الرئيسية / الأعمال الأدبية / كتب أدبية / كتاب: من فيض نبض الطب النفسى (2) هل نعرف ما هو الحنان؟ وكيف؟

كتاب: من فيض نبض الطب النفسى (2) هل نعرف ما هو الحنان؟ وكيف؟

غلاف من فيض نبض الطب النفسى 2

 

من فيض نبض:

 الطب النفسى (2)

هل نعرف ما هو الحنان؟ وكيف؟

 

أ.د. يحيى الرخاوى

 

2020

الاهداء

الاهداء

الإهــداء

إلى:

أحفادى جميعا: من ظهرى ومن علمى وكدحى

 وفقهم الله جميعا، ونفع بهم

مقدمة

مقدمة

مقدمة:

هذه هي المجموعة الثانية الثانية من سلسلة المقالات التي نشرتها في روزاليوسف اليومية من 19/8/2005 إلى 30/12/2005 ، وقد نشر الجزء الأول منذ شهور بعنوان: “أنت معنى الكون كله”، ويمكن قراءة كل جزء مستقلا، أو لمن شاء فهذا مقتطفان من تقديم الجزء الأول.

  • لا أميل كثيرا إلى هذه الطريقة فى إصدار الكتب، أعنى جمع مقالات متفرقة ظهرت فى ظروف مختلفة لأغراض متباينة، لكننى أحيانا أتعرف من خلالها هذه الطريقة- على طيف متكامل من المعلومات التي تـُبلغنى ما يشغل الكاتب فيشغلنى، فأصاحبه أو أحاوره ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
  • هذا ولم يحدث أى تغيير جوهرى فى المقالات كما ظهرت أول مرة، وإن كان قد تم تصحيح بعض الأخطاء المطبعية والصياغية، كما أضيف عدد قليل من الهوامش، كذلك أضيفت بعض العناويين الفرعية، كما تم حذف عدد قليل من الاستطرادات التى رأيت أنها قد تبعد القارئ عن الفكرة المحورية بعدًا مـُخلاًّ.

الفصل الأول: ساحتان!

الفصل الأول: ساحتان!

 

 لعل الأمانة التى حملها الإنسان هى مسئولية التعرف على البرمجة البيولوجية التى ولدنا بها، واشتهرت باسم الفطرة. إن مسئوليتنا تجاه طبيعتنا هى أن نتعرف عليها كما خلقها الله لنتعهدها، ونتجنب تشويهها، لتنبسط إلى ما خلقها الله له. علينا أن نحسن قراءتنا ونحن ننصت إلى الطبيعة البشرية بدءا بملاحظة واحترام كيف تتجلى فى الأطفال أثناء رحلة نموهم، ثم علينا أن نتعهدها لتكون هى هى: بالمعرفة والإبداع والعبادة والخبرة جميعا. أصعب المهام هى كيف يمكن أن نسهم فى توجيه فطرة أطفالنا إلى ما هِىَ وليس إلى ما تعتقد أنها هي؟ بالتعلم والخبرة فى اتجاه ما خلقت به ومن أجله، ونحن لسنا على يقين من طبيعتها إلا من خلالهم أساسا؟ لا بد أن نقوم بالمهمة بعملية متبادلة: نتعلم منهم، لنضيف إليهم، وبالعكس.

 لعل هذا بعض ما بلغنى من حكاية حكاها لى أخى منذ أيام ونحن على مائدة الإفطار عند ابنتى.

حكاية:

… كان ذلك سنة 1936، رمضان (1427هـ) مدرسة خليل أغا الابتدائية، الناظر اسمه عوض لطفى أحمد، (الاسم منحوت فى ذاكرة أخي –رحمه الله- لمدة سبعين عاما)، الناظر يستدعى تلميذا ذا ثمان سنين من الفصل، فيرعب المدرس ويخلع طربوشه (طربوش التلميذ) وينقر رأسه بعقلة إصبعه الوسطى وهو يتساءل: “أى مصيبة عملتها حتى يستدعيك الناظر على الصبح؟ استلقِ وعدَك”.، يذهب التلميذ مرتجفا إلى حجرة الناظر، ويسأله الناظر هل أنت احمد توفيق الرخاوى، فيقول التلميذ وهو يرتجف، “نعم”، فيسأله وهو يشير إلى صفحة “أبلة زوزو” من عدد الجمعة لصحيفة يوميه اسمها روزاليوسف: “هل أنت الذى كتبت هذا”. فيقول له الطفل: نعم، فيقوم الناظر ويلف حول مكتبه ويربت على كتف الطفل، ويسأله: “كيف كان ذلك”؟

كان المكتوب هو ملخص لقصة من قصص كليلة ودمنة التى تبدأ بعرض بيدبا الفيلسوف على دبلشيم الملك مغزى حكاية حدثت بين الحيوانات (لعلها تهديه ل1سياسة حكيمة يدير بها أمور الدولة)، فيسأله الملك: وكيف كان ذلك؟

 فيحكى بيدبا ردَّا “على نفس السؤال، يتمثل أخى موقف بيديا فيرد على سؤال الناظر أن أباه (الذى هو أبى) كان يكلفه أن يقرأ حكاية من كليلة ودمنة كل أسبوع، وأن يوجزها فى سطور قليلة ويرسلها إلى صفحة “أبله زوزو”، ظل الطفل يفعل ذلك أسابيع متتالية دون أن يظهر لذلك أثرا، والوالد مصمم، وأخيرا تحقق الأمل، وقرأ الطفل والوالد فى صفحة “أبلة زوزو” أنه: “جاءنا من الطفل النابه أحمد توفيق الرخاوى ما يلى: ثم “موجز الحكاية” وظلت صفحة أبلة زوزو بعد ذلك تنشر لهذا الطفل ما يرسله أسابيع متتالية، حتى عثر الناظر على ما كان سببا فى استدعاء التلميذ لأنه كان يذيل توقيعه باسم مدرسته.

أضاف أخى أن الناظر كتب له تعقيبا على ما حدث يقول “…… هذا كنز ثمين يا أحمد، فاحفظه، وقلّبه حين تكبر، وكن لأولادك كما كان أبوك لك”، قال لى أخى ذلك وكادت تدمع عيناه.. فتوقفت، ولم أستزده. تُرى هل نفذ أخى توصية الناظر وكان لأولاده كما كان أبونا له؟ هل فعلنا نحن –إخوته- مثل ذلك؟ لست ممن يبكون على الماضى ويتصورون أنه أفضل من الحاضر على طول الخط، وبالتالى لا أدعى أن أبانا ربانا تربية غير مسبوقة، ولا اتـّهمنـَا بالتقصير فى حق أولادنا، ولا أنهم أسوأ نتيجة لخيبتنا فى تربيتهم، وها هى ابنتى “منى” تجمع العائلة بمبادأة طيبة كل رمضان، وغير ذلك، فى حين أننى وإخوتى لم نحرص على مثل ذلك، ولم نعلمها إياه.

دلالة الحكاية كما وصلتنى أردت أن أنقلها للكبار قبل الأطفال، لعلها تبين كيف أن الأحداث ذات الدلالة تظل هى هى بتفاصيلها تفعل فعلها فى وجداننا طول العمر، لقد عايشت أخى ( وهو الذى كان يقترب من الثمانين حينذاك من حكيه هذه الحكاية) وهو يحكى كيف ضربه المدرس – من باب الاحتياط مقدما – بعقلة إصبعه الأوسط، عايشته وهو يتحسس صلعته، ليصلنى نفس وخز عقلة إصبع المدرس فى صلعتى أيضا، وحين دمعت عينا أخى – أو خيل إلى ذلك – لم أعرف هل كان ذلك ترحّما على أبى (وعلاقتهما كانت من أصعب العلاقات)، أم كانت حنينا لأيام خلت، أم كانت أسى على ضياع أمثال هؤلاء النظار.

النص: من رواية “دميان”([1])

المقتطف (1): قبل الرواية (كلمة التصدير)، أردت فقط أن أحاول العيش فى توافق مع التلقينات التى صدرت عن طبيعتى، لماذا كانت صعبة للغاية؟ هرمان هسه

رواية دميان كتبها الروائى هرمان هسّه (نوبل للآداب 1946)، وهى متأثرة أشد التأثر بخبرة كاتبها معانيا متعالجا بمنهج مدرسة كارل يونج. ما يهمنا فى هذه الرواية، بدءا بهذا المقتطف هو ما يتعلق بالفطرة، ثم ما قد يطرأ عليها من تشويه، نحن نزعم أننا من خلال التعرف على الفطرة أطفالا يمكن أن نتعرف على أنفسنا، فالكون، طريقا إلى الله. بالإضافة إلى أنها رواية تروى على لسان صبى “إميل سنكلير” منذ سن العاشرة حتى قرب نهاية المراهقة (إن كان لها نهاية). الفطرة لا تتحقق فقط بجهد من خارجها، نحن نكتشفها، فنتعرف عليها، فنطلق سراحها، كل ما علينا هو أن نمتنع عن تشويهها، ونبدأ بها كما هى، لا كما نختزلها إلى خير أبيض مطلق، وبذلك نتيح الفرصة لانطلاقها لتتجاوز البدائية دون أن تفقد نبضها الطبيعى: فتكون، فنكون.

النص:

ص11: من الفصل الأول “ساحتان”

 “…كان منزل أبوَى يمثل إحدى الساحتين، غير أن حدودا كانت بالفعل أكثر ضيقا، تضم أبوى فى واقع الحال، كانت عبارة عن ساحة من الإشراق والوضوح والنظافة والمحادثات اللطيفة والأيدى المغسولة الملابس النظيفة والعادات الطيبة“…..

“….على أن الساحة الأخرى التى تخطت نصف منزلنا كانت مختلفة تماما: كانت تفوح برائحة مختلفة، تتكلم لغة مختلفة، تعد بأشياء مختلفة، وتتطلب أشياء مختلفة، شمل هذا العالم الخادمات والعمال وحكايات الأشباح” “….. محكومة بخليط صاخب من الأشياء المريعة والخلابة والمرعبة والغامضة..”

إلى هنا والمسألة يمكن أن ينظر إليها على أنها نوع من الاستقطاب بين ساحتى الخير والشر، لكن التداخل الجدلى بين الساحتين بدا أساسيا حيث أعلن البطل هذا التداخل من البداية:

“كانت غريبة تلك الطريقة التى جاورت بها الساحتان بعضهما البعض، فكم كانتا متلاصقتين”

هل كانت هاتان الساحتان خارج إميل أم داخله؟ نسمعه يقول:

“….هكذا كان الحال مع كل شىء وكان ذلك يتجلى معى شخصيا: كنت أنتمى بلا شك إلى عالم النور والصلاح فقد كنت ابن أبى وأمى، ولكن حيثما انعطفت وعيت العالم الأخر، وانخرطت فيه أيضا على الرغم من غرابته بالنسبة للعالم الأول وضجته بالهلع والضمير الفاسد،”

 لقد فضلت بالفعل العيش فى الساحة المحرمة مرارا وتكرار، بدت العودة إلى ساحة النور شيئا ضروريا طيبا كما كان يجب. بدت لى إلى حد ما أشبه بالعودة إلى شىء أقل جمالا..”

إن جمع الضرورة للعودة لما هو أقل جمالا، برغم أنه أكثر بياضا، إنما يشير إلى أن الحرية تصبح فعلا أقرب إلى الفطرة، كما هي، لا كما نرسمها.

لامجال هنا لتفصيل معالم ترحال أمين فى هاتين الساحتين اللتين خلقتا من جدلهما هذه الشخصية شبه الغامضة “دميان”، الذى بدا وكأنه مشروع تكامل فيما هو إلهى أو شبه إلهى.

نختتم الاقتطاف بإشارة إلى نهاية الرواية، أو قرب النهاية، وقد كانت فى معمعة الحرب العالمية الأولى، تلك الحروب التى تؤكد من جديد خطر فشل نمو الانسان، والعجز عن تحقيق النقلة التطورية الضرورية. مثل هذه الحروب هى إعلان غلبة قوى الانقراض ضد التطور، البدائية ضد الفطرة، الروبوت الأعمى ضد الإنسان ومسيرته…

من النص: مقتطف قرب النهاية2

“…. كنت أرى العديد من الرجال الذين بدأوا يشعرون بشدة أن الكراهية والاهتياج، الذبح والإبادة لم تكن متعلقة بتلك الأهداف، كلا فهذه الأهداف والغايات كانت عرضية تماما. إن أكثر المشاعر بدائية ووحشية أيضا لم تكن موجهة للعدو، فمهمتها الدموية لم تكن سوى إخماد الروح، الروح التى انقسمت على نفسها، حيث ملأتهم بالتحرق للهياج والقتل، للإبادة والموت…… “

القراءة:

تؤكد من البداية كيف أن مفهوم الفطرة يمكن أن يلتبس مع مفهوم البدائية.

 الحروب عامة، سواء حروب قسوة المواجهة فى الحروب القديمة، أم حروب خبث الدمار وعماه وتعميمه فى الحروب الحديثة، هى تعرية للجانب الآخر من الطبيعة البشرية، الجانب التدميرى، “هسّه” هنا يعرى حقيقة الحرب، وأنها ليست ضد عدو أصلا، هى بهدف إخماد الروح التى انقسمت على نفسها” نتعلم من ذلك كيف أن الفطرة تحوى كل الأضداد، لكنها لا تفسد تماما وتنهار حتى العدم أو الانقراض بالاغتراب فالاضمحلال: إلا إذا انقسمت على نفسها، الحرب التى تقوم فى الخارج وكأنها بين فريقين متضادين لا تهدف أساسا إلى نصر فريق على فريق، وإنما إلى إخماد الروح التى اختارت نهايتها بانقسامها المغترب ذاك.3

أفضـّل دائما أن أتجنب استعمال لفظ الروح لأنها من أمر ربى، تلقيت حكاية إخماد الروح هذه باعتبارها إخماد حركية الفطرة التى جاءت فى بداية الرواية قبل الفصل الأول “التلقينات التى تصدر عن طبيعتى”، إذا نحن أهملنا هذه التلقينات، أو استقطبناها حتى تباعدت مكوناتها، فهو الانقسام، ومن ثم حرب الدمار للقضاء على هذه الروح التى لم تستطع أن تحافظ على حركية أضدادها معا، فانقسمت.

تقوم الحروب لتخفى فشلنا أن نـتوجه إلى ما ينبغى أن نتوجه إليه.

للأمانة انتهت الفقرة السابقة نهاية لم أتوقعها، فقد أضاف الكاتب أنه “….، لذلك ربما يولدون من جديد”.

حتى هذا الدمار قد يكون نذير ولادة ما.

 هذا هو روعة ما هو نمو،

لا يوقف تجدده المستمر حتى مثل هذه الحروب البشعة، وإن أعاقت المسيرة، فإلى ولادة جديدة.

الفطرة هي جدل الطبيعة النابض إليه، مهما كان، ومهما حدث.

[1] – هرمان هسه “دميان” رواية ألمانية ترجمة: ممدوح عدوان، الناشر دار منارات 1989.

الفصل الثانى: اكون كما استلمت نفسى أم أتكون كما أستطيع

الفصل الثانى: اكون كما استلمت نفسى أم أتكون كما أستطيع

الصراط المستقيم الذى نطلب من الله تعالى أن يهدينا إليه فى كل قراءة فاتحة هو غير محدد ألفاظا فى ذات السورة: برغم أن أغلب المفسرين الأفاضل أصروا أن يحددوه كلٌّ بطريقته ومن موقعه وعلى مسئوليته. من منطلق المعتقد الخاص غالبا وليس التفسير: وقفت طويلا عند هذا التعميم المعجز فى آيات صورة الفاتحة، وكأن هذه الآيات توصينا بأن الصراط المستقيم هو الصراط المستقيم، لا أكثر، فإذا أصررنا مثل الأطفال على أن نتمادى فى التساؤل، وهذا حق كل طالب معرفة، جاءت الإجابة أنه “صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ“.

تلقيتُ وحى هذه الآية الكريمة بأن نعمة الله على أهل الصراط المستقيم تمثل دائرة إيجابية تغذى بعضها بعضا، أى أن فطرة كل واحد، بفضل الله، تهديه إلى الصراط المستقيم نحو الحق تعالى، فيُنعم الله عليه بهديه إليه أكثر فأكثر، وهو يدعوه بأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وهكذا دواليك، لكن الطفل/الإنسان – مهما كان عمره الزمنى – قارئ الفاتحة لا يتوقف عن مواصلة التساؤل لمزيد من الإيضاح، فتأتيه الآية تلو الآية بأن الذين أنعم الله عليهم هم، ببساطة، “غيرالمغضوب عليهم. ولا الضالين”، فتتأكد عندى ملامح الفطرة، وكيف أن من يشذ عن الصراط المستقيم المتناغم مع الجميع فى الكون إلى الله، يصبح مثل النيزك الضال إذ ينفصل عن أصله، نشازا شاردا، لم يعد يمثل تلك النغمة الإيمانية التى تشترك فى عزف لحن الإيمان الكلى إلى وجهه تعالى.

كيف نقى أولادنا من التعصب؟؟

أولا: الحكاية

كان الشاب ملتحيا، وجهه سمح، فيه طيبة مصرية برغم أنه كان أبيضا ناصع البياض، لحق بى بعد المحاضرة (سنة ثانية طب) أيام كنت ألقى محاضرات على هذا المستوى، وطلب بأدب جم أن نواصل الحوار فيما أغلـِـقَ عليه في بعض ما أشرتُ إليه أثناء المحاضرة مما لم يفهمه جيدا، أو لم أوضّحه جيدا، ليس تماما فى موضوع المحاضرة. قلت له: على شرط، قال: أقبله، قلت: نتفق أن ما يسرى عليك يسرى علىّ، قال: هذا تفضل منك، قلت: بل هذا هو عدل الحوار. قال شكرا، قلت له: لنفترض أننى خرجت من الحوار مقتنعا برأيك حتى غيرتُ رأيى الذى لم يعجبك، أشرق وجهه بالبشر ولم يتردد قائلا: نحمد الله أن هداك إلى الحق. قلت: لنفترض – لا قدر الله – أن العكس حدث. قال: أى عكس؟ قلت لنفرض أننا خرجنا من الحوار وأنت مقتنع بعكس ما هو فى فكرك الآن حتى اضطـُررتَ أن تغيره إلى ما وصلك منى، تردّد مليـّا، ثم سأل مستوضِحا: ماذا تعنى بعكس ما أنا فيه؟ قلت له: أنا لا أعرف ما أنت فيه، وغالبا أنت تعتبره الصواب كل الصواب ولا شئ غيره صوابا، لكن لا بد أن له عكسٌ ما. انزعج هذه المرة أكثر. قلت له:أنا أصدقك، وليس عندى نية أن أزعجك، ولا أ ريد أن أقنعك بشئ محدد، وما ذكرتـُه فى المحاضرة هو مجرد رأى شخصى، يحتمل الخطأ والصواب، والله سبحانه سوف يحاسبنى عليه، قال مطمئنا: إذن نتحاور. قلت له: إذا كنتَ واثقا مائة فى المائة أنه من المستحيل أن تتحرك بعيدا عما تعتقده فى أى اتجاه آخر. فلم الحوار؟ وفيم الحوار يا بنىّ؟

صمت فى دهشة، ولم يرد. ربتُّ على كتفه ودعوتُ له بالتوفيق، فدعى لى بالهداية.

انتهت الحكاية.

هذا شاب طيب جميل، لا هو متهور ولا هو إرهابى ولا هو جماعات (هذا ما رجّحتُه) فقد تصورت أن هذا الشاب الدمث غير قادر أن يقتل نملة، لكننى تصورت أيضا أنه أرض خصبة تماما لو وقع فى يد من يجعله يفجر نفسه فى بعض أهله يوما ما لفعلها يقينا.4

ما ذا يصير بأولادنا إلى هذا الذى نراه فى الإسكنرية وأسيوط والزاوية الحمراء؟

ما الذى يصير بأولادهم إلى ذاك؟ (يعذبون إخوتهم البشر فى أبو غريب وجوانتاناموا وفلسطين وأفغانستان والبلقان وأمريكا الجنوبية والشمالية، وشمال أفريقيا…وعبر العالم ؟)

 لقد خلقنا الله من نفس واحدة، وجعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف، كيف نتعارف؟

تجربة خيالية:

 ضع رضَّعا مع بعضهم البعض منذ الولادة، إجمعهم من كل صوب وحدب، لا تقل لهم شيئا، لا تسمّهم، ولا تذكر لهم اسم أي وطن، دعهم يسمون أنفسهم، أو يسمون بعضهم البعض. سوف يعرفون الله، ولن يكرهوا بعضهم البعض أبدا، ولن يقتل أحدهم الآخر، ولن يعذب أحدهم الآخر مهما حدث، ربما هذا بعض مغزى ما تخيله ابن طفيل فى “حى بن يقظان”.

نستمع إلى الأغنية التى كتبتـُها للأطفال ضمن الأغانى التى استلهمتها من الأطفال كما خلقهم بارؤهم:

الدنيا مش أبيض واسودْ5

الدنيا كتير والناس ألوانْ

وقديمكْ لازم يتجدّدْ

لو كنت صحيح مخلوق إنسانْ

مش معنى كده تبقى رمادى، أو من غير لون

“أنت يا إبنى حتة كائن”: “عمّال بـتـْكونْ”

 

فتـَّـح عقلك للى ما تعرفشى كتيرْ عنّه6

وضرورى حا تلقى انـّك عايز حاجهْ منّه

ما هوُ هوّه كمان مش حايسيبك إلا مع بعض

ربنا سوّانا سوَى جميعاً من طين الأرض

 

كده تقدر تكبر وتكبّـر

كده تقدر تفهم وتقدر

تلقى الأبيض جوا الإسود: لاتنين حلوين

والعكس صحيح، طيب جرّب، يا حلاوة الطين

القراءة (للكبار)

الأطفال يسألون بصدق وتعجب عن أصلهم وفصلهم، ولماذا ولد الأسود أسودا؟ والأبيض كذلك؟ ولماذا وجد محمود نفسه مسلما؟ فى حين وجد رياض نفسه مسيحيا؟ نحن نجيبهم عادة إجابات عجيبة من أغربها: أن نطلب من أى منهم أن يحمد ربنا أنه ولد هكذا، لأنه لو كان ولد “غير هكذا” لذهب إلى النار، ولا نلاحظ ونحن نجيب هذه الإجابات، أن الفريق على الجانب الآخر قد يأخذ نفس الموقف، ويقول نفس الكلام.

المسألة برغم كل هذا شديدة الصعوبة. إن أى تنازل عما وجدنا أنفسنا فيه هو بمثابة التنازل عن القاعدة التى ننطلق منها إلى ما هو نحن. إن أى تمييع للموقف، خاصة من جانب واحد، هو دعوة للاشىء، ومن ثم سيطرة الأقوى والأغبى.7

ما العمل؟

الغنوة تشير أولا إلى اتساع طيف الاختلاف، وكم هو ممتد ومتنوع أكثر بكثير من هذا الاختزال إلى أبيض وأسود، خاصة إذا كنا نتصور أن الأبيض هو دليل النهار والضوء والنقاء، وأن الأسود عكس ذلك. فى نفس الوقت هى تـُنـبـّه إلى رفض أن يكون الحل هو الرمادى أو حتى درجات الرمادى، فكل الألوان مطروحة على مدى التاريخ والجغرافيا: “الناس ألوان”

نأتى لما يمكن أن نستلهمه من الآية الكريمة: “وخلقناكم شعوبا وقبائل: لتعارفوا”: كيف يتعارف الأغيار، وكيف يتعارف الاضداد، الأرجح أن الطفل أقدر على قبول الاختلاف من الكبير الذى تبرمج على أن الصح هو واحد فقط، وأن هذا الواحد هو الذى يعتقده دون ما يعتقده الآخر. هذا لا يحدث إلا على مستوى الأفكار (أنظر بعد الأغنية التالية، عن تصلب الفكر ومرونته) الفكر المتجمد هو أكثر تشنجا من الوعى والحس والجسد، الفكر الظاهر يتمسك بمعتقد ايديولوجى منظم يحتمى به ويتحرك داخله، أما الجسد فهو لا يعرف سوى الإيمان الأشمل، الجسم الأبيض يتكلم نفس لغة الجسم الأسود8، لكن العقل اليسارى الذى جعل اليسار دينا لا حركية لا يتكلم لغة العقل اليمينى الذى تصور اليمين استغلالا بلا ناس. الإشكال إذن هو فى محتوى الفكر وثباته. أول أبعاد محاولة كسر التعصب هو أن نحسن الإنصات إلى لغات كثيرة، وقنوات تواصل مختلفة، حالة كوننا نتعارف، بديلا عن ادعاء التسامح والقبول الشكلى.

 البعد الثانى هو أن يتم ذلك فى حالة حركية دؤوب. المحتوى الفكرى بالذات يصبح سجنا وقيدا إذا سكن، أما إذا تقلب وأعيد النظر فيه طول الوقت فإنه يصبح مرنا قابلا للمراجعة، الحركة ليست فقط فى القرب والبعد، ولكن فى التجدد والمراجعة.

الحلول الوسطى (الرمادى) ليست هى الحل، بُعد الحركة هو السبيل الصحيح لتأكيد البرنامج الحيوى الذى أسميناه “الفطرة”: نحن فى حالة “تكوّن مستمر”، القضية ليست شكسبيرية هملتية: “أكون أو لا أكون”، القضية هى “أكون كما استلمت نفسى، أم أتكوّن كما أستطيع”، وهى بلغة الفطرة: “أنا لا أملك إلا أن أكون كما استلمت نفسى، لأتكوّن كما أستطيع ويتاح لى” (كل المطلوب إنك تفهم إنك “كائِنْ: عمّال بِتـْكُون”).

تعبير “مش حايسيبك إلا مع بعض” ربما له دلالة أكبر مما يبدو لأول وهلة، كيف يتركك الآخر وأنت معه؟ إن الجدل الحقيقى هو الذى يخرج منه الاثنان مختلفين عما كانا قبل بدايته، فكأن الواحد يترك الآخر الذى بدأ معه الجدل ليجد نفسه “معه” بعد أن أصبح آخرا جديدا، أنت تتركه لتلقاه جديدا، وهو كذلك.

نشاط هذه العملية لا يتم بأمان إلا فى رحاب الآخرين تناغما مع حيوية وإيقاع نبض الكون فى آن، تحت مظلة مشتركة (اجتمعا عليه، وافترقا عليه) متجهين إلى مطلق مفتواح النهاية: “مع”، و”كل على حدة،” فى نفس الوقت.

 البداية واحدة “ربنا سوّانا سوَى جميعا من طين الأرض”،

قد يختلف الطريق، لكن كيف تختلف الغاية؟.

النمو مثل الحرية لا يكون إلا مع آخر يمارس نفس العملية، من هنا يمكن فهم تلازم “تـِكبـَر و تْـكبّـر”. لكى تكون حرا لا بد أن تحرص على حرية الآخر.

 لكى تواصل نموك لا بد أن تتيح الفرصة لآخر ليواصل نموه معك، حتى لو كان هذا الآخر أبوك أو أمك، لا أحد يتوقف عن النمو أبدا، ما دام يستحق أن يوصف أنه “حى”، النتيجة المأمولة من هذه الحركية معا: هى إلغاء الاستقطاب (الدنيا مش أبيض واسود)، لأنك سوف: “تِلقى الأبيض جوّا الأسود، لاتنين حلوين، والعكس صحيح”-هذه ليست تسوية مائعة، نلاحظ أن الأبيض ليس بجوار الأسود، ولا هو مختلط به ينتجان الرمادى، ولا هو يكتفى بأن يتبادل معه فحسب، لكنه بداخله من أصل واحد (ياحلاوة الطين).

قصيدة جاهين([1])

نستمع الآن إلى قصيدة صلاح جاهين “إفريقية”، خفيفة الظل، فائقة الإبداع

“كلام الرجل الأبيض”9

– أبيض، وفنطازيه

ومراتى ألمظّيه

وربنا اصطفانا،

عشان حُمرة قفانا،

وشيّلنا الأَمانة،

اللى تٌقْل الرزيّه.

“كلام الرجل الأسود10

– أَسود، ودمىّ حامى،

حامى الحمى ياحامى،

مافيناش لونكم ولونّا،

ماما  مدِّيـَاهولنا…

ومشهِّده  المحامى.

“كلام الرجل المحامى”11

– محامى كبير قانونجى،

وفى الكلام برِنجْى

شايب وشكلى رائع،

فاهم كل الشرائع…

لابيض – وده رأَى شائع –

أبيض، والزنجى زنجى

“كلام الولد الأبيض”12

– والله “الجلاس” ماادوقه،

يا الزنجى ينول حقوقه!

تلميذ، وباستهجّى،

لكن فى الرأَى.. حجــه!

العالم بدّه رجــَّــــهْ

عشان تمسح فروقه!

 

“كلام الرجل الأفريقى”13

ياليل.. والبدر بمبى..

يا ليل.. وأَلم فى جنبى..

يا ليل.. مقدرش أَنام بو..

يا ليل.. و “لومومبا” قام بو..

يا ليل.. أَنا سجنى بامبو،

وان ماكَسرتوش.. ده ذنبى!

القراءة:

هذه القصيدة تفقد نبضها إذا نحن قرأناها نقدا مفصّـلا، النهج المتبع فى هذا العمل هو أن نشير، دون شرح مشوِّه، إلى الرسائل التى نريد إبلاغها للناس من خلال تنوع الإبداع الذى يضيف معارف متوازية لعطاء قنوات المعرفة الأخرى.

نلاحظ هنا مثلا كيف يفخر الأبيض ببياضه، فيعيّن نفسه مسئولا عن نشر وتسويق ما حقق من مزايا وتفوق . صلاح جاهين ينبهنا من قديم كيف أن الذى يميز نفسه هكذا إنما يعين نفسه وصيا على الآخر، ثم على العالم، وهو يعزو ذلك إلى تفضيل الله له على غيره بسبب لونه أساسا، (“وربنا اصطفانا، عشان حمرة قفانا، وشيلنا الأمانة اللى تقل الرزية”). مع أن الله سبحانه عر ض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان. الإنسان هو الذى تصدى لحملها بغرور متفرد، لكن الأبيض هنا (مثل عمنا بوش) يعتبر نفسه وصيا على البشر، ليس هذا فحسب، بل هو يمن على سائر البشر بأنه متعب من ثقل الأمانة التى حملها من أجل خاطر عيون بقية البشر الملونين، والبدائيين أمثالنا.

نلاحظ أيضا أن موقف الطفل الأبيض هو عكس ذلك، فهو يعرف أنه لا يكون إنسانا بلونه، وهو يُضرِب عن أكل الجلاس حتى يأخذ الأسود حقه

“والله الجلاس ما ادوقه لا الزنجى ياخد حقوقه”،

 ليس هذا فحسب، بل هو يعلنها صريحة أن العنصرية التى يقودها الكبار (الأثرياء عادة) إنما تحتاج إلى ثورة عالمية لتتغير

 “العالم بـِدّه رجّه،

عشان تمسح فروقه”.

موقف الرجل الأسود ضعيف (قارن موقف الإفريقى) وهو يحتج بأنه ولد هكذا، وكأنه كان يتمنى ألا يكون هكذا، وكأنه يدافع عن ذنب لم يرتكبه، وهو يستنجد بالمواثيق الإنسانية العالمية

 “(مافيناش لونكم ولوننا، ماما مدِّياهولنا…، ومشهِّده المحامى).

 المحامى-عمليا- يتحيزلغلبة ما شاع ليعلن تأييده للتفرقة

  لابيض – وده رأَى شائع – أبيض، والزنجى زنجى”

تنتهى القصيدة، أو تكاد تنتهى بتنبيه المظلوم ( لأنه أسود، أو لأنه إفريقى) إلى ضرورة أن يتحمل مسئولية اختراق هذا التمييز، وأن يدفعه ألم التمييز إلى اختراق الظلم  بإنجازه شخصيا، وليس بانتظار العطاء من الأبيض أو من المواثيق

(يا ليل.. وأَلم فى جنبى..

يا ليل.. مقدرش أَنام بو..

يا ليل.. و “لومومبا” قام بو

 يا ليل دانا سجنى بامبو،

وان ما كسرتوش ده ذنبى).

الطفل (الولد الأبيض) وهو أبعد المتحدثين عن التعصب.

الطفل، والجسد، والفطرة، والقلب، هم الأصل. هم الذين لا يفرقون؟

المواثيق، والوعود، والمناظر، واللاشعور هم المتعصبون العنصريون مهما ادعوا وأشاعوا. الطفل “محمود عمر على” يستحيل أن يتصور أن الجالس بجواره فى الفصل، من شبرا، وسنهما سبع سنوات، سوف يذهب إلى النار لأن والده اسمه جرجس، والطفل “رياض جرجس عبد السيد”، وهو جار محمود، لا يتصور أن يذهب محمود إلى النار لأن أمه اسمها فاطمة.

ذات مرة تقمصت هؤلاء الأطفال وأنا في عمق جبال شرق سيناء (دهب) وكنت أعبث بمذياع فى حجم الكف (ترانسستور)، وكلما سمعت رطانا لا أفهمه، سألت نفسى – مثل محمود أو رياض – هل صاحب هذا الصوت سيدخل النار؟ وكانت إجابتى مثلهما تماما. فكتبت فى ذلك وأوصيت القارئ بالمحاولة، وهأنذا أعيد التوصية.

ثالثا: القصيدة([2])

غصبًا‏ ‏صدفهْ14

لمستْ‏ ‏إصبعىَ ‏المفتاح

فـَسـَرَتْ‏ ‏كلماتٌ‏ ‏عجميهْ

تنساب‏ ‏إلى ‏عمق‏ ‏النبضهْ

تنتزع‏ ‏السيف‏ ‏من‏ ‏الغمدِ

تلتهم‏ ‏ظلام‏ ‏الرؤية

يتبين‏ ‏خيطى ‏من‏ ‏خيطي

فَيُطِلُّ الفجُر الأصدقْ‏ ‏15

يجتمع‏ ‏السامر‏ ‏من‏ ‏أحباب‏ ‏الله

البيض‏ ‏السمر‏ ‏السود‏ ‏الحمر

البيذقُ‏ ‏والفرزُ‏ ‏ورُخُّ‏ ‏الشاه

…………..

-2- ‏

تنكسر‏ ‏الموجةُ ‏تتفترْ

تترنحُ‏ ‏من‏ ‏طعن‏ ‏مؤشرْ

…….

يتراقص‏ ‏سهم‏ ‏الأفق‏ ‏يفتـِّح‏ ‏وعيى ‏المرتجفِ‏ ‏الأعشى

‏- ‏فيرينى ‏العالم:

‏- ‏رؤية‏ ‏يقظان‏ ‏كالنائم‏-‏

مذياعا‏ ‏مـُلقَـى

فى ‏حجم‏ ‏الكــفّ‏ ‏

…….

يمتد‏ ‏اللولب

يتلألأ‏ ‏مطر‏ ‏الرحمة

تتفتح‏ ‏

للسمر‏ ‏الصفر‏ ‏البيض‏ ‏السود‏ ‏لكل‏ ‏الألوان

للفيل‏ ‏الأبيض‏ ‏والسنجاب‏ ‏الأزرق‏ ‏والإنسان

………..

هل أدعو القارئ أن يقوى إيمانه بمثل هذه التجربة بمجرد استعمال الترانسستور، والتساؤل عن صاحب كل رطان، إن كان سيذهب إلى النار؟ أم أن عدل الله سبحانه ورحمته، أكبر من كل تصور. أعتقد أن الطفل سينجح، ويفشل الأكبر.

فى تجربة الأغانى التى كتبتها للأطفال مستلهما نبضهم الفطرى، حاولت أن أبين كيف أن أى فكرة هى ليست إلا وسيلة للتشابك مع فكرة أخرى (بما فى ذلك المعتقد)، وأن الفكرة الثابتة مهما كانت متانة قائلها، وأسلحته، وزعم تقدُّمه، لا قيمة لها إن لم تتحرك وتحرّك، هذا ما أنهيت به هذه الأغنية التى سأختم بها دون تعليق.

رابعا: أغنية ختامية (للكبار والأطفال معا)

……

إوعى تصدق إن الفكرة كدا وحدها صحْ.

إوعى تصدق إنها إمَّا: كُخِ أو دَحْ.

الفكرة تجيلك إوزنها

مش بس تقولها “تدوِّنها” !!

تعرف حقيقتها بتأثيرها

واذا نفعْت: تفرحْ: تعملها

وان خابت يبقى تشوف غيرها

………..

فِـكرك مش دايما هو الصحّ

 حتى لو صحْ

ما هو فكر الناس التانيين صحْ

راجع فكرك مع ناس تانيين

   حلوين ..، وحشين…

حاتلاقى حاجات مش على بالك

حاتلاقى الكون غير ما بدالك

    طب جرّب تقعد فى مكانهم

   مش بس حاتشوف شوفانهم

       دانت حاتتخض من نفسك

       وتراجع فكرك وحواسّك

فــَكـرِالتانيين ثروة خسارة

تفلت منك كده يا سمارة

ماتقولش عليه دا كلام فارغ

مش يمكن انت المشْ سامعْ

الفكرة التانية المنبوذة

يمكن تلاقيها لها عوزة

الفكرة قيمتها فْ تحريكْها

مش فى متانة إللى ماسكْها

[1] – صلاح جاهين: قصيدة “التفريقة” 1977

[2] – يحيى الرخاوى: ديوان “من باريس إلى الطائف وبالعكس” قصيدة “الجنة والنار”، الطبعة الثانية 2017، وقد صدرت الطبعة الأولى من الديوان بعنوان: “البيت الزجاجى والثعبان”، وقد بينت فى الداخل لماذا غيرت العنوان. (ص: 5)

الفصل الثالث أصل وصورة

الفصل الثالث أصل وصورة

كيف تتشكل الشخصية؟ كيف تتكون الهـُوية؟ بدءا من أى سن؟ هل الصورة التى نرسمها لهم أو التى نفرضها عليهم، تمثلهم، أم أنها بداية لا مفر من مراجعتها؟ ما هو الحد الفاصل بين صورة أطفالنا كما تبدو لنا؟ أو كما نريدها؟ أو كما نصنعها؟ وبين حقيقتهم كما خلقهم الله ليكونوا فيصيروا، إليهم إليه؟ هل نحن نستعملهم لنسقط عليهم ما 16عجزنا أن نكونه؟، أم نتفاعل معهم لعل وعسى: أن يكونوا فيصيروا،؟ هل نحن نتعرف على أولادنا لنواكبهم إلى ما “هم”؟ أم نحن نشكلهم كما “نحن”؟

نبدأ بعرض مقتطفات من حالة نبين من خلالها خطورة التركيز على الشكل على حساب الجوهر، والتعامل مع الخارج دون الداخل، والاقتصار على الجزء فإهمال تشكيل الكل.

الحكاية: نص بشرى

….. حالة شاب حالوا دون نموه (حتى توقف، فتقسّخ، ونكص) نتيجة التركيز على صورته (شكله المليح) على حساب حقيقته (مشروع تكوينه)، وقد احتد هذا التناقض فى فترة المراهقة فكان ما كان. وسنعرض جانبا من شكواه، ثم عـّـينة أطول قليلا من حوار معه أثناء الفحص الكلينيكى.

الموجز

هو شاب وسيم فعلا، (ليكن اسمه محمود) “أمّور”، (بحسب تعبير ثلاث طبيبات على مدى سنتين) أصغر إخوته (المريض له سبعة إخوة، خمسة منهم أشقاء، وكلهم وصلوا إلى تعليم متوسط، وأنهوه بنجاح، ويعملون). هو من قرية قريبة من القاهرة، عمره عشرون عاما، مازال فى السنة النهائية ثانوى صناعى، وكان يعمل بشكل متقطع سواء فى مساعدة والده (فلاح). أو والدته التى تتاجر فى الخضروات جائلة فى الأسواق. بلا تاريخ أسرى للمرض النفسي. الأب رجل طيب مجتهد اجتماعى محبوب من الآخرين خارج المنزل، لكنه باهت نسبيا فى المنزل، يستجيب لمحمود في كل طلباته تقريبا، والأم حانية شاطرة قريبة جدا من محمود، تفضله عن إخوته، وهى فرحة بحلاوته، وتفخر بشكله منذ ولادته وخاصة أنه “آخر العنقود”.

جاء فى شكوى محمود ما يلى:

حاسس إن شكلى أوحش، مش عاوز أطلع شبه والدى، عايز شكل مستقل، عاوز أبقى حاجة لوحدى، زمان كنت وسيم بس مش دلوقتى، أصل اخواتى بيحطولى حقن فى الأكل تخلينى أبقى عندى كرش، واتخن، ويمشّـونى على مزاجهم. لما بابقى فى الشارع باحس إن الناس بيضحكوا علىّ وبيقولوا العبيط اهه، والبلد كلها بتكرهنى، وعايزين يفرحوا فىّ عشان شكلى أحسن منهم، كنت عايز اهرب من البلد كلها….قلت لو همّ (أهلى) مش راضيين يعترفوا ان هما السبب فى اللى جرى لى: حاقـتل نفسى.حاسس إنى ذكى زيادة، وعندى معلومات، ومخى كبير وممكن أبقى عالم كبير بس لو أهلى يبطلوا اللى بيعملوه ده”.

ومن شكوى الأم:

“…هوه أول ما التعب جاله كان يغسل إيديه كتير ويفضل يعيد ويزيد، ويقف قدام المراية ويبص على نفسه بالساعات، ويخش الحمام، يكب على نفسه ميه كتير، بعد سنة ابتدا يتعب ويتخانق ويمشى ويسيب البيت ويبات فى الجامع، وابتدا يتهم اخواته انهم عاملين له عمل عشان شكله يبقى وحش، ويشك فى الجيران وأهل البلد، يقول إن كل الناس فى الشارع عارفين حكايته وبيتكلموا عليه، ويضحكوا عليه.

عن ما آلت إليه الحالة:

وصل الأمر بعد توقف العمل والانسحاب إلى العزلة أنه كان يتبول ويتبرز أثناء يقظته، وكان ذلك بمثابة علامة خطيرة على تدهور حالته، ولو أن هذا توقف بعد دخوله المستشفى.

وقد عولج بكل أنواع العلاج خلال أربع سنوات، وكانت استجابته ضعيفة، أو مؤقتة، فسرعان ما تنتكس حالته المرة تلو الأخرى.

وقد شخصت الحالة تشخيصا سىء السمعة، ومع ذلك كان المريض مستجيبا، وقريبا، فاهما لما يجرى حوله بوعى حاد، برغم وجود مسحة من طفلية طازجة، وإن كانت رخوة، وكان شكله جميلا بالمقاييس العامة فى مصر بالنسبة لما هو جمال الذكور (فى مصر) : البشرة البيضاء، والشعر الناعم المائل إلى الحمرة، والملامح المتناسقة..إلخ تمت المقابلة مع الأستاذ (كاتب هذه السطور) بعد عرض تاريخ الحالة من طبيبة أصغر. نقتطف من المقابلة التى استغرقت أكثر من ساعتين، ما يلى:

الأستاذ:

= حتى الدكتورة قالتلى إنك ما بتتحسنشى، أو بتتحسن وتسوء على طول.

محمود:

– أيوه.

= إنت خدت كل العلاجات بلا استثناء، وما فيش فايدة.

 – حضرتك يائس منى؟.

= لأ طبعا…، بس يعنى….

– يعنى ما فيش فايدة؟.

= ربنا موجود، ما حدش ييأس وربنا موجود.

– الحل إيه؟.

= مااعرفشى، إنت بقى تشوف لنا حل وانا اساعدك فيه.

– ما اعرفشى.

= إيه اللى انت منتظره منى بالظبط؟ أضحك عليك واقولك عندى دوا جديد ما حصلشى؟

– وانا اعمل إيه؟ حاسس إن حضرتك زهقت منى.

= هوّا انا لحقت أزهق؟ حتى لو زهقت: هوّا أنا زهقت منك، ولا من حاجة فيك؟ أنا مش من حقى أزهق من عيان، مابقاْش دكتور.

– إيه الحاجة إللى زهّـقت حضرتك؟.

= إيه بقى حكاية شكلى شكلى شكلى دى؟.

– هىّ دى الحاجة اللى تعبانى.

=…. شكلك ماله؟

– ما هيا دى الحكاية.

= خلينا نبتدى بداية جديدة، شكلك حلو ولا وحش ؟

= كويس، لا حلو ولا وحش.

– لا يا شيخ ؟!! إمال كل اللى احنا فيه ده إيه؟ تعالى نتفق يعنى إيه “شكل”، مثلا الدكتور همام، (أحد الأطباء المقيمين)، شكله حلو ولا وحش؟

– حلو.17

= هو ظريف، إنما إحنا بنقول شكله؟

– مش فاهم ؟

………..

= إسمع يا محمود: أنا متصور إن فيه “محمود”، وفيه “شكل محمود”، زى ما تكون انت استغنيت عن محمود وعمال تلف حوالين شكلك

-…. يمكن، بس مش انا السبب.

= عايزين نشوف كلمة “شكل” دى أولها إيه وآخرها إيه، وبعدين نشوف السبب، 4 سنين عيا، وييجى عشر سنين تحضير للعيا، وادى احنا زى ما احنا.

– أهو دا اللى حصل (يضحك)18

= إنت بتضحك على إيه؟ إنت مركّـز على حكاية الشكل دى، ما عادشى عندك حاجة غيرها.

– هوا فيه إيه غيرها؟

= فيه محمود، هو انت “محمود” ولا “شكل محمود”؟

– مش عارف.

= إنت باين استغنيت عن محمود، أو يمكن نسيته، أو يمكن عمرك ما عرفته.

-هم اللى اهتموا بشكلى، وشى إيه، وعنيّـا إيه، وشعرى إيه.

= يعنى إيه؟

– يعنى هم اهتمو بشكلى كده، و انا اتدبست فى شكلى، أّمّور أّمّور ،و نسيوا محمود.

= آه صحيح، إيه حكاية أّمّور دى ؟

– أنا ما قلتش أمّور، همّا اللى بيقولوا.

= الدكتورات قالوا عليك قمور برضه، إيه رأيك؟

– أنا ما ليش دعوة.

= إيه يعنى شاب عنده عشرين سنة يبقى أمور؟

-عند حضرتك حق.

= عرفت الحكاية؟ أصلها وفصلها؟

– بصراحة انا شكيت فى حاجة زى كده.

= الأمّور راح، الأمّور جه !!! يا فرحتى.

– أهو اللى حصل. هية الحكاية دى لها علاج؟ ولا طبيعية ؟

= يمكن طبيعية، بس ما توصلشى لدرجة إنك تتبرز على روحك، وانت صاحى زى اللى عنده أقل من سنة !

– (يسكت وينظر فى الأرض)…..

= مش كده ولا إيه؟ يعنى إيه ما تتحكمشى فى ده؟ إنت بتكسل تروح دورة المية ولاّ إيه؟

– يمكن كسل

= وانت عندك عشرين سنة؟ يكونشى عايز ترجع أيام الرضاعة الأولانية ؟

– مش عارف.

= طب وبعدين؟

– وانا ذنبى إيه؟

= الظاهر لازم نبتدى ما الأول.

– أول!!؟ أول إيه ؟!!!

= ماانت راجع للأول بعمايلك دى، بس الأول اللى احنا عايزينه نركز فيه على محمود بدال شكله

– إزاى؟.

= ما اعرفشى، الحكاية عايزة بداية بعيدة عن الشكل، عايزين محمود، زى أى حد ما يبقى هوّه مش شكله.

– بس الحكاية دى من صغرى.

= ما انا عارف، زى ما يكون حطّوا شكلك مطرحك.

– كنت باقول لنفسى حاجة زى كده، حتى قبل ما تقابلنى حضرتك.

= بجد؟ يبقى احنا ماشيين معقول. طب عايزين نحلها، نعملها ازاى؟

-أنا باعمل اللى علىّ، حضرتك تحلها.

= لا يا شيخ ؟ كسل برضه؟ أدِّيــكْ دوا أغلى؟ ولا نكرر العلاجات اللى ما نفعتش؟

-أعمل انا إيه، المطلوب منى إيه؟

= آدى احنا بندور على مفتاح.

– هوا احنا لسه ما امسكناش المفتاح، أهلى مش راضيين يعترفوا إن هما السبب فى اللى جوايا،

= إنت لما بتقول “اللى جوايا”، بتشاور على حاجة تانية، بتشاور على الوساوس والأفكار والمرض، مش على حكاية “الشكل”.

– تقريبا

= حتى لو كانوا هما السبب، إنت برضه لازم مشارك فى اللى جرى.19

– فى إيه؟

= ما اعرفشى، إوعى تكون فاهم إنى عارف، أنا باحاول معاك، كل اللى عارفه ان الحكاية محتاجة وقت

– يعنى أستنى قد إيه؟ ما انا بقالى أربع سنين.

= أربعة عيا، وعشرة تحضير للعيا، نعمل إيه دلوقتى؟.

-أنا باعمل اللى عليـّا.

= حكاية “باعمل اللى عليـّا” دى  أنا مصدقك، بس لا هى كفاية ولا هى نافعة، بس أنا مصدقك،أنت بتسرَّح شعرك ازاى؟(كان شعره مصفف ومجفف ولامع مثل الشباب الرِّوِش).

– باشدّه.

= إسمع يا محمود، حتى لو كانواهما اللى عملوك كده، إنت الظاهر استحليتها، لا انت قادر تتنازل عن شكلك ما دام مفيش حاجة موجودة تحل محله، زى ما تكون عملوك قالب مظبوط، لماّ جيت تلبسه، لقيت نفسك مافيش، ما فيش محمود يلبس القالب، ما فيش حاجة تملا القالب، راح القالب بقى محمود.

– يا خبر!!!! باين كده!

= لا انتَا قادر تتنازل عن شكلك، ولا تقدر تتمسك بيه عشان ما هواش انت، آدى المشكلة.

 – إيه الحكاية ؟ طب والوسوسة؟

= أظن هىّ تبع الموضوع ده، تبع الخناقة بينك وبين شكلك. تبع الرقص عالسلم، عمال بتكرر كل حاجة عشان تفضل مطرحك.

– بس انا حاسس إن شكلى أوحش.

= مشم فاهم. كان حلو واتوحّـش؟ ولا كان وحش وبقى أوحش؟

– زمان كنت وسيم بس مش دلوقت.

= ما انت لسه وسيم وانت عارف كده كويس، أمّور، ماسمعتش الدكتورة ( )، والدكتورة( )؟ إسمع، أنا جتلى فكرة: لوتصورنا يا عينى ان فيه محمود جوّه، وإنه رافض إللى عملوه فيك، لدرجة إنك بقى الوِدّ ودّك تبقى شكلك قبيح فعلا، يمكن ما كانشى حاجة من دى حصلت، مش قبيح يعنى وحش ، قصدى عادى. يعنى انا تصورت ان من كتر ما ركزوا على شكلك، تمنيت إنك تبقى وحش.

-أبدا، أنا تمنيت ان ما يكونشى حد أحلى منى.

=..ياه !! رغم إنك أحلى من كل اللى حواليك؟

– أيوه.

= يبقى شاركت فى الحكاية أهه، ولسه بتشارك فيها لحد دلوقتى؟ بدل ما تدور على محمود اللى بحق وحقيق، قمت متمسك بمحمود الأمّور إللى هوا مش انت، وعايز تبقى أمّور أكتر؟ يا خبرّ!! يبقى الفرض الأوّلانى اللى انا حطيته طلع غلط، دا انت طلعت شريك أساسى فى اللى حصل.

– أهلى هما أثـَّروا فيّا، أنا اتمنى شكلى يرجع تانى حلو زى الأول عشان أجذب البنات وكده.

= ماهو لسه زى الأول، هوا إيه اللى جرى فيه؟ باقولك ايه: هم البنات بيتجذبوا للشكل ولا لحاجة تانية؟

– لحاجة تانية

= إللى هيه إيه بقى؟!!!؟

– مش عارف. لما يكون الواحد طفل يعنى أقل من اربعتاشر سنة يحس إن شكله كويس، ينبسط، لكن لما بيكبر، يبلغ، يبقى عايز شكله يتغير على راجل، البنات يبصوله راجل

= وانت إيه اللى حصل معاك؟19

-البنات سن 14- 17 سنة ما بقوش يبصولى زى زمان، كنت عايز حاجة تانية، أبقى أحلى شكل تانى، حاجة تملى حاجة، يعنى…، مش عارف أقول….

= تقصد رجولة تملا الحلاوة

– حاجة زى كده، بس باين عليها ما نفعتش

= إيش عرفك؟

– باين كده،

= إنت مش عايز تسيب أى حاجة،عايز يبقى شكلك حلو، وفى نفس الوقت تبقى أحلى،وتتملا رجولة، والبنات تحبك كراجل، مش عيل حلو وأمّور، كل ده مع بعض مرّة واحدة.

– يمكن…..

قراءة فى بعض ملامح الحالة:

ولد محمود فى قرية مصرية، لا تُعْلِى عادة من قيمة جمال الذكور، لكن شكل محمود استرعى انتباه أمه، وأنه ليس مثل إخوته، أو مثل سائر أطفال العائلة أو أطفال البلد، وقد أقر كل من رآه بهذه المسألة، وأصبح موضع اهتمام، ومديح، وربما حسد المحيطين جميعا. يبدو أن هذا التركيز على الشكل قد بولغ فيه حتى أصبح هو كل شىء، فَحَلَّ – تلقائيا – محل وجود الطفل فى ذاته. توضيح هذه المسألة صعب نسبيا: أن تستقبل وتعامل طفلا من خلال صورته الجميلة أساسا، أو تماما، قد يعنى أن الأم تستعمله كنوع من التباهى ببضاعة هى التى صنعتها، وقد يمثل تعويضا للأم عن شكلها هى شخصيا خاصة إذا كانت تشك فى درجة جمالها (فعلا كانت أمه متوسطة الجمال أو دون ذلك) أو كانت قد جرحت فى هذه المنطقة، إن ابنها الجميل هو إثبات لها أولا أنها جميلة، أليست هى التى أنجبته؟. فى هذه الحالة يصبح الطفل مثل دمية للعرض، أو مثل تحفة للتثمين، ما دام تصادف أنه يملك ما يُعرض أو يُثَّمن بفخر واعتزاز. لكنه يصبح بذلك مثل أحد المقتنيات البديعة لا أكثر، ربما هذا هو ما جعل محمود يكرر بإصرار أن أهله هم السبب فيما هو فيه، صحيح أنه كان يشير إلى مسئوليتهم عن ما هو فيه من مرض وأعراض، لكن المقابلة أظهرت احتمال أنهم السبب فى أصل التغريب، لكن يبدو أنه فرح بذلك تماما، وهل كان يملك غير ذلك ؟ لقد أقر مبررات اعترافهم به (أنه كيان جميل)، فاستزاد منه، فهو ما زال يريد أن يصبح أحلى وأحلى، هو قد أصبح بهذا امتدادا لما فعلوه فيه. لكن كل هذا لم يحقق له شيئا حقيقيا، فشك فى قيمة وجدوى حلاوته، حتى شك فى استمرار وجود حلاوته: أنه لم يعد حلوا (مثل زمان)، ثم تمادى الشك فى أنهم يريدون أن يحرموه حتى مما تميز به (الجمال الظاهر)، يريدون تقبيحه، أن يكون له كرش… إلخ، فهم كما رسموه صورة حلوة، يمكنهم أن يفعلوا العكس.

وحين حلت أزمة المراهقة، صاحبتها الرغبة فى أن يكون موضع اهتمام البنات فى سنه، مثلما كان موضع اهتمام الكبار طفلا جميلا، فانكشف زيف الواجهة. لم يعد الطفل الجميل هو الأفضل، وإنما هو يريد أن يكون الشاب الجذاب الممتلئ رجولة، لكن من أين له ذلك؟ لم تنجذب البنات إليه رجلا، أو هكذا خيل له، وكأن ذلك كان بمثابة إعلان زيف جماله الطفلى الظاهرى، جماله هذا أصبح قبحا ما دام لا يجذبهن إليه، لكنه لا يملك غيره، فليعد طفلا لدرجة ألا يتحكم فى إخراجه، فهو الجنون الذى هدم حتى الواجهة، لم يعد جماله ينفع، ولا هويستطيع أن يكون أجمل، ولا يريد أن يكون إلا أجمل، وليس وراء الواجهة إلا الفراغ، فهو لم يكن موجودا يوما، والصورة لم تعد كما هى، ولا هى نفعته أصلا.

فشل الشكل الطفلى أن يحافظ على تبرير وجوده، وفى نفس الوقت لم يستطع أن يكسب به اعترافا كشاب جذاب مطلوب – من البنات خاصة – لأن أحدا لم يره أبدا غير شكله.

فكان ما كان.

أكتفـِى بهذه القراءة لأنتقل إلى أغنية كتبتها للأطفال؟عن الأطفال، وذلك قبل لقائى مع هذه الحالة بشهور طويلة، فهل يا ترى إذا قرأناها نحن أو قرأها أطفالنا أو غنوها دون فهم أو شرح، هل يصلهم ويصلنا بعض ما أردته بعرض هذه الحالة؟

الأغنية:

آنا بصيت فى مرايتى

شفت نفسى: هىَّ صورتى

إنما رْجعْتِ فْ كلامى:

 إللى شفته “مش أنا بدر التمام”!

 آنا مين؟ آنا كام؟

إنتو شايفين اللى برّة

بس ده مش هوّا هوّا كل مرّة

أنا لسّه ليّـا جوّهً

حتى باين: إنى هوّه

“أنهو أحسن؟؟”

أنهو أحسن !!!؟؟!

   آنا أحسن!!

 آنا يعنى…، قصدى إنّى…، هوّا انا !!

آنا قصدى،

إنىّ كلّى على بعضى.21

باتعَـمَل منّك ومنّى

بابقى “انا”، “مش غصب عنى”

شفتْ: انا ما بقيتشى صورتى،

آنا باتكوّن بحيرتى.

مش أنا الشخص إللى إنتَ كنت “فاكرُه”

مش أنا الشخص إللى إنت كنت ناكْرُه

آنا خلقة ربنا،

حابقى نفسى ليّـا انا

حابقى نفسى واحده واحده

 زى ما هِى مستعــِدّهْ

آنا حابقى نفسى ليكم، يعنى ليّا

آنا حاسمح إنى أملاَ نفسى بيّا،

حاتلاقينى فى رحابُهْ، زى ما هو خلقنا،

عَـمْ باخبّـط عالَى بابُهْ: زى ما غِـيرنا سبقنا.

الفصل الرابع هل نعرف ما هو الحنان؟وكيف؟

الفصل الرابع هل نعرف ما هو الحنان؟وكيف؟

22

كثير هو الكلام عن الحنان، وعن العطف، وعن الرحمة، وعن الشفقة، كلام كله داخل فى بعضه. لن يزيد وضوحا إذا نحن عرّفناه من شروح المعاجم، أو الموسوعات الأكاديمية، فما بالك ونحن نتناوله بما هو شائع عنه من خلال فتاوى ونصائح المرشدين والموجهين والأطباء والإعلاميين للأمهات والآباء: بأن يحبوا أولادهم جدا، بحنان بالغ جدا جدا،!! وخلاص!!!!

يبدو أن المسألة ليست فى أن تحب، أو أن تحنو، أو أن تشفق، أو أن ترحم، أو أن ترعى، المسألة فى أن تفعل كل ذلك، دون أن تسميه كذلك. وحتى دون أن23 تدرك أنه ذلك. من علّم هذه الحمامة أن تحن على هذا الكتكوت البازغ من بيضتها؟ بل حتى قبل أن يبزغ من بيضتها؟ من علّم الزرافة أو البقرة أن تطمئن رضيعها وهى تلعق جسده بلسانها الحنون؟ ثم من علّم رضيعها أن يطمئن إلى ذلك؟ من علّم القطة أن تقفز فوق الأسطح وابنها بين فكيها لا تخزه أسنانها أصلا؟ تعالوا نستمع مع الأطفال إلى أغنيتهم، أو نغنيها معهم، ثم نرى:

الحِـنَيـِّنْ، يعنى شايفْ

     يعنى عارفْ: 

      “إنى عايز منّه إيه،

        فين وليه”.

مش ضرورى أقولّـه عنّه

هوّا أنا يعنى عرفت إنى إنه؟!

ما هو لازم برضه يعرف إللى انا ما قلتهوش.

اللى أنا محتاج له حتى ما يعرفوش

مش ضرورى يدّهولى،

ولا حتى يوعد انه يعملولى،

بس أعرف إنه عارفْ: إنه شايف

                أبقى متونس بِـشُوفُهْ:

  إن خوفى مش بعيد عن نبض خوفه

إنه مِشْ ناسى، وحاسس باللى فيّـه

حتى لو ما عمِلْشِى حاجة ماللى هيـّة

***

لما اعوزك، بابـْقى مِشْ ملهوفْ عليكْ،24

تِكْفِى إيدى فى إيديكَ

هيّـا لمسة واللِّى خَلَقَك

فيها إنى: أيوه قابْـلَـكْ

 

فيها كل اللى أنا مش عارف اقوله

فيها كل جميع ما ربّى مـِـدِّيـهولُهْ

 

فيها: “شُفْتَكْ”

 فيها: تـِبعدْ، لمْ يـِهِــمـَّكْ،

فيها: قرّبْ: آنـا جنبكْ

بس ما تقربش أكتر،

    كدههْ:

       تِحـْلَوّ، …..    تِــكـــْبرَ.

القراءة:

نقرأ الأغنية بهدوء، فقرة فقرة، فالأمر متداخل:

(1) الحنان والشوفان !!

 “الحنيّنْ، يعنى شايفْ، يعنى عارفْ: “إنى عايز منه إيه، فين وليه”.

مش ضرورى أقولّـه عنّه، هوّا انا يعنى عرفت إنّه إنهْ..؟،

 ما هو لازم برضه يعرف إللى انا ما قلتهوش”.

اللى أنا محتاج له حتى ما بعرفوش

إن أول شرط لتكون هذه العاطفة المسماة “الحنان” حقيقية، هو أن “نرى” من ندعى أننا نحنّ عليه (أو أن يرانا من يدعى أنه يحن علينا)، أن يرانا كما خلقنا ربنا كيانا منفصلا عنه قائما بذاته، (الحنيّـن: يعنى شايف). هذا الشوفان لا يكون كذلك إلا إذا صاحبته “درجة مناسبة من المعرفة به، يقابلها مثلها برغم اختلاف النوعية،معرفة ليست واعية أو تفصيلية بالضرورة، معرفة تعلن أن وعيا بشريا قد اتصل بوعى بشرى آخر، بدرجة تكفى للطمأنينة. معرفة ليست لإصدار الحكم، أو مصمصمة الشفاه، الحنان غير الشفقة، والشوفان غير الفرجة.

تؤكد الأغنية على الشوفان لكنها لا تشترط إعلانه ولا تهتم بتفاصيله، وكأنّ يقينا صامتا يمكن أن نتبادله فيما بيننا لدرجة لا نعود نحتاج معه إلى ما هو “فين” و”ليه”؟ وكأنه بديهى. الحنان “تعاطف تزامنى معا” synchronous، يجعلك تتعايش مع “كل” الآخر سلوكا وإيقاعا، دون اختزال، بيقين مطمئن ([1]).

 هذا التعايش المتزامن هو الذى يحدد ما هو “فين وليه”، دون تعيين بذاته.

(2) الحنان لا يشترط عطاءً جاهزا

” مش ضرورى يدّهولى،

ولا حتى يوعد انه يعملولى،

بس أعرف إنه عارفْ: يعني شابف،

أبقى متونس بِـشُوفُهْ، إن خوفى مش غريب عن نبض خوفه،

 إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّـه،

حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيـّهْ”

الحنان يمكن أن يوجد ويُحدث أثره الطيب حتى لو لم يلحقه فعل معين يثبته أو قول معين يعلنه، الحنان ينتقل من وعى إلى وعى دون شروط أو إذن حتى لو لم يترتب عليه أى فعل لظروف خارجية أو داخلية.

المثل العامى يقول: “زى الوز حنّية بلا بز”، وهو مثل قاسٍ يحبه أصحاب المصلحة، لكنه مثل خاطئ لا يمثل طبيعة الحنان غير المشروط جيد، برعاية معينة وعطاء مقابل، والطير عامة، يدفئ بيضه حنانا حتى يفقس؟ ثم يغذى صغاره منقارا لمنقار؟

الشوفان والحنان لا ينفصلان، الشوفان من فوق قد يرسل رسالة عكسية قاسية حين يصبح حكما أو فرجة كما أشرنا، يكون الشوفان طيبا ومـُطمـْئـِنا حين يكون مشاركة ومعايشة، بمعنى أن أرى فى نفسى الجزءالمقابل الذى تواصلنا به وعيا لوعى مهما كان صغيرا.

 يتصور أغلبنا أن علينا أن نزيل خوف الأطفال بأسرع ما يمكن، ويا حبذا إنكاره ابتداء. إن برامج الأطفال ومجلاتهم المحلية (العربية) قد نحت نفس المنحى إذ تحاول تجنيب الأطفال الخوف بإنكاره ورفضه من الأساس، وكأن الخوف ليس مزروعا فينا من أيام أن كان سلاحاً للإنذار، وتهيئة للاستعداد للقتال فى الغابة. إن اعتراف الكبير لنفسه توصيله لطفله بخوفه الطبيعى، هو الذى يطمئن الصغير إلى مشروعية خوفه، ثم يأتى بعد ذلك التعامل معه بحرص ذكى إن وجه الشبه بين خوف الكبير وخوف الصغير هو الذى، يطمئن أكثر وأكثر (إن خوفى مش غريب عن شكل خوفه).

(3) الذاكرة الوعى

“إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّـه،

 حتى لو ما عْمِلْشِى حاجة ماللى هيـّة”

نحن لا نحتاج أن نرى بعضنا البعض جهارا نهارا وجها لوجه، طول الوقت حتى نتواجد “معا”. ثم إن الذاكرة بالمعنى الذى ورد فى هذه الفقرة ليست مجرد استعادة لذكرى مضت بقدر ما هى “وعى جاهز” حاضر، له محتواه المتكامل بعواطفه وأحداثه وشخوصه وترابطات علاقاته، حين نحمل الآخر فى “وعى ذاكرتنا“، وليس فقط فى جهاز تسجيلها لنستعيد اسمه عند الطلب، نتواصل بدون حضور مباشر. وعى الذاكرة هو ليس مجرد تذكر وحكى ذكريات مضت، هو الذى يضمن لنا الائتناس ببعضنا البعض أثناء غياب أحدنا عن الآخر. حين تقول الأغنية: “إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّه”، دون أن تحدد “مش ناسى” ماذا، فقط تشترط الإحساس بالحضور “الآن”، تصبح هذه “الذاكرة هى الوعى الفعال وليست شريط التسجيل. الذاكرة الوعى تحضر لتحيط، لا تسمِّع قطعة محفوظات، حتى لو لم يترتب على حضورها فعل بذاته، (حتى لو ما عملشى حاجة ماللّى هيه).

(4) الحنان واللهفة والقبول

“لما اعوزك، بابقى مِشْ ملهوفْ عليكْ،

تِكْفِى إيدى فى إيديكَ،

هيّ لمسة واللِّى خَلَقَك

فيها إنى: أيوه قابْـلَـكْ،

 فيها كل اللى أنا مش عارف أقوله”

هناك زعم شائع، خاصة فى أغانى الحب، أن اللوعة واللهفة هى دليل على حرارة الحب، وهذا ليس صحيحا، خاصة مع الأصغر. إذا كان الحنان الحاضر الواصل للطفل (أو للمحبوب عموما) هو حقيقى وراسخ، فإن اللهفة تصبح أمرا ثانويا أو حتى عكسيا. الشوق الواثق الحميم يعلن الافتقاد الهادئ بديلا عن “جوع اللهفة”. إن الطفل يريد أن يصله أن الآخر (الكبير) موجود “هناك فى الواقع:”، بقدر ما هو “هنا فى الوعى“. حتى لوعجز عن التعبير عن حاجته هذه بالألفاظ، والرحلة المستمرة بين هذا الآخر في الداخل وذاك الآخر في الخارج – هو هو – هي التي تدعم العلاقة فالوجود بتجدد مستمر.

 (5) الحنان والفطرة

 فيها كل جميع ما ربّى مـِـدِّيـهولُهْ”

سوف يظل مفهوم الفطرة غامضا، ليس لأنه يتناول شأنا غير حقيقى، لكن لأن الفطرة كما خلقها الله هى شديدة الوضوح، هى أصل الحضور لدرجة أنها لا تحتاج إلى تمييز أو توصيف، فكأنها، لفرط بداهة حضورها، غير قابلة للوصف أو محتاجة إليه.

العلاقة بين الكبير والصغير تكون فى أحسن أحوالها حين تكون الوصلة بينهما من خلال فطرة كل منهما كما خلقها الله قبل أن نشوهها فينا وفيهم. حين اقتصرت التعليمات الدينية على الترهيب والترغيب حتى للأطفال، دون القدوة والسلوك والخلق ونبض الكتب المقدسة قبل التفسير، اختفت معالم الفطرة وراء الإرعاب والرشاوى. حين يقول النص هنا أن النظرة الحانية فيها: “كل جميع ما ربّى مديهوله”، فهو يتكلم على لسان وعى الطفل حالة كونه أقرب إلى الفطرة كما خلقت. من يريد أن يتواصل مع فطرة الأطفال بأقل قدر من التشوية، عليه أن يعود لفطرته هو – ما أمكن ذلك – بأقل قدر من الوصاية المعقلنة، أو المبرمجة بالثواب والعقاب كجدول ضرب تفصيلى.

(6) الحنان و”برنامج الدخول والخروج”

 “فيها شُفْتَكْ”.

 فيها: ” تبعدْ، لمْ يهَّمك”،

 فيها: “قرّبْ، آنـا جنبكْ”،

بس ما تقربش أكتر،

 كدهُـه ْ: تِحـْلَوّ، تِــكـــْبرَ”

إضافة إلى بعد الشوفان الذى جاء فى البداية، نجد هنا بعد الحركة والمسافة. الحنان ليس كمّا ثابتا نغترف منه القليل أو الكثير، وإنما هو حضور متحرك يسمح بالبعد والقرب، باستمرار، هذا ما يسمى فى مدرسة نفسية (مدرسة العلاقة بالموضوع) “برنامج الدخول والخروج”:( فيها تبعد لم يهمك، فيها قرّب آنا جنبك). إذا شُلّت هذه الحركية، أصبحت العواطف كمّية قابلة للتجمد، أو النقصان حتى التلاشى. إن الطمأنينة التى يوفرها الحنان الحقيقى الذى يسمح بهذه الحركة المرنة هى التى تسمح ألا يكون الدخول فى وعى الآخر تهديدا بالامحاء، وأيضا ألا يكون البعد تهديدا بالاختفاء.

المسافة بين الذات والموضوع ضرورية لتكون هذه الحركة ممكنة (هذا هو ما يسمى: برنامج الدخول والخروجin-and-out program ، هذه المسافة هى التى تعطى معالم محددة متميزة للطرفين، وهى لا تقاس بالأمتار بل هى تتحدد بمدى استقلال كل منا بمعالم ذاته، دون استغناء،  فى مواجهة ذات الآخر المتميزة بدورها بنفس المواصفات تقريبا دون استغناء.

إن اختفاء مثل هذه المسافة هو الذى يبدو كأنه تقارب حتى التلاحم:”أموت فيه ويموت فيّا”!، هذا ليس حنانا أو حتى حبا، حتى لو شاع عنه أنه الغرام الذى ليس كمثله غرام.

***

ننتقل الآن إلى الأغنية الثانية لتى تؤكد ما سبق عن الحركية والمسافة، كما تضيف أبعادا أخرى كما يلى:

الأغنية الثانية: الحضن الدافئ

……

……25

نفسى فى حضنـَك يدَفِيِّنِى وانا باتغطى بيهْ

بس مش عايزُهْ يخبينى، ولا أختفى فيهْ

 يحتوينى، وانا برضه أحتويهْ،

 لا انا باشحتْ، ولاَ إنتَ بتشتريهْ.

دا العيال بيشاوروا دايما: إحنا أْوْلىَ

إحنا مش عايزين “كلام حُب” علاوْلَهً

إحنا تكفينا الإشارة

لمسة حلوة تغنى عن مليون عبارة26

لمسة بتقول انّ انا مش بس بينكمْ

 لأ، دانا عايش بروحى فيكو، منكمْ

برضه من حقى أكون نَفْسى: وحيد

بس مش بالغيك، ما هو انت مش بعيد

…. حبّة حبّة

…… يحتوينا الحضن قُــبّه

حضن كل الناس خيمتنا وأمْـنِـنَـا

حضننا لو صَح يوصل لمّا عند ربنا

كده نضمن لو خـِلى واحد بنا

مش حانغرق وسط دوّامة الضياع والمسكنة

لو حمانا حضنكم حبة كُتاَر

حضنكو الدافى اللى مش لهاليب ونار،

حضن يحمى، بس يسمح،

حضن بيطـمـَـن، ويمنح:

     فرصة للى بِـدُّه يسرح27

     إنه يلعب- يجرى- يشطح

وامّا يرجع يلتقيه ما زْعلشى منّهْ

ماهو لمّا راح ما كانشى غصب عنّـه

تبقى حركة مش كَلَبْشات خانقة ماسكة

والقلوب مع بعضها، مش سايبة فـكّة

لو كده: نكبر ونعملها: نطير

كل واحد يبقى ناس حلوة كتير

 بس يتريـّس عليهم “حدّ” منهم

بالتبادل والسماح مش غصب عنهم.

 

تفضل الحركة كده جوه وبرّه

بس يتغير رئيسها كل مرة

 

لمْ يبطـّـل إنه يدخل ثمّ يطلعْ

يبقى آمـِنْ، قومْ يهدّى اللعب، مش محتاج يبرطع.

تبقى رحلة حركة دايمة مِـالـّلى هيـّـهْ

لمّا نسمح إننا نِصْغَرْ شويةْ

لاجل ما نكبر كما شجرة عفية

اتروت: حُـب وميّة

أبعاد أخرى:

هذه الأغنية، تؤكد معظم ما سبق من أبعاد الحركية والمسافة والتحديد، وتضيف أخرى:

أولا: الحق فى الوحدة دون رفض الآخر To be alone with”

برضه من حقى أكون “نفسى”: وحيد،

بس مش بالغيك، ما هو انت مش بعيدْ

كثيرا ما يشاع أن الوحدة هى شىء مرفوض طول الوقت، وأن الشخص الذى يمارس وحدته هو شخص انطوائى منغلق… إلخ. هذا غير صحيح. إن قبول الوحدة المرحلية هو جزء لا يتجزأ من “برنامج الدخول والخروج”، هو أمر طبيعى بل وصحى فى حدود دورها فى الحفاظ على العلاقات الإنسانية: مرنة ومتحركة كما أشرنا.

إن الانتقال من الذات إلى الآخر وبالعكس، فى التوقيت المناسب، يزيد من فرص التعرف على هذا الآخر تعرفا متجددا باستمرار، وهو أيضا يعفى الذات من الاختناق بحضور الآخر محيطا طول الوقت. إن هذا الحق فى الوحدة قد يكون ألزم فى العلاقات الزوجية (كمثال).

تاريخ التطور يجسد لنا فائدة الانسحاب إلى البيات الشتوى فى كثير من الأحياء بما يحافظ على حيوية واستمرارية التجدد البيولوجى والتطور والحياة.

ثانيا: القاسم المشترك الأبقى

حبّة حبّة، يحتوينا الحضن قُـُـبّه. 28

حضن كل الناس خيمتنا وأمْـنِـنَـا.

 حضننا لو صح يوصل لمّا عند ربنا،

 كده نضمن لو خـِلى واحد بنا،

مش حانغرق وسط دوّامة الضياع والمسكنه

التهديد الحقيقى لتشويه أو إفشال العلاقات البشرية هو أن تقتصر على اثنين بمعنى الاحتكار والاستبعاد لكل من هو خارج هذه الدائرة المغلقة بين اثنين. إن الفرق بين القدرة على الحب، وبين الوقوع فى “حالة الحب”، هو الفرق بين المولـّـد الكهربى، والبطارية. المولـّـد الكهربائى يصدر طاقة فياضة تتجدد بالحركة باستمرار، أما البطارية فهى تفرغ بالاستعمال ما لم يغذيها المولد أولا بأول. الذى يحافظ على الحب الثنائى هو أن يكون ممثلا للقدرة على الحب، وليس احتكارا لفعل الحب، وهى قدرة تمتد عبر كل الناس إلى الله عز وجل الذى خلقنا ليتوجه كلٌّ من موقعه إليه عبر الناس. هذا هو ما أسميته “القاسم المشترك الأبقى”، وهو الذى يحمى المحب ضد مفاجآت التخلى، يحميه من الضياع، مثلما يحميه من مذلة الاستجداء.

ثالثا: السماح ودرجة الدفء

حضنكو الدافى اللى مش لهاليب ونار،

 حضن يحمى، بس يسمح،

 حضن بيطـمـَـن، ويمنح:

 فرصة للى بِـدُّه يسرح.

 إنه يلعب- يجرى- يشطح.

 وامّا يرجع يلتقيه ما زْعلشى منّهْ.

ما هو لمّا “راح” ما كانشى غصب عنّـه.

مع دوامية الحركة، يجرى السماح تحت مظلة من الطمأنينة، حتى لو أدى هذا السماح أحيانا لما يبدو شطحا. السماح يواكب درجة حرارة الحنان التى كلما كانت مناسبة، كانت فرص النمو أكبر. الدفء المناسب المتقطع هو الذى يجعل بيض الطيور يفقس، لو زادت درجة حرارة الاحتضان حتى اللهيب،أو زادت مدته حتى الاختناق، انسلق البيض أو فسد دون فقس.

أخيرا: التعدد والواحدية

لو كده: نكبر ونعملها: نطير،

 كل واحد يبقى ناس حلوة كتير،

 بس يتريس عليهم حدّ منهم،

 بالتبادل والسماح مش غصب عنهم.

 تفضل الحركة كده جوه وبرّه،

 بس يتغير رئيسها كل مرة.

 لمْ يبطـّـل إنه يدخل ثمّ يطلعْ،

يبقى آمِـن،

 قومْ يهدّى اللعب، مش محتاج يبرطع.

نكتفى هنا – مؤقتا – أن نشير إلى أن حركية العلاقات وتبادلها وحيويتها وتجددها، كل ذلك يتيح فرصة لمستويات الوعى المختلفة أن تتشكل وتتبادل بكثرة قابلة للجمع تحت قيادة واحد منها، لكن فى لحظة بذاتها لا يوجد إلا قائد واحد هو الذى يدير الدفة حسب التوجه المناسب للموقف والمهمة، ثم تتبادل المستويات القيادة، مثل تبادل النوم واليقظة. (وهذا موضوع يحتاج إلى عودة مستقلة).

استلهام ختامى

 حين كشفت عن مادة “حنَن”َ فى المعجم الوسيط، وجدت أن الله “الحنّان” يعنى الرحيم، ثم أضاف المعجم ما ذكّرنى أن الحنّان هو من أسماء الله الحسنى. وبرغم أننى لا أتوقف عند ما فى المعاجم كثيرا، إلى أنى فرحت بهذا الكشف حتى عدت أقرأ فى التنزيل الكريم الآية: “وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا” سورة مريم (الآية 13)، بوعى آخر. بل إننى عدت أقرأ البسلمة بشكل مختلف. اقتران الرحمن بالرحيم، ليس تكرارا، ولا ترادفا. إنه مع تذكر كيف أن الله يرانا حتى وإن لم نكن نراه، (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك) هو عين ما أردت توصيله من خلال هذه المراجعة لمعنى الحنان الذى يجمع بين الرؤية والحركة والمرونة والثقة والموضوعية. رجحت أن رؤية الرحمن الرحيم لنا، حتى لو لم نكن نراه، هى إقرار لما خلقنا به متميزين فطرة وأفرادا، هى دعوة أن نراه معا فينا، رؤيته لنا تعالى ليست فقط للمحاسبة فالثواب والعقاب، وإنما للرحمة والحنان والإقرار بحقنا أن نكون معا إليه سبحانه، ليس كمثله شىء.

[1] – يحيى الرخاوى “صراع الوحدة وجدل العلاقات البشرية، انطلاقا من رواية “يقين العطش: إداور الخراط”، الطبعة الأولى (2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.

الفصل الخامس لو تقولها زى واجب مش عايزها

الفصل الخامس لو تقولها زى واجب مش عايزها

29

كان أول ما قدمنا فى هذا العمل هو تنبيه إلى حاجة أساسية فى الوجود البشرى، أسمياناها: الحاجة إلى الشوفان. أن يرانا آخر بما هو نحن، أن ترانى أنا بما هو “أنا” ابتداء، لا بما أعمل، ولا، فقط، حين أنجح، ولا على شرط أن أكون بالمواصفات التى تضعها لى، أو تتوقعها منى، ولا مقابل شرط مسبق. لكن كل هذا ليس سوى بداية اعتراف كل منا بالآخر كيانا موجودا مستقلا متفاعلا معا هنا/”هناك” هو بمثابة ما يقول التعبير الشائع “فـَـتـْـح كلام”، يليه بعد ذلك مثلا: أن يعود النجاح على من فعله لا أن يستولى عليه من استثمره من الوالدين، كما ذكرنا فى أطروحة سابقة. هناك تفاصيل كثيرة يعرفها الأطفال بالفطرة، وهم لا يستطيعون التعبير عنها بالكلمات.

أن ترى طفلك: هذا جيد (الـَّشوَفـَان)، أن تهيئ له فرص النجاح دون أن تستولى عليه، هذارائع، أن تحن عليه وتشعر بمشاعره وتشاركه، هذا ضرورى لكما معا. هذه ليست كل الحكاية: الحياة حلقات متنوعة من الإنجاز والإخفاق، لا تكتفى بالشوفان والاعتراف معلنا وخلاص، ولا تتوقف عند النجاح كما نعرفه أو نتصوره. الطفل – مثل الكبير – ينجز، ويعمل أشياء طيبة كثيرة، صغيرة وكبيرة، وهو يريد منك ليس فقط أن تراه، ولكن أن ترى ما فعل، يريد منك أن تقدره، ليس فقط بالمديح، وإنما بالرأى، بالنقد، بالتعديل، بالفرحة، بالحوار، بالتساؤل.

أغنية اليوم، والحكايات الشارحة حولها، هى عن التقدير وما حواليه

مهما بلغ النضج، أو العمر، أو الإنجاز، أو النجاح، فأيا ما كان ما تعمله، أنت تحتاج أن يراه أحد، ليس أن يراك أنت فقط، لكن يرى ما أنجزتَ، وأن يضعه فى مكانه، ثم يرى أن هذا الذى رآه هو من ناتج فعلك أنت، وليس غيرك. لو أن نجيب محفوظ بعد أن أصبح نجيب محفوظ، وبعد نوبل، وبعد الحادث الأليم، وبعد كل التكريم والتعظيم، وبعد كل شىء، لو أنه كتب “أحلام فترة النقاهة” التى يكتبها وهو فى الثالثة والتسعين من عمره ولم ينشرها، لأى سبب من الأسباب، أو أنه نشرها – فرضا – فلم يلتفت إليها أحد، لو حدث هذا فالأرجح عندى أنه سوف يندهش وينتظر، ثم لأنه نجيب محفوظ (للإيضاح لو سمحت)، سوف يتذكر أنه نجيب محفوظ فيتحدى، ويصبر، وقد يتعجب، ويتألم، ويواصل، ويحسّـن، ويواصل، ويبدع، ويبدع، ويبدع أجمل وأكثر اختراقا. فهو نجيب محفوظ، فإذا تكرر هذا – مازلنا بفرض المستحيل – فقد يتوقف، أو لست أدرى ماذا يحدث….، كنت لا أريد أن أواصل ضرب هذا المثل الصعب المستحيل، حبا فى الرجل، وخوفا ألا يمكن تصور ذلك، لكننى لم أجد بديلا يوضح الأمر بهذا التحدي. فلنستمر فى المثل: لو أن أحلام فترة النقاهة هذه نشرت – كما تنشر فعلا – وترجمت، وقرأها ناس كــُثــْـر، ثم- ما زلنا نفرض المستحيل- ثم لم يعقب عليها أحد، وبالذات لم يتناولها النقاد بما ينبغى، ليس بالضرورة مدحا وتقريظا، فقط يتناولونها بما ينبغى لها والسلام، إذن لظل احتياج نجيب محفوظ للتقدير (بالنقد والحوار، ونقد النقد وحوار الحوار فالنقد..بغير نهاية…) هو احتياج إنسانى ضرورى لا تغنى عنه نوبل، ولا تاريخ سابق، ولا مال قارون، ولا خلود قرون.

لقد بدأنا حديثنا بضرب مثل من شيخنا البالغ من العمر مائة إلا سبعة أعوام أطال الله عمره وأدام عطاءه. فماذا عن الطفل الصغير، وقد عمل الواجب، أو رسم وردة، أو استطاع ان يركب دراجة بعجليتن – وليس ثلاثة – دون أن يسنده أحد،، ماذا يريد هذا الطفل منا، وإلى أى مدى، وبأى شروط؟ تعالو نستمع إلى الأغنية أولا:

 أنا باعمل، حاجة حلوة

   نفسى تتفرج عليها30

آه: تقوللى كام “برافوا”

أو تقولْ: “ألله ينوّر”

أو تقوللى نـُصْ نـُصْ،

                   تِقْدر اكْترْ،

أو تقوللى هيه وحشهْ،31

               بس كمّل وانت تكبرْ.

أنا مطّمن لشوفك ليّا صح، دى حلاوتك

                         آنا مستنى اْلِتفَاتَّـكْ

المهم ما تنسانِيشْ

حتى لو إنِّى مافيشْ

قوللى رأيك كلّه يعنى

قوللى إنك: آه سامعنى

حتى لو رأيك بيوجع

أنا حاتعلم وأطلع

 بس يعنى خلّى بالك

الحكاية مش كلام، أو مشّى حالك

هيه مش لعبة مجاملة

إوعى تفهم إنى هابلة

إوعى تنفخنى زيادة

أو تقولها للجميع كده زى عادة

………..

مش حابيع نفسى عشان أرضِى جنابك

مهما كنت جعان لِشُوفَكْ، أو حايوجعنى عتابكْ

لو تقولها “زى واجب”، مش عايزها

لو تقولها وانت مش شايف، أنا مستغنى عنها

لو تقولها وانت فاهم إيه حدودها

يبقى حاتجيلك ردودها

باللى يترعرع بنا،

واحنا بنعمّرها ناحية ربنا

القراءة:

أول خطوة لما يسمى التقدير، هى أن ترى ما يفعله الآخر (خصوصا الطفل)، مجرد أن يبلغ وعيك أنه عمل كذا، هذا نوع من التقدير، ليس بالضرورة أن هذا الكذا يكون عملا كبيرا أو مجيدا أو جديدا أو لامعا، فقط أنه (الطفل، أو الشخص) عمله وأنجزه، طبعا هناك أعمال لها وضع خاص تحتاج إلى هذا الاعتراف المبدئى بشكل خاص، لكن من حيث المبدأ، فإن كل ما ينجزه الطفل بالذات (والكبير أيضا) يحتاج إلى وعى الآخر به، الفرجة هنا ليست من فوق أو بعيد، لكنها إقرار أشبه “بعلم الوصول” فى البريد الموصى عليه.

آه: تقوللى كام “برافوا”

أو تقولْ: “ألله ينوّر”

أو تقوللى نـُصْ نـُصْ، تِقْدر اكْترْ،

أو تقوللى هيه وحشهْ، بس كمّل وانت تكبرْ.

بعد أن يصلك خبر ما أنجز طفلك (أو أنجز أى أحد يهمك أمره، أو يهمه أمرك) يمكن أن تكتفى بهذا التوقيع بعلم الوصول. أحيانا يقوم الطفل بلعبة ما، أوينجح فى اجتياز حاجز عقبة ما، فلو أنك أتقنت الملاحظة لرأيته ينظر بطرف عينه إلى أبيه يطمئن أنه يرى ما فعله، وهنا يمكن أن ننبه أن التعليق الفورى أو المباشر على هذا الإنجاز ليس ضرورة حتمية طول الوقت، كثيرا ما يحتاج الطفل أن يطمئن أن من حقه أن ينسب ما أنجز إلى نفسه فقط، ويكون التعليق المتسرع من الآخر، أو المبالغ فيه (حتى التصفيق) هو بمثابة سرقة ما أنجز بشكل ما. ذكرنا ذلك فى النجاح، حين قلنا إن النجاح يكون بنّـاء حين يوضع فى محله لصالح مسيرة نمو صاحبه أولا، ثم للآخرين بعد ذلك

(أنا حانجح مش عشانكم، مش عشان خاطر عيونكم،

النجاح دا هوّا ليّا، وانا منكم).

 أين الحد الفاصل بين أن يعود عائد الإنجاز (النجاح مثلا، التفوق) للناشئ الذى أنجزه، وأن يستولى عليه الذى اعترف به أو صفق له؟؟ إن ذلك يتوقف على نوع وحجم ولغة الرؤية والتقدير: نستمع إلى الطفل فى الأغنية، ماذا يريد:

أنا مطّمن لشوفك لىّ صح، دى حلاوتك

                                أنا مستنى الِتفَاتَّكْ

 المفيد فيما يسمى التقدير والاعتراف بالإنجاز، للطفل خاصة، هو أن يكون فى حجم الإنجاز لا أكثر ولا أقل، المبالغة فى مدح عمل أكثر مما يستحق، ليس تشجيعا صرفا، المهم هو “شوفك ليـَّا صح”، فى حجمه الموضوعى، مجرد التفاتة، إيماءة، مشاركة، قد تكون أفضل من كلمات تطبيل كثيرة. معظم الأمهات (وكثير من الآباء) يرون أولادهم موهوبين بشكل خاص جدا، (ما حصلوش) موهوبين، أكثر من أطفال الآخرين (الأقرباء بالذات!!)، كتبت مرة أنبه على هذه الظاهرة، وأنه برغم ادعاء كل أم أن طفلها مثل كل الأطفال، فإن سلوكها عادة ما ينبئ بغير ذلك تماما. أحيانا يصل التباهى بإنجاز الطفل درجة التفاخر وكأنه اقتتال بين الأمهات، أو قد تلجأ أمهات أخريات إلى إخفاء إنجازات أطفالهن خوفا من الحسد، كل ذلك يمكن أن ينبع من اعتبار أن الطفل ملكية خاصة، وبالتالى كلما كانت المـلـْكيـّـة متميزة، فإن هذا يرفع من شأن صاحبها، تقول القصيدة التي كتبتُها في ذلك لتكشف بعض ذلك وهى بعنوان: “أغنية قبل النوم”([1]) تقول:

طفلى طفلى

طفلى ‏الخاص32

ملكى ‏الخاص

الضحكة‏ ‏غير‏ ‏الضحكة

واللفته‏ ‏والبسمة‏ ‏والغمازة

‏-2-‏

طفلى ‏طفلي

“طفلى ‏مثل‏ ‏الناس”

أكذب‏ ‏مثلى ‏مثل‏ ‏الناس‏.‏

إذ لو‏ ‏أنى ‏قلت‏ ‏حقيقة‏ ‏نفسي

أو‏ ‏قالت‏ ‏مثلى ‏من‏ ‏هُنّ‏ ‏كمثلي

تشتعل‏ ‏الحرب‏ ‏بغير‏ ‏أوان

بين‏ ‏الناس‏ ‏الأطفال

فالأطفال‏ ‏الناس

أطفال الناس

أفضل‏ ‏دوْماً‏ ‏

من‏ ‏كل‏ ‏الناس

نرجع إلى هذه الأغنية الأصل فنجد أننا نحترم هذه الرغبة فى كل منا بتنبيه دال، وهو افتراض يدعو للابتسام، إذا صح هذا الافتراض بأن كل واحدة تعتبر طفلها هو الأفضل، فما هو الحل؟ ومن فينا الأصدق؟ ألا يدل هذا على أن من يرى طفله كذلك هو(الأب أو الأم) ليس إلا طفل أهبل؟ فماذا يريد طفله الحقيقى الأعقل؟ نتذكر ك33يف أنهى أغنيته السابقة: 

المهم ما تنسانِيشْ، حتى لو إنى مافيشْ”

التقدير الأساسى الذى يريده الطفل هو أن يكون فى وعى وذاكرة المظلة الحانية التى ترعاه وتراه وهو يحقق المكسب تلو المكسب، وهو يخطو الخطوة تلو الخطوة، حتى لو كان هذا المكسب شديد الضآلة. نحن ننسى أن الطفل يستطيع أن يلتقط التقدير والرؤية دون أن نعلنها، وهو حين يطلب رأينا بغير ألفاظ، لا يريد منا خطبة، وإنما هو يلتقط رؤيتنا كلها، ويطمئن إلى أن رسالة ما أنجز قد وصلت إلى من يهمه الأمر، ممن حوله، وهو أيضا يحتاج كل رؤيتنا دون اختزالها إلى ما يسره، أقول مرة أخرى دون ضرورة الإعلان، الوالد لا يمكن أن يمنح طفله مثل هذا الموقف إلا إذا كان هو يواصل شخصيا مشوار نضجه، ليصبح أكثر موضوعية، فيستطيع أن يعطى تقديرا موضوعيا كاملا،: رؤية لا تغفل الجانب الآخر من الجارى

قوللى رأيك كلّه يعنى

قوللى إنك آه سامعنى

حتى لو رأيك بيوجع

أنا حاتعلم وأطلع

حتى لو كانت الرؤية مؤلمة لأنها عرّت النقص أو نبّهت إلى الخطأ فهى تقدير أيضا، على شرط ألا تكون المسألة كلمات سطحية، أو مجاملة، أو رافضة فقط، كما يعلمنا هذا الطفل فى الأغنية، وهو ينبهنا أيضا فى هذا المقطع إلى أنه يفقس نفاقنا له، أكثر مما نفعل نحن مع أنفسنا، وأن ما يحتاجه هو التقدير، وليس النفخ الفارغ.

بس يعنى خلّى بالك

الحكاية مش كلام، أو مشّى حالك

هيه مش لعبةْ مجاملة

إوعى تفهم إنى هابلة

إوعى تنفخنى زيادة

أو تقولها للجميع كده زى عادة

يكون التقدير ذو قيمة حقيقية حين لا يكون بنفس الوتيرة (وأحيانا بنفس الكلمات) لكل الأطفال أو لكل الناس، إن هذا السيل من المديح والمجاملة يفقد قيمته إذا لم يكن مختصا بهذا الشخص بالذات، إزاء هذا الفعل بالذات، ولعل بعضنا يتذكر كيف كنا نستقبل شكر المرحوم محمد لطيف المعلق الرياضى خفيف الظل حين كان يبالغ فى شكر كل الحضور وغير الحضور من أول شرطى الأمن المركزى حتى مخطط الملعب وحارس المرمى، إذا حدث منا مثل هذا التقدير بالجملة لأطفالنا، أو قمنا بمواصلة التقدير باستمرار على العمّال وعلى البطال، فإن التقدير يفقد فاعليته.

ثـَمّ تحذير آخر: حين يتواصل التقدير بحيث يصبح الإنجاز مرتبطا به طول الوقت طلبا للرضا، بمعنى ألا يتم قبول الطفل (أو أى شخص) إلا بما يعمل فعلا، تنقلب المسألة إلى تشريط معطـــِّل تماما. نتعلم من الأغنية:

مش حابيع نفسى عشان أرضِى جنابك

مهما كنت جعان لِشُوفَكْ، أو حايوجعنى عتابكْ

هذا التنبيه هو الذى يحدد جرعة التقدير ووظيفتها، حتى لا يختزل وجود الطفل إلى مجرد إرضاء من حوله، وبالذات الوالدين. كما أن تنبيها آخر تنبهنا إليه الأغنية على لسان الطفل، وهو أن التقدير قد يصدر من الكبير (أو الآخر) باعتبار أنه واجب متبادل عادة (كما أقدرك، تقدرنى) هذا ما يرفضه الطفل، خاصة إذا كان التقدير يصدر بشكل يدل على أنه غير مرتبط تحديدا بالإنجاز المحدد، أو على أنه واجب تربوى عليه أن يعمله.

لو تقولها “زى واجب”، مش عايزها

لو تقولها وانت مش شايف، أنا مستغنى عنها

علينا أن نتساءل، ليس بالضرورة فى حالة الطفل، وإنما بصفة عامة: ألا يحتاج الذى يقوم بالتقدير إلى من يقدره هو بدوره؟ أو يقدر تقديره؟ أو يرد عليه أن رأيه قد وصل؟ أوأن رؤيته قد أفادت؟ الإجابة على كل هذه الأسئلة هى بالإيجاب، لكن المشكلة ممن يأتيه الرد؟ مِن الذى سبق له أن قدّره؟ ألا يُخشى أننا بذلك نقلب المسألة إلى ما يشبه الصفقة “قدّرنى وانا اقدّرك”: “إنت أحسن ولد فى الدنيا، وانت أحسن بابا فى العالم”!!! أم أنه على الذى يقدر بأمانة أن ينتظر الرد من مصدر آخر يقدره بدوره، وهكذا؟ إذا كان رئيس العمل يقدر الوالد الذى يعمل معه، فإن هذا الوالد يصبح أكثر قدرة عل تقدير زوجته أو إبنه أو مرؤوسه وهكذا. فهمت من خلال المثل القائل “إعمل الطيب وارميه فى البحر” أن الرد الرائع الجميل لأى عمل طيب، بما فى ذلك النقد الموضوعى، هو أن تكون هناك فائدة حقيقية للجانبين باعتبارهما نقطتين فى بحر الناس، بهذا نطمئن جميعا أن الكل يمارس ما يمارس لنفسه فى النهاية، فيكسب الجميع: الذى اعترف بالإنجاز، واحترمه، ووضعه فى حدوده، والذى قام بالإنجاز ووصله التقدير فعلا بشكل أفاد فى طمأنته، أو تشجيعه، أو تعديل موقفه، أو استمرار نموه وتقدمه، أو كل ذلك، وغير ذلك.

لو تقولها وانت فاهم إيه حدودها

يبقى حاتجيلك ردودها

باللى يترعرع بنا،

واحنا بنعمّرها ناحية ربنا

إن العائد الحقيقى والباقى يكون كذلك حين يكون التقدير عائد على من قام به بإيجابية دفعه إلى ما هو أنفع له وللناس، هنا يتدخل ما أحب أن أسميه: العامل المشترك الأبقى، وهو عامل تتجاوز فائدتة مرحلة الأطفال طبعا، وذلك بالانتماء إلى قيمة أن يتم الإنجاز والتقدير المتبادل وغير المتبادل تحت مظلة ثقافة تضع خير الناس وتعمير الأرض جزءاً لا يتجزأ من العائد الذى يعود على كل المشتركين فى هذا الحوار الناضج، وغيرهم، أحسن وأقرب وأكثر إنتاجا وإبداعا بما رحمة من الحق سبحانه وتعالى وتوفيقه.

مستويات التقدير:

إذا كان الطفل، بما أنه طفل، يحتاج إلى هذا النوع من التقدير من الأكبر، فهذا حقه، لكن الأكبر كما ذكرنا، حتى وصلنا إلى نجيب محفوظ، هو يحتاج أيضا لذلك، وإذا كنا قد انتهينا إلى أن عائد التقدير الموضوعى الحقيقى هو من أى مصدر عام، وأن مصبه هو فى أى خير عام (لصالح الناس وتعمير الأرض)، دون مثالية أو تضحية، فإن ذلك يتطلب أن نبين أن تعدد مستويات التقدير هو المنقذ من أن يكون غيابه سببا فى الإحباط أوالتوقف. هذه مسألة تحتاج تفصيل لاحق، نوجز رؤوس مواضيعه فيما يلى:

1) إذا حصلت على تقدير ما تنجز ممن تنتظر منهم التقدير وبشكل موضوعى، فحلال عليك يا عم (من أول تقريظ مدرس العربى لموضوع التعبير الذى كتبته حتى فرص النشر وجوائز الدولة)

2) عليك ألا تنسى أنه بقدر ما هو مهم تقدير الآخرين لك، فإن تقديرك لنفسك هو مهم جدا، وقد يكون أهم، وخاصة إذا قست إنجازك بمقاييس موضوعية فعلا من واقع معايير عامة متفق عليها (وينفلق من لا يراك).

3) إذا اطمأننت إلى مصداقية هذا المقياس الثانى فقد يكون مفيدا، وحافزا، أن تحترم تقدير عدد قليل ممن تثق فى رؤيتهم بأقل قدر من التحيـّز العاطفى (الثلليية)، دون أن تعتمد على ذلك وحده

4) هناك أيضا تقدير التاريخ، وإن كان قد يأتى بعد رحيل صاحبه مثلما حدث مع كثير من العباقرة والمبدعين، إلا أن قيمته تطمئن المجتهد أنه حتى لو لم يجد من يقدره حيا، فالتاريخ بالمرصاد، يرصد كل إنجاز، ويقدره، مهما طال الزمن.

5) قبل كل هذا، وبعد كل هذا، فثم يقين أنه إذا صدق الإنجاز، وأفاد الناس، وعمر الأرض، وأثرى الإبداع، فإن الحق سبحانه وتعالى يراه لا محالة، ويهيئ له من يراه إن آجلا أو عاجلا

 “أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى”

يـُـرى، فعل مبنى للمجهول، ليسمح لكل من له بصيرة أن يَرَى، بما فى ذلك صاحب الشأن، والأهم والأخطر أن الحق سبحانه وتعالى سوف يراه، حتى لو لم يره أى آخر.

[1] – يحيى الرخاوى: ديوان: “من باريس إلى الطائف.. وبالعكس” قصيدة “طفلى الخاص”، الطبعة الثانية (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى

الفصل السادس كيف ومتى يعرف الطفل ما هو الموت

الفصل السادس كيف ومتى يعرف الطفل ما هو الموت

كيف ومتى يعرف الطفل ما هو الموت؟  ونحن أيضا؟

أتصور أن مفتاح أن نعرف أنفسنا هو أن نعرف أكثر فأكثر كيف بداياتنا، كيف خلقنا بعد كل هذا المشوار هكذا، ثم كيف رحنا نشوه الفطرة التى خلقنا بها بانتظام مبرمج مع سبق الإصرار والترصد، لعل بداية الطريق لنستحق أن نكون بشرا هو أن نكف عن تشويه ما خلقنا به، حتى لو عجزنا أن نضيف إليه. انتقالى من مقال أكتبه لمجلة الهلال عن الموت والخلود فى ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ إلى هانز كريستيان أندرسون لم يكن مصادفة، تذكرت أن أندرسون قد تناول الموت فى بعض حكاياته وقدمه للأطفال برقة عذبة، وعمق لا يعرفه الكبار غالبا، اختيارى لبعض حكايات أندرسون لا يعنى أننى فهمت، أو وافقت، أو صفقت لـ كل ما كتب، عندى تحفظات مثلا على التضحية بحياة راع برئ فى قصة كلاوس الكبير وكلاوس الصغير، وعلى قتل الساحرة العجوز – مهما كانت ساحرة – فى حكاية القداحة، وغير ذلك. اخترت اليوم حكاية واحدة، دعمتها بإشارة إلى أخرى، ثم بحكاية واقعية من نص بشرى (مريض مصرى جميل)، منتهيا بمقتطف من طاغور، دون تعليق.34

يتصور الذى يكتب للأطفال أنه يكتب لسن معينة، فى حين أن المبدع يبدع وهو ليس وصيا على انتقاء قرائه، أنا أستمتع بقراءة ميكى حتى الآن، وأنزعج من قراءة مجلات مصرية وعربية للأطفال لا أود الآن أن أذكرها، اكتشافى لهانز كريستيان أندرسون هو قديم قدم الفيلم الذى مثله “دانى كاى” عن حياته، وكان ذلك فى الأربعينات، وكنت فى بعض “التّـاشر” teens من عمرى 15- 16 غالبا). هانز كريستيان أندرسون ولد فى 2 إبريل 1805 ومات فى 1875، فيكون قد مر على ولادته قرنان من الزمان هذا العام. وهو أشهر من كتب للأطفال، لعل فى انتشار هارى بوتر هذه الأيام عبر العالم ما يذكرنا بدور مثل هذا الأدب للكبار والصغار معا، وأيضا هو يرجعنا إلى ألف ليلة ودورها التربوى الإبداعى تاريخا وقوميا وعالميا.

أسئلة الأطفال هى هى أسئلة الفلاسفة، وبدرجة أقل: هى أسئلة كثير من المبدعين بصفة عامة، والروائيين منهم بصفة خاصة. أسئلتهم عن الله سبحانه، وعن الموت، وعن المصير، هى من أكثر الأسئلة إلحاحا، وهى أيضا من الاسئلة التى ليس لها إجابات نهائية، حتى الإجابات الدينية التقليدية تترك الباب مفتوحا للتفاصيل بشكل أو بآخر. سوف نقصر قراءتنا بالتفصيل على قصة واحدة، ثم نشير إلى أخرى، مرورا بحكى موجز جدا عن حالة مريض مصرى (نص بشرى)، ثم نختم بطاغور (دون تعليق).

“بائعة أعواد الكبريت الصغيرة”،

هذا هو اسم الحكاية الرئيسية التى يحكى فيها أندرسون عن طفلة فقيرة تبيع أعواد الكبريت لتكسب من خلال ذلك ما يسد جوعها، وربما جوع أسرتها حيث: “كانت تخشى أن ترجع إليها وهى لم تتمكن من بيع عود كبريت واحد بعد”. 35

فاستمرت فى البرد تشعل أعواد كبريتها لعلها تدفئها حتى كان ما كان.

حين يحكى أندرسون، يجعلك تسمع وترى وتحس كأنك هناك فعلا. إذا قرأت هذه القصة بمثل ما قرأتـُها به فسوف ترى البنت البائعة الصغيرة رأى العين، سوف تراها وهى تسير حافية القدمين على الأرض المغطاة بذلك الصقيع المجمد، وقد تبتسم بالرغم من ذلك حين يشرح لنا أندرسون كيف صارت قدميها إلى الحفاء، لقد غادرت بيتها وهى ترتدى خفا كبيرا جدا عليها:

 “….ربما كانت أمها هى آخر من استعمله، ولأنه كان كبيرا فقد فقدته حين أسرعت لتعبر الشارع، إذ مرت بها عربتان منطلقتان بسرعة جنونية، فضاعت الفردة الأولى، أما الثانية فقد ركض بها ولد يقول بأنه سيستعملها كمهد حين ينجب أطفالا، ومشت البنت ذات القدمين العاريتين اللتين كانتا حمراويتين زرقاويتين من شدة البرد..”

من خلال حمرة قدميها المختلطة بالزرقة شعرت فى جلدى مباشرة بدرجة البرد التى كانت تحيط بالبائعة الصغيرة، ثم عدت فرأيت الصبى الظريف خاطف الحذاء ليجعله مهدا لطفله القادم، رأيت على وجهه تلك البسمة الساخرة ورأيت هذا الطفل الشقى حين يصير أبا وله طفل يرقده فى فردة الحذاء المهد المخطوف! ما علينا، صاحبتُ البائعة، ورأيتها وقد “سقطت ندف الثلج على شعرها الأصفر الطويل الذى تجعد بشكل جميل حول رقبتها، وقد وقفت “فى زاوية بين بيتين أحدهما قد تقدم قليلا على الآخر فى الشارع” !! وقد راحت تتابع ما يجرى داخل البيوت الدافئة. وفى محاولة أن تتغلب قليلا على بعض الصقيع الذى جعلها لا تعود تشعر بقدميها من شدة البرد، أشعلت عود ثقاب واحد لتدفئ أصابعها:

“كانت شعلة دافئة صافية مثل شمعة صغيره، أحاطته بيديها، كان ضوؤه عجيبا. ظنت البنت الصغيرة بأنها تجلس عند موقد حديدى كبير بكرات ومدخنة نحاسية، توهجت النار مشتعلة تنشر الدفء” وبانتهاء اشتعال عود الكبريت اختفى الموقد، وانتهى الدفء، فعاد البرد، فأشعلت آخر، فخلق لها مائدة فى غرفة معيشة عليها بطة مشوية محشية…المدهش فى الامر كان عندما قفزت البطة والسكين فى ظهرها حتى وصلت إلى الفتاة الفقيرة، وانطفأ حينئذ عود الكبريت، فلم تر غير حائط سميك بارد”

حين أشعلت الصغيرة العود الثالث وجدت نفسها فى حضن طبيعة حانية محيطة

نظرتْ إليها آلاف الشموع الموقدة على تلك الفروع الخضراء والصور الملونة…وعندما مدت الصغيرة كلتا يديها فى الهواء انطفأ عود الكبريت وصعدت شموع عيد الميلاد الكثيرة إلى الأعلى، فرأتها مثل نجوم صافية سقطت إحداها مخلفة شريطا ناريا فى السماء36

نلاحظ هنا النقلة الواصلة بين الطبيعة وشجرة عيد الميلاد بشموعها، كما يمكن أن نشاهد النجم الساقط الذى لم يكن إلا إحدى الشموع منذ قليل. كان يمكن أن ينتهى هذا الخيال فى بعض قصصنا الوعظية الإرشادية بجزاء طيب مقابل الصبر والإصرار على أداء المهمة، أو يمكن أن ينتهى بعثورالطفلة على كنز مخبأ، أو بمكافأة أبوية تجزيها خيرا على استقامتها..إلخ. لم يحدث أى من ذلك. الذى حدث أنها تذكرت، وهى فى حضن الطبيعة الحانية، جدتها التى توفيت والتى كانت تقول لها “عندما تسقط نجمة، تصعد روح إلى الله”، وإذا بعود الكبريت الرابع حين شحطته يحضر لها جدتها فى هالة من الضياء

“واضحة لامعة حنونة طيبة”. صاحت الصغيرة جدتى خذينى معك، أعلم بأنك ستختفين عندما ينطفئ عود الكبريت. ستختفين مثل الموقد الدافئ، مثل البطة الشهية وشجرة عيد الميلاد المباركة، ثم أسرعت بشحط عيدان الكبريت الباقية فى الحزمة تلو الآخر، كانت تود بشدة أن تبقى جدتها، أضاءت عيدان الكبريت ببريق أصفى من ضوء النهار، لم تكن جدتها فى يوم أحلى وأكبر منها الآن، حملت الجدة الفتاة الصغيرة بين ذراعيها وطارا بألق وفرح عاليا، عاليا جدا، حيث لا برد ولا جوع ولا خوف، كانا عند الله”

 أيضا كان يمكن أن تنتهى القصة هنا بتصفيق وعظى آخر، لكن أندرسون أنهاها وهو يصف جثة الفتاة بشجاعة وجمال أيضا

عند الصباح، وفى الزاوية تلك بين البيتين، كانت الفتاة الصغيرة، بوجنتين حمراوين، وابتسامة مرسومة على الفم….

ماذا تتوقع من هذه الصورة؟ الوجنتين حمراوين، والابتسامة مرسومة، الأرجح أنها قد نامت حالمة فى حضن جدتها الحانية، وهذا جزاء البنات الحلوات، أليس كذلك؟ لكن أندرسون يقول شيئا آخر:

“….. كانت ميتة، ماتت متجمدة من البرد فى الليلة الفائتة من العام الماضى. طلع صباح السنة الجديدة على الجثة الصغيرة التى حضنت عيدان الكبريت ومنها حزمة محترقة، قيل بأنها كانت ولا شك تريد أن تحصل على دفء، لم يعرف أحد كم كان جميلا ما رأته، أى ضوء مشع دخلت عبره مع جدتها العجوز إلى فرح العام الجديد: (كتبت هذه القصة فى عام 1848)

لماذا أمات أندرسون هذه الجميلة؟ لماذا لم يجعل النهار يطلع عليها؟ وتشرق الشمس، فيذهب الناس إلى السوق ويمرون بها ويشترون منها ما يجعلها تعود إلى أهلها راضية ناجحة؟ لماذا لم يرجع أحد قاطنى المنزلين التى نامت فى الزاوية بينهما فيراها فيوقظها، ويدعوها برحمة إلى الداخل، ويعد لها شوربة ساخنة، ويدفئها ويقبلها فتنام شاكرة صنيعه؟ لماذا لم يرسم لنا أندرسون جثتها بيضاء باهتة من الصقيع على الأقل، ولم يضع على وجهها تقلصات البرد التى أشعرنا بها طوال حكيه عنها حتى كدنا نتجمد ونحن نقرأها ؟

لقد عـلـّـمَـنا أندرسون من خلال القصة حتى النهاية كيف يمكن أن تكون النقلة هادئة بين الحياة والموت، إلى الله سبحانه، كما عايَشَنا قبل ذلك هذا التداخل بين الواقع والخيال، كل ذلك ووعينا يضىء المرة تلو المرة فى نعومة حانية، وألم مقدس، بما يجعلنا أقرب إلى أنفسنا، وإلى خالقنا ورحمته، وبما يجعل الموت هو القريب البعيد، هو الذى نخشاه بقدر ما ننتظره، هو الطريق إليه ونحن نعيش واقعنا نجمع بين قسوة الفقر، وقرص الحرمان، ونداء الطبيعة، وفرحة الأمل، وقوة الخيال، فى نفس الوقت.

قصة أم

القصة التالية مباشرة لهذه القصة (فى طبعة مجلة القاهرة 2005) اسمها “قصة أم”، فى تلك القصة يتجسد الموت للأم فى شكل شيخ غريب يخطف ابنها، فتهيم على وجهها لتسترده وهى تضحى بكل شىء تعطيه لمن تقابله، فى مقابل أن يدلها على أين ذهب الشيخ (الموت) بابنها: تضحى بعينيها فلا تعود تبصر، وبلسانها و..و…الخ. حتى تصل إلى “مشتل الموت” فإذا بالموت ليس عدما بل مشتلا انقلب فيه الراحلون إلى زهور واعدة بما لا نعرف، وتنتهى القصة بأن ترضى الأم أن تتنازل عن إصرارها على استرجاع ابنها حيا، وتسلم ابنها زهرة بين الزهور فى مشتل الموت، زهرة تنتظر قدرها وتقبـّـله وتتركه، إنها تتنازل عن محاولتها استرداد طفلها قائلة للموت:

“….إحمله، إحمله بعيدا إلى ملكوت الله، إنسَ دموعى، إنسَ دعواتى”

يتعجب الموت

لا أفهمك، ألا تريدين طفلك، أتريدننى أن آخذه إلى هناك، حيث لا تعلمين” ؟

ترد الأم:

لا تسمعنى حين أسألك بخلاف مشيئتك، التى هى المُثلى، لاتسمعنى لا تسمعنى”،

وحنت رأسها إلى الأسفل إلى حضنها، ومشى الموت بابنها إلى البلاد المجهولة.

هكذا يعلمنا أندرسون فى”قصة أم” ما يكمل صورة نهاية قصته “بائعة أعواد الكبريت الصغيرة”، فمن من الأطفال يخشى الموت بعد ذلك، ومن منا – كبارا- لا يتعلم من ذلك؟

بلغتنى نفس الرسالة من أب مصرى فلاح جميل:

خبرة من العيادة (نص بشرى)

هو رجل فى منتصف العمر، دخل إلى حجرة الكشف بالعيادة، طويل جميل، يلبس جلبابا بلديا نظيفا، وجهه سمح جاد، يبدو من وجهاء الريف كما أعرفهم قديما، قال شكواه التى بدأت من بضعة شهور وتراوحت بين الحزن، والأرق، وأعراض جسدية تدل على التوتر بشكل أو بآخر، حكى شكواه بهدوء دون مبالغة، سألته عن عمله، ووقته واهتماماته، فأجاب بما أيّد ظنى، أنه ميسور الحال، بدأ تعليمه، وكان مجتهدا، لكنه فضل بعد موت والده باكرا أن يزرع أرضه، وهو راض عن قراره، وغير نادم على ترك الدراسة، وهو يثقف نفسه، احترمته أكثر. سألته عن عائلته، فصمت غير قليل، وطأطأ رأسه ببطء، ثم رفعها وهو يخبرنى بعدد أولاده وبناته، ووفاقه مع زوجته، خاصة بعد وفاة المرحوم العريس، استرجعته متسائلا: من؟ ! المرحوم من؟ العريس؟، أخبرنى بهدوء أن ابنه البكر ذا الأربع وعشرين عاما مات فى حادث سيارة قبل فَرحِه بأيام، وكان ذلك منذ ستة أشهر، قالها بهدوء حزين رصين حتى كدت أقفز من كرسىّ جزعا، تعجب الرجل من تعبيرات وجهى، حتى تبادلنا الأدوار فراح يسألنى “مالك يا دكتور؟”، حينئذ انتبهت إلى أن المصاب مصابه وليس مصابى، فهم بأبوة حانية وقع المفاجأة علىّ، حاولت أن أقدم له التعازى، لكن يبدو أن حالتى كانت صعبة إلى درجة فاقت قدرتى على إخفائها وراء منظارى الطبى، تبادلنا الأدوار، فراح يطمئننى بأنها مشيئة الله، وأنه سبحانه قد استرد وديعته؟ قارنت بين قوله “استرد وديعته”، وبين قولى له “البقية فى حياتك”، أية بقية ؟ وهل لحياتنا بقية بعد قضائه؟؟

استرجعت دورى كطبيب بصعوبة : حاولت أن أشرح له الوصلة بين رباطة جأشه الصلبة الظاهرة والمستمرة حتى الآن، وبين ظهور الأعراض التى حضر من أجلها لاستشارتى، رفض فى البداية، ثم اقتنع إلا قليلا، سألته إن كان قد بكى عقب الفقد، فأجاب بالنفى، شرحت له من جديد احتمال الربط بين جفاف الدموع، ودرجة الكبت، ولم أجرؤ أن أدعوه للبكاء، كتبت له بعض ما تيسر من عقاقير كعامل مساعد، وانصرف وأنا أقنع نفسى أن دموعا رقيقة أطلت من عينيه أخيرا وهو ينصرف بعد أن لاحظ ما اعترانى، فراح يصبّرنى ويذكرنى بإرادة ربنا ورحمته، وانصرف وأنا في حال.

وحين قرأت قصتا أندرسون وصلنى موقف هذا الأب الجميل، ودعوت له بمزيد من الصبر والإيمان ولابنه المرحوم بالرحمة والغفران، وتبين لى وجه آخر للموت في رحاب الله.

متى يعرف الأطفال معنى الموت:

المعلومات العلمية التقليدية تقول إن الطفل لا يعرف الموت إلا فى سن متأخرة نسبيا، تختلف الدراسات فى تحديدها لكنها تتراوح بين السابعة والتاسعة، لكننى أشكك فى هذه الحقائق من حيث أنها تتكلم عن الموت بمعنى الفقد، بمعنى الاختفاء الدائم، الطفل فعلا لا يدرك هذا الاختفاء الدائم إلا فى هذه السن بعد أن نكون قد علمناه أن يفكر بطريقتنا. الطفل يحتفظ بكل ما يصل إليه فى وعيه إلى الأبد، هذا الاختفاء الظاهر الذى يسميه الكبار الموت هو وهم الكبار فقط، نحن نضع تعريفا للموت كما نراه كبارا، ثم نفرضه على الطفل، ونزعم أنه لا يعرف هذا التعريف إلا فى سن كذا. لا أحد يمكن أن ينزع من الطفل من يحب، جدة بائعة الكبريت لم تمت، حضرت فورا بمجرد أن احتاجتها الصغيرة، وحين صحبت الجدة حفيدتها إلى السماء فى رحلة إلى وجه الله لم نلاحظ ذلك الخط الفاصل الذى نصطنعه نحن الكبار بين الحياة والموت، الأم التي رفضت أن تسترد ابنها من مشتل الموت في السماء أدركت معنى آخر للموت ربما هو نفس المعنى الذى يدركه الطفل.

الموت الذى يعرفه الأطفال أكثر هو وعى “بين وعيين”، هو الحقيقة الواقعة فيما بين مستويين من الوعى، المستوى الفردى، ومستوى آخر أرحب وأشمل.

 حين وضعتُ فرضا يحدد مستويات الشعر فى مقابل مستويات الحلم (مجلة فصول 1984)([1])، توقفت عند ” القصيدة بالقوة” وهى القصيدة الحاضرة التى لم تظهر بعد، والتى قد لا تظهر أبدا، بلغ إدراكى لعمق هذا الفرض أننى فسرت من خلاله جدلية الموت، والوجود قلت فى ذلك: “…. ولعل‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏حقائق‏ ‏الوجود‏ ‏التى ‏نعجز‏ ‏أصلا‏ ‏عن‏ ‏قولها‏ ‏هى ‏من‏ ‏باب‏ ‏هذا‏ ‏الشعر الذى لا يقال‏، ‏فالموت‏ هكذا هو ‏شعر‏ ‏لايقال‏ ‏بالنظر‏ ‏إلى ‏الجانب‏ ‏البنائى ‏فيه‏، ‏لا‏ ‏مجرد‏ ‏التحلل والاختفاء، ‏يقول‏ ‏أدونيس‏ ‏فى ‏رثاء‏ ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور‏: “…‏ففى ‏لحظة‏ ‏الشعر‏، ‏خصوصا‏ ‏لحظة‏ ‏الموت‏، ‏ذلك‏ ‏الشعر‏ ‏الآخر..إلخ‏”. ثم إننى تصورت أن متصوفا جادا قد يكتشف فى حقيقة أن الله سبحانه “ليس كمثله شىء” وأنه تعالى “لم يكن له كفوا أحد”، يكتشف ما يقابل ما ‏هو‏ ‏شعر‏ ‏لايقال‏.

عذاب القبر37

أين كل هذا من الإلحاح على الحديث عن “عذاب القبر” بتلك الصورة التى شاعت بيننا أخيرا؟ موجهة إلى أطفالنا بالذات؟ أنا لست فى موقع أناقش فيه مصداقية الأحاديث الشريفة الخاصة بهذا الموضوع ومدى صحتها، هذا اختصاص آخر، يتحمل من يمارسه ويروجه بصورته الشائعة مسؤوليته أمام الله سبحانه.

كل ما أريده هنا هو إبراء ذمتى أمام الحق تعالى، بأن أحمّل من يتصدى لمثل ذلك، ويخاطب به النشء والأطفال، أحمله مسؤولية انتقاء الأعمار التى يخاطبها، كما أحمله تحديد هدفه، ثم قياسه بفطرة الله التى فطر الناس عليها، وما ينفع الناس، وحسابنا جميعا على الله الرحيم العدل الرحمن.

طاغور([2])38

دعونا نختم الآن بهذا الشاعر الجميل من الشرق الأقصى “طاغور”

“قالت لى الغمامة: سأمّحى

وقال الليل: سأغيب فى الفجر المضطرم

وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه

وأجابت حياتى: سأموت وأنا فى منتهى الكمال

وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة

وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك

وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر.

 

[1] – يحيى الرخاوى، “جدلية الجنون والإبداع” مجلة فصول (الفصل الثانى) العدد الرابع – 1986

[2] –   طاغور “روائع في المسرح والشعر” ترجمة: بديع حقى، الناشر: مكتبة نوبل (1998)

الفصل السابع من الموت الجمود إلى الموت الولود!!!

الفصل السابع من الموت الجمود إلى الموت الولود!!!

أثارنى ما اكتشفناه من خلال إبداع هانز كريستيان أندرسون، كيف أن الأطفال يعرفون الموت أكثر منا. انتبهت إلى أن  المشكلة أن سائر الأحياء الأخرى، لا تطرح هذا السؤال أصلا. برغم أننا مثلهم لم يستشرنا أحد قبل أن نقدم إلى هذه الحياة إن كنا نريدها أم لا، الأحياء الأخرى تبلع الورطة، أو تفرح بها بطريقتها، وتقضيها أياما أو شهورا أوسنين، حتى تذهب، بعد أن تترك وراءها بعض خلَفها  متورطين فيما تورطت فيه، لعلهم يحلونها بمعرفتهم هم وقوانين التطور. !! لماذا لا نفعل نحن البشر مثلهم، ونستعبط، ونتركها كما استلمناها ربما ينشأ منا صنف أرقى، يستطيع أن يرد على الأسئلة التى تبدو بلا إجابة؟

إن الوعى الذى شَرُف به الإنسان جعل مسيرته فى متناول عقله وفكره ومراجعاته وتداخلاته، فكاد ذلك يعوق خطى نموه. النمو فى نهاية النهاية  ليس عملا إراديا تماما، هو طبيعة حيوية، لكن الوعى البشرى جعل المسألة أكثر تعقيدا، وأخطر نتائجا، وأروع إبداعا فى نفس الوقت.39

قدمنا فرضا يبين احتمال أن الأطفال يعرفون الموت الحقيقى باعتباره  وعيا بين الوعيين، الكبار يتعاملون مع مفهوم “الموت” بفكرهم التجريدى، وعقلهم المنطقى تبعا لرصدهم ما يصلهم من إجراءات الظاهر من اختفاء ودفن وذهاب بلا عودة، فهل يمكن أن نعتبر هذا مدخلا إلى فحص نوع آخر من الموت يتم ونحن أحياء بعد، وهو ما يلحقه “إعادة الولادة” التى تحدث مع كل أزمة نمو؟ لو حاولنا بعد أن هززنا التعريف التقليدى للموت أن نعيد تصنيف مفهوم الموت وتجلياته  المختلفة حسب السياق والاستعمال، فسوف نفاجأ بجديد يمكن أن يكون مفيدا لنا على مسار النمو الذاتى، بل والنمو الجمعى أيضا، فيما يلى بعض تلك المحاولات التى تقدم عددا من تشكيلات الموت المحتملة:

1- الموت الفيزيقى السلوكى = العدم الاختفاء بلا رجعة (وهو ما يقره الكبار والسلطات كما ذكرنا)40

2- الموت “الوعى بين الوعيين”: بين الوعى الشخصى والوعى الكونى  (وهو ما يعرفه الأطفال كما قدمناه وهو اليقين بالاستمرار برغم الاختفاء الظاهرى).

3- الموت الجمود الاغتراب:  الذى يلبس ظاهر الحركة الزائفة وكأنه الحياة (الحياة موتا).

4- الموت/الولادة: وهو الذى يشير إلى  النقلة النوعية أثناء النمو حين يتولد التشكيل الوليد (الجديد) مما سبقه من تشكيل يختفى (يموت) فى طريقهما إلى تشكيل قادم، وهكذا. مثلما يحدث في أزمات النمو (مثلا: إريك إريكسون) مثل أزمة المراهقة، أو أزمة منتصف العمر إلخ. بل مثلما يحدث بشكل آخر أكثر إيجازا وأبلغ تواترا كل ليلة فى دورات النوم واليقظة (الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور). 

فى هذا الطرح هنا الآن دعونا نركز على العلاقة بين النوعين الثالث والرابع، حيث هما فى واقع الحال نقيضين لكنهما مكملين لبعضهما بشكل أو بآخر، فالخوف من النوع الرابع (الموت/الولادة) هو المبرر لثبات وعناد وفرض النوع الثالث (الموت/الجمود)، كما أن الوعى بعبء اغتراب هذا الجمود ولاجدوى استمراره، هو الذى يكون حافزا لإنهاء مرحلته والمخاطرة بالإقدام على النوع الثالث (الموت؟ الولادة)، وما بين الاستكانة الدائمة للموت/الجمود، وبين المخاطرة المرعبة للموت/الولادة ، يمكن تصنيف كثير من مظاهر مسيرة الحياة البشرية، بما فى ذلك كثير من التجليات المرضية النفسية:41

 خذ مثلا: الموت الجمود يتجلى بكل ثقله وتصلبه فيما يسمى اضطرابات الشخصية، فى حين أن الوعى بالموت الولادة  قد يكون من أهم مظاهر ما يسمى الاكتئاب الحيوى، أو بداية نشطة لأى من الأمراض النفسية الكيانية الجسيمة (أتعمد ألا أذكر الاسم الشائع منعا للاختزال والخلط).

في هذا “الموت/الجمود” يتحدد الموت بما هو اغتراب شديد دائم، حتى لو ظلت رئتانا تمارسان الشهيق والزفير، وظلت عقولنا تفرز الأفكار الدوائرية (أنظر بعد).  هو جمود مستقر ثابت، هو رضاً باهت، هو تكرار خادع، هو حركة فى المحل، هو إصرار على رفض أى تغيير فى أى اتجاه معلن أو خفى، هو الدوائر المغلقة بإحكام على نفسها.

التوصيف المناسب للحياة:

 التوصيف المناسب للحياة هو أنها ليست مجرد الاستمرار الفيزيقى، وإنما:

– هي معاودة كسر الاغتراب،

– هى سكون جائز لكن إلى حركة حتمية،

– وهى رضا يقظ لكن فى حالة استعداد متحفز للمراجعة،

– وهى حركة فى أى اتجاه لكن غايتها النهائية

               تكون إلى قفزة نوعية أمامية أوسع،

– وهى التغيير المسؤول42

– وهى الدوائر المفتوحة النهاية ..إلخ.

دعم من النقد الأدبى: 

 فى نقد قدمه كاتب هذه السطور لملحمة الحرافيش  لنجيب محفوظ  فى مجلة الهلال عدد نوفمبر 2005 تناول “حركية الموت ضد الخلود العدم ” وهو مقتطف موجز من دراسة مطولة سابقة([1]).

المتن:

 (1) فى البدء كان الموت

 فى ملحمة الحرافيش حضر الموت باعتباره:  البداية، واليقين، والتحدى، والدفع جميعا: لم يحضر الموت العدم إلا وهو يخلق الحياة من داخلها: “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”(ص 64). منذ السطر الأول يعلن محفوظ أن الملحمة تدور “.. فى الممر العابر بين الموت والحياة“،  لم يقل الممر العابر بين الحياة والموت، أو بين الولادة والموت، كما يُفترض بحسب التتابع الزمنى المنطقى. قدم محفوظ الموت باعتباره الأصل، وأن الحياة هى احتمال قائم،

الموت بمعنى العدم – كما يشاع عنه – لا وجود له. هذا ما راح شيخ الزاوية (خليل الدهشان) يؤكده وهو يصبر جلال (الأول) بعد موت خطيبته قمر (ص403).

  • كلنا أموات أولاد أموات.

فقال بيقين: لا أحد يموت.

لكن جلال يعود  ليقول لأبيه فى الصفحة التالية مباشرة (ص 404)

  • يوجد شئ حقيقى واحد يا أبى، هو الموت.

موقف جلال هنا هو اقرب إلى موقف مفهوم الموت عند الطفل باعتباره وعيا ممتدا، لكنه أكثر استهدافا لمسار عكسى حين يستقبل النقلة إلى وعى الموت بنعومة حقيقية نظرا لقرب عهده بالفطرة “الأقرب إلى الوعى الكونى”، جلال هنا ينكر الموت “لا أحد يموت”، لكنه يعلن فى نفس الوقت:  أنه لا يوجد شىء حقيقى غير الموت وهو وعى العدم عكس وعى الطفل.

تتناول الملحمة الموت بهذا التناقض المتحدى، جنبا إلى جنب مع التنبيه إلى أن الحياة الزاخرة إنما تنبع من الوعى بحقيقته، أو حتى الخوف منه.  نعم، تؤكد الملحمة ان الخوف من الموت هو رعب محرك أكثر منه جمود عاجز، كما أنها قرنت الموت بالحلم:

“جرّب عاشور (الاول) الخوف لأول مرة فى حياته، نهض مرتعدا، مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه: إنه الموت. تساءل فى أسى وهو يقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور؟”(ص 54)، ثم اقترنت رؤية الموت رأى العين – منذ البداية – بالحلم، فعاشور حين قرر شد الرحال هربا من الشوطة، كان ذلك بناء على حلم رآه، فهم منه أن الشيخ عفرة زيدان ينصحه أن يشد الرحال، فكان قوله الموجز المكثف لحميدو شيخ الحارة:

 لقد رأيت الموت والحلم (ص 58)

 كان ذلك ذا دلالة خاصة لدىّ، رجحت أنه ربما استعمل فعل “رأيت”، ليفيد البصر والبصيرة معا، وحينئذ جاء رد شيخ الحارة:

هذا هو الجنون بعينه، الموت لا يرى(ص 58):

نتذكر هنا أن الدراسات الأحدث لما هو حلم ليست لمحتواه أو رموزه، بقدر ما هى للتأكيد على أنه “وعى آخر”.  ربما يدعم هذا  المنطلق ما ذهبنا إليه من أن الموت هو أيضا “وعى آخر” .

لم تخل الملحمة من عرض النوع الأول من الموت (الموت السلوكى الفيزيقى): التضاؤل الكمى حتى الاختفاء، لكنها عرضته باعتباره تذكرة بالنوع الثانى “الجمود الاغترابى” والثالث “حفز الحياة، وإعادة الولادة” فى دورات الحرافيش.

أخر متن من الدراسة النقدية للحرافيش

يواجه شمس الدين سؤال الموت، وهو يعى تماما مغزى الدعاء: “أن يسبق الأجل خور الرجال”،

 يواجهه أكثر فأكثر بعد موت حميه، المعلم دهشان، ثم عنتر الخشاب صاحب الوكالة، “فهذا (الأخير) رجل يماثله فى السن، يقف معه فى صف واحد”، يواجه السؤال  فيجيب عنه:

“ولكن الموت لا يهمه، لا يزعجه بقدر ما تزعجه الشيخوخة والضعف، وأنه يأبى أن ينتصر على الفتوات وينهزم أمام الأسى المجهول بلا دفاع”(ص130).

ومع التسليم للقدر الزاحف تمنى شمس الدين حسم الموقف:

 “أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة؟” (ص 137).

 وبموت “عجمية” زوجته يرى الموت (رأى العين) كما رآه أبوه من قبل، فيهرب منه إلى الخلاء: (ص 138):

“رآها وهى تغيب فى المجهول، وتتلاشى”.

 ولكن هل الموت هو مجهول بهذه  الصورة، أم أنه مازال اليقين الذى مابعده يقين؟ فيكرر(الصفحة نفسها):

 “إنه لا يخشى الموت ولكن يخشى الضعف“.

ويكرر:

 “ما أبغض قفا الحياة!”([2])43

التمسك بالموت/الجمود خوفا من الموت/الولادة:

‏فى ديوانى “أغوار النفس” كان الفصل الأول بعنوان “سبع جنازات” حيث تجلت فى شعر عامى آليات الخوف من الإقدام، مع تنويعات الهروب، مما سنثبت بعضه متنا ثم نقرأه نقدا وشرحا، كالتالى:

 بداية الفصل في ديوانى “أغوار النفس” تعلن كيف أن مجرد إصدار أصوات هى ليست بالضرورة حياة، فالإنسان ليس حيوانا ناطقا بمعنى أنه يتكلم والسلام، لكنه الحيوان الذى يشارك بوعيه فى دورات موته وولادته،  فى المقدمة تنبيه أن بعض الأحياء ليسوا إلا نعوشا تصدر منها أصوات:

        مر‏ ‏الهَوَا‏ ‏صفَّرْ‏، ‏سِمْعِنَا‏ ‏الّصُوْت‏ ‏كإن‏ ‏النَّعْش‏ ‏بِيْطلّع‏ ‏كَلاَمْ‏:‏

‏لأ‏..، ‏لسّهْ‏..، ‏إسْكُتْ‏،.. ‏لَمْ‏ ‏حَصَلْ‏.‏ سيِمَا‏ .. ، ‏ياتَاكْسِى، .. ‏لسَّه‏ ‏كام‏ ‏؟‏”‏

أىّ ‏كلام‏.‏

ألفاظ‏ ‏زينَهْ‏، ‏مَسْكيَنه‏،‏

بتزقْزَقْ‏، ‏وتْصَوْصَوْ‏، .. ‏وِخَلاَصْ‏!!‏

ثم نعرض للجنازة الأولى التى تعلن الخوف من مخاطرة التغيير، بقدر ما تكشف ألعاب الحركة الزائفة، فهو الموت بإغلاق دائرة الحركة لتستمر حركة في المحل لا أكثر.

المتن: قصيدة: من ْ‏شطّى  ‏لْشطِّى:

 (1)44

الشط الثانى المِش باينْ

كل‏ ‏مااقَرّب‏ ‏لُهْ‏،  ‏يتـّاخِـرْ‏.‏

وِمراكبْ‏، ‏وقلوع‏، ‏وسفايــنْ‏،‏

والبحر‏ ‏الهــِوْ‏ ‏مالوش‏ ‏آخــــرْ‏.‏

‏(2)‏

لأ‏ ‏مِشْ‏ ‏لاعِبْ‏.‏

حاستنى ‏لمّا‏ ‏اعرف‏ ‏نفسى، ‏من‏ ‏جـوّه‏.‏

على ‏شرط‏ ‏ما‏ ‏شوفشِى ‏اللـِّى ‏جــوَّهْ‏.‏

واذَا‏ ‏شفته‏ ‏لقيتـُـه‏ ‏مِشْ‏ ‏هـُوٍّه‏،‏

‏    ‏لازِمْ‏ ‏يفضَلْ‏ ‏زىْ ‏ما‏ ‏هُوَّهْ‏.‏

(3)‏

أنــا‏ ‏ماشى ‏”‏سريع‏”‏ حوالين‏ ‏نفسى،‏

وباصبّح‏ ‏زىْ ‏ما‏ ‏بامَسِّى،‏

وان‏ ‏كان‏ ‏لازم‏ ‏إنى ‏أَعدّى: ‏

رَاحَ‏ ‏اعدّى ‏مِنْ‏ ‏شَطّىْ ‏لـشَطِّىْ، ‏

هوَّا‏ ‏دَا‏ ‏شَرْطى‏.‏

‏(4)‏

ولحد‏ ‏ما‏ ‏يِهْدَا ‏الموج‏،‏

واشترى ‏عوّامة‏ ‏واربطها‏ ‏على ‏سارى ‏الخوف‏،‏

ياللا‏ ‏نقول‏ “‏ليهْ‏”‏؟‏ ‏و‏”‏ازاىْ؟‏”‏

‏”‏كان‏ ‏إمتَى‏”‏؟‏ “‏يا‏ ‏سَلاْمْ‏”! “‏يْبقَى ‏انَا‏ ‏مَظْلومْ‏”.‏

‏ ‏شكر‏ ‏الله‏ ‏سعيك‏!!‏

حتم المخاطرة:

هذه الصورة توضح شكلا أكثر تحديدا من الحركة الزائفة، التى نلقاها  أثناء العلاج النفسى بشكل صريح، كما نلقاها فى الحياة العامة بطريقة أخفى، وسوف نعرضها هنا بتركيز نسبى باعتباره نموذجا مكثفا لتوقف لمسار النمو فى الموقف العلاجى. ربما لأنه تكبير مكثف لمسيرة الحياة فى تراجعها، وسكونها، وصعوبة انطلاقها.45

الجهل بخطوة النمو التالية هو الذى يجعل النمو الحقيقى مخاطرة فعلا. إذا صدقتْ المسيرة فمن طبيعتها ألا نعرف أبدا تفاصيل ما سيحدث ونحن ننتقل من مرحلة إلى مرحلة. إنْ أنت خطوت خطوة إلى ما تتصوره تطورا أو نموا، وأنت واثق مائة فى المائة من طبيعتها، ومآلها، وتفاصيل محتواها، فأنت واهم.  حتى يكون الإبحار إبحارا حقيقيا لا بد أن تُقلع دون أن تعرف مسبقا وبشكل محدد: أين ومتى تستقر على الشاطئ الآخر، كل ما عليك هو أن تحذق فن الإبحار والمهارات الضرورية المصاحبة، مثل العوم. قواعد النجاة التى تقولها المضيفة الجوية، التى لا يسمعها أحد، هى أقصى ما يمكن أن تتسلح به فى مخاطرة الإقلاع من مرحلة نمو إلى أخرى. الإنسان الحى (الذى يقبل المخاطرة بالحياة) يشعر أن الحركة ليست قاصرة عليه، بل هى واردة أيضا فيما يتعلق بهدفه “‏الشط‏ ‏التانى ‏الـْمِشْ‏ ‏بايِــــنْ‏:‏ كل‏ ‏مااقَرّب‏ ‏لُهْ‏،  ‏يتّـاخِـرْ‏”. هذا فضلا عن مفاجآت المُبحرين الآخرين حوله فى غموض صاخب، كذلك فضلا عن النهاية المفتوحة “‏وِمراكبْ‏، ‏وقلوع‏، ‏وسفايــنْ‏،‏ والبحر‏ ‏الهــِوْ‏ ‏مالوش‏ ‏آخــــرْ‏.‏”

المسار الدائرى المغلق:

حين يرعبنا الأهل من مخاطرة النمو، ثم يرعب كل منا نفسه من مخاطر المحاولة،  نتصور – ومعنا حق – حتم مراجعة كل شىء تقريبا قبل أن نفعلها، فيعدل أغلبنا عن الحركة، نتوقف. مسموح أن نتوقف مؤقتا حتى نتجمع أحسن، ونستعد أكثر، لكن هذا الاستعداد قد يستغرق العمر كله، فيتثبّت الموجود بشكل مزمن حتى يتحجر. المحاولة المتكررة المُعلنة نوايا وحماسا، ليست سوى تأجيل مزمن، أحيانا  يتصور البعض أنه لا بد أن يعرف “من هو” أولا قبل أن يقرر أن يفعلها، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلا من خلال معرفة معالم نفسه ظاهرا، وباطنا. هذه كلها إشاعات معطِّلة، لا أحد يمكن أن يعرف نفسه كما يرجو أو يتصور، طالما نحن ننام ونحلم، فسيظل أغلب جبل الجليد تحت سطح البحر، لكن ذلك لا يمنع التبخر والسحاب فالرِّى يغمر الدنيا بما يرويها من خلال حركية النمو المغامر. هذا الزعم “أعرف نفسى من جوه”، يصبح أكثر خداعا حين تكون تلك المعرفة هى أقرب إلى التغطية، بمعنى أنه فى كثير من الأحيان، نحن نعرف، أو نتصور أننا نعرف أنفسنا في حين أننا لا نعرف إلا الممكن الذى فى المتناول، والذى هو ليس بالضرورة حقيقة الداخل، أو حقيقة “الكل”، وفى النهاية ربما تكون النتيجة هى العدول الصريح عن العلاج والكشف: “لأ‏ ‏مِشْ‏ ‏لاعِبْ‏”، إلى أجل غير مسمى.

“حاستنى ‏لمّا‏ ‏اعرف‏ ‏نفسى، ‏من‏ ‏جـوّه‏.‏

 على ‏شرط‏ ‏ما‏ ‏شوفشِى ‏اللـِّى ‏جــوَّهْ‏.‏”

إن كان الأمر كذلك “أننا نرى على شرط ألا نرى”، فماذا لو خابت الحسبة ورأى بعضنا حقيقته؟.

فى أحيانٍ كثيرة يكتفى الواحد منا “بالرؤية بديلا عن الحركة”. حين يصبح اكتشاف السبب هو لتثبيت الحاصل، وليس لتجاوزه،  والانطلاق منه، حينئذ لا يكون التغيير هو المطروح، وإنما التبرير، وكأن المحصلة فى النهاية هى لتأكيد الجمود، لا لتحريك الثابت

واذَا‏ ‏شفته‏ ‏لقيتـُـه‏ ‏مشْ‏ ‏هـُوٍّه‏،‏ ‏لازِمْ‏ ‏يفضَلْ‏ ‏زىْ ‏ما‏ ‏هُوَّهْ‏.”‏

إذا ما حدث مثل ذلك فالتقطه خبيرٌ فاهم محب، سواء كان معالجا أو طبيبا أو مربيا أو أيا من كان، فقد يبادر بتقديم العون بطمْأنة من يعيش كل هذا الخوف والتردد، لكن مثل هذه الطمأنة تبدو غير كافية، فتنشط حركة ما، لكنها فى واقع الحال حركة فى المحل، او بتصوير شائع: مثل الكلب الذى يحاول أن يعض ذيله

“أنــا‏ ‏ماشى، سريع‏، ‏ حوالين‏ ‏نفسى،‏

وباصبّح‏ ‏زَىْ ‏ما‏ ‏بامَسِّى،‏

وان‏ ‏كان‏ ‏لازم‏ ‏إنى ‏أَعدّى:

 ‏رَاحَ‏ ‏اعدّى ‏مِنْ‏ ‏شَطّىْ ‏لـشَطِّىْ،

‏هوَّا‏ ‏دَا‏ ‏شَرْطى‏”.‏

ما معنى ذلك؟ خاصة إذا علمنا أن هذا هو موقف أغلبنا فى نهاية النهاية ؟

هل نحن نفضل أن نخدع أنفسنا إلى هذه الدرجة؟ فأين يقع ذلك من كلامنا الذى لا ينقطع عن أننا نتغير على المستوى الفردى (ناهيك عن المستوى الجمعى)؟ لا بد من توضيح أننى ألجأ للمبالغة والتكبير حتى تتضح الصورة،  هى محاولة للتنبيه لوقف الخداع بزعم التغيير دون تغير. حتى لو قبلنا الحركة فى المحل، ووافقنا على مرحلة الدوران حول نفس المحور، فإن المطلب النهائى هو أن يكون ذلك تمهيدا لنقلة التغيير فى الوقت المناسب، الذى لا نعرفه تحديدا، ومن ثم حتم المخاطرة.

التأجيل المتكرر: تسكين دائم:

حين تصل مقاومة التغيير إلى أقصاها، يصبح التأجيل شديد الإلحاح، فيتقدم مبدأ “السلامة أولا” على  كل الاعتبارات، ويتكرر التاكيد على أن ما ولدنا عليه واعتقدناه هو الأسلم، “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”، برغم ظاهر أننا ضدهم.

إن المبالغة فى ضرورة الحصول على ضمانات مسبقة حتى أسمح لنفسى بالتغير هى ضد التغير مهما كانت تبدو  نوعا من الحرص لتجنب المخاطر، وهى تؤدى إلى إجهاض المحاولة دون إمكان الرجوع حتى إلى شط الإقلاع، أو ربما: إلى أسوأ منه.

لا أحد يعترف أنه توقف عن المحاولة، أو أنه استسلم بإرادته، وبالتالى فإن أيا منا يملأ الدنيا  بخداع الكلام التبريرى، منتهيا إلى أن ينعى حظه، ويضع اللوم على الناس والظروف. وهات يا نعابة نكررها  طول الوقت بلا معنى، ولا جدوى،  ولا طائل.

“ولحد ما يهدى الموج، واشترى ‏عوّامة‏ ‏واربطها‏ ‏على ‏سارى ‏الخوف‏،‏

ياللا‏ ‏نقول‏ “‏ليهْ‏”‏؟‏ ‏و‏”‏ازاىْ؟‏”‏ “‏كان‏ ‏إمتَى‏”‏؟‏ “‏يا‏ ‏سَلاْمْ‏”!

“‏يْبقَى ‏انَا‏ ‏مَظْلومْ‏”.‏

‏شكر‏ ‏الله‏ ‏سعيك‏!!‏

[1] – قدمت الدراسة الأصلية فى صورتها الأولى فى المؤتمر العربى الرابع للطب النفسى صنعاء ديسمبر 1989.

 – ثم فى صورتها المعدلة فى الندوة الدولية لأعمال نجيب محفوظ. كلية الآداب. جامعة القاهرة. مارس 1990.

– ثم نشرت فى مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990

[2] – أكتفى بهذا القدر، ولمن يريد ان يرجع إلى الدراسة الموجزة: “حركية الموت ضد الخلود العدم “فى ملحمة الحرافيش” فى مجلة الهلال نوفمبر 2005، أما الدراسة المطولة: “دورات الحياة وضلال الخلود” فى ملحمة الحرافيش: “نجيب محفوظ”- مجلة فصول – العدد الأول والثانى – 1990) وأيضا كتابى “قراءات فى نجيب محفوظ” الطبعة الأولى (1992) الهيئة العامة للكتاب، والطبعة الثانية (2005) مكتبة الأسرة، والطبعة الثالثة (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.

الفصل الثامن القتل بالإهانة

الفصل الثامن القتل بالإهانة

46

لا أظن أن أحدا منا لا يعرف “الكرامة”، مهما اختلفنا فى تحديد معناها، إنك إذا نطقت لفظ كرامة انبرى معظم الناس للزعم بأنه: “كله إلا الكرامة”، الإنسان لا يكون إنسانا بدونها، ومع ذلك فالأمر ليس بهذه البساطة.

 حين بلغ الإنسان بعد رحلة تطور طويلة صعبة ما يعلن بزوغ الحياة البشرية، تم ذلك بإعلان أن الكائن الحى اكتسب الوعى بالوعى، بالذات، فأتيحت له فرصة الوعى بوجوده المتفرد، وحقه فيه، وأيضا بوجود آخرمثله، من نفس نوعه، ومن ثم “الكرامة”، “ولقد كرمنا بنى آدم”.

 تنشأ ما هى كرامة حين يكون لك كيان حقيقى نامٍ فى مواجهة كيان بشرى مثله، وبقدر ما تعى الاثنين معا، تكتشف أن كرامتك مرهونة بكرامته، العلاقة بين الكرامة والاحترام والعدل علاقة وثيقة،

 الذى يمتهن كرامة الآخر، يتنازل عن كرامته (إنسانيته/وجوده) فى نفس اللحظة.  مع “حالة اليوم” (النص البشرى) نرى كيف تتماهى الكرامة مع “الوجود”، فإذا انجرحت الأولى اهتز الكيان الإنسانى برمته  حتى التفسخ. يستعيد الإنسان المجروحة كرامته، نفسه، حقه فى الوجود، من خلال إعادة تشكيل ذاته فى محيط من شوفان آخر، واحترام آخر، وعدل آخر، وليس بمجرد التفريغ كما يبدو من الدراما العلاجية لأول وهلة، هيا نرى:47

القتل بالإهانة:

المتن: النص البشرى

هو رجل فى الثانية والثلاثين من عمره، من الصعيد، حاصل على بكالوريوس سياحة وفنادق، أعزب، يعمل مدرسا بعقد، توقف عن العمل مؤخرا، جاء مع أخيه (27 سنة مدرس لغة عربية) كانت شكواه تلقائيا:

 “..انا مضّايق شويه، التعب زاد عندى بقاله سنه، قبل كده كنت تعبان من ساعة ما ضربونى فى القسم ورحلونى على بلدنا من حوالى 7 سنين. غيرت كذا شغلانه عشان مفيش شغلانه مناسبانى ،…. الناس فى الشارع بتبص لى بصّـه غريبة….، وممكن يتوشوشوا علىّ، كنت باسمع صوت راجل من غير ما شوفه يقول لى كلام غريب مش بافهمه، يكلمنى عن ست بتوشوش…48

نلاحظ هنا أمرين: الأول أنه ذكر حادث الضرب فى القسم بشكل عابر هادئ، مختصر: أربعة ألفاظ وحرفىْ جر: “ضربونى فى القسم، ورحلونى على بلدنا”..،  نقارن ذلك بحكى أخيه الأصغر (المرافق) كالتالى:

حمدى (ليس اسمه الحقيقى)  تعبان من حوالى سبع سنين، فى الجيش حصلت له مشاكل وضربوه وحبسوه مش عارفين ليه، … .. يقعد زى النايم، تندهله ميردش عليك ،…، ولا حتى يكلم حد من زمايله، حتى كلامه فى البيت …، يدوبك يرد على أد السؤال.

“..بدا  تعبه لما كان قاعد مع عمال التراحيل مستنى شغل، البوليس أخده تحرى والضباط هناك ضربوه وبهدلوه جامد واترحل على بلدنا، والحكاية دى تعبته جامد وفضلت مؤثرة فيه لغاية دلوقت، بقى يقعد قعدَةْ واحده كذا ساعة مايتحركش وجسمه يبقى مخشب، قعد أربع شهور بحالهم مايتكلمش ولا كلمة، منهم 4 أيام كان نايم فيهم على طول يادوبك يصحى يخش الحمام ويرجع ينام تانى، ولا ياكل ولا يشرب ،… خَدْ علاج لكن ما تْحسنش إلا لما خد جلسات كهربا،  …. ميدوّرش على شغل ولا يسأل على مستقبله ولا يفكر فى جواز ولا حاجة، كلامه ماعدش فيه هزار ولا ضحك زى زمان، ماينزلش يروح لحد من قرايبنا ولا يتفسح ولا يتكلم معانا فى أمور البيت، بعد سنه رجع تانى للسكات، واتحسن بالجلسات، والحكاية دى كانت ترد عليه مرتين ثلاثة كل سنة، أحيانا يقولنّا إنه بيسمع أصوات تكلمه فى ودانه، فى الفترة الأخيرة بقى ياخذ العلاج، لكن مش بانتظام.

هذه الشكوى من الأخ أوضحت:

(1) لم يحكى حمدى تفاصيل الإهانات فى الجيش

 (2) حكى الأخ عن إهانة قسم البوليس أكثر كثيرا مما ذكر المريض

 (3) أعراض المرض تراوحت بين الانسحاب، والاكتئاب حتى التجمد، والهلوسة السمعية وإرهاصات التفسخ

(4)  مسار المرض “متفتر”: أى يتحسن، جزئيا، بعلاجات متنوعة، ثم يسوء.

أم حمدى كانت تصاب أحيانا بنوبات اكتئاب، تزول بالعلاج، حتى انقطعت وشفيت،

 الوالد “بنّــا”، رجل  طيب، اجتماعى، راع لأسرته، متدين، ويشرب البيرة أحيانا مع أصدقائه، توفى من عشر سنوات وعمره 55 عاما،

 الأم – برغم مرضها أو بسببه – حنون مطيعة قريبة مِنْ أولادها.

 لحمدى أخوان: أخ أكبر، وأخ أصغر (المرافق) وأخت، والجميع تعلموا وحصلوا على دبلومات أو بكالوريوس، والعلاقة بينهم  طيبة.

  التاريخ الدراسى للمريض يشير إلى تفوق فى الابتدائى والإعدادى، ثم هبوط مفاجئ فى الثانوية العامة (54%) ، ثم معهد أربع سنوات، وبكالوريوس معهد،

 أما عن الشخصية قبل المرض فقد كان انطوائيا، خجولا، بلا علاقات تقريبا،

 “كان يفضل فى الفسحة قاعد لوحده فى الفصل ماينزلش يلعب مع زمايله”

عمل فى  أعمال متعددة، فى تخصصه، وغير تخصصه، أعمال يدوية (مثل السباكه..)، يعمل الآن “مدرسا” بعقد مؤقت،  يصف أخوه عمله الحالى: “يخش المدرسة مايسألش على حد ولا حتى على الناظر، يقعد فى الفصل مايتكلمش خالص لغاية ما خلوه يقعد فى حصص الالعاب، يفضل قاعد على الكرسى مايعملش حاجة، كان يروح المدرسة مايمضيش حتى.”

ولم يمكن أخذ معلومات كافية عن التاريخ الجنسى، والعاطفى لا من حمدى، ولا من المرافق (الأخ)، وقد أظهر فحص الحالة الراهنة تماسك قواه المعرفية (التفكير- الذاكرة..إلخ)، وغلبة الاكتئاب على مزاجه، بالإضافة إلى الهلاوس (السمعية)، واحتفاظه بدرجة من البصيرة .

مقتطفات من النص البشرى (المقابلة):

الطبيب

د. يحيى (لحمدى المريض): …الدكتور هشام (مقدم الحالة)  حكى لنا الحكاية من سبع سنين: الجيش وظروف العمل والوالد والعائلة، بس فيه معلومات مش كافية، تحب إنك تضيف حاجه؟ ….، توضح أى حاجه؟

حمدى: زى إيه مثلا؟

د. يحيى: أى حاجة، أى شىء تتصور إنه يفيدك ويفيدنا، مثلا …. تاريخك العاطفى، الدكتور كتب فيه 3 سطور، حادث الإهانة سطرين.  ينفع كده؟  تحب تضيف حاجة؟

–   ……

د. يحيى: ……49

حمدى: الحادثة تركت أثر فى نفسى، يعنى الزعل

د. يحيى: الزعل بس؟ دى الحكاية وصلت  لدرجة كبيرة قوى:  لخبطة شديدة أو فركشة

حمدى: صحيح

د. يحيى: هوا إيه الفرق بين اللخبطة، والفركشة؟

حمدى: لخبطة الواحد يعمل حاجات مفروض ما تتعملش،  الفركشة ما فيش نظام أو فهم.

د. يحيى: ياه !!  بصراحة صح، دى ما كانتشى واضحة عندى قوى كده، ممكن تحكى اللى حصل بالتفصيل؟

………

حمدى:  من أول ما أخذونى فى البوكس بدون سبب ؟

د. يحيى: أيوه: إنت كنت قاعد  مع العمال بتوع التراحيل، كنت قاعد فين؟

حمدى: قاعدين فى السجن

د. يحيى: قبل ما ياخذوك السجن، كنت قاعد مستنى الشغل فين؟

حمدى: فى المعادى

د. يحيى: فين

حمدى: ميدان العرب

……

…….

د. يحيى: إنت مدرس، إيه اللى وداك مع عمال التراحيل؟

حمدى: قبل ما ابقى مدرس، …أكل عيش.

د. يحيى: مرتبك كام

حمدى: باخد 120 جنيها

……..

د. يحيى: نحكى عن الحادثة يوم ما كنتم جالسين فى عرب المعادى كنتم كام واحد؟50

حمدى: كثير

د. يحيى: كان إمتى ؟ الصبح؟ الظهر؟  بالليل؟

حمدى: كان داخل علينا الليل

د. يحيى: معقول؟  حد يروح  بالليل يستنى شغل، كلهم بيروحوا  قبل الشمس

حمدى: إنت عارف إن مافيش شغل،  باضطر أجلس لحد بالليل

…..

د. يحيى: حصل إيه؟

حمدى: فجأه وقف البوكس عندنا ونزل منه واحد، وقال لى تعالى إركب

د. يحيى: كان فيه كام واحد فى البوكس مالأول؟

حمدى: حوالى عشرة

د. يحيى: وإنتم كنتم كام؟

حمدى: حوالى اثنين، ….، فيه ناس جريت.

د. يحيى: حصل إيه بقى؟

حمدى: اللى حصل إننا دخلنا السجن، لكن قبل ما ادخل حاولت انى أستفسر من الظابط  عن إنى   متاخد ليه، هوه سافل شوية

د. يحيى: كان معاك بطاقة؟

حمدى: أيوه ، معايا كل الأوراق.

د. يحيى: عرفت إنه سافل إزاى؟

حمدى: كان حايمد إيده ، قلتله تهمتى إيه؟  ما عمِلتشْ حاجة.

د. يحيى: رده كان إيه؟

حمدى: مد إيده، فحُـشتها

د. يحيى: بعدها  حصل إيه؟

حمدى: دخلنى السجن،  كان فيه حاجات مش كويسة.

د. يحيى:  قال لهم وضبوه إضربوه ؟

حمدى: سفله شتيمه وإيدين، إللى حصل جوه السجن صعب، كانت  الناس تتبول مكانهم،  لحد  ما رحلونى ما وضّحليش ليه ، وبعد كده جاب عربية كبيرة51 ورحنا قسم الخليفة

د. يحيى: إنت حكيت الثلات أيام كإنهم ثلات دقائق

…….

د. يحيى: معلهش حاسألك سؤال، وتجاوب عليه زى ماتيجى

حمدى: سؤال إيه ده ؟

د. يحيى: إنت اتكسرت إمتى؟  مع رَفعة الظابط إيده؟ ولا  مع دخولك مع الناس دول؟  ولا مع الترحيل؟

حمدى: إتكسرت إزاى يعنى ؟

د. يحيى: يعنى اتكسرت.

حمدى: مش فاهم

د. يحيى: ما تقعدشى تفسر، إنت اتكسرت إمتى؟ هىّ كده بس!!

حمدى: لحظة ما رفع إيده.

د. يحيى: هو يعنى إيه اتكسرت؟

حمدى: يعنى كرامتى تتجرح

د. يحيى: هو ده قصدى،…!  كتر خيرك، إنت وصلت للى عايزينه من غير حااشرحه لك

………..

……….

د. يحيى:

 لو قابلت الظابط ده  دلوقتى، تعمل إيه ؟

حمدى: دلوقتى؟

د. يحيى: أيوه دلوقتى حالاً لو قابلته بعيد عن القسم، هاتعمل إيه؟

حمدى: إللى هوه مد إيده؟

د. يحيى: …. آه. تحب تمثل إنك قابلته وتشوف هاتقولّـه ايه ؟ تصور إنه الدكتور “هـ “.

حمدى: دكهه كان لابس ميرى52

د. يحيى: ضباط المباحث بيلبسوا ملكى يا حمدى.

حمدى: أيوه.

د. يحيى: إفرض الظابط اتنقل للمباحث ولبس ملكى وعرفته، واستفردت بيه “…..” بنمثل يعنى.

حمدى (يبدأ فى التمثيل مباشرة ويوجه الكلام للدكتور”هـ” باعتباره الضابط،): “أنا حضرتك،  أنا موجود هنا ليه؟”

د. يحيى: لا الكسرة حصلت، واللى كان كان، إحنا مش بنعيد اللى حصل:  إحنا عايزين نعرف هاتعمل إيه فيه لو قابلته بالصدفة دلوقتى حالا، والظروف سمحت تاخد حقك ؟

(مواصلة التمثيل):

حمدى: (للدكتور”هـ” باعتباره الضابط”):

– هوه أنت ؟؟؟!!!

د. “هـ”: أيوه أنا.

حمدى: عملت انا إيه؟

د. “هـ”: مجرم لقيتك فى الشارع

حمدى: هو أى حد بتاخده؟

د. “هـ”: أيوه.

حمدى: طب مش تشوف بطاقته؟

د. “هـ”: …  مجرم واقف فى الشارع مع ناس، وإيه اللى يوقفك فى نص الليل؟

حمدى: مافيش شغل .

د. “هـ”: مافيش شغل؟؟ تقف فى نصف الليل تدور على شغل؟!

حمدى: فيه شغل بالليل آه ،عاجبك ولا مش عجبك.

د. “هـ”: لأ مش عاجبنى.

حمدى: خلاص اتفلق.

د. يحيى: إحنا حا نعيد السبع سنين تانى مش هاينفع يا حمدى، إنت تألمت بما فيه الكفاية لازم تاخد حقك منه دلوقتى.

حمدى للدكتور”هـ”: يابن  الوسخة بتعمل فىّ كده ليه ؟

د. يحيى: شوف يا حمدى، هيه طلعت كلام وبس، عايزينها تطلع بِغـِـلّ، زى ما انت حاسسها..

حمدى للدكتور”هـ”: يا ابن الأحبه يا علق

د. “هـ”: إنت بتشتمنى انا؟

حمدى: ايوه، امال باشتم مين.

د. “هـ”: والله العظيم لعلـّمك الأدب

حمدى: تعلّم مين؟

(ثم رفع حمدى الكرسى وحاول أن يضرب بيه الظابط (الدكتور”هـ”)

د. “هـ”: إنت رافع الكرسى؟ أنا  حاوديك فى داهيه انت وأهلك

حمدى: دا أنا اللى هاوديك فى داهيه.

د. “هـ”: إنت عارف إنت بتضرب مين

حمدى: باضربك انت

……..

د. “هـ”: هاحبسك وأوديك فى داهيه

حمدى: لا ، قبل كده دا انا اللى هاوديك فى داهيه،، أقتلك.

( …بعد ذلك عبر حمدى عن مزيد من التحدى وواصل محاولة الهجوم)………

(توقفت التمثيلة عند هذا الحد)

د. يحيى:  يا حمدى يابنى متهيألى إن الحادثة اللى من سبع  سنين …. موجودة زى ما هى

حمدى: آه …،  لأ..،  بس بمرور الوقت، وكده ممكن الواحد… (صمت)

“=”:…!!!

حمدى: سايبَهْ أثر يعنى؟

د. يحيى: مش سايبه.  دى هىّ هىّ، كإن ما مرش ولا ثانية

حمدى: بس،  بعد كده….

د. يحيى: (مقاطعا) بس إيه؟  …

حمدى: همّا كده

د. يحيى: نعم؟ نعم؟

حمدى: هما الشرطة كده.

د. يحيى: احنا فيه حمدى وفيه الواد الظابط ده، ما هو الضابط  بتاع البساتين إللى رجعك بلدكو طلع ابن حلال مصفّى، مش كده؟،…..، حانعمل إيه فى النصيبة المحددة دى دلوقتى؟

حمدى: أحسن حاجة: ماِنفْتِكِرْهاَش.

د. يحيى: يا نهار اسود!!  إزاى؟ إذا  كانت موجودة بحجمها؟

حمدى: خلاص نفتكرها بأسلوب تانى؟

د. يحيى: إزاى؟

حمدى: إزاى!!!؟  نقول إنه ماكانش قاصده مثلا

د. يحيى: يا خبر إسود ومنيل، هوّا ده اللى انت قلت عليه ابن الأحبه، وابن الوسخة، وعلق، وكنت حاتقتله يبقى: ما كانشى قصده، إنت شايف إنت بتظلم نفسك ازاى؟

حمدى: هانعمل إيه يعنى؟ “…..” همّه كده.

د. يحيى: نقوم نقول ماكانش قاصده !! أنا مش عايز اقلّب عليك المواجع، لكن كسرة الكرامة ترتب عليها مصايب كثيرة،……،  إنت كنت بتسمع صوت ست بتوشوشك مش كده؟ إيه علاقة جرح الكرامة،  بالست اللى بتوشوشك ؟عايزين نربط بين “اللخطبة” و”الفركشة” و”الكسرة”، والست دى؟ ..مش يمكن الأصوات دى من جوه؟

حمدى: يعنى لو قالوا ست، تبقى بتطلع من جوانا …

د. يحيى: مين اللى قالوا؟

حمدى: مش مصدق

د. يحيى: إيش عرّفك؟

حمدى: ست بتطلع؟!!

د. يحيى: يعنى،….، طيب بتوشوشك بتقولك إيه؟

حمدى: هما اللى بيقولوا

………..

د. يحيى: إنتَ سمعت إمتى الأصوات دى؟ بالليل ولا بالنهار، ولا إمتى؟

حمدى: بالليل

د. يحيى: إزاى

حمدى: سمعت طشاش

د. يحيى: عايزين نفسرها الأصوات دى،  ونربطها بالجرح والكرامة والإهانة،  ولاّ إيه؟

حمدى: هوه كل ده مترتب على بعضه؟؟

د. يحيى:  أنا بافترض كده يعنى

حمدى: الواحد تفكيره ملخبط شوية”…”  نشوف حل تانى

د. يحيى: هو مش كان فيه  معاملة فى الجيش برضه فيها إهانة؟

حمدى: أيوه

د. يحيى:زى إيه؟

حمدى: دخولى السجن53

د. يحيى: حصل إيه؟

حمدى:  كنت واخد أجازة  8 أيام، إتاخرت ساعة ونصف

د. يحيى: حصل إيه”…..”  إهانة برضه؟

حمدى: إهانة طبعا

د. يحيى: عبارة عن إيه

حمدى: تنظيف المكان ……. إهانات كتير

د. يحيى:  إيه هىّ

حمدى: التكدير

د. يحيى: يعنى إيه؟

حمدى: تقعد بالشورت بس، ويجيب جردل الميّه ويرميه عليك، وحاجات من دى.

د. يحيى: هوا  اللى حصل فى الجيش وبعدين القسم والحبس، له علاقة بسيبانك الشغل باستمرار

حمدى: علاقة؟ طبعا “!! واحد  طول حياته مستقيم وبيفكر، وكويس وحافظ كرامته،  وتيجى حاجة زى كده، بتأثر طبعا

د. يحيى: لدرجة اللى حصل؟؟  ؟؟

حمدى: ماعرفشى.

………..

د. يحيى: هوه مين الى بيحبك، يا حمدى؟

حمدى: فى الأسرة يعنى؟

د. يحيى: …. آه ، وغير الأسرة بس حب بحق وحقيقى؟

(جرى بعد ذلك  كلام عن العلاقة العلاجية، وأن الضمان هو  أن تكون هذه العلاقة تحت مظلة رحمة من قادرٍ حاضر طول الوقت، الله سبحانه، لضمان استمرار العلاقة، علاقة تفيد أكثر من الكتاب الذى كان المريض ممسكا به ويقول إنه يقرأ فيه وعنوانه “علامات القيامة الصغرى”..إلخ)

د. يحيى: …. أنا علشان أكمل معاك لى شروط واضحة

حمدى: موافق.

د. يحيى: العلاقة اللى بينا تبدأ  بالشغل، ما تسيبش شغله إلا لما تلاقى شغله غيرها، مفهوم؟ سبت الشغل يوم الثلاثاء تنزل شغل يوم الاربعاء، خليك ناصح، بتجيلك أصوات من قعدتك لوحدك فى الضلمة، بتطلع من جوه، نتفق إنك تشتغل حتى مع الأصوات وهى حاتخف، تختشى تطلع قدام الناس، وبالدوا، والاتصال ببعض، وشوية كلام من ده …..

حمدى (يضحك): هو أنا كده ومش واخد بالى؟  هوّا شوية قلق بسيط

د. يحيى: يا نهار اسود،  أنا قلت قلق بسيط، الله يخيبك، إنت عامل زى الدكاترة لما يحبوا يطمّنوا العيّانين بالعافية.

حمدى: ما قصدتش …

التعقيب العام:

أولا: نبدأ بالتحذير من الربط ربطا سببيا بسيطا بين هذه الإهانة وبين المرض، باعتبارها المسئول الأول والأخير عما أصاب حمدى. إن مثل هذا الاختزال هو أقرب إلى ما تقدمه أغلب  المسلسلات من تسطيح.

ثانيا: إن الاستهداف للتفاعل المرضى بهذه الصورة الجسيمة، نتيجة مثل هذا الجرح للكرامة، يكون مطروحا بشكل عنيف حين يستمد الشخص أغلب مقومات وجوده من خارجه، وليس بما امتلأ به من لبنات كينونته حتى وعى ذاته بما تستحق.

ثالثا:  حتى لو اتقفنا مع المريض “أن كلهم كده”، فإن تواتر الظلم، لا يبرر قبول هذا القبح الإنسانى، ولا التهوين من خطورته.

رابعا: إنه ليس ضروريا أن يتناسب التفاعل المرضى، أو الألم الحادث، مع شدة الجرح تناسبا طرديا بسيطا، من هنا نؤكد على أن نوع استقبال المجروح هو مهم جدا أيضا، وهذا يتوقف ضمنا على تكرار الإهانات السابقة، ظاهرا أو باطنا، و تراكمها حتى دون وعى.

 خامسا: إن الجرح أمام آخرين،، هو أخطر كثيرا من الجرح  على انفراد.

سادسا: لا ينبغى التصفيق أكثر من اللازم لما حدث فى المقابلة الإكلينكية العلاجية، ذلك أن مجرد التفريغ (التذكر والسيكودراما..إلخ) ليس هو الحل النهائي!!.

سابعا: حتى على فرض أن المُهان أتيحت له فرصة انتقام حقيقية،  فإن جرح الكرامة الذى يصل إلى جرح الوجود حتى التفسخ هكذا، لا يصلحه إلا بناء إنسان من جديد، وبتخطيط علاجِىِّ مسئول.

ثامنا: إن الارتباط الواضح بين الفقر (حامل بكالوريوس يجلس بين عمال التراحيل)، والقهر والطوارئ (سلطة البوليس الغشوم) ثم المرض (الحالي)، هو ارتباط هام وله دلالته القصوى، ومع ذلك لا ينبغي أن نبالغ في قيمة هذا الربط لكن هذا لا يعفينا من أن نبحث فى أعماق أبعاد المسألة المتشابكة المداخل.

 تاسعا: إن التشخيص الخطير الذى يصنف الحالة (لا داعى لذكره، لأن الاسم لا يقدم ولا يؤخر)، لم يمنع التواصل العلاجى كما لاحظنا، وكان منطق المريض وبصيرته من أكثر ما ساعد على إرساء العلاقة العلاجية التى تبينت معالمها فى هذه المقابلة ثم استمرت حتى أثمرت بفضل انتظامه، وامتثاله للعمل والعقاقير والتعليمات، وتدرج استعادته القدرة على عمل علاقات.

الفصل التاسع مسيو إبراهيم وظهور الإخوان

الفصل التاسع مسيو إبراهيم وظهور الإخوان

مقدمة عن الدين والإبداع والإيمان:

..كنت أشارك  فى ندوة “المنتدى” فى قناة النيل الثقافية يوم الثلاثاء الموافق 13 ديسمبر 2005 عن “صورة رجل الدين فى الفن والأدب”، وكان ثم مشاركان فاضلان يمثلان الفكر الدينى، ومشاركا يمثل المسرح حضر متأخرا، تمنيت أن يكون معنا ثلاثة من الإخوان أعرفهم، دون تسمية، واحد خائف جدا من أن يفكر لنفسه، وواحد مبدع فعلا يحترم نعمة وعيه فسعيه  إلى ربه، وواحد طيب ليس عنده فكرة، لكنه مستعد لأمر ما، وتصورت كيف كان يمكن أن تكون مشاركتهم.

 عجزتً عن أن أوصل وجهة نظرى، للمشاركيْن الفعلين الأستاذين فى كليات وتخصصات دينيية. اختلفت معهما مائة وثمانين درجة حين رحت أؤكد أن الإبداع لا ينبغى أن يقاس من خارجه، الإبداع لا يقاس إلا بأدوات نقد الإبداع،  وأنه لا يوجد فى الإسلام من له حق تسمية نفسه أو تسمية السلطة له أنه: “رجل الدين”، وأن ثم فرقاً جوهرياً بين من يسمى رجل الدين، وبين الدين، وبين هذا وذاك وبين “الإيمان”، جاءت معظم المداخلات الهاتفية فى اتجاه تأييد آرائهما دون رأيى، حتى المكالمة التى جاءتنا من الدكتور فلان من ميتشجان، كانت تشتم فى مدرسة المشاغبين، وتعترض على آرائى فيها كما طرحتها عفوا في الندوة خرجتُ من الندوة أتساءل: ماذا جرى لفطرة ناسنا  ووعيهم حتى من سافر منهم إلى هناك؟

التصريحات والنية الحسنة

… أتابع معظم تصريحات بعض الأذكياء الطيبين من بعض الإخوان حول موقفهم من الإبداع خاصة، كما بلغنى من موجز زيارة د. عبد المنعم  أبو الفتوح لنجيب محفوظ فى مركب “فرح بوت” يوم الثلاثاء الماضى، ومدى الحضور والإيجابية اللذان أبداهما، كذلك قرأت عن سماح الإخوان بنشر أولاد حارتنا، ولم أكذبهم، لكننى أعرف أنه مهما بلغت النوايا الحسنة، فإن تحقيقها ليس فى أيدى من يصرحون بها مهما صدقوا إلا إذا غلب المبدعون الشجعان فيهم حدا يخترقون به كل سلطة تحول بين الإنسان وربه وحريته وإبداعه لإطلاق فطرته توجها إليه كدحا ليلاقيه. كررت مرارا اعتراضى على الحل الاستبعادى بادعاء أن الدين لله والوطن للجميع، حيث أعيش فى موقف من الحياة يعلننى طول الوقت: أن الأمر كله لله، الدين والوطن والجميع هم لله . بيتهوفن حين سئل عن  سيمفونية لم تصل إلى معظم من سمعها، أجاب أن هذا لا يهمه، لانه أبدعها لصاحبها: لله، ومع ذلك فأنا أخشى حكم الإخوان – مثل غيرى- لكن لأسباب أخرى، خوفى كله يتركز حول مساحة وحركية الإبداع، فهما الطريق إليه سبحانه، ثم إنى أخاف عليهم مثلما أخاف علينا، أخاف عليهم من أنفسهم وهم يتصورون أنه تكفى حسن النية وصدق التصريحات  لرفع سقف الإبداع إلى ما لا يعيق.

 …..

 حين كنت عضوا شابا فى الإخوان فى أواخر الأربعينات حول سن الثامنة عشر، جاء والدى مدرس العربى بصديقه مدرس العربى والدين ينبهانى ألا أتمادى، ورحت مفوها أسألهم بكل شجاعة: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ ثم تلوت عليهما – كما علمونا فى الإخوان-  آيات ومن لم يحكم بما أنزل الله الواحدة تلو الأخرى، وبعد حوالى نصف قرن، خطر لى وأنا  أقرأ نفس الآيات الكريمة أن الله أنزل كل شىء (كما أن له كل شىء: الدين والوطن والجميع). الله سبحانه أنزل الفطرة بقوانينها التى نجتهد  بكل الوسائل المتاحة للتعرف عليها، فيكون الحكم بما أنزل الله  هو تفعيل هذه الفطرة البشرية “بما هى” “لما هى”، وهذا وذاك أمر لا يتعلق بالمعاجم، ولا بالرو54ايات المنقولة، ولا بالتفاسير الجاهزة، وإنما بالمعرفة المتجددة الممتدة، وبالإبداع المغامر المسؤول (الجهاد الأكبر)

مسيو إبراهيم وزهور القرآن

منذ سمعت عن فيلم “مسيو إبراهيم وزهور القرآن”، وأنا فى شوق إلى رؤيته لأصالح عمر الشريف الذى أحبه وأحترمه، مع أننى كنت آخذا على خاطرى منه حين طلق فاتن حمامة، بل وقد خاصمته لفترة ليست قصيرة حين شاهدت له فيلما تليفزيونيا بالصدفة فى باريس سنة 1969 ْ، كان يقوم فيه بدور لص ظريف،  طالبا يدرس فى الأزهر، وقد بلغنى من الفيلم على حد لغتى الفرنسية الضعيفة جدا، أنه أهان الأزهر والإسلام بشكل ما ، لكننى صالحته أخيرا ليس 55فقط بسبب تمثيله زهور القرآن، ولا بسبب تصريحاته الأمينة المتواضعة فى معرض السينما الأخيرُ عن المرحوم  أحمد زكى، صالحته والسلام.

الرواية: تاليف إريك إيمانويل شميث

ترجمة: محمد سلماوى، (58 صفحة من القطع الصغير).

الرواية القصيرة، أو القصة القصيرة (وقد طالت قليلا)، تأليف إيمانويل شميت وترجمة محمد سلماوى) تحكى عن بقال مسلم فرنسى من أصل أناضولى يعيش فى باريس، ماتت زوجته من سنوات (هذا ما علمناه قرب النهاية)، يصادق صبيا يهوديا فرنسيا منذ كان فى الثانية عشر، فيتعرف الصبى من خلال 56لقاءاتهما، وحواراتهما، على إيمان وتصوف عم إبراهيم (هكذا أسميه، وليس مسيو إبراهيم) يرد عم إبراهيم على أسئلة “(موييس/مومو/محمد)، فيما يتعلق بما يدهشة من هدوئه، وسلوكه، ورضاه، ويقينه، يرد عليه بأنه “يعرف ما فى قرآنه”، التعبير كان دقيقا، وقد أرسلت لأحصل على النسخة بالفرسية لاتأكد من أصله، (وهو غير التعبير الذى جاء فى مقدمة المترجم القدير، محمد سلماوى حين ذكر ذلك باعتباره:”..الإيمان بما ورد فى القرآن”.) ثم  يهرب والد الصبى متخليا عن ابنه بعد أن انفصل عن أمه سنين عددا، ثم يتمادى فى الهرب بانتحاره، فيقوم عم ابراهيم بتبنى الصبى، بناء عن طلبه، ويقومان برحلة معا، يتعرف إبراهيم قبلها وأثناءها عن معنى التصوف، فكرا وفعلا ورقصا وتواصلا معا فى توجه شامل إلى وجه المطلق والحقيقة والحق تعالى. ولا يفوت المؤلف، أن يعرض لنا كيف كان عم إبراهيم يتعاطى الكحول، وأحيانا يعطى بعض النقود للصبى ليزور الغانيات، كل ذلك فى جو من السماح والحوار ومحاولة الصدق والبحث عن الحقيقى والحقيقة .

لن نعيد المقتطفات التى أوردناها من قبل، فهى دالة فى ذاتها لمن قرأها، والأفضل أن تقرأ فى سياقها: الرواية، مثل كل إبداع عميق، وجاد، ومحرك، تتعرض لقضايا خطيرة، يمكن أن تثير إشكالات نقدية متعددة، كما يمكن أن تستثير اعتراضات دينية قهرية بلا حصر. وبالتالى فإن أيا من هذه القضايا يمكن أن يتناولها أصحاب الشأن، أو أولوا الأمر، بطرق مختلفة، ومنها:

1- ارتباط فكر التصوف بنظرية التطور، وامتداد الأصل حتى النبات، واحتمال تذكر ذلك.57

2- الحلال والحرام، وهل تصوف مسيو إبراهيم يسمح له بتناول الكحول؟ وهل فى هذا سماح ضمنى لقارئ شاب، ومن ثم التشجيع على فساده!!؟؟

3- الإشارة إلى اختلاف قراءة القرآن عن حضوره فعلا ماثلا (مع تذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه: خلقه القرآن)

4- تقييم تعبير:”أعرف ما فى قرآنى”، والفرق بينه وبين ما جاء فى مقدمة المترجم “الإيمان بما جاء فى القرآن”.

5- دور حركية الجسد فى تحريك الوعى، فالمعرفة من أول جلسة عم إبراهيم ساكنا كنبات حى، حتى رقصة التنورة، إلى أن يعلنها عم إبراهيم صريحة، وأن الكاحل يفكر أفضل.

“..ذكاؤك فى كاحلك، ولكاحلك طريقة عميقة فى التفكير”

6- كيفية عرض الموت وعلاقته مع ما سبق إيراده من فرض فى هذا العمل، حين قرأنا نقدا “بائعة أعوادالكبريت الصغيرة”، لهانز أندرسون،  باعتبار أن الموت هو وعى بينىّ، وعى بين الوعى الشخصى والوعى الكونى. ظهر ذلك فى قول مسيو إبراهيم :

– صه، لا تقلق، إنى لن أموت، بل سألحق بالاتساع اللانهائى.

المقتطفات :

 (1): (ص 18= ص 4 من المتن بعد المقدمة)

“..كان مسيو إبراهيم ملتصقا دائما بكرسيه الصغير مثل فرع النبات الذى يلصق بالساق المراد تطعيمها….”

ثم (ص 65 قبل النهاية بست صفحات) دار هذا الحديث بين مسيو إبراهيم ومومو (محمد/ موييس)

-إن هناك سلما وضع أمامنا حتى نهرب من أنفسنا يا مومو، الإنسان كان فى البداية معدنا، ثم نباتا، ثم حيوانا، والمرحلة الحيوانية هى ما لا يستطيع الإنسان أن ينساها، وكثيرا ما يميل إلى أن يعود إليه- ثم اصبح الإنسان بعد ذلك إنسانا حصل على نعمة المعرفة والرشد والإيمان،  أتتخيل (عم إبراهيم يخاطب الصبى) الرحلة التى قطعتَها أنت من التراب إلى اليوم؟….”

فيرد ميمو:

– إننى على أى حال لا أتذكر أيا من هذه الحالات، هل تتذكر أنت يا مسيو إبراهيم أنك كنت نباتا؟

–  معلوم  ماذا تظننى أفعل حين أبقى ساعات دون أن أتحرك فوق كرسى الصغير فى دكان البقالة”

(2): ثم (ص 33)

– من أين لك معرفة كل هذا يا مسيو إبراهيم

– أنا لا أعرف شيئا، أعرف فقط ما بقرآنى

(3): (ص 43)

 (مسيو إبراهيم، الحديث عن والد الطفل)

– أو ليس غاضبا من أنك تقرأ القرآن

– إنى اختبئ على كل حال، ثم إننى لم أفهم منه شيئا

– حين تريد أن نتعلم فليس علينا بكتاب، وإنما علينا أن نتحدث إلى إنسان، أنا لا أومن بالكتب

(4)  (ص 66) (فى موقف احتضار مسيو إبراهيم) قبيل نهاية الرواية

– لكننى خائف عليك يا مسيو إبراهيم

– أنا لست خائف يا مومو، إنى أعرف ما فى قرآنى

(وفى الصفحة التالية 68)

– صه، لا تقلق، إنى لن أموت، بل سألحق بالاتساع اللانهائى

 (5) (ص 16) (موييس فى سن 12 سنة، وهو يدعى أن عنده 16 سنة: فى بيت الغانيات)

– أعندك حقا 16 سنة؟

– طبعا، منذ صباح اليوم

– صعدنا سويا للطابق العلوى، لم أصدق، وكانت لى بالكامل، … وفى النهاية ربتت على شعرى برفق، أنا الآن رجل وتم تعميدى بين فخذى امرأة

(6) (ص 36)

– كنت أعتقد أن المسلمين لا يشربون الكحول

– نعم، لكننى صوفى

(7) نفس الصفحة58

“ومن محاولاتى المستميتة لفهم جميع كلمات هذا التعريف (تعريف الصوفية) اتضح فى النهاية أن مسيو إبراهيم بمشروبه الكحولى يؤمن بالله وفق العقيدة الإسلامية، ولكن بطريقة يبدو أنها تكاد تقترب من الخارجين على الدين”

(8) ( ص 21)

 (بعد أن مرت بريجيت باردو على دكان مسيو إبراهيم، ودار ما دار) 

“مسيو  إبراهيم تصور أنك فى قارب مع زوجتك وبريجيت باردو، ثم غرق القارب، ماذا كنت تفعل؟؟

– أراهنك أنه سيتضح أن زوجتى تعرف السباحة”

(ملحوظة: زوجته كانت ماتت من زمن)

(11)  (ص 67، 68)

كان مسيو عبد الله (صديق مسيو إبراهيم) مثل مسيو إبراهيم،….، كان كثيرا ما يتلوا أبياتا لجلال الدين الرومى:

الحى: إجعله يموت إنه جسدك

الميت: إجعله يحيا: إنه قلبك

الحاضر: خبئه إنه الحياة الدنيا

الغائب:إجعله يحضر، إنه الحياة الآخرة

وبعـد

كيف نقرأ هذه النصوص ابتداءً؟

 فى سياقها؟ أم منفصلة؟

ثم فى أى سياق نقدى نقرؤها؟

 سياق الإبداع أم سياق تفسير ثابت للنصوص والحلال والحرام بألفاظ جامدة أبدا؟

هل نقرأ الرواية ونحن نصفق لذكر القرآن الكريم هكذا (وهو لا يحتاج تصفيقنا)، باعتبار أنه السبب فى هداية الصبى، ونفرح أن مسيو إبراهيم تبنى الولد، فزاد المسلمون واحدا؟ (لم تقل الرواية صراحة ان موييس قد أشهر إسلامه) أم نقرأها لصالح التصوف الإبداع، أو لصالح الجسد التفكير، ونسترجع كنوزنا التى حرمنا أنفسنا منها فى حين نهل جارودى من ابن عربى فأسلم، كما استلهم شميت من جلال الدين الرومى، فأبدع؟

هل نستعبط ونقول إن ما ورد فى الرواية من خطايا وأوزار وتجاوزات كان تمهيدا لإعلان توبة نصوح، وندعو الله تعالى أن يتقبلها ويغفر للجميع؟

هل هذا نقد أم وعظ أم ماذا؟

القضية صعبة، والإبداع ، طريقنا إلى الله، مهدد فعلا،

والنقد إبداع لاحق.

والحق تعالى من وراء القصد، وهو سبحانه غالب على أمره،

ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الفصل العاشر الإيمان: أنقى صور الوجود البشرى

الفصل العاشر الإيمان: أنقى صور الوجود البشرى

التحدى الملقى على وعى البشر اليوم هو أن الإنسان أصبح مشاركا فعالا فى مسيرة تطوره، ليس بالضرورة مشاركا إيجابيا، الزمن أبدع الحياة – بفض59ل الله-، والإنسان بغروره يتصور أنه يقف على قمتها. هل هى الأمانة التى حملها الإنسان فكان ظـلوما جهولا؟ (ظلم نفسه جهلا بثقل الأمانة)؟ ليكن. من هذا المنطلق يصبح أخطر المجالات التى من طبيعتها أن تحرك مجاميع البشر فى اتجاه بذاته، والتى– للأسف- يديرها قلة مشبوهة من الناس دون الباقى، قلة  تمارس تأثيرها فى مجالين متداخلين مهما حاولنا الفصل بينهما: الدين والسياسة، ومن ورائهما قوى السيطرة إياها: المال والسلاح أغلب ما عدا ذلك من نشاطات بشرية هى وسائل يستعملها الذين يحركون مجاميع الناس فى هذا الاتجاه أو ذاك. العلم والمعلومات-مثلا- يتوقف أثرها على من يستعملها أو يحركها لصالح أوضد المسيرة البشرية (أشهر مثال: الطاقة الذرية). الحديث عن الدين والسياسة هو من أهم ما يجب تناوله ونحن نبحث فى الإنسان. إن  ما يسمى فوز الإخوان هو فى حقيقته إعلان حجم من نجحوا أن يذهبوا إلى صناديق الانتخاب ممن هم إخوان، أو ممن هم متعاطفون مع الإخوان، أو ممن هم آملون فى الإخوان، ما هو الدافع إلى مثل هذا التوجه، وأين يقع من لم يذهبوا، علما بأن النتائج لن تصيب الذين انتخبوا منا خاصة؟ هذا بعض ما نحاول الكشف عما تيسر منه الآن.

الذين يعبدون الله على حرف يتمحكون فى معلومة من هنا، أو رأى عابر جاء فى حوار فى رواية أو مسرحية هناك، فيهتفون أو يصرخون أن الله سبحانه موجود كما جاء فى قول فلان مثلا: (فى رواية “الأخوة كارامازف” لديستويفسكى)، والذين يعبدون الله على حرف أيضا، يلتقطون معلومة علمية جزئية محدودة، فيها شبهة تماس مع بعض ألفاظ آية كريمة، وهات يا تفسير الدين بالعلم، ، بما يشوه كلا من الدين والعلم معا، فريق ثالث يعثر على حجرٍ فى جبل عليه نقش عشوائى بما يشبه رسم الكعبة مثلا، وهات يا تصوير، ويا تصفيق ويا تسويق. ألا يدل كل ذلك وغيره على اهتزاز إيماننا، وعدم ثقتنا فى مصداقيته بذاته لذاته؟

 معظم الناس، بما فى ذلك جمهرة من العلماء، ناهيك عن المشايخ، يتصورون أننا نتعرف على أنفسنا والكون بما يسمى “العقل”. البحث فى المنهج مؤخرا جدا (العلم المعرفى كمثال) اتسع ليعلمنا أن العقل (الظاهر كما نعرّفه تقليديا) ليس هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة الصحيحة،  لكنه وسيلة جيدة جدا، وضرورية، فى حدود إمكاناتها، وهى قليلة بالنسبة لحجم الحقيقة الممكنة والمجهولة. الوسائل الأخرى هى عديدة وربما أكثر أصالة ، تكفى الإشارة هنا إلى أن كلا من وعى الجسد ومستويات الوعى الأخرى تشترك بجرعة أكثر إيجابية فى عملية الإبداع الخلاّق. الزعم بأن الإسلام دين العقل، وأن “ربنا عرفوه بالعقل” هو زعم يختزل الدين والله عز وجل إلى ما نفهمه بهذا العقل الخارجى، لا من نتوجه إليه وقد وسع كرسيه السماوات والأرض، ليس كمثله شىء. كيف يمكن أن يكون الإبداع طريقا إلى الإيمان، وكيف أن إجهاضه و قهره إنما يحرم الإنسان من حركية الإيمان، وبالتالى من الكدح إلى ربه ليلاقيه.

منذ سنوات كتبت  فى الأهرام([1]) ما يصلح مقدمة لهذا المبحث، كتبت ما يلى:

 “الإيمان أصلٌ فى الوجود، والدين أحد تجلياته، بوحى ورحمة من الله عبر أنبيائه عليهم السلام. الإيمان ليس مرادفا للدين. الخائفون من تدخل السلطة الدينية بجمود معوّق، راحوا يلقون بالطفل (الدين) مع السلة التى يريدون التخلص منها (السلطة الدينية)، ثم يكتفون بإعلان السماح للأفراد أن يتدينوا بعض الوقت، أو كل60ما لزم الأمر!!

….. تظل حركية الإيمان/الإبداع هى الوجود البشرى فى أنقى صوره. الإيمان موقف وجودى حياتى حيوى، يمتد بالوعى البشرى إلى الوعى الكونى كدحا إلى ربنا لنلاقيه، هو عملية فردية/جماعية بقائية تطورية مستمرة، لا يمكن تهميشها بأى قرار أو تنظيم، كما لا يمكن حبسها بأية وصاية أو تقـزيم.

تسطيح ديستويفسكى

من أهم ما يفسر التسطيح الذى يتناول به الناس مسألة الدين ما شاع بفرحة غامرة عن كيف أن ديستويفسكى فى “الإخوة كارامازوف” –مثلا- قد أنهى أو كاد ينهى الرواية بإعلان ما معناه “إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء مباح”، أذكر أن الرواية حين تمصرت فيلما “الإخوة الأعداء” وقيلت هذه الجملة بلهجة خطابية فى الفيلم، صفق الناس فى الصالة، وهللوا، هؤلاء الناس الطيبون قد يكون منهم من انتخب الإخوان، أو أمِل فيهم. وهم بذلك يعلنون أن شوق البشر إلى ما يدعم علاقتهم بالله هو شوق بلا حدود. موقف مثل هذا، ومثل التفسير العلمى للقرآن هو موقف يعلن ضعف علاقتنا بربنا، وبالإبداع، وبالوعى، وبالإيمان، ومن ثم: بالدين، وبالسياسة. هذا الموقف يكاد يختزل الدين (فالإيمان) إلى ما يثبط حركية السعى إلى وجه الله (بالإبداع والعبادات). إن المبالغة فى الفرحة ببعض المعلومات المتواضعة فى بعض الآيات، أو بإسلام الخواجة الفلانى المهم جدا، وأن هذا وذاك يثبت أن “ديننا كويس جدا”، وبالتالى علينا أن نتمسك به، وننتخب بالمرة كل من يلوّح لنا أنه قادر على نشره وصيانته، هو دليل على أن أغلبنا يعبد الله على حرف.

نرجع إلى قول “إيفان كارامازوف ما معناه:  إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء مباح”، نقيمها

المقتطف (من نص إيفان كارامازوف)

‏”… ‏فإذا‏ ‏فقدت‏ ‏الإنسانية‏ ‏هذا‏ ‏الاعتقاد‏ ‏بالخلود‏ ‏فسرعان‏ ‏ما‏ ‏ستغيض‏ ‏جميع‏ ‏ينابيع‏ ‏الحب‏، ‏بل‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏سيفقد‏ ‏البشر‏ ‏كل‏ ‏قدرة‏ ‏على ‏مواصلة‏ ‏حياتهم‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العالم‏، ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يبقى ‏شئ‏، ‏يعد‏ ‏منافيا‏ ‏للأخلاق‏. ‏وسيكون‏ ‏كل‏ ‏شئ ‏مباحا‏ حتى أكل لحوم البشر”

مقتطف (الناحية الأخرى) من نفس الرواية:

فيدور‏:‏ “‏أما‏ ‏أنا‏ ‏فلا‏ ‏مانع‏ ‏عندى ‏من‏ ‏أن‏ ‏أعتقد‏ ‏بوجود‏ ‏الجحيم‏ ‏ولكن‏ ‏شريطة‏ ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏لها‏ ‏سقف‏”.‏

إيفان: “‏خسارة‏… لا‏ ‏يعلم‏ ‏أحد‏ ‏ماذا‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أصنع‏ ‏به‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏اخترع‏ ‏الله‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏اخترعه‏، ‏إن‏ ‏الشنق‏ ‏قليل‏ ‏عليه‏”

كتبت – ناقدا – من وحى هذه الرواية ” إنه‏ ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏فرد‏ ‏فى ‏الرواية‏ ‏صغيرا‏ ‏أو‏ ‏كبيرا‏ ‏لم‏ ‏تمثل‏ ‏عنده‏ ‏قضية‏ ‏الإيمان‏ ‏ووجود‏ ‏الله‏ (‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏الدين‏) ‏محورا‏ ‏خطيرا‏، ‏وأرضية‏ ‏متفجرة‏، ‏لا‏ ‏الأب‏: ‏الشهواني‏/ ‏الفيلسوف‏/‏الطفل‏.. ‏المنحل‏ ‏الوحيد‏، ‏ولا‏ ‏إيفان‏: ‏الملحد‏ ‏المثقف‏ ‏المتألم‏ ‏المحتج‏ ‏الجاف‏ ‏المنسحب‏، ‏ولا‏ ‏أليوشا‏ ‏المؤمن‏ ‏الراهب‏ ‏الطيب‏ ‏المسامح‏ ‏الشاكّ‏ ‏قليلا‏، ‏ولا‏ ‏ديمترى: ‏المندفع‏ ‏اللـّذّى، ‏ولا‏ ‏إيليوشا‏ ‏ابن‏ ‏الكابتن‏ ‏سينجريف‏ ‏ولا‏ ‏أبوه‏ ‏ولاإخوته‏، ‏ولا‏ ‏أمه‏.” أوصلنى نقدى للرواية إلى فرض يقول باستحالة الإلحاد بيولوجيا، بمعنى أنه وصلنى كيف أن

تنظيم الخلية البشرية فى ذاته، يتوجه بطبيعة فطرته نحو استعادة هارمونيته مع تنظيم العالم على اتساعه، وأن الوعى بهذا النزوع يوجهنا بشرا لنبدع أنفسنا بتجدد متصل نحو استعادة التوازن مع الكون، فنؤمن، وأن  أية مخالفة لهذا القانون البيولوجى الحافز إلى التناسق الإيمانى، ليس إلا من ألعاب العقل المبرمج حديثا من خارجه، أما الخلية فتظل مبرمجة تطوريا بما يوجهها إلى إطلاق فطرتها،

الأمر الذى لا مجال لتفصيله هنا والآن. المهم أن قضايا الإيمان والتدين تتفجر بكل إشراقها وتحدياتها من أصالة حركية الإبداع، وأن هذه الحركية هى الآلية  الأساسية اللازمة لتحريك  جدل الإيمان.

ديستويفسكى لم يقصد أن يجعلنا مؤمنين، لكنه حقق ذلك بمجرد أنه سمح لفطرة إبداعه أن تتجلى دون وصاية سلطوية تقزمها، أو تجهضها. القراءة الوصية 61السلطوية لنفس هذه الرواية يمكن أن تحاكمها  من خلال بعض الحوارات محاكمة لا تحرمنا فقط من إسهامها لكشف الطريق إلى الإيمان، ولكن أيضا قد تبرر محاكمة كاتبها، أو حتى قتله.

نجيب محفوظ:

لم يعد ثم مجال للشك فى أن قارئ نجيب محفوظ الذى يحسن الإنصات إلى رسائله، لا بد أن يصل إلى الإيمان اليقين من أكثر من طريق، وبأكثر من لغة. يتحرك إبداع هذا الرجل طول الوقت وهو يكشف لنا بعض ما نستطيع تحمله، على قدر ما يستطيع هو أيضا تحمله، من جرعات الإيمان المتصاعدة. فى رأيى أن أضعف ما تناول به محفوظ هذه  القضية هو رواية “أولاد حارتنا” خصوصا حين وضع فى النهاية مسؤولية حل الإشكال الأساسى  بين يدى عرفة (العلم) ليعيد الحياة إلى الجبلاوى. هذه مهمة تحتاج إلى  علم آخر، بمنهج آخر، غير ما ألمحتْ له نشاطات “عرفة” قرب النهاية، وغير ما كان معروفا عما هو “علم” وقت كتابتها.

مقتطفات من محفوظ:

أولا: من ملحمة الحرافيش

فى حوار بين فلة وعاشور الناجى الكبير، تسأل فلة:

 ” كيف يلقاك الناس يا عاشور؟”

 فيرد “كل يعمل على قدر إيمانه”،

 الإيمان فى هذا السياق الإبداعى المخترق يمكن أن يعيننا لنستلهم فهما جديدا لإسلام الأعراب الذى ميزته الآية الكريمة عن  الإيمان الذى لا يكون إلا أن يدخل القلوب :

“قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا،

ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبكم”،

ثانيا: من أصداء السيرة الذاتية:

فى أصداء السيرة الذاتية حضرت إشكالة الإيمان والموت والخلود بشكل متكرر متنوع لتخدم نفس فكرة تحريك الوعى، لإيقاظ الفطرة سعيا إلى وجه الحق تعالى. لعل أكثر الفقرات مباشرة، وإن كانت لا تصل إلى بساطة رمزية أولاد حارتنا هى الفقرة (27) بعنوان الزيارة‏ ‏الأخيرة([2])  ففيها أرجع الكاتب الفضل كله لصاحب الفضل، وأوضح كيف أنه بالرغم من فضله هذ،ا فقد أنكره أغلب من تفضل عليهم، بل وتنكروا له، حتى نسوه، لتنتهى الفقرة بالتذكرة بأن الموت هو اليقين الذى لابد وأن يثبت أن الوفاء هو الأجدر بمن وعى فضله باحثا عنه حامدا صنيعه.

  “‏ولم‏ ‏تحل‏ ‏تلك‏ ‏الصعوبات‏ ‏بين‏ ‏الرجل‏ ‏ورغبته‏ ‏فمضى ‏من‏ ‏فوره‏ ‏إلى ‏الإمام‏، ‏كان‏ ‏يقوده‏ ‏شعور‏ ‏قوى ‏بالوفاء‏، ‏وبأنه‏ ‏ذاهب‏ ‏إلى ‏غير‏ ‏رجعة‏..”‏

الفقرة (72) المسماة “‏المصادفة([3])  أظهرت كيف أن الاعتذار عن غرور الإنسان بنفسه، يبدو أهم من الاستغفار، وأنه مهما نضج الفرد حتى تصور أن بإمكانه أن يستقل عن تلك القوة الداعمة الجبارة المساندة، فإنه فى نهاية النهاية سوف يعرف أنه “لا غنى عنه … وأن لقاءه، هو مصادفة سعيدة”.

وفى الفقرة (82) ‏بعنوان “‏الانبهار”([4]) كان الذى حافظ على استمرار العلاقة الجدلية نحو الإيمان حية حركية هو حضور الأسئلة المستعصية دون جواب، حيث يسمع كل سائل فى جوف الصمت العميق، يسمع  “الجواب الذى يغيثه” لتنتهى الفقرة كما يلى:

…. لم‏ ‏أرَ‏ ‏حركة‏ ‏تدب‏ ‏فى ‏شفتيه، ‏ ‏ولم‏ ‏أسمع‏ ‏صوتا‏ ‏يند‏ ‏عن‏ ‏فيه‏، ‏ورجعت‏ ‏من‏ ‏عنده‏ ‏وسط‏ ‏جموع‏ ‏قد‏ ‏انبهرت‏ ‏بما‏ ‏سمعت‏ ‏لحد‏ ‏الجنون”‏.‏

الإجابات‏ ‏الصامتة‏ ‏عن‏ ‏الأسئلة‏ ‏الصعبة‏ ‏الغامضة هى ‏الإجابات‏ ‏الحقيقية‏ ‏القادرة على تحريك الوعى إلى غايته‏، ‏وهى ‏إجابات‏ ‏تأتى ‏من‏ ‏الداخل‏/‏الخارج‏ (وبالعكس) ‏مباشرة‏ ‏بيقين‏ ‏ليس‏ ‏كمثله‏ ‏شئ‏، كل‏ ‏إبداع‏ ‏محفوظ‏ – تقريبا- يحرك فينا مثل هذه الأسئلة التى تدفعنا إليه حيث يدور ‏حول‏ ‏الله‏ ‏والخلود‏ ‏والوعى ‏بالنهاية‏/‏البداية‏، ‏والحوار‏ ‏مع‏ ‏الأقدار، يفعل ذلك وهو يثير – بسلاسة متسحبة- الأسئلة التى هى هى الإجابات ( أولاد حارتنا، لم يكن فيها هذا التسحب)

 

[1] – نشرت في جريدة الأهرام 26-12-2005

[2] – نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” صفحة (27)  مكتبة مصر (1995)

[3] – نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” صفحة (58)   

[4] –   نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” صفحة (66 )    

المحتوى

المحتوى

العنوان صفحة
الأهداء 3
المقدمة 5
  الفصل الأول: ساحتان  7
الفصل الثانى: “أكون” كما استلمت نفسى؟  أم “أتكوّن” كما استطيع!!؟  15
الفصل الثالث:أصل وصورة  29
الفصل الرابع:هل نعرف ما هو الحنان؟ وكيف؟  43
الفصل الخامس:لو تقولها زى واجب: مش عايزها!!  57
الفصل السادس: كيف ومتى يعرف الطفل ما هو الموت؟  ونحن أيضا؟  69
الفصل السابع: من الموت الجمود إلى الموت الولود !!!  81
الفصل الثامن:القتل بالإهانة  93
الفصل التاسع: مسيو إبراهيم وظهور الإخوان  109
الفصل العاشر: الإيمان: أنقى صور الوجود البشرى  119

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *