ليلة المأتم وأنا هكذا؟. وماذا أفعل حين أجد نفسى قد انفصلت عن كل شئ، وركبت كوكبى الخاص، وأمسكت بمنظارى أرقب حركة النمل الآدمى على الكرة الأرضية؟.
انتبهت إلى صوت نصحى يكرر:
- خير يا أستاذ عبد السلام؟.
بدأت أرد على موجتين مثل زمان
– والدتى تعيش أنت.
(قال عقل بالى:”العقبى لك”)
قال فى تأثر سطحى على قدر ما يعرف، إذ يبدو أنه نسى التأثر الحقيقى من كثرة ملازمته لمدفنه العصرى، وممارسته هواية التحليل.
البقية فى حياتك.
- حياتك الباقية.
(قال عقل بالى:” ليس معى فكة.. خل الباقى لك”)
- أنت خير من يقابل “قضاء الله” بشجاعة.
- شكرا.. الحمد لله على قضائه، لله ما أخذ، وله ما أبقى.
(قال عقل بالى: “واقعتك مثل الطين.. إياك أن تظن أن هذا من ضمن العلاج”).
* * *
أقبل على بقية الموظفين فى حماس وأسى يأخذون بخاطرى وأنا أتفرس فى وجوههم من بعيد وأرد عليهم الردود المعهودة. عرض أكثر من واحد خدماته المالية، وأخذ أحدهم تفاصيل عائلتى وأقربائى حتى يقومون بكتابة النعى. كنت أرد بطريقة جوفاء غير أنهم أخذوا كل المعلومات اللازمة دون تلكؤ. عارضت بشدة أن يصحبنى أحدهم مبديا مختلف الأعذار، مخفيا خوفى من الفضيحة. شكرتهم ووعدتهم بإبلاغهم ما نقص من تفاصيل فيما بعد.
أخذت تاكسى إلى المنزل وأنا فى اشد حالات الرعب من عودة اللعبة الداخلية فى وقت أنا أحوج ما أكون فيه إلى أن أنضم إلى بعضى. أنا لا أعرف متى تبدأ هذه اللعبة ومتى تنتهى. أنشق بلا تمهيد.. وألتحم بلا مناسبة، وحين أنشق تتراقص الدنيا أمامى بلا معنى، وحين ألتحم يركبنى الهم بلا حدود. باستثناء تلك اللحظات الرائعة التى أحس بى فيها عم محفوظ، فأنا ضائع بين الحالين. لعلى أحتاج للحزن الآن أكثر من أى وقت مضى فهو أقرب إلى مقتضى الحال. الأمر ليس بيدى. ماذا أفعل أنا الآن بهذه المسخرة؟. أريد أن ألحم داخلى ولو بمكواة الأكسجين الآن على الأقل، ويا حبذا إلى الأبد.
حاولت أن أتذكر عطفها وحنانها وأفضالها. استرجعت مشيتها وجلستها ويوم أن ذهبت إليها، وسعدت بى بعد عتاب صامت حنون. حاولت أن أجعل ذلك مجلبة لذرة من الأسى والحزن، ولكن المشاعر كلها كانت تغوص منى داخل جب مظلم بلا قاع.
وصلت إلى المنزل فوجدت زوجتى قد ارتدت رداء أسود وأعدت العدة للسفر بلا إبطاء. لابد أنهم أبلغوها فى نفس الوقت. داخلتنى درجة من الطمأنينة حين تذكرت أنها ستصحبنى إلى هناك. ربما بذلك لا أضطر لتصرف شاذ يفضحنى تحت ضغط الوحدة والإرهاق. استأجرت عربة خاصة ولم يبق إلا أن أركب…
قلت لها:
- البقية فى حياتك.
- حسك فى الدنيا.
حلوة هذه اللعبة، كل حركة محسوبة ولها رد محسوب، مثل افتتاحيات الشطرنج، إلا أن الدور ينتهى فى الشطرنج بموت الملك، لكن هذا الدور يبدأ بموت الملكة، ما كل هذه الافتتاحيات المبتورة بلا أدنى حركة واعدة.
قال السائق:
- هذه حال الدنيا.
-…. الدوام لله.
…. مثل افتتاحية نابليون، لو عرف السائق الخدعة فسوف أبيت الطابية فى النقلة القادمة. حافظ أنا كل اللعب، دون تعلم. يولد الطفل وهو حافظ لعبة الموت، قبل أن يتعلم الرضاعة يلقنوه آداب النهاية، وهو سرعان ما يكف عن الضحك، فلا تبقى إلا السخرية والقتل!!
قلت له (لعقل بالي): بالذمة هل هذا وقت الفلسفة واختراع النظريات الجديدة؟.
أواجه غربتى ووحدتى وشذوذى فى أدق مناسبة تحتاج إلى المجاملة والحديث اللبق، نظرت إلى وجهى فى مرآة السيارة خشية أن يظهر عليه ما بداخله، حاولت أن أنهى عقل بالى حين تصورت أن أحدا فى السيارة يمكن أن يسمع همسه، ولكنه انطلق يغنى متحديا:
” رق الحبيب وواعدنى يوم”.
” وكان له مدة غايب عني”.
كدت أقفز من السيارة خوفا واحتجاجا معا. هل وصلت الأمور إلى حد الغناء؟. ألا تكفى المسخرة الحشاشة التى لا تتوقف؟. جعلت أحايله بشتى الطرق وأنا خجلان منه حتى كدت أذوب من فرط شعورى بالذنب، ولكنى خفت أن يتمادى فى العناد حتى يفضحنى عمدا فسمحت له بمواصلة الغناء صامتا. نظرت إلى وجه زوجتى فوجدته كما هو. حمدت الله.
أصبح كل همى أن تمر هذه المناسبة بسلام.
حين وصلنا البلدة وجدت كل شئ معدا، ما أروع التعاون بين هؤلاء الناس. أخبرونى بأنها كانت قد أعدت كل شئ قبل وفاتها: الكفن، مصاريف الجنازة، بقشيش صبيات المغسلة. تسلمت أماناتها من ابن أختها عبد ربه. اتجهت إلى النظرات وكأنه ينبغى أن أعمل شيئا محددا. واقف أنا وسطهم كاللوح دون حراك. همس لى عبد ربه إن كنت أريد أن ألقى عليها النظرة الأخيرة حيث الجميع ينتظرون قدومى لإتمام الإجراءات، ملكنى الرعب وأنا أتمنى ألا يكون هذا فرض حتمى. فهمت من وجوههم أن الكل قد انتظر هذه اللحظة على أساس أنه لا بد أن تكون هذه هى رغبتى، خاصة وأنى الابن الوحيد الموجود. أختى مع زوجها فى الصعيد ولن تحضر قبل المساء وأخى فى ليبيا وقد لا يحضر أصلا. لا مفر من أن أفعل ما توقعوه – على الأقل بالنيابة عن إخوتى – دخلت وأنا أكاد أرتعد حتى تعثــرت. كشفوا وجهها فوجدته لم يتغير عن آخر زيارة باستثناء زيادة طفيفة فى الشحوب. خيل إلى فجأة أنها تبتسم لى. انفجرت فى البكاء بغير حزن، بكاء كصياح طفل قرصه الجوع لما تأخرت الرضعة، وما إن أحسست أن الأيدى تمسك بى حتى اندفعت أقبـلها فى وجهها ويديها والدموع تغمر وجهى وتبللها. لم أكن متأكدا من الذى يبكى. لم يكن ذلك الطفل، ولم أكن أنا كان يغمرنى فى نفس الوقت شعور بالاحتجاج بأنها ذهبت قبل أن تجئ. لم أفهم.
تكاثرت الأيدى على حتى أبعدونى. وبدأت أميز الصيحات حولى ” وحد الله” “الله أكبر” “أذكر ربك واستغفر” وتعالى “صوات” النسوة فى صحن الدار.
* * *
استرخيت على الكرسى الذى وضعونى فيه. مسح بعضهم دموعى. هذا شئ لم يحدث لى فى حياتها، لا أذكر أنى قبلتها هكذا أبدا، فجأة عادت نفس الأغنية تتردد فى عقلى.
” ولما قرب ميعاد حبيبى ورحت اقابله”.
” هنيت فؤادى على نصيبى بالقـرب منه”.
كدت أقوم كالملدوغ خشية أن يسمعنى أحد، منعونى برفق حازم. حاولت أن أذهب ناحيتها مرة ثانية، فتجمع على أربعة رجال أشداء ينظرون إلى بشفقة وتقدير. تطلعت فى وجوههم فرجحت أن ما فعلته قد قوبل بالاستحسان رغم المنع الحازم. يبدو أن ذلك كله يعتبر من مظاهر الحزن العميق، صافحت سمعى بعض التعليقات التى أكدت لى ذلك، “ابن حلال” “كان قلبها حاسس” ” نادته فى المنام” “ماتت وهى عنه راضية”.
كانت هذه الكلمات تصل إلى فتطئننى أن تصرفى مازال حتى الآن فى عداد المعقول، بل يبدو أنى تفوقت عما ينتظرون، أخذت أجتر كلمتهم الأخيرة أنها “ماتت وهى عنى راضية”. رحت أسترجع البسمة التى لمحتها على وجهها، فيغمرنى سكون رائع.
* * *
مضت الدفنة وليلة المأتم والأيدى تتناولنى من المقابر إلى الدوار، ومن هذا الكرسى إلى ذاك، وما على إلا أن أقوم واقفا إثر كل فترة تلاوة. عن يمينى عبد ربه وعن يسارى ابن عمها سيد أحمد الباز. نسلم على الذاهبين متمتمين بتلك الكلمات التى تبينت أنى أحفظها عن ظهر قلب. حين انتهى كل شئ وذهبت إلى الدار وجدت خالتى أم عطية فى انتظارى، انتحت بى جانبا وناولتنى قطعة قماش ثقيلة الوزن وقالت فى همس بصوتها الذى مازال مبحوحا من كثرة النواح.
- أوصتنى المرحومة أن أعطيك هذه الأمانة فى السر.
أخذتها بتردد ولم أنبس.
أكملت أم عطية حديثها وهى تناولنى مثلث صغير مغطى بالقماش أيضا.
- وهذا الحجاب أيضا,كانت قد عملته لك بعد الزيارة الأخيرة، وقد أخذت “أترك” دون أن تدرى، وهى توصيك أن تحرص أن يظل الحجاب لصيقا لملابسك الداخلية -ولا مؤاخذة- حتى يفك الله ضيقك.
لا أذكر أنى حدثتها عن ضيقى ولا عن أى شئ. ماتت وهى تعرف ما بي!! ماتت وهى راضية عنى. وهى تدعو لى.
حمدت الله واستغرقت فى نوم هادئ والحجاب تحت جنبى حتى مطلع الشمس.
* * *
انقضت أيام الحزن حتى الأربعين. زوجتى ترعانى بطريقة جديدة لعلها قصدت أن تعوضنى بها فقد أمى. لم أتقبل الموقف ببساطة بل زدت حذرا وتوجسا. كان كل همى ألا تلاحظ على التبلد الشامل، فاضطررت إلى تقبل هذه الرعاية المفرطة بحس بارد دون رفض علنى. لم أشعر أنها تستطيع أن تعوضنى عن حنان أمى فأنا لا أعرفه أصلا وهى لا تملكه أيضا.
ظللت اتساءل: ماذا تريد هذه المرأة هذه الأيام؟.
لم تقف الأمور عند هذا الحد. ما كاد الأربعين يمضى حتى أخذ اقترابها منى يأخذ شكلا حسيا أربكنى فى أول الأمر، ثم أرعبنى لما فكرت فى معاودة جهاد السرير. كنت قد اعتدت أن أنام معها بلغة صامتة، كنا نوفق أن نتفاهم بها فى أغلب الأحيان، وحتى الفترة العصيبة التى مرت بى فى تلك الأيام التى كدت أفضح فيها أثناء الليل كان ذكائى يحول بينى وبين إعلان الفشل. كنت أتجنب أى اختبار حقيقى فألتمس العذر حتى أسهى نفسى وأعملها من وراء وجدانى وجه الصباح. اختلف الأمر الآن. أحس أنى مقبل على أيام عصيبة لا أعرف إلى أين سوف تذهب بى.
- مالك يا عبد السلام؟.
قالتها هذه المرة بطريقة أخرى، خيل إلى أنها أقرب إلى الاتهام، فأحسست أن مصيرى قد اقترب تحديده، ولا فائدة من التأجيل.
- خيرا إن شاء الله.
- هل مازالت المرحومة مؤثرة فيك إلى هذا الحد؟.
- الأعمار بيد الله… والحى أبقى من الميت.
- لكل شئ نهاية. كفانا حزنا حتى نرحمها فى قبرها.
أيقنت أن على أن أرد عليها هذه الليلة بالذات ردا عمليا. كان العشاء معدا بطريقة صريحة، وقد خلعت ملابس الحداد بعد الأربعين وبدت لى جميلة فعلا كما قالت الست صفية ذلك اليوم. أحسست برغبة فيها ففرحت بذلك وتوقعت أن تنمحى شكوشى وشكوكها بعد دقائق.
لست أدرى لماذا أصرت هذه الليلة أن يظل نور”الأباجورة” مضاءا كل الوقت وقد اعتدنا إطفاءه. كنت كلما نظرت إلى وجهها وهو يشرق بالرغبة ويزداد جمالا خفق قلبى رهبة وخوفا. أشعر أن بها شيئا جديدا صريحا واعيا. لمست وجهها بيدى لأتأكد من أن الأمر ممكن فإذا بى كأنى أتعرف عليها لأول مرة. لم أصدق أن هذه المرأة بلحمها ودمها ورغبتها هى زوجتى حقيقة وواقعا. لم أتصور أنى أنا شخصيا أنجبت منها أولادا. اقتربت منها بشهوة لا تخفى، حاولت أن أقبلها فى شفتيها ولكن خيل إلى أن ملامحها تتغير. تراجعت خائفا من مجهول. لا مفر من التقدم وليكن ما يكون. فجأة رأيت وجه الحاجة فتحية والدة أمانى يحل محل وجهها، انتفضت كالملدوغ وأحسست ببلـل لزج يملأ وجهى حتى أخذت أتحسسه لأتأكد أنه خال من البصاق.
وقع المحظور وانفصل جزء من جسمى عن إرادتى. أخذ العرق يتصبب منى بشكل ظاهر. أطفأت النور أملا فى إحياء الموتى بتعاويذ الظلام، ولكن دون جدوى. بدأت أرتجف بعنف، أدركت هى أن الأمر أصبح خارج قدرتى. أخذت تهدئ من روعى وتؤكد لى، وهى غير متأكدة، أنها حالة عارضة، وأن هذا الأمر هو آخر ما يهمها لأنها لا ترجوا إلا صحتى وسعادتى.
* * *
عادت إلى ذاكرتى كل تلك الفترة التى كانت قد اختفت فى مكان ما بين طياتها الأبعد. حين انفصل عقلى إلى عقلين استطعت أن أتغلب على الموقف بالصبر والحوار والتحايل والسخرية حتى مضيت فى سردابى السحرى دون أن يلحظنى أحد. اختلفت المسألة الآن. انفصل جسمى عنى علنا وأمام شهود ممن “يهمهم الأمر”. رغم ذلك الفشل المعلن الذى لا جدال فيه، استيقظت فى كل المشاعر الشبقية العنيفة التى كانت قد اختفت مع ما اختفى من مخزون ذاكرتى. تأتينى هذه المشاعر الشبقية فى نوبات متقطعة لا أعرف بدايتها أو نهايتها. حتى أننى فكرت أن أزور الحاجة فتحية وابنتها “أنا وعقل بالي” معا، أنا بنية الاعتذار، وهو ونصيبه حسب مقتضى الحال.
لم تنفعنى هذه المشاعر التى كانت تغمرنى أحيانا أثناء النهار، ثم ما أن يحل الليل حتى أكتشف أن سلاح رجولتى خال من الذخيرة. كيف ازدادت زوجتى جمالا وحيوية حتى اكتملت زينتها ونبضت بحضورها الجديد. الذى بدا وكأنه يزيد من عجزى حتى اليأس. حاولت أن أتجنب المواجهة ولو إلى حين بأن أنام وحدى على الكنبة العربى لولا أنى أحسست أن هذه الخطوة هى بمثابة “إعلان شرعي” لوفاة جزء منى، قدرت أن هذا سابق لأوانه.
خيل إلى أن هذا الجزء يتحدانى قصدا. أنه استقل عنى مثل عقلى الآخر. أنه يريد أن يعمل لحسابه، أو يشهـر بى. لو أنه مات طول الوقت لا سترحت وبحثت عن تفسير طبى، إلا أنه كان يزعجنى فى الأتوبيسات والأماكن العامة بيقظة لا مبرر لها، ثم يموت بلا حراك عند الحاجة إلى خدماته. المصيبة الأكبر أن الرغبة لم تكن ترحمنى ليلا أو نهارا، الأمر الوحيد الذى تحسن هو أنى لم أعد أحس بآثار بصقة الحاجة فتحية كما كان الحال فى البداية.
من يا ترى يستطيع عونى هذه المرة؟.
خجلت حين خطر ببالى عم محفوظ، فعلى قدر حاجتى له كان خوفى منه. خيل إلى أنه لما حضر للعزاء التقط حرجى، وعاهدت أعيننا بعضها بعضا ألا نلتقى حتى يحدث شئ جديد. أحسست برقته وصدق حسه حين بدأ يرسل صبيه بدلا منه، ولكنه لا ينسى أن يرسل لى السلام، فأرد بالشكر والدعاء. على الرغم من ذلك كان هو الذى خطر على بالى أول ما فكرت فى العون فى هذه المسألة، وأرجع أقول ماله هو بهذا الشأن بالذات، ثم كيف أقابله بعد ذلك لو عرف سرى الخاص.
نصحى افندي؟. أبدا. حافظ أنا عن ظهر قلب ما يمكن أن يقوله فى مثل هذه الأحوال، سوف يسمع لى أساطيره الإغريقية، وما أسهل أن يربط بين قبلتى لجثة أمى و زيارتى لقبر أبى وهات يا تحليل وأنا أتفرج. تقمصته وحاولت أن أحلها بهذا التفسير وأن أربط بين الأحداث ربطا مسلسلا تعلمت بعضه من كثرة ما ردده الأستاذ نصحى حتى خيل إلى ذات ليلة أننى وصلت إلى تفسير لا بد أن يختبر. فى المساء أخرج لى صاحب الشأن لسانه بلا رحمة. حين كنت أستحضر صورة أبى لأعطيه دور المنافس المغوار كنت أجده جالسا يتمتم بورده ويهز جسمه تلك الهزات الرتيبة التى لا تتوقف إلا لينقل عداد مسبحته، وكان يبدو لى على هذه الصورة زاهدا فى المـلك والملكة معا. أهكذا يا عم صبحى تقلقل الرجل فى تربته؟.
فكرت أن أذهب لأخصائى الأعصاب، إلا أن أعصاب هذا الميت ليس فى متانتها شك، ولكن فى غير أوقات العمل الرسمية.
ذات مرة، راودنى الشك فى طبيعة الحجاب الذى تركته أمى مع خالتى أم عطية، كدت أتهم الحجاب بالقتل، لكنى سرعان ما طردت الفكرة لما لم أجد لها سببا وجيها يبرر سوء النية برغم علاقة المرحومة الباردة بزوجتى، والعكس صحيح. ومع ذلك فقد خلعته بضع ليال وتركته فى المكتب، ولكن بلا نتيجة.
تزيد الأزمة حدة فأتذكر لفة أمى الأخرى التى اخفيتها فى مكان سرى بالبيت بما تحوى من حلى ونقود. أتمنى لو كان هناك علاجا سريا يأخذ كل مالى مقابل أن أستعيد رجولتى. يخطر ببالى تحذير هام ينبهنى بأننى حتى لو استعدت رجولتى، فكيف سأجمع بقية أجزائى إلى بعضها البعض. يذكرنى هذا بالأيام الأولى التى كنت أهيم فيها على وجهى رغم قيامى بالنشاط الرجولى على الوجه الأكمل. تمنيت أن ترجع تلك الانقسامات السرية فهى ستر وغطاء أفضل من هذا الاستقلال الذاتى الآبق. بدأت أتجنب لقاء زوجتى، وأحسب لغضبها ونظراتها ألف حساب، صرت أسئ تأويل أى اختلاف بينى وبينها، ضاقت بى الدائرة حتى قررت أن أستعين برأى الأستاذ غريب من طرف خفى. مازلت أذكر تلميح صفية ضيفته الخاصة من أن تبادل الآراء قد يعوق تبادل أشياء أخرى. عودنى غريب أنه سباق إلى المصائب، فلا بد أن عنده خبرة “مجرب” على أقل تقدير.
- أهلا يا عبد السلام.. أين أنت منذ وفاة المرحومة.
- لاأحب أن أشغل وقتك دون مبرر.
- وهل وجدت المبرر، أم وجدت الله؟.
ذعرت من هذه السخرية حتى كدت أعدل عن الحديث معه.
- لقد تعبت من هذا البحث كما تذكرت كيف نبهـتنى أنه بلا جدوى. ثم إنه فرضت على مشاكل عاجلة تتعلق بأشياء ملموسة.
- الأشياء الملموسة هى الحقيقة المحسوسة، وكل ما عدا ذلك باطل وقبض الريح.
قلت له مغيرا الموضوع، لكننى أكتشفت أننى أدخل إليه من باب آخر:
- جئت أسألك هل مازالت صفية تزورك أحيانا؟.
امتقع وجهه وبدا كأنه لم يتوقع السؤال:
- ولماذا السؤال؟..
- تخطر على بالى بين والحين. كان فى وجهها طيبة، وفى قلبها ألم لا ينسى، رغم وقاحتها المصطنعة.
اطمأن غريب فجأة، وكأن معركة ما انتهت قبل أن تبدأ.
- لم أرها منذ زمن. هى تحضر عادة دون طلب منى. ولا استئذان.
قلت وكأنى أفتح جبهة جديدة:
- هل تحضر لتزودك بالثقافة كلما أحسست بالجهل الحاد؟.
تجاوزنى غريب بطيبة لم أتوقعها قائلا.
- المجتمع هو المسئول عن هذه الضحايا…
عاد يستفزنى بحكمته الزائفة. اشتعلت النار دون قصد منى.
- وهل نجحت فى المساهمة فى رفع الظلم عن الضحايا.
حمل الأمر محمل الجد وأجاب بحماسه الفاتر:
- لا سبيل إلا بعد العثور على نظرية شاملة.
- فى المادة ما يكفى للتظير الشامل. أليس هذا رأيك؟.
- لم يعد يكفينى ذلك بعد ما قرأت أكثر. مازال التطبيق هو مشكلة المشاكل.
- أخشى أن تمضى حياتك هنا بين الكتب، لا يدرى بك أحد، ولا تدرى بأحد.
– هذا أفضل من الخداع والتضليل.
- ألا تساهم أنت فى زيادة عدد الضحايا بهذا الانسحاب المزركش؟.
بدأ تحفزه وهو يهم أن يرد لى الصفعة حتى خفت، ولكنه تراجع قائلا:
- لست فى حل أن أسألك وماذا فعلت أنت، لأنى أتحمل مسئولية انسحابى وحدى بغض النظر عن موقفك.
أدركت أننا ندور فى نفس الحلقة التى بدأناها منذ شهور، فلا هو ينوى أن يسمع، ولا أنا أفعل شيئا غير الاختباء وراء هذه المشاعر المتناقضة التى يسميها الأطباء من باب الرأفة بالبشر بأسماء مرضية رشيقة. رجعت إلى الموضوع الأصلى من طرف خفى:
- لم لا تتزوج يا غريب؟.
امتقع وجهه أكثر وحسب أنى قبلت لعبة المعايرة. لم يجبنى إجابته الساخرة الأولى.. ” هل عندك عروسة” ولكنه قذف إلى بالكرة:
- وهل أنت سعيد فى زواجك؟.
تمالكت نفسى وعدلت نهائيا عن طلب مشورته.
- أجد من يرعانى على كل حال.
- أنا لا أحتاج لمن يرعانى، أنا كفيل بنفسى.
لم أجد مجالا لإطالة الحديث، فانصرفت شاكرا.
يا ترى هل مات عنده أيضا هذا العنيد؟.
هذا أمرلا يمكن السكوت عليه.
* * *
أخذت أفكر طول الوقت فى مخرج من هذا المأزق حتى روادتنى فكرة الطلاق. بدأت لا أطيق رؤيتها. أكره جمالها وحيويتها. ساورتنى الظنون أحيانا رغم ثقتى بها. كيف تصبر أكثر على هذه الحال؟.
ذات يوم، وكنت فى الحمام، عاودتنى أحلام المراهقة حتى تعجبت ليقظة هذا الميت وهو يغرينى بمعاودة العادة القديمة. تعجبت للذة التى صحبتها رغم الخزى والصغار اللذين أحسست بهما بعدها. اختفى هذا الشعور اللاحق بالتعود على هذا السبيل الجديد. خطر ببالى مرة أن أدخل الحمام قبل الاختبار الحقيقى أثناء الليل، استعدادا واكتسابا للثقة، ولكن الأمر كان ينتهى قبل أن أصل إلى باب حجرة النوم.
لا أستطيع أن أصف هذه الخبرة الغريبة التى عملتها دون مشورة أحد حين ذهبت إلى أخصائى التناسلية. بالرغم من تأكيده لى أن أعضائى سليمة إلا أنه نصحنى بجلسات كهربية تدفئ مقعدتى وتدليك عجيب الشكل، مازلت أخجل كلما استعدت ذكرى تلك الجلسات. كنت شديد النفور منها طول الوقت، خاصة أنها كانت بلا جدوى من البداية، لماذا واصلت الانتظام فيها داخلنى شك خفى لم أعاد فيه توضيحه لنفسي؟.
سألته بعد أن انتهاء الجلسات إلى لا شئ:
- والآن ما العمل؟.
- قلت لك من البداية أن أعضاءك سليمة، ولكنك رفضت استشارة طبيب نفسى.
قلت متخابثا حتى أجد مبررا للهرب.
- ولكن نفسيتى ليس بها خلل
- هذا العجز… هو جزء من نفسيتك.
تذكرت كلام نصحى أفندى عن الثعابين والإغريق، فسألته فى حذر:
- وهل الطبيب النفسى غير المحلل النفسى وغير طبيب الأعصاب؟.
- هذا شئ وذاك شئ، وكل شيخ وله طريقة.
لم أقل له مادار بنفسى من تساؤل عن سبب مواصلة علاجى عنده بتلك الجلسات الغامضة ما دام يعرف أن أعضائى سليمة، شكرته وانصرفت وأنا فى عزمى أن أطفئ أى شعاع جديد، وليكن اليأس هو الواقع. تردد فى عقلى وأنا أنزل درج السلم من عنده نشيد الدوارة الذى كنا نردده فى الابتدائى:
” دار الصف….،
لفوا لفوا….،
لف القيد….،
قيدى وافى؟.”
الفصل التاسع
الأرض السابعة
تقول يا عم محفوظ أن الله موجود ورحمن ورحيم، فلماذا لا تنشق الأرض لتبتلعنى حتى ينتهى هذا الموال؟. لا يمكن أن يتحمل إنسان كل هذا الخزى والعجز، فكرت فى الاختفاء بأى وسيلة، فكرت فى السعى للعمل فى إحدى الدول العربية، ربنا أمر بالستر سأكتب إلى أخى فى ليبيا. لن أعدم حجة تبرر ترك أولادى وزوجتى هنا.
ثم جاء اليوم الذى عملت له ألف حساب حين تجرأت وحدثتنى فى الموضوع مباشرة:
- أرجو ألا تسئ فهمى.
فلتهبط السماء على الأرض قبل أن تعايرنى صراحة هذه الكتلة من اللحم الأبيض.
- خيرا إن شاء الله.
- لقد بحثت الأمر ودلونى على من “يعرف”.
وقع المحظور، دلوك على من يا امرأة؟. هل أصبحت موضوع حديث الصالونات النسائية؟. من الذين دلوك يا ست هانم؟. هل نسيت كل ما أمتعتـك به قبل ذلك.
طال صمتى حتى أكملت حديثها:
- قالوا لى إن هذه مسائل بسيطة ولابد أن بعض بلدياتك ساءه أن ترث طين المرحومة. استكثروا عليك النعمة رغم أنهما فدانان “عمي”، خافوا أن تأخذ الأرض من مستأجريها، فكادو لنا بذلك حتى يشغلوك عنهم.
ياصلاة النبى اتفضحت يا عبد السلام، وما كان قد كان.
- ماذا تعنين؟.
- كل عقدة ولها حلال،
يتردد نشيد الدوارة فى عقلى من جديد:”لف القيد. قيدى وافى”. هاهم أولاء قد ربطونى حتى لا أقربك ياست الحسن بعد أن تفجرت حيوتك فى هذه السن بلا مناسبة. لماذا تتفتح خلاياك الآن بلا حساب، تريدين أن تغترفى من بحر اللذة فى الوقت بدل الضائع؟. لا مفر من التمادى فى الحديث.
- وما العمل؟.
- سمعت عن بعض من يفكونه الربط فى جلسة واحدة، سيدة سودانية تعمل المعجزات.
فحالتى تحتاج إلى “معجزة”،… أين أخدود اللانهاية…
- هذا حقك يا ستي، ليس لى أن أعارض، ولكن كيف السبيل إلى ذلك دون فضيحة.
- لاتخش شيئا فهى سيدة فاضلة تدخل البيوت لترى الطالع وتشفى الأمراض، ولا أحد يسأل عن تفاصيل عملها. كلهم يعتبرونها بركة.
آه لو تعلمين؟. إسألى عم محفوظ. ربما كان هذا هو نهاية المطاف، أمشى فى حب الله مثل عبد الستار النجار، أو أدخل البيوت أساهم فى حل مشكلة العقم بطريقتى الخاصة بعد أن تفكوا ربطى بمعجزة سودانية.
بمهانة لا توصف. ملأنى شعور بالكراهية نحوها ليس له مثيل. فى نفس الوقت دبـت فى شهوة عارمة يصحبها شعور بالقتل. وتحفزت للتجربة بتحد وقسوة. تذكرت خيالاتى فى الحمام أثناء ممارسة اللذة الذاتية وكيف تدور فى كثير من الأحيان حول إحدى السودانيات التى لا يحتاج صدرها إلى رافع، ولا يحتاج إشعالها إلى ثقاب، سال لعابى حين وصلت إلى هذه المرحلة من التفكير، وتوقعت مفاجآت سارة متى أطلقت لجنونى العنان.
قلت فى استسلام خبيث.
- هاتيها، ولكن حدثينى عن التفاصيل.
– أبدا.. تحضر، وتأخذ”الأثر”وتقرأ بعض ماتعرف، ثم تنفرد بنفسها فى حجرة مغلقة. يقولون أنها تتعرى تماما حتى يحضر خادما من خدام السر، فتطرد الشياطين، وينفك العمل بإذن الله.
ولماذا يحضر خادمها ياست هانم، أنا خادمها بإذن الشيطان، أنت لا تعرفين شيئا عن نشاطى السرى فى الحمام، وربما كنت أنت السبب فى كل هذا. كم أبغضك وأنت تمثلين منظر البريئة المجنى عليها. منذ ماتت أمى وأنا أخاف منك دون سواك، قال لى الأخصائى أن أعضائى سليمة، ولكنه لم يقل لى أنك أنت سليمة. أخاف من الاقتراب منك أنت بالذات. هأنذا أتبين نوازعى بعد أن ثار جنونى نتيجة لامتهانك لى وتحديك. أخاف من شهوتك الوقحة. أخشى أن أبيع لك نفسى دون مقابل. أخشى أن تطلبى حياتى مقابل رضا شياطينك. أخشى أن أدخل فيك فلا أخرج أبدا. هذا بعض ما هدانى إليه عقلى الآخر. ذلك العقل السرى الذى يحلو لكم أن تسمونه جنونا. هاهو يأمره فيرقد فى الخط بلا حراك استخسارا لجهده أن يهدر لمن لا تستحقه، لمن لا يراه أو يرانى.
لم أعد أستطيع التعرف على طبيعتها الحنون وتقبلها الصامت. شككت فى رؤيتى لها حتى ونحن مخطوبان. هل كان ينبغى أن أجرب نفسى مع غيرها؟. ولكن ماذا لو فشلت المحاولة تخطت الفضيحة أسوار البيت؟. وماذا لو نجحت مع غيرها فزاد فشلى معها؟. ما باليد حيلة. سوف أقبل التحدى. شعور يخامرنى أنها ستدفع ثمن تطاولها بشكل ما. قلت فى نشوة غريبة.
- وهو كذلك.
* * *
جاءت فى اليوم الموعود، هى هى كما صورها خيالي، حول الأربعين، لكنها “هي”. كنت مليئا بالتحدى والرغبة واليقظة. أخذت أنصت إلى ما تقول وأنا أكاد ألتهمها ضاربا عرض الحائط بكل ما تقرأ من آيات، وتعاويذ أغلبها غير واضح المعالم. بدأت بالنظر إلى نظرة أعرفها تماما، تلك النظرة القادرة على إرسال إشعاعاتها من عمق سحيق. تبينت أنها تنبعث من الأرض الخامسة. لم أهتز. لم أغض بصرى. أخذت المبادرة. نفذت إلى أعماقها أسرع منها وأكثر ثقة. وصلت إلى أرضها السابعة وما بعدها، اهتزت تحت هجوم نظراتى حتى كادت تترنح. بدأت تحاول أن تتجنب اقتحامى. التقينا فى ثوان وتيقنت أن المعركة انتهت لصالحى قبل أن تبدأ. أنا أكثر منك جنونا يا امرأة، هات ما عندك وتعالى معى أرفعك إلى السماء السابعة. ملكنى شعور طاغ بالزهو والمقدرة، ما أروع قوة الجنون السرية.
استمرت فى همهمتها وقد بدا عليها الارتباك وظللت أنا ثابتا كالطود واثقا من تفوقى ورجولتى ثقتى من جنونى. ألقيت نظرة على زوجتى ملؤها الحقد والتشفي، انتقلت إلى الخطوات التنفيذية، فعاودت النظر إلى المرأة بلا رحمة ولا تردد. يبدو أنها أدركت تماما أين أنا وما أنوى وأقدر عليه. ارتعدت أكثر ولم ترد، اهتزت هزة خفيفة لا تخلو من أنوثة بالرغم منها. لو سمح لون بشرتها للاحظت زوجتى درجة احمرارها.
قلت لها فى وقاحة:
- هه؟. ماذا تقولين؟.
- يبدو أن حالتك مختلفة.
- أسوأ أم أحسن؟.
- أخطر.
انزعجت زوجتى وبدا أنها على استعداد لعمل أى شئ حتى تنجح المهمة، لم أتوان فى انتهاز الفرصة. كنت أتصرف دون تفكير مستغلا حرص زوجتي، قلت:
- إذا كانت الحالة بهذه الخطورة فلاداعى للمغامرة.
قالت زوجتى فى انزعاج:
- لا تتعجل ولا تخف وسوف يأتى الله بالفرج.
الفرج يا أيتها الأتان سوف يكون على عينك ياتاجر. قلت فى خبث ريفى أصيل:
- أنا على استعداد لأى شئ، حتى للدخول معها إلى خلوتها إذا كان ذلك ضروريا لتخليصى منهم.
أطرقت المرأة وقد بلغتها الرسالة. حاولت أن تسيطر على مشاعرها قدر الإمكان، ثم نظرت إلى زوجتى من طرف خفي، فواصلت الهجوم.
- إلا إذا كانت حالتى ميئوس منها إلى الأبد.
قفزت زوجتى -كما توقعت- ترجوها أن تفعل أى شئ أى شئ فيه “الصالح”. حاولت أن أطمئنها بخبث فواصلت الحديث مع المرأة بعد أن اطمأننت أنه قد بلغها من أنا، قلت لها مشيرا إلى حجرة النوم.
- أنا تحت أمرك. والله معنا. طبعا لا داعى للتعرى فى هذه الحالة.
نظرت إلى المرأة فى تحد مستسلم. قررت ألا تراجع مهما كان الثمن فقلت متصنعا:
- أخشى أن يصيب بعض الآخرين أذى من تحت الأرض إذا ما حضروا “بسم الله الرحمن لرحيم”.
ردت زوجتى فى حماس:
- الأولاد فى المدارس، والبنت صرفتها ولن تعود الآن، عملت حسابى خوفا من الشوشرة.
نظرت المرأة إلى الأرض وقالت وكأنها تسألنى:
- والست هانم؟.
- تأكدت أن الخيوط كلها فى يدى فقلت وكأنى أنا الذى أتولى مهمة إخراج الشياطين.
- تلزم حجرتها وتواصل قراءة القرآن دون توقف حتى ينتهى فك العمل، هذا ما فهمته أليس كذلك؟.
أومأت المرأة باطمئنان. فتماديت وسألتها إن كان سوف يحدث ضرر كذا أو كذا إذا توقفت زوجتى عن قراءة القرآن، فانبرت زوجتى أنها لن تتوقف ولن تغادرالحجرة الأخرى ولا ثانية واحدة حتى تنتهى المهمة.
استأذنت زوجتى فى رضا وابتهال وهى تدعو لنا بالتوفيق. قامت المرأة إلى الحجرة المعنية وهى ترتعد وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، تبعتها وكنت واثقا، من كل ما أعمل ثانية بثانية. وكأنى أعددت كل شئ من قبل. أحكمت إغلاق الباب واتجهت إليها فى صمت، وهى لا تستطيع أن ترفع عينهيا في، ألاحقها بنظراتى فتهزم قبل أن تتمكن من مجرد البحث عن مقاومة. أمتلئ قوة ممزوجة بالفخر والنصر والجنون، أحسست أنى أستطيع فى هذه اللحظة أن أصهر الحديد.
قالت وصوتها يرتجف بالخوف والرغبة:
- ماذا تريد مني؟.
- لم أرد وازددت اقترابا، فقالت:
- من أين طلعت لى اليوم؟.
- أنت تنتظريننى من زمان.
قالت وكأنها ضبطت متلبسة:
- أنت إبليس ذاته.
قلت فى فخر.
- أنت تريديننى هكذا، فلن يغرقك فى بحر اللذة المجنونة إلا من هو أجنمنك.
- لا حيلة لى معك.
ساد الصمت ولم أبد حراكا ولا تعجلت. وكأنى أتمتع بمشاهدة هذا الأبنوس الحى وهو يغلى رغبة وغيظا.
انتظرت حتى يسيح انصهارا.
قالت وكأنها تصيح:
- هيا وخلصنا…..…………….
* * *
قالت وهى مازالت تتفصد عرقا وتحاول أن تفيق من شبه الغيبوبة.
- من أنت؟.
قلت ومازلت فخورا بدرجة جنونى:
- من أنت؟.
طأطأت رأسها وقالت وكأنها تحدث نفسها.
- ما كان لى أن أستسلم لك. لن أغفر لنفسى ما حييت، قلت ومازلت فى نشوة جنونى.
- رحمة الله وسعت كل شئ;;
قالت فى قوة جديدة لا تتناسب مع استكانتها السابقة.
- إخرس يا شيطان.. كفى ما كان.
اهتززت لأول مرة منذ بدأ اللقاء النارى. تسرب إلى إحساسى بصوت كيانى يتشقق من جديد، وكأن الصوت قادم من أغوار بعيدة. يتزايد الصوت فى هدوء مرعب. أحسست أننى أعود من آخر الدنيا مسحوبا على وجهى. لم أستطع أن أستجمع قواى لأقرر ما ينبغى أن أنهى به الموقف. اندفعت بسرعة إلى الباب ومضيت من فورى إلى حجرة زوجتى فوجدتها مازالت تقرأ القرآن. ارتميت على السرير ورأسى فى حجرها وانفجرت فى البكاء. غمرتها المفاجأة، فاحتوت رأسى بين ساقيها وأخذت تملس على ظهرى وتتمتم بآية الكرسى. زادت رجفتى حتى بدأ السرير يهتز كله. رفعت رجلى على السرير وانكمشت حتى كادت قدماى تلامس ذقنى ومازلت ارتجف بالرغم من انقطاع البكاء. سحبت زوجتى الغطاء على فى صمت حتى غطى وجهى فسكنت حركتى مؤتنسا بالظلام. وسمعتها تقول قبل أن أستغرق فى النوم “الحمد لله”.
* * *
لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا نائم. استيقظت فوجدتـنى مازلت فى موضعى من السرير ورأسى على حجرها، تطلعت إلى وجهها فوجدتها تغمرنى بحنان وديع. خجلت من نفسى. اعتدلت وحاولت أن أسترجع ما كان. مرت الصورة أمامى مهزوزة دون تفاصيل، استقمت فى جلستى مذعورا من بعض تلك الصور.
- أين هي؟.
- ذهبت من زمن، أكثر الله خيرها.
حاولت أن أتغلب على الرجفة التى كادت تغمرنى ولما تظهر بعد.
- هل قالت شيئا؟.
- قالت ربنا موجود وهو غفور رحيم، ألم أقل لك إنها إمرأة مبروكة، حتى النقود لم تقبل أن تأخذ مليما، كله فى حب الله.
هدأت قليلا بعد أن اطمأننت إلى أن ماحدث كله قد أصبح ماضيا يتحدث عنه.
-.. هل قالت إنى شفيت.
- لم تقل أكثر مما ذكرت، فبماذا تشعر أنت؟.
انزعجت لتسلسل الحديث إلى هذا الاتجاه الآن,أنا الذى جلبته على نفسى.
- أشعر أنى بخير.
أشرق وجهها بالفرحة، ولكنى حسبت أنها الرغبة، فارتعدت. حاولت أن أنظر فى نفسى فوجدت الموت قد عاد إلى أحشائى كما هو، وربما أكثر.
- التساهيل على الله.
فهمت تراجعى وحيطتى فقالت فى شبه انزعاج:
- ألا تشعر بأى تغيير.
يانهار أسود، ماذا تريد هذه المرأة بهذه السرعة، ألا تدعنى أستجمع نفسى بعض الوقت؟. ماذا لو علمت ما جري؟. أحسست بشئ من الفخر والشماتة معا.
- لقد فعلت ما أشرت به، وما علينا إلا انتظار الفرج.
قالت بيأس ظاهر:
- فرجــه قريب.
هو الجنون.، وإذا استمر رفضى للعلاج وهربى منه فلا أحسب أنى بعيد عن مستشفى المجاذيب إلا بمقدار أن يـكتشف أمري، على أن أتخذ القرار الآن.
رحت أبحث عن العنوان الذى أعطانيه الطبيب التناسلى.
* * *
كان هناك شئ ما فى هذه العيادة يميزها عن الأخريات، ليست جمعية استهلاكية ولا مقبرة فى وادى الملوك، مجرد مكان عادى مثل أى طبيب متوسط، تذكرت طبيب أمراض النسا والولادة الذى ذهبت له فى أول الأمر وشعرت بالطمأنينة لوجه الشبه بينهما. إذن فأنا مريض عند طبيب، وخلاص !!! هل ثم خلاص؟.
زادت طمأنينتى حين علمت أن الاستشارة ليست بميعاد سابق فقد كنت أتعلق بأى اختلاف عن تجاربى السابقة. لا يوجد فى حجرة الانتظار إلا نفر قليل. شعرت بالألفة لسبب لا أعلمه. جئت بدون ميعاد وعلى الانتظار. فرصة لأتبادل الحديث مع بعض الجالسين، اقتربت من أحدهم ممن توسمت فيه الطيبة والسماحة، وبعد تبادل تحية المساء قلت له:
- هل تأتى هنا من زمن طويل؟.
- بضعة أسابيع، وأنت؟.
- أول مرة، ولذلك فأنا متردد تماما وخاصة أنى ذهبت إلى آخرين ولم أواصل العلاج.
- لابد أن تستمر بعض الوقت قبل أن تحكم.
- خوفى يمنعنى من المحاولة.
- كلنا كذلك، ولكن للضروة أحكام.
- ليتنى أستطيع.
- ولم لا؟.
- لست أدرى ولكنى أخاف كما قلت لك.
- حاول.. ولن تخسر شيئا.
شجعنى حديثه المباشر فتجرأت على أن أسأله:
- آسف للتدخل فى شئونك الخاصة ولكن حديثك يطمئنني، هل أستطيع أن أعرف ماذا عندك لعلى أتشجع أكثر إذا وجدت ما يشبه حالتى.
- لا يوجد إنسان على ظهر الأرض مثل الآخر.
- وماذا قال لك الطبيب، بم شخص حالتك؟.
- علمنى ألا أختبئ وراء لا فتة.. أى لافتة.
-… يعني؟.
- عليك أن تختبر الأمر بنفسك، ولكن لا حرج من الكلام فلا محظور إلا الكذب والهرب.
بساطة الحديث وتواضعه تبهرني، هذا شئ لم أعهده من قبل. سوف أقول له ما بى ولو لأعمل “بروفة صدق”. حضر الممرض واستدعى الشخص الباقى فى الحجرة فتشجعت أكثر للمضى فى الحديث مع جارى.
- أنا لا أعرف ماذا عندي، لكنى أشعر أنى لست مثل الناس، ولست مثلما كنت قبل ذلك.
- أظن أن كل إنسان يمر “بهذا”فى وقت ما من حياته. هناك من يتوقف، وهناك من يسرع فى الهرب، وهناك من يبحث.
كلام جديد. هو أيضا كلام خطير. دعوت أن تطول مدة جلوسى معه. قررت أن أحكى له رضى أم يرض. عليه هو أن يوقفنى متى شاء.
- تشغلنى أمور كثيرة متشابكة لابد أن أنتهى منها أولا حتى أعرف كيف أعيش.
-……..؟.
- الله والحقيقة والجنس والعمل والموت والنار,.. وكل شئ.
- يا أخى.. تريد أن تنتهى قبل أن تبدأ؟. ماذا يتبقى بعد ذلك؟. البحث فى هذه الأمور هو الحياة ذاتها.
- هذه أمور لا تشغل كل الناس.
- بل هى تشغلهم ولكن بطرق مختلفة.
ما هذا كله؟. مم يشكو هذا الإنسان؟.
- لماذا أنت هنا إذن؟.
أشارك فى البحث فى.
- هل نحن فى مركز أبحاث أم عيادة؟.
- لابد من رفيق طريق وإلا قتلتك الوحدة.
- رفيق طريق بدرجة دكتور؟.
- هذا من فساد العصر، ولكنها البداية.
- وهل وجدت الرفيق هنا؟.
- نحن نبحث سويا. نحاول، ونتقارب.
-نحن؟ نحن من؟. أنت والطبيب؟.
- أنا والطبيب وآخرون مثلى ومثلك.
- ولماذا يبحث الطبيب معكم، ألا يعرف كل شئ.
- من ذا يعرف كل شئ؟.
- لا أفهم.
جاء الممرض بلا داع فكدت أقتله، نادى زميلى ليدخل فسألته صائحا وهو يبتعد.
- اسمك من فضلك؟.
قال وهو فى طريقه إلى الحجرة الأخرى وعلى وجهه دهشة عابرة.
- إبراهيم الطيب.
صحت بصوت أكثر علوا قبل أن يختفى تماما.
- وأنا عبد السلام المشد.
لا أعرف لماذا أصررت على أن أقول له اسمى بهذه الطريقة التى ابتسم لها الممرض مشفقا فى الأغلب. لم أتذكر أن بداية الأزمة كانت حين نسيت ذلك.
* * *
جلست أفكر طويلا فى كل ما حدث، يبدو أنى مقبل على شئ جديد. هل أنا أبحث عن رفيق طريق أم عن طبيب يعالج عجزى ونزواتى معا؟. هل أنا أقبل أن يكون لى رفيق وأنا كل همي، ومنذ البداية، أن أتحاشى أى رفيق حقيقي؟. ألم أهرب من غريب لولا أنى تأكدت أن قوقعته غير قابلة للكسر؟. ألم أتحاش زوجتى فى أول لما بدا أنها قد تشعر بى ولو لحظات؟. هل سأضطر أخيرا إلى مغامرة فيها ناس بحق؟. ما حدود ذلك وأنا لا أعرف أولها من آخرها؟.
ملكنى الرعب ونظرت إلى الحجرة الخالية إلا منى. زادت دقات قلبى حتى كاد يقفز من صدرى. انتهزت فرصة دخول الممرض إلى المطبخ وخرجت مسرعا حتى أخذت أجرى فى الشارع، ولم أشعر بالأمان إلا حين وجدت نفسى فى ميدان التحرير.
* * *
أفقت على ما حولي، لا بد أننا بعد العشاء بزمن، حركة غير عادية فى الميدان، جنود يلبسون الخوذات النحاسية، ويمسكون بالعصى الطويلة، وعربات بوليس تحمل مثلهم وتجوب الميدان، وأعداد من الشباب تتجمع وتتفرق، لا احتكاك ولا صدام، ما هذا كله؟.
تذكرت فجأة – دائما فجأة - أن الطلبة فى تذمر هائل هذه الأيام. أنباء الإضرابات – التى تسميها الصحافة الاضطرابات، تملأ الصحف، إشاعات الثورة والانقلاب تدور حول المكاتب وفى الأتوبيسات، وإلى درجة أقل فى البيوت والمقاهى. أين أنا من كل ذلك؟. غائب أنا عن كل هذا من زمان، غائب أو مغيب. أنا مسئول. كنت أتجنب كل ذلك زمان تحت ادعاء العقل، والآن أنكره بعد أن انسحبت لكوكبى الخاص تحت ادعاء الجنون. هل هذه بلدى أم أنى مجرد سائح عابر؟.
بدأ يداخلنى شعور بالخجل والذنب معا، حاولت أن أقضى عليه بسرعة. أفضل لى الآن أن أعترف بأن مابى هو مرض صريح، إنا مريض، ولا شأن لى بكل هذا، أنا لست من هنا، أنا لست سائحا فقط فى هذا البلد، ولكنى سائح فى هذا الكوكب الأرضى كله، إنا قادم من كوكب آخر؟. بل ربما أكون أنا شخصيا كوكبا آخر. هذا الجو المشحون بالحماس والشباب والبوليس، قفز فى عقل بالى:
- “هؤلاء الشباب والبوليس”هم آهلك، هم أنت.
- مالى بهم، أنا عاجز حتى عن مزاولة واجباتى الزوجية.
- “فشلك فى دائرتك الصغيرة، بصنعك فى دائرة أوسع، لا يبرر هربك.
- أنا لم أفشل بخاطرى، أنا عاجز عن الحياة بكل أشكالها.
- “كاذب، وهارب، جبان. عليك أن تدفع الثمن”
- هذا المحيط الهلامى من الضياع؟. لست ناقصا صياعا؟.
- “تشارك أو تعيش نذلا تعسا، لا مفر.
- أنا غير قادر على شئ.
- “جبان”.
- أنت الغبى.
اختلط على الأمر وحاولت أن أوقف الحوار. شعرت أننى يمكن أن أهيج أو أعدوا أو أحطم شيئا أو أقتل. عاد يتحدي.
-.. لن أدعك تهنأ على حال.. سوف أحرمك حق الوجود ونعمة العمى معا.
- ماذا تريد منى؟.
- دعنا نذهب إليهم.
سآخذه على قدر عقله ولسوف نرى.
* * *
توجهت إلى أكبر مجموعة منهم – أكاد مضطرا على ما يبدو. حاولت أن أهدئ من مشاعرى وأن أستدعى كل قدرتى علي”الفرجة”حتى لا يدفعنى حماسى إلى ما لا أدرى بعد أن أصبحت أوقن أنى مجنون مع وقف التنفيذ العلني، حاولت أن أضيع فى الزحام حتى لا يلحظنى أحد، اقترب منهم فى حذر خشية أن أضبطنى. هم يغلون بالحماس والثقة، يتبادلون الأفكار فى هدوء واضح، يضحكون.
= هذا ذل ولن نسكت عليه.
= نحن مسئولن عنها أمام الأجيال القادمة.
= الانتظار تخدير أمريكي، والمؤمرات تدبر فى الخفاء.
= بل وفى العلن.
= الوعود تلقى فى المواسم والأعياد، ولا نجنى إلا تبرير الهزيمة.
= الحرب أو الثورة، ولنلق بالجميع إلى الجحيم.
= احتلال القاهرة خير من خدعة الكلام عن الإعداد للحرب.
= لا يريدون أن نواجه الهزيمة فى الشوارع خوفا على أنفسهم.
= آن الأوان……،
= انسحاب.
هذه بلدنا. هم الذين عليهم أن يذهبوا.
لم أستطع أن أكمل أكثر. الكلمات تدخل إلى وجدانى كالرصاص الحارق الذى يخترقنى إلى مخزن بارود لا أعرف من الذى خبأه داخلى دون علمى. انصرفت قبل أن أتفجر فى أى اتجاه. أمسكت بخرطوم المطافئ أحاول أن أمسخ التجربة كلها بأى سخرية تطفئ مشاعرى حتى كدت أهتف بينهم “تسقط العــنــة ويحيا الجنون”. رد سمعنى أحدهم دون أن أنطق، نظر إلى هو يقول: عنة السياسة ألعن. التفت إلى شاب وفتاة يجلسان وحدهما على ركن من قاعدة التمثال بلا تمثال، بدا أنهما يتناقشان فى السياسة والحرب والحب. اقتربت منهما وسألت.
- ماذا تريدون على وجه التحديد؟.
أجابنى الشاب بحذر وقوة.
- ومن أنت على وجه التحديد؟. من المباحث العامة أم من المخابرات؟ هل أنت مصري؟ من أنت؟.
- أنا عبد السلام المشد.
قلتها وأنا أعنيها مثلما صحت بها لابراهيم الطيب فى العيادة منذ قليل، أين محصلة الكهرباء لتؤكد لهم أننى عبد السلام المشد. هذه الفتاة لا تشبهها. قالت فيما يشبه السخرية لكنها ليست كذلك تماما:
- تشرفنا.
قال الشاب.
- وماذا تريد؟.
قلت.
- أريد أن أحس بإحساسكم، أريد أن أعرف أكثر.
قالت الفتاة.
- ألم تعرف بعد؟. البلد محتلة من سنوات. ألم يبلغوك الخبر؟.
قلت.
- هى النكسة، والكل يعرفها.
قال الشاب.
- يا فرحتى !! أى خدعة!! “النكسة”، ماركة سيارات جديدة هذه؟. ولم لا نقولها صريحة لنتحمل المسئولية. أليست هى الهزيمة فالاحتلال؟.
-… تريدون الجلاء.
- نريد أى شئ إلا ما نحن فيه، وأنت ماذا تريد؟.
من أين لى أن أعرف ، لو كنت راضيا لما كنت الآن فى هذا المكان هاربا من عيادة طبيب نفسى. من أين لى أن أعرف ماذا أريد. أليس كل سعيى هذا لأعرف؟.
- أنا لا أعرف ماذا أريد. لا أعرف حلا لأى شئ.
لست متأكدا إن كنت قلت كل ذلك بصوت مسموع أم لا.
- الحل هو الثورة… أو الحرب.
استجمعت حكمتى القديمة لأخفى ما بى.
- ولكن لابد من الاستعداد للحرب، وإلا فنحن ننتحر.
قالت الفتاة:
- نحن ميتون… والميت ضاعت عليه فرصة الأنتحار قال الشاب:
- ألا تحس يا هذا؟. هل أنت “جبلة “؟. كيف تستطيع أن تواجه أولادك كل صباح؟. كيف تتمتع بزوجتك والبلد محتلة هكذا؟.
انزعجت من هذا التلميح. استبعدت أن يكون قد بـلـغه شئ عن عجزى. كدت أسأله هل من الوطنية أن أكون عنينا حتى يزول الاحتلال؟. أحسست بزهو خفى لأنى لا أتمتع بزوجتى فى ظل الاحتلال. لا بد أن ذلك من باب الوطنية. ارتسمت على وجهى ابتسامة سرية.أحسست بحب غامر نحوههما.أنامن نفس البلد. نحن، أخيرا نحن لنا بلد معا.
- ربنا يحميكم.
فوجئ الشاب. قال رافضا بيده:
- كفى ابتهالات ودعوات، هذه مسئوليتكم قبلنا، أنتم جيل الهزيمة والعار، أنتم الذين سرقتمونا وخدعتمونا ثم لا تملكون لنا إلا الدعوات المباركات.
تمنيت أن تبتلعنى الأرض حالا، ماذا يريدون منى أن أصنع أنا بالذات؟. ما الذى جاء بى إلى هنا؟. هل كنت ناقصا اتهامات أو إهانات أو امتهانا، هذا الشباب المغرور الحالم ماذا يصنع إلا الهتاف والصراخ ثم سرعان ما يعودون إلى حظائرهم خلال أيام، كنا مثلهم فى يوم من الأيام وصنعنا الثورة فماذا صنعوا هم.
قلت مدافعا:
- لكل جيل واجب، وقد صنعنا الثورة.
قالت الفتاة:
- قل.. لقد سرقتم الثورة، خدعتمونا يا رجل. أين الثورة؟.
قال الشاب:
- فى كتب “التربية القومية”!!!
كدت أصيح فيهم: أنا مالى يا أولاد الكلب، كفانى ما بي، ما الذى جاء بى إلى هنا؟… يحمـلونى مسئولية الأحداث هكذا مرة واحده، وكأنى صانع الثورة، والمسئول عن انحرافها فى وقت واحد. أنا آحبكم والمصحف، حتى أسألوا……
قلت معتذرا ممهدا للانحساب:
- سرقوها وكذبوا علينا كما كذبوا عليكم.
لم تمهلنى الفتاة.
- أنتم رضيتم بالكذب، أنتم سكتم على الكذب.
يانهار أسود، يبدو أنى جئت إلى حتفى برجلي، أخشى أن يحاكمونى علنا مثلما كنا نسمع فى الصين، العالم أصبح صغيرا والعدوى تنتشر بأسرع مما نتصور، ملكنى خوف حقيقى حتى نظرت إلى عربة البوليس المليئة بالعساكر ذوى الخوذات. داخلنى شئ من الاطمئنان واليقين بلا مبرر: لا إعدام بلا محامكة، ولا ظلم فى عصر الشرطة! على كل واحد أن يدفع جزاء ماعمله فقط. لا أكثر ولا أقل.
واتتنى الشجاعة من منظر الشرطة المدرع فانطلقت أكمل دفاعى طالبا البراءة:
- أخفوا علينا كل التنازلات، لم نعلم أنهم يمرون فى شرم الشيخ منذ 56. ويوم علمنا حاربنا.
قالت الفتاة:
- لا تقل حاربنا قل حوربنا، وانهزمنا، وقالوا نكسة.
قال الشاب:
- ومازال الكذب يعمل قراطيسا للب والفول السودانى.
المسائل أكبر من قدرتى الآن بالذات. لا حل إلا الانسحاب قبل أن يفلت منى الزمام، الخبل السرى يعاودنى لينقذنى. قراطيس الكذب التى تستعمل للب والفول “السوداني”، كلمة السودانى استدرجتنى إلى تذكر تلك المرأة السودانية وجذعها الأبنوسى المنصهر تحت نار جنونى المختلط بالنشوة. امتلأت فخرأ بفحولتى رغم الكلام عن النكسة والاحتلال والهزيمة، زهوت بنفسى لأنى حققت فى دقائق معدودة – دون مفاوضات تذكر – ما كان يحلم به كل من الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان، والصاغ صلاح سالم بلا خسائر فى الأرواح.
للجنون فوائد سرية.
انتبهت على قول الشاب.
-….. لكل شئ نهاية.
قالت الفتاة:
- ها نحن نرسم بداية النهاية:.
قال الشاب ونبدء نحن هذه المرة.
انصرفت خجلا من أفكارى الجنونية الشبقية فى هذا الجو السياسى المحمل بالثورة ولكنى حمدت الله عليها، وعلى أنهم لم يعرفوا فيم أفكر. لم أستطع، رغم احتمائى بجنوني، أن أطفئ النار التى أشعلوها. كنت أحسب أن هذا الجانب منى قد مات إلى الأبد، رعبت من هذه الثورة بداخلى وحاولت أن ألغى كل ما حدث.
المشاعر مرعبة ضخمة تحمل معها خليطا من الخزى والمسئولية والإفاقة والعجز.
كنت أحسب أن فشلى على السرير هو أعلى درجات الخزى ولكنى عرفت الآن ما هو أعلى منه وأكثر سحقا.
* * *
أجرجر رجلى إلى بيتى وأصعد الدرج وكأن سيقانى هى أكياس الرمل المعدة لإطفاء الحرائق بعد الغارات.
بينما أنا أنتظر أن يفتح بابنا لمحت الأستاذ غريب من نافذة المنور وهو منكفئ على كتاب بين يديه. ملكنى غيظ تصاعد بسرعة فائقة حتى ملأ كل كياني، صحت فى صمت:
“ملعون أبوك”.
أحسست برغبة حقيقة فى قتله.
رعبت من تدهور حالتى.
الفصل العاشر
الحلقـة
لم أكد أضع رأسى على الوسادة حتى اجتاحت المظاهرات البلاد تطالب بالجلاء التام، أو الموت الزؤام وبوحدة وادى النيل. أنتقل من المدرسة الثانوية بدمنهور حتى كلية التجارة بجامعة فؤادالأول. يحملنى الطلبة على الأعناق مرة، وتفعصنى كتلة أجسادهم مرات. يترجع صدى الهتافات”الجلاء بالدماء””لا مفاضة إلا بعد الجلاء”. أخطف خوذة شرطى وألعب بها الكرة. أتحمس للهتاف بوحدة مصر والسودان لأسباب خاصة” بيفين.. بفين، يسقط بيفين”” صدقى الخائن، يسقط بيفين” تخرج الجموع إلى الشوراع وتجتاح كل المقاومة البوليسية وتتجه إلى كوبرى عباس. الناس تنضم إلينا بالمئات,رجال النقراشى باشا يفتحون الكوبرى على الجموع فيتساقط الشباب بلاعدد، الجموع تدفعنى إلى الحافة. لا أكاد أهوى حتى أستيقظ مفزوعا قبل أن ترتطم رأسى بعوامة الكوبرى. تنقلب زوجتى إلى جنبها الآخر وتعطينى ظهرها كأنها تقول”على إيه يا فالح” ! أمط شفتى استهتارا كأنى لم أسمع. أشعل سيجارة، أستمر صاحيا. بقايا نقاش ميدان التحرير تحضرنى دون تفاصيل.
هل يمكن أن أصنع شيئا أنا شخصيا – عبد السلام المشد – لهذا البلد الآن؟. هل هناك أمل فى أمثالى؟. هل ينقذنى ذلك من بعض ضياعى؟. هل تبقى منى شئ يصلح لأى شئ؟. تأتينى الأجوبة كلها بالنفى أو بالمعايرة أو بالسباب. المكتب ينتظرنى فى الصباح، والسرير بما يحمل من مذلة وخزى فى المساء. ما بين هذا وذاك أموت غيظا وأنا أتابع الأستاذ غريب وهو مستغرق فى كتبه ليفشـل كل الحلول قبل أن تبدأ.
تتردد فى ذهنى الاتهامات الصادقة التى وجهها إلى الطلبة والتى لا أعرف طريقة أمينة للرد عليها.”أنتم رضيتم الكذب وإلا ما سكتم”. أين السبيل حتى لا أسكت أنا شخصيا”عبد السلام المشد” أعيش فى هذا البلد فى هذه اللحظة من الزمان؟. هل نحن ميتون فعلا؟. هل صحيح أن الميت لا ينتحر؟.
تمر أمامى كلمات مثل”الثورة و”الانقلاب”، و”الحرية”. كلما حاولت أن أترجمها إلى شئ محدد يخص”عبد السلام المشد” بلحمه ودمه ووظيفته فى الحسابات، وشقته ذات الثلاث غرف وهو يتقلب فى الفراش الآن خوفا من الارتطام بعوامة كوبرى عباس بعد أن فتحه النقراشى باشا (هكذا قالوا). تذهب منى كل معانى الكلمات. ماذا كان على عبد السلام المشد أن يفعله حتى لا يتهمه هذا الشباب النقى بالصمت والسرقة والخيانة والكذب؟. وماذا يمكنه أن يفعل الآن؟. هذا العبد السلام المشد على وجه التحديد؟.
وددت لو أنى رجعت إلى هؤلاء المتحمسين أسألهم ماذا يمكن أن أفعل” أنا” شخصيا وبالضبط، الآن وليس بعد؟. أم أنها لعبة عيال وشطح أحلام؟.
حتى لو كانت كذلك فهل يعفينى هذا من مسئوليتى وإحساسى بالعجز واليأس. هل أنا ناقص احتقار لذاتى حتى يتهمونى – شخصيا – بكل ذلك؟. وهم؟. ألا يهربون أيضا من عجز ما؟.
- ولو. هم يمارسون الصدق، ولا يكفون عن المحاولة.
- لعب عيال… كل شاب منهم قد أطلق شعره ولبس المنطلون القذر الضيق، وجلس مع صاحبته ومقعداتهما متلاصقتان وراحا يلقيان التهم جزافا.
-… أيقظوك غصبا عنك.
- أيقظونى لأفعل ماذا؟.
- لتكون بشرا له إحساس حقيقى،
- أحسن من الموت عجزا وحكمة زائفة.
- ولكنى مريض، والشعور بالعجز جزء من مرضى.
- “الآن تدعى المرض، فإذا جاء وقت العلاج تدعى الصحة”.
- أنت مثلهم لا تكف عن الصياح ماذا تريدنى أفعل؟.
- “تتحمل المسئولية وتسمى الأشياء بأسمائها”.
- ضيعتنى حتى ضاعت منى الأسماء، أنسيتـنى اسمى، جعلتنى أشك فى أنى أنا. والآن تريد أن أسمى الأشياء بأسماءها، أية أسماء وأية أشياء؟. ماذا تريد منى؟
- الثورة
- ثرت على عجزى الجنسى وكدت أجن حين نجحت، ثم ماذا.
- أى عجز لا ينتهى إلا بثورة.
- ثم ماذا؟
- يوجد ألف طريق.
- لا ياعم..عجز المرض وذل العلاج أرحم
* * *
لم يبق أمامى إلا هذه المحاولة الأخيرة، تذكرت حديثى مع إبراهيم الطيب والعلاج فى مركز أبحاث الله والجنس والموت، و مع رفاق الألم والعجز والضياع.
أصبحت لا أستطيع أن أنكر رغبتى فى القتل أو الدعارة، فإذا نجحت فى السيطرة عليها بعض الوقت عاودنى الصداع المتفجر أو الإحساس الميت، فإذا ما واجهت داخلى لحظات رعبت من التفتت أو الجنون. ناهيك عن المعايرة والسخرية.
ذهبت إليه هذه المرة وفى نيتى أن أحاول صادقا، فالحلقات تضيق على والأمور تكاد تفلت من يدى حتى كدت أفقد السيطرة على بقية أجزائى. عرفنى الممرض وابتسم حين حاولت أن أعطيه كشفا جديدا وذكـرنى بأنى حجزت قبل ذلك. حمدت الله على أنه لم يسألنى عن سبب خروجى فى المرة السابقة، مع أنى كنت قد أعددت سببا وجيها للاعتذار. دخلت عليه فلم أجد ما يسترعى الانتباه. حين بدأ الحديث مباشرة بلا مقدمات أو استجواب أحسست وكأنى أكمل الحديث مع إبراهيم الطيب، وليس مع طبيب مختص، كان عاديا، وحكيت له عن مصيبتى السوداء.
-….هذا شئ يمر به أى إنسان يحاول أن يعيش بحق.
- ولكن حالتى قد وصلت إلى مراحل خطيرة جدا.
- كيف لك أن تميز درجة الخطورة، لابد من إعادة تحديد معانى الكلمات – هات ما عندك مباشر.
قلت فى نفسى لابد من تفجير سلسلة المفرقعات مرة واحدة بلا حذر أو حساب.
- رأيت فى أول المرض أمام عينى أحداثا وأشخاصا ثبت أنهم لم يتواجدوا أصلا، أظن أن هذه هلوسة لا تحدث إلا لمجنون.
- تكرر لغة أطباء يسمعون الدرس.
- ولكنها الحقيقة،
-……. ثم ماذا؟
- أشعر أحيانا بقدرة جنسية هائلة حين أطلق لجنونى العنان، ثم أعجز عن واجباتى الزوجية خوفا من بيع نفسى لها.
-…………… ؟.
- أحيانا أحدث نفسى وكأنى عدة أشخاص.
- خطوة صعبة،.
- … تجربتى مرعبة وأنت لا تعرفها.
- ليس تماما.
- أنت.. أنت شخصيا.. هل رأيت شخوصا لا وجود لهم؟.
- ما دمت إنسانا.. مثلك.. فأنا معرض لكل شئ.
- مثلى؟. قل لى من أنت؟.
- أنا من ترى.
- هل أنت منا، أم منهم؟.
- أفضل أن ترى بنفسك.
- حين دخلت وقابلتك داخلنى إحساس لأول وهلة أن الطبيب لم يحضر بعد، وحين رأيتك تنتقل إلى جوارى وتتحرك فى الحجرة أثناء الحديث وتضحك بلا تردد زاد شكى… حتى كدت أخرج إلى الممرض لأتأكد أنك الطبيب، وأنك لست واحدا منا دخل مكتب الطبيب خلسة ليخدع أمثالى مثلما نشاهد فى مسرحيات هذه الأيام. أرجح أنك”منا”.
- ومنهم. لا مفر من المحاولة.
- حاولت ولم أنجح. تصورت أنى من كوكب آخر وأن لى شبيها إنسانيا يلعب دورى البشرى على هذه الأرض، حاولت أن أتفرج فى مساحة من السماح. لم أنجح. هل نجحت أنت؟.
- نجحت؟. فى ماذا؟.
- في”الفرجة” على البشر ثم خداعهم بالتصرف مثلهم؟
- الفرجة عار الرؤيـة. الحياة شئ آخر!
هذا كلام سهل فارغ. البلد محتل والجوع والخراب على الأبواب والذل والمهانة تتغلغلان فى خلايا كل إنسان حى. أين هذا الرجل من كل هذا؟. أكمل هو دون تردد.
- نحاول سويا ونبحث سويا.
تذكرت إبراهيم الطيب.
- نبحث سويا ماذا ؟.
- نبحث عن طريقة.
أنا آبحث عن أفضل طريقة للهرب.
(أنا هارب من شباب التحرير، لأختبئ فى لعبة العلاج.)
- الهرب حق إنسانى، نحن نهرب إلى ما يمكن حتى نستطيع ما لا يمكن.
- الأستاذ غريب يلعب لعبة البحث الدائرية.
– لعله يبحث وحده؟. بلا تجربة؟. ولا آخرين؟.
أحسست أن الحديث ينزلق بنا إلى مناقشات لا تحل ولا ترتبط”. كنت أتمنى أن يكون العلاج خدعة تعفينى من المسئولية مثل المرض تماما. هذا الرجل يملؤنى غيظا، يلوح لى بعلاج ما، علاج كأنه من لست أدرى.
قررت أن أبدأ بالهجوم الاستطلاعى بلا لف أو دوران، سآخذ من ذقنه وأفتل له.. أين هو فعلا من الناس والآخرين.
- والبلد؟.
سكت وكأنه أدرك إلى أى منطقة أستدرجه، ثم قال:
- البلد هى أنا وأنت.
- ماذا تصنع أنت للبلد وهى تغلى وتــذل؟. هل عندك غير الفرجة والكلام وجمع النقود؟.
أطرق حتى كاد العرق يتفصد من جبينه.
- لا أعرف على وجه التحديد، ولكنها محاولات مستمرة للإتقان لا أنكر شعورى بالعجز، فتزيد محاولاتى لاختراقه معكم.
تذكرت عم محفوظ; ذهبت لأتبرك به فقذف إلى الكرة هذا الطبيب يعلن حيرته وعجزه ويطلب منى المساعدة.
- جئتك لأتخلص من الألم، لا لأزداد ألما وحيرة.
- لا أخدعك. ليس عندى إلا ما قلت.
- الألم العاجز ساحق، وهو وقود الجنون لا الثورة.
- لا أعرف سبيلا آخر، لك ولنا.
- جئتك لأهرب من العار الذى أيقظه فى هؤلاء الطلبة المهووسون. عار بلد محتل، لا بد وأنى أخطأت الطريق.
- يجوز.
أقفل هذا الرجل المدعى أمامى أبواب الهرب قبل أن أفتحها. كلما وصلت إلى ما يبرر عجزى ألقى فى وجهى القفاز. يثير فى الرغبة فى العراك. جئته يساعدنى وإذا به وكأنه يطلب المساعدة، لست متأكدا من صدقه، لكنه يذكرنى بموقف عم محفوظ. أحاول أن أختفى منه تحت سابع أرض فأجده ينتظرنى هناك لأحلق معه فى السماء السابعة.
أية مصيبة أن تكون رحلتك بكل هذه المشقة من أعمق درجات الضياع إلى أعلى درجات المسئولية. هذا ليس طبا، لا بد أن هذا الرجل أجن منى، ومن المرأة السودانية، ومن كل جنون الأرض والسماء، أو أنه كذاب هارب. هل عرف كل شئ؟. هل هو سيفرض على معرفته هذه؟. هل هو يقتل وحدته برفقة أمثالى؟. لحساب من؟. من هو على وجه التحديد، وكيف عرف كل ذلك؟. لو كانت معرفته من الكتب لعرفها كل المختصين هذا التخصص ولصادرت الحكومة هذه المهنة؟. هل مر بمثل ما نمر به ثم اختبأ فى ثوب طبيب؟.
- وهل هناك أقراص وألاعيب مثل الآخرين؟.
- كل شئ ممكن.
صمت، فصمت. مضى وقت طويل طويل حتى عاودنى رعبى القديم.
كنت أخاف العقاقير فقط فأصبحت أخاف الشفاء من أى نوع. قربه منى أخطر على من كل احتمال آخر. لا بد من وقت للتفكير قبل اتخاذ قرار قد يكون بلا رجعة. انصرفت وأنا أحاول أن أتهمه بالجنون والهرب والارتزاق من جديد.
* * *
كلما مرت الأيام ازدادت حاجتى إليه وازداد خوفى منه. مجرد علمى بوجوده ”هناك” كان يطمئنى بشكل ما، حتى أنى كنت أحوم حول عيادته لأطمئن أن سيارته بالباب، ثم أنصرف قبل أن أضطر إلى العودة لزيارته. لا… ليس هذا هو حلى أنا، حتى لو كان هو حله هو، لا توجد قوة على الأرض يمكن أن تستدرجنى إلى أن أغامر هذه المغامرة المرعبة.
أين البديل؟.
الشعور بالعجز يزحف على فى كل مجال رغم نجاحى الظاهرى فى مجال العمل واختفاء أغلب الأعراض، واستسلام زوجتى يأسا أو انتظارا لفرج يأتى من المجهول.
لا أستطيع أن أنسى: لا حديث الطلبة فى ميدان التحرير ولا حديث الطبيب الذى أكاد أجزم بجنونه، ذهبت إليه أريد التخلص من هم هذا البلد الذى أحاط بى دون ذنب جنيته، فما عمرى اشتغلت بالسياسة ولا فكرت فى ذلك، ومع ذلك أشعرنى أنى المسئول الأول والأخير. كنت أحسب أن الطبيب سيرجع لى عقلى ويقنعنى بأن كل هذا كلام خادع، فإذا به يحملنى هم الإنسان فى كل مكان.
* * *
يخطر ببالى أحيانا أن خير سبيل لاستعمال جنونى بشكل”خلاق” كما يقولون – هو أن أنمى تجربتى مع المرأ ة السودانية. أحيى العظام وهى رميم. أخترق أسوار النساء اللاتى يخفن المتعة وينكمشن وراء التردد والبرود. هذا عمل جليل أفضل من هتافات الطلبة هذا الطبيب المجنون. يرسم لى خيالى أحيانا صورة لعلاقات راسبوتينية تسبح فى أنهار اللذة والخدر. ربما وجدت بذلك حل الإنسان الجديد بأن أصنع نسلا أرقى من خلال الجنس المجنون.
* * *
أحسست أنى أنتهى إلى وضع قريب مما وصل إليه الأستاذ غريب. أنا أنتظر شيئا مجهولا أتصور أنه يمكن أن يتم بين يوم وليلة. شئ يهبط من أعلى أو تتفجر عنه الأرض. شئ يجيب على الأسئلة الحائرة ويضع حلا لكل هذا الضياع، هل هى عدوى من غريب أم أننى فهمته خطأ. غريب لا يكل الاتظار ولا يستعجله. هو يستطيع أن ينتظر طول الدهر.
- هيه؟. ماذا وجدت يا غريب؟.
- التاريخ يعيد نفسه.
- وهلى نعيش – أنت وأنا – فى التاريخ الذى يعيد نفسه، أم أننا خارج دائرته.
- وعينا به هو الذى يصور لنا أننا خارج دائرته.
- نكف عن الوعى أم نستسلم بإرادتنا فى دائرة التاريخ الذى يعيد نفسه؟.
- لا أعرف، أنا أبحث وأنتظر.
- طال انتظارك يا غريب.
- لن أخدع نفسى بالحلول الجاهزة.
- عرض على مؤخرا حل جديد بعد أن خفت مثلك من الحلول الجاهزة.
- أى حل تعنى؟.
- علاج جديد، يسميه صاحبه بحث مشترك؟. أو رفقة طريق،” أو علاج جمعي” وهو يتحدث بألفاظ مغرية ولكنه لا يعطى ضمانات، وليس له معالم.
قال بانزعاج وحذر:
- تقول علاج؟. وهل أنت مريض؟.
فوجئت أنى لم أذكر له، إلا تلميحا، ربما، طوال هذه المحاولات عبر شهور وشهور لم أذكر له، أى شئ عن تجربتى مع المرض والأطباء.
- اختلفت الأسماء. أشعر أن الحال لا يمكن أن تستمر على هذا الوضع.
- وماذا قال لك الطبيب؟.
- هذا آخر ما يهم، فقد خيل إلى أنى وجدت أفلاطونا عصريا، أو مجنونا هاربا من المستشفى.
- هذا طريق خطر ستسجن نفسك فيه بقية عمرك.
- أنا سجين أصلا.
- العلاج زنزانة مفردة بفتحة واحدة، عليها سجان غبى.
- من أدراك يا غريب؟.
- لى خبرة فى هذا السبيل ظننت يوما أنى مريض، وترددت على كثير منهم حتى أنقذنى أحدهم.
- أنقذك؟. كيف؟.
- واحد ذهبت إليه بعد أن كدت أعتقد أنى مجنون فإذا به يرجع لى حريتى، ويدعنى وشأنى، واقتنعت من خلال صدقه أن من حقى أن أكون كما أشاء حتى لو كنت مجنونا. لن أنسى جميله ما حييت فقد استعدت حريتى وبدأت حياتى.
- بدأت ماذا؟.
- حياتى الخاصة الحرة تماما من أى أوهام بالمرض أو بالعجز.
- …. أو بالعجز.!!! تحت زعم الانتظار المؤبد؟.
قال متجاهلا تلميحي:
- نعم…
- وهل ما أنت فيه هو الحياة الحرة بلا عجز؟ هل هذا هو الحل.
- وهل خـلقنا لننتظر؟.
- ليس ذنبنا أننا خلقنا، ومن حقنا أن ننتظر.
– لكنى لا أستطيع.
- ولكنى أستطيع.
- كيف أنتظر والعجز يسيطر على كل كيانى؟.
- لماذ تـسميه عجزا؟.
- ماذا تسميه أنت؟.
- سمه ما تشاء: الحكمة، أو الحرية، أو عين العقل.
- والبلد؟.
- ما لها؟.
- هل يمكن أن تنتظر الفرج بنفس الطريقة إلى مالانهاية؟.
- الحل فى النظرية.
قفز عقلى الآخر يعاود نشاطه فجأة قائلا” النظرية فى النملية”. نهرته بلا رحمة.
- أيه نظرية يا غريب؟.
- النظرية المتكاملة.
- ولو أصبحت يوما فوجدت اليهود يسيرون فى الشوارع.
- لست قائدا للقوات المسلحة، ولا رئيس جمهورية.
- يا نهار أسود يا غريب، هل تعنى ما تقول؟.
- لن أخدع نفسى.
- ولو اعتدوا على نسائنا وحرماتنا.
- ليس لى نساء ولا حرمات، أنا حر تماما.
ضبطت نفسى بأقصى ما أملك مما تبقى لى من عقل وواصلت.
- وثورة الطلبة فى ميدان التحرير؟.
- وها هم أولاء قد عادوا إلى الدراسة مثل كل عام. قصة مكررة يأتى سبتمبر
- أنا لا أصدق حرفا مما تقول، أنت تشوه كل شئ حتى تستمر كما أنت، ألا تحسب أن علينا أن نحارب؟.
- لا أمل فى الحرب، ولا فى السلم.
انصرفت مليئا بالغيظ، ولكنى كنت أعيد التفكير فيما قال….
* * *
اقترب منى الأستاذ أسعد صباح الأحد وأنا جالس على المكتب.
- هل سمعت البيان رقم 5؟.
- سمعته، ولكن من يدرى فكم سمعنا بيانات؟.
- هل تشك فى جدية ما يجرى؟.
- مازلت أذكر 67 ولا أقوى أن أعيش نفسى الأحداث والمشاعر.
- الأمر مختلف، نحن الذين بدأنا الهجوم.
- مؤتمر”السلاطة”سنة 67 مازال يخايل ناظرى.
- الحرب دائرة من الثانية ظهر أمس، والعبور كاد يتم.
- صوت أحمد سعيد يرن فى أذنى مساء يوم الاثنين المشئوم من ست سنوات”سقط المكبر يا عررررررااب”” سقط المكبر يا عرب” حتى حسبنا أن الحرب ستنتهى فى ساعات، وكلما رن صوته فى أذنى بعد ذلك ضحكت حيث تبينت أنه كان يعنى أن الميكروفون قد سقط من يده. لا أكثر.
-هل هذا وقت سخرية يا أستاذ عبد السلام.
- حاسب من رفعها أكثر من اللازم حتى إذا سقطت لا تنكسر منك.
- أنت انهزامى متشائم.
- سوف أصبح أول المناضلين فى اليوم السابع من الحرب.
- ولماذا السابع؟.
- لا أنسى الأيام الستة.
- الأمور اختلفت.
- لست متأكدا.
- أنت حر، لكننا نحارب.
* * *
قال الأستاذ نصحى فى حكمة تحليلية:
- هل رأيت يا عبد السلام، فشل التقمص بالمعتدى؟.
كدت أصعق وتساءلت فى استطلاع خبيث:
- فشل ماذا؟.
- اليهود تقمصوا النازى ولا بد أن ينتهوا نفس النهاية.
تعجبت من أنه لا يهمد أبدا. قلت فى إثارة:
- وهل اليهود مرضى مثلى (لم أقل… ومثلك)
- مرضى ومجانين أيضا. قل ما شئت فى شذوذهم وعقدهم.
قلت متماديا فى الفكاهة الخبيثة حتى أخفف من توترى وأنا أتمتع بتتبع تعصبه وحماسه للتحليل ونحن في”عز الحرب”.
- وحكاية الجنس، الله يفتح عليك؟.
- طبعا وما الحرب إلا مظهر جنسى.
تذكرت لفورى المرأة السودانية، لماذا تطل على هذه الصورة فى مثل هذه الظروف؟. طردت الصورة بسرعة قائلا:
- اسمع يا أستاذ نصحى ادع معى بالاستمرار مهما كانت النتائج.
* * *
البيانات تتوالى ومعارك الدبابات متواصلة، مر اليوم السادس ومازلنا نحارب. عاد لى شعورى بالحياة بشكل لا يوصف.هذا هو.
قالت زوجتى كأنها ترقص بعينيها.
- الحرب يا عبد السلام.
قلت وأنا ممتلئ بكل شئ.
- أخيرا.
- الحمد لله.
- ربنا يتمم بخير.
رأيتها كما لم أراها من قبل، اقتربت منها دون تردد. ضحكنا بعد أن نجحنا وكأننا عبرنا القنال معهم وحطمنا خط بارليف.
قلت لها مازحا منتشيا:
- سيولد فى عهد الحرية.
خاتمة……..
صفقت الباب خلفى ودخلت هائجا أريـد أن أحطم أى شئ فى طريقى. كاد غريب يقفز من صوت ارتطام الباب، ولكنه كالعادة – سرعان مازاد شحوبا وهو يتمالك نفسه. كان ذلك مساء الأربعاء المشئوم.
قلت فى غيظ قاتل:
- أمازلت تنتظر يا غريب ؟؟
سكت بلا أية نية فى العراك، ولمحت لأول مرة الدموع تتساقط من عينيه فواصلت:
- كتب علينا أن نعيش كل بضعة سنوات هذه المسرحية المعادة، الذل – الأمل – المحاولة – الخيبة – الكذب – الموت.
لم يرد وزادت دموعه حتى كدت أهزه من منكبيه ليرد على ولا يدعنى وحيدا أكلم نفسى:
-… فقد كنت معنا طول الوقت وأنت تتصنع الوحدة واللامبالاة.
رفع حاجبيه وكأنى ضبطه متلبسا بعدم الوحدة.
- لا داعى للكلام.
- ولا إمكانية للعمل.
- انتهى كل شئ.
- وبدأنا الصراخ والاستجداء.
-…هل سقطت السويس حقا؟ ما حكاية الثغرة؟.
- وحوصر الجيش الثالث.
- القصة مكررة.
-لم تصدقنى حين قلت لك إن التاريخ يعيد نفسه.
ثرت بلا قصد:
- ولكنا حاربنا يا غريب.
- العبرة بالنتيجة.
- الحرب لم تنته.
- سنقبل وقف إطلاق النار، ثم نبدأ الحديث من جديد عن النكسة الثانية والخيانة.
- لو حدث هذا فنحن نخون أنفسنا بالاستمرار فى هذه الحياة.
- ماذا تعنى؟.
- إما أن نعيش أو نموت…،نعم أو نموت. فاهم!!؟.
- قال لى وكأنه يحاول أن يرجع إلى قوقعته قسرا ولكن دون حماس
- أو ننتظر؟.
- لا قدرة لى على الانتظار.
* * *
خرجت إلى الشارع مباشرة بعد أن نظرت إلى باب شقتى نظرة أخيرة. لم أجرؤ على الدخول لتقبيل أولادى فى هذه الساعة، كنت أسير فى الشارع بخطى عجلى وكأنى أخشى أن يفوتنى قطار ما على وشك الرحيل كان قرارى واضحا بلا غموض، عجزت عن الحياة مثل الناس، وها هو ذا العار يقضى على بصيص الأمل الذى تخايلت به من أيام.
وقفت فى منتصف كوبرى قصر النيل. الهواء البارد يصفع وجهى يذكرنى بالحياة رغم كل شئ، نظرت إلى الماء الساكن كالبركة الحزينة بلا أمل فى فيضان أو حتى طوفان. اقترب وقع أقدام الحارس منى، مازال يظن أن الحرب قائمة، مخدوع غبى. لن أرد على ندائه. لا يستطيع أن يلحق بى.
مصيرى فى يدى لأول وآخر مرة بلا حاجة إلى ادعاء المرض، أو استشارة طبيب.
ارتد بصرى إلى الماء الساكن. وشعرت براحة عميقة.
انتهى الجزء الأول…. ويليه الجزء الثانى
مدرسة العراة