نشرة “الإنسان والتطور”
27-3-2010
السنة الثالثة
العدد: 939
بدلا من تعتعة الدستور
تنويه:
مقال قديم نشر فى الأهرام: 26-8-2002 ووجدت أنه يستحق إعادة نشره اليوم، بعد إن نعطيه عنوان “تعتعة” لعله يؤكد ما نشرناه هنا منذ أسبوع.
يبدو أنه لا شىء يتتعتع من مكانه!!!!
ليس من حق إنسان أن يتنازل عن حقه !!!
إن ما هو أخطر من قتل الأبرياء، أو احتلال الأرض، أو استغلال الآخر، هو حرمان شعب (أو طبقة أو فرد) من الوعى بحقوقه أصلا كما خلقه الله. كان ذلك يتم قديما بشكل معلن ومباشر فى مجتمعات الإقطاع ونـفى المرأة، بل إنه كان ينظر له فى فلسفات لها وجاهتها النسبية من أفلاطون حتى نيتشة، لكن هذا وذاك كان صريحا ومعلنا بحيث يمكن مواجهته، والحوار معه، واستلهام ما وراءه من إيجابيات، ورفض أو تعديل سلبياته. لكن كثيرا مما يجرى الآن يتمادى فى نفس الخطأ مستعملا وسائل إعلامية، وشبه علمية، أخفى خبثا، وأخطر ظلما، وأبشع استغلالا.
نحن نتصور أن ما ينقصنا هو أن نعرف واجباتنا أكثر، باعتبار أننا نعرف حقوقنا بدرجة كافية. و هذا هو ما يحتاج إلى مراجعة، وهو موضوع هذا المقال.
* تبدأ الحكاية بمجرد أن يولد طفل ينتمى إلى نوع من الأحياء يسمى “الإنسان”، إذ تصبح له حقوقا تلقائية بما أكرمه الله بشرا سويا، وبما اختاره أجداده من حمل الأمانة (الوعي-الحرية). إن حقوق المولود البشرى لا تحتاج إذنا من أحد، ولا هى منحة من منظمة، ولا هى مقصورة على ماكـتب فى ميثاق ما.
* الذى يحدث لهذا المولود البشري، فى مجتمع أو عالم ظالم جاهل قوى متغطرس- هو أنه يتعرض لتجهيل منظم، بتعليم فاسد، و إعلام مغرض، وعلم زائف، فتكون النتيجة أن تتوارى حقوقه الطبيعية فى عتمة الفكر المصنوع، أو تتراجع فى خلفية السعى الدائب للحصول على الضروريات الأساسية.
* يترتب على ذلك أن يصبح “الوعى بالحق” الطبيعى بمثابة ذنب يرتكبه من ينتبه إلى ضرورته، وهات يا صراع، وهات يا خداع، وهات يا ثورات، وهات يا تسكين بمواثيق وألاعيب، لكن الإنسان ظل ينتصر فى تأكيد حقه أكثر فأكثر. هذا ما تكرر عبر تاريخ البشرية كلها. كانت البشرية قادرة دائما على تصحيح نفسها أولا بأول بالثورات، والتقدم ، والحضارة، والإبداع.
* مع تمادى الأدوات الحديثة -أدوات التواصل المعولمة- فى قدرتها وسرعتها على تشكيل وعى الناس- عبر العالم : كما يراد له، وكما يراد به، وليس كما هو، ولا كما يعد، أصبح أى خطأ عابر يمثل تهديدا للنوع البشرى برمته. لم يعد الظلم يقتصر على اغتصاب أرض محددة، أو هزيمة شعب بذاته، وإنما أصبح الظالم قادرا على تشويه وعى البشرية جمعاء لصالح أطماعه.
* لكى تتم مواجهة هذا الخطر، على المظلومين فى كل مكان فى العالم أن ينتبهوا إلى ضرورة التضافرلامتلاك نفس الأداة القادرة الأحدث – أداة التواصل المعولمة – ليحذقوا استعمالها معا فى الدفاع عن الجنس البشرى (دون استثناء الظلمة الأغبياء).
* يواكب ذلك ضرورة إعادة التعرف على حقوق الإنسان المهملة الغائبة عن المواثيق بمزيد من الكشف عن الطبيعة البشرية بكل أدوات المعرفة غير القاصرة على منهج محدود، يقال له”المنهج العلمي”، ليستمر الاكتشاف، فالممارسة، فالتصحيح إلى ما لا نهاية.
* إذا كنا قديما نردد أن “الحق أحق أن يتبع”، كما نكرر أنه “ما ضاع حق وراءه مطالب”، فإن المطلوب الآن ليس مجرد الاطمئنان إلى شعار معلن، أو مطالبة لحوح، بل هو أن تكون البداية بالتعرف على حقوقنا الطبيعية، خصوصا تلك الحقوق المهملة، والمهمشة، والمنكـرة.
* ثم إنه لا يكفى التعرف فالإعلان، بل إن المجتمع الإنسانى السليم لا بد أن يتيح فرص الوعى بهذه الحقوق حتى تختلط بلحم ودم كل منآ، فلا يستطيع، ولا يملك، أحدنا أن يتنازل عنها إلا إذا تنازل عن بشريته.
* إن خطر ما يجرى فى فلسطين الآن (وفى غيرها) لا يكمن فحسب فى مناورات التأجيل، وألعاب التفسير، وإهانات الكرامة، وقتل الأبرياء، وهدم المنازل، وتجريف الأرض، أخطر من ذلك كله هو الاستدراج للحرمان من الوعى بكافة الحقوق الطبيعية لفئة من البشر. إن الزعماء المفاوضين قد يتنازلون (لظروف مرحلية أو من قبيل التكتيك…إلخ) عن بعض السلطات، أو حتى عن بعض الأرض، ولكنهم ليس من سلطتهم، ولا فى مقدورهم أن يتنازلوا-بالنيابة-عن الحقوق التى لا نكون بشرا إلا بها.
* إن حقوق البشر الطبيعية أوسع وأعمق وأخطر من كل ما كتب فى المواثيق. ألمحت إلى بعض ذلك فيما سبق نشره فى هذا الموقع مما لم يعتده الناس مثل: حق الحلم، وحق الدعاء، وحق الاستجابة، وحق الإبداع (لكل الناس دون استثناء)، بل إننى يمكن أن أضيف إلى هذه المجموعة حق الإيمان (الذى يحرم منه الكثيرون،ليس فقط بالأيديولوجيات الملحدة، ولكن بسوء تفسير بعض الأديان)، و حق الشك، وحق اللعب، بل وحق الجنون (كخطوة مسئولة فى عملية الإبداع). إننا كلما ازددنا معرفة بالطبيعة البشرية ازددنا وعيا بحقوقنا الأصيلة، وازدادت فرصنا لنكون بشرا أفضل، كما خلقنا الله .
* هذا هو ما يربط المعرفة، بالوعي، بالإيمان، بالتطبيق. وهذه هى مهمتنا حتى لا نقنع باستلام شهادات “الأيزو” الأمريكية الصنع، لإثبات كفاءتنا فى “سمعان الكلام” فى مادة “حقوق الإنسان المستوردة”!!.