نشرة “الإنسان والتطور”
29-4-2010
السنة الثالثة
العدد: 972
الحلقة الحادية والعشرون
الأربعاء: 25/1/1995
… هذه هى المرة الأولى التى أذهب فيها إلى العوامة “فرح بوت” متأخرا أكثر من ساعة، وجدت الثلة مكتملة: هاك الجناح اليمينى عماد العبودى (العمدة) وحسن ناصر ومحمود كمال، ثم ممثل الناصرية اليساريه من اليسر واليسار معا يوسف العقيد، ثم اليسارية المنحازة إلى الشعب والثقافة جمال الغيطاني، كما كان على الشوباشى موجودا يودع الاستاذ ويودعنا قبل سفره غدا أو بعد غد إلى باريس، فرحت بهذا العدد الكبير الذى أعفانى من أن أفتح المواضيع وأواصل التوصيل بالتناوب مع توفيق صالح، جاء توفيق ومكث أقل من ثلث ساعة وانصرف، وقال فيه أحدهم كلاما غريبا علىّ يتعلق بصحبته للأستاذ، فزعت، ورفضت، لكنه غمز لى قائلا أن سيفصِّل لى الأمر فيما بعد، وأنه (توفيق) لم يعاود زيارة وصحبة الأستاذ إلا بعد الحادث، رفضت كل هذا رفضا قاطعا، فأنا معهما معظم الوقت، وكنت قد سمعت من توفيق تحفظا ، تذكرته واعتبرته ردا”استباقيا”على قائل هذا الكلام وبعض ثلة الثلاثاء (رجع الميعاد إلى الثلاثاء)، مال علىّ الصديق النبيل زكى سالم وقال لى ما معناه أن الأمر ليس هكذا تماما، فلا داعى لانزعاجي، وأنه سوف يشرح لى بعض ما خفى عنى فيما بعد، فهو يتعلق بأشياء مادية صغيرة كانت بينهما، لكنها لا تصل إلى ما ذهب إليه صاحب التعليق، تحفظت على كل هذا، ورحت أتذكر ما يصلنى من توفيق تحت سمعى وبصرى يوميا، وما يحكيه عن صحبتهما منذ الستينات، ويوم الخميس بالذات، وعن الجولة التالية للعشاء التى كان يصحب الأستاذ فيها وهما وحدهما حتى الواحدة صباحا أذكر هذا كله لدلالة واحدة، فالإختلاف وارد والخلاف جائز، وهكذا الدنيا، لكننى أحببت أن أظهر كيف أن هذا الإنسان ”نجيب محفوظ” قادر على أن يتكيف طول الوقت مع كل أنواع البشر حتى لو دبت العداوة – وليس فقط الاختلاف – بينهم دون أن يميل هنا أو هناك بشكل يحرمه – ويحرمنا – من التنوع والتحرك والحوار – لكن أمرا آخر وصلنى هذا اليوم وهو الفرق الشديد بين ثلة الحرافيش وثلة العوامة (والتى اسماها الأستاذ فيما بعد وقفية”د.إبراهيم كامل” الملياردير المصرى المحب للثقافه)، إنتهز زكى سالم الفرصة وسألنى عن غموض بعض فقرات عملى”حكمة المجانين”، فأجبته بأنها”هكذا”ولو شرحت سقطت ولم تؤد وظيفتها، (مع أننى أقوم بتحديثها الآن 2010 لمن يتابع يومية كل اثنين هنا فى الموقع)، حاولت أن أدافع عن نفسى بذكر غموض النفري، رفض زكى سالم التشبيه وقال إن النفرى يرفعك من البداية إلى مستوى جو خاص من التلقي (لم يكن قد صدر بعد كتابى عن مواقف النفرى، الذى يتم تحديثه أيضا بالتبادل الآن فى نفس اليوم: الإثنين)
ثم جاء ذكر ما أشار إليه هيكل فى محاضرته فى معرض الكتاب عن رواية يوسف القعيد ”حدث فى بر مصر”، وكان يوسف القعيد منتشيا بذكر هيكل لاسمه فى الندوة، أخذ بعض الحاضرين يضيفون لقب العظيم إلى هيكل أسوة بإصرار القعيد على إلصاق هذه الصفة باسم جمال عبد الناصر كلما ذكر (عبد الناصر العظيم عبد الناصر العظيم)، أدى ذلك إلى فتح حديث جانبى مع زكى سالم حول دور حسنين هيكل بالذات فى هذه المرحلة، وكان له رأى طيب فى أنه يقوم بدور معارضة حديثه تستعمل أدوات مدعمة بالأسانيد مثيرة للوعى، وأضاف زكى تزكيته لهذا الدور، وأنه يعتقد أننا نحتاجه هذه الأيام”هكذا”، واختلفت معه، وقلت له لا أحد يستطيع أن ينكر أن هيكل شديد الذكاء، شديد العصرية، شديد التنظيم والإدارة، شديد التمكن من الصياغة واستعمال الأرقام والوثائق، وبالرغم من كل ذلك فإنه لا يكف عن الدوران حول ذاته، ولا يستطيع أن يخفى غروره المستفز، وهو لا يفعل إلا أن ينظـِّر تاريخا لا فائدة منه حالا، والذى أرجح أنه لو أتيحت فرصة اختبار نقده واقتراحاته البديلة على أرض الواقع، لفشل فشلا ذريعا. أصر زكى سالم على أن يفرق بين”قوة الرأى وحجته وبين “أخلاق صاحب الرأى وموقفه”، ففى حين كان يوافقنى على ذاتية هيكل المفرطه، كان متحفظا على تقليلى من دوره فى هذه الفترة بعد أن أصبح بمثابة باحث متفرغ، قلت له:”ولو”، فإننى أتصور أن هيكل كان حاضرا فى وعى عبد الناصر، بقدرته على استلهام ميله فى المواقف المختلفة، ثم إنه راح يقترح عليه ما يرى أنه يستهويه، ثم أخذ ينتظر منه أن يقرر هذا الذى اقترحه ويبرره لأنه رأيه مشاركا خفيا منذ البداية لا رأى عبد الناصر مستقلا، ثم إنه تمادى فى لعب هذا الدور حتى اعتمد عليه عبد الناصر أكثر فأكثر بوعى أو من وراء ظهره، وحين انهمك عبد الناصر فى صخب المشاكل، كما عمى بغشاوة الغرور، أصبح دور هيكل أكثر أهمية وخطرا حتى أتيحت له مساحة ما – دون ظهور واع – فى صنع بعض القرارات التى أخذت على عبد الناصر، وما كانت إلا قرارات هيكل دون أن يتحمل مسئوليتها مباشرة طبعا، فاستحلى هذا الدور، وظن أنه من الممكن أن يلعبه مع السادات، ولم يتصور فى يوم من الأيام أن السادات (أو غير السادات) يمكن أن يستغنى عنه، فلما فعلها السادات واستغنى عنه ضمن مفاجآته الصادمة وببساطة لم يتوقعها هيكل، إذ لم يكن فى حسابه أن أحدا على الأرض يستطيع أن يستغنى عن خدماته، وظل كذلك حتى حرب أكتوبر، وحين أعلن السادات عن ما أسماه عام”الحسم”، راح هيكل يلمز ويغمز حتى يوم 7 أكتوبر 1973 تحديدا حين كتب أن القرار شجاع وتاريخي، لكنه أيضا راح يلمز بما يشير – أو يحذر- أن السادات سوف يتحمل نتائجه وحده (ربما لأنه لم يستشره شخصيا)، وأحسب أنه كان يظن أن الحرب ستفشل كما عوّده عبد الناصر، وحين حققت الحرب غرضها المحدود، انتهزها فرصة وراح يجاهر بهجومه على السادات باعتباره قد أضاع فرصة استثمار النصر….إلخ، ومن ذلك الحين راح يلف ويدور حريصا على تلميع صورته مع أنها لامعة بما فيه الكفاية (كان هذا الحديث كله قبل مرحلة أحاديثه فى قناة الجزيرة)، رسمت صورة لكتاباته الحالية بأنه يتبختر حول وثائقه كما يلف حول عربته المارسيدس متباهيا، ومضيت أذكّر زكى سالم بنوع سيدات المجتمع اللاتى يحضرن ندواته ويرسلن السائق أو السفرجى لحجز أماكنهم فى الصفوف الأولي، والمفارقة الغريبة بين نوعية هذا الجمهور وبين كلامه، وأخيرا أضفت تحذيرى من موقفه من ممالأة التيار السائد، مثل غزله الواضح فى التيار الدينى الحالي، وأضفت افتراضا تصورت أنه سيفحم زكى حين قلت: تصور – مجرد خيال – أن مبارك أتاح له فرصة القيام بنفس الدور الذى كان يقوم به مع عبد الناصر، وأعتقد أن شخصية مبارك وقدراته تتيح لمثل هيكل مساحة أوسع بكثير مما أتاحته شخصية عبد الناصر، فماذا كان يمكنه أن يضيف تحديدا إلى السياسة القائمة حتى تنصلح أو تنطلق؟ وافقنى زكى جزئيا بأمانة واضحة، لكنه أصر على أنه بالرغم من كل ذلك، فإن ما يقوله هيكل، وما يقدمه من رؤى، وما يضيفه من معلومات هو مفيد فى تكوين أو تحريك معارضة رشيدة بشكل أو بآخر.
كنا ننتقل إلى الأستاذ بين الحين والحين بموجز، أو نص، بعض حوارنا، وكان يلتقط منه ما يريد أو ما يستطيع على حسب المساحة المتاحة التى تسمح بها المناقشات الجانبية الأخرى، كنت أحاول بين كل فقرة وفقرة من النقاش أن أنكش الأستاذ ليدلى برأيه فى هذه النقطة أو تلك، فكان يهز رأسه برفق ويعقب بكلمة أو كلمات قليلة أشعر معها أنه: إما أن معالم النقاش لم تصله بدرجة كافية، أو أنه يتحفظ على أن يدلى برأيه فى شخص يحترمه، ويحفظ له جميله مثل هيكل، ثم قفز سؤاله عن الساعة فجأة ردا على سؤال لحوح طرحته عليه بحماس إثر خلافى مع زكى، جاء السؤال مفاجأة لى، فهو عادة لا يسأله إلا قرب انتهاء اللقاء وهو يفخر بساعته البيولوجية خجلت من أننى نسيت نفسى، وربما نسيته واندمجت فى الحديث مع زكى، تمنيت لو أننى مسحت هذا الجزء من الجلسة، هل أستطيع؟ التفت إلى ما يجرى حولنا وكنت قد انصرفت عنه، فإذا بمعظم المتحدثين يعددون سلبيات ما وصلنا إليه إلى أن وصلنا إلى تلميحات التراجع عن رفض التوقيع على معاهدة الأسلحة النووية رغم عدم توقيع اسرائيل، وإذا بالاستاذ يقول فجأة وهو يهم بالوقوف:”ومع ذلك فإنى متفائل”، لا حظت أننى أتبادل التفاؤل معه بطريقة طريفه، فأنا أعتبر نفسى متفائل بالضرورة مادمت حيا، منذ مدة طويلة قررت ان أرفض بحسم رفاهية اليأس، وأن أتعهد أن أساهم فى تفعيل تفاؤلى ولو بشكل فردى، قررت ذلك حين انتبهت إلى أنه إن لم يكن التفاؤل مسئولية آنية، فهو تسكين خائب، تفاؤل الأستاذ عادة مرتبط بمشاكل ناسه، ودولته، ووطنه، وحين أعرض عليه تفاؤلى الذى يشمل تصور الإسهام فى تكوين وعى عالمى جديد عبر شبكة التواصل المتنامية، يندهش، ثم يستفسر، ثم يفرح وهو يحاول أن يصدق، لكننى أعود فأعلن حذرى أن يكون تفاؤلى”العالمى”، هو هرب من رؤية مصيبتنا المحلية، أروع ما فى تفاؤل الأستاذ هو ارتباطه بالواقع وثقته بقدرة الزمن على تصحيح التجارب الخاطئة (سبق الإشارة إلى ذلك، حتى فيما يتعلق باحتمال مرحلة من الحكم الدينى)، قالها الأستاذ هذه المرة وهو يهم بالقيام دون أن يتأكد من حلول ساعة الانصراف”ومع ذلك فأنا متفائل”، وصلتنى كأنها تنبيه أن نكف عن مضغ لبانة الحديث عن السلبيات هكذا طول الوقت، وأنه إن لم نكف عن ذلك فهو منصرف، طبعا هو لا يفعل ذلك أبدا، ولا يهدد به، ما ترجمت سؤاله عن الساعة هكذا، لكنها مخاوفى التى بهذه الطريقة المباشرة القاطعة الحاسمة، نظرت إلى وجهه أبحث عن الاحتجاج فلم أجد إلا أن ابتسامته قد اتسعت حتى كأنها إرهاصة ضحكته الرائعة، نبهته إلى أنه ما زال امامنا نصف ساعة على الأقل، فعاد من ميل انصرافه إلى الاعتدال فى مجلسه، ملت عليه أعتذر عن انصرافى عنه، وتركه نهبا لاجترار السلبيات من حوله إلى هذه الدرجة، هدهد على ساقى وهو يتعجب من اعتذارى وينكر أنه ضجر من أى شىء، سألته إن كان قد وصله ما يكفى من حوارى مع زكى عن هيكل، فطلب منى أن الخص له رأيى: قلت له: انا أتصور أن هيكل فى دورانه الرائع فى سماء الكلمات والأرقام، وبين حلقات المناورة المربوطة حبالها النازلة من سقف السياسة والصحافة والنشر والعالمية، كأنما هو يقفز برشاقة ماهرة من حلقة إلى حلقة، ممسكا بهذا الحبل، طائرا إلى هذه الحلقة، وهو يدور حول نفسه، والناس تبحلق منبهرة من مهارته فى كل دوره، لكنه يصل فى النهاية إلى النقطة التى بدأ منها، ثم يهبط فرحا بنفسه ليحيى الجمهور المعجب بمهارته، وقد نسى أننا لم نبرح سيرك الكلمات والأرقام وأوراق الوثائق، وكأن الهدف الأساسى هو تحقيق وصلة بالتصفيق وفتح الأفواه إعجابا”، ورفع الحواجب دهشة!!
ربت الأستاذ على ساقى مرة أخرى وقال:”لماذا كل هذا؟”، قلت له”لا أدرى”، قال”أحسن”،
ثم أطلق ضحكته التى كانت قد وعدتنا به سعة ابتسامته المتزايدة.
فهمت
ودعوت له
ولى.