“يومياً” الإنسان والتطور
27-4-2008
العدد: 240
قصة قصيرة
مبارزة
راح يلهث بين السنين على حافة الأيام وهو يبحث عن استراحة منعزلة بين الخامسة والثلاثين والسابعة والستين دون جدوى، وأخيرا وجده خاليا منتظرا ينفض عن سطحه أثار مطر ظهيرة اليوم، راح يتأمله قبل أن يجلس عليه محيِّياً- هو أقرب للأريكة الرخامية وقد استقر يرنو إلى البحر بثقة وعتاب، فسمع هسهسة الموج تؤكد له كذب ادعاء اختفاء دلتا النيل تحت موجاته، ولا بعد مائة قرن، فاطمأن أنه ليس وحيدا تماما كما كان يحسب.
طيب..، كيف يفعلها وهو متزوج ويعول زوجته فقط، مع أن الرقم القومى استغنى عن إثبات ذلك؟
جلس وكأنه فعلا “وجدها”، فترك خيوط ذاكرته تمتد من داخل الرحم إلى داخل القبر، اختلط الفجر الغامض مع القبو المتربص فى ظلامٍ لا يعد بشىء.
راح يتعرف على جسده لأول مرة بعد أن هطلت كل هذه الأمطار، هكذا فجأة، بعد أذان الظهر مباشرة، مع أن الجو كان صحوا جدا فى الصباح، فلم يعمل حسابه لأية مفاجأة من هذا النوع، اضطر أن يتخلص من أغلب ملابسه، وأن يجلس فى الشمس التى أشرقت بعد المطرمباشرة غير عابئ بالمارة القلائل، فالمكان، برغم جماله المتبقى من آثار عدوان كل من تبرأ من العدوان، بما فى ذلك عبد السلام المحجوب، ليس مأهولا فى هذا الوقت من العام.
هو يحب المطر، يحب لون السماء بعد المطر، ويحب نفسه، ربما لأول مرة، ولكن ليس إلى هذه الدرجة.
جفت ملابسه بنسبة تسمح له بارتدائها، وقد قاربت الشمس على المغيب، لكنه لم يجد عنده أى حماس لارتدائها كلها، المطر ولون السماء، وهذا التعرى فى الشمس، والشبع الربانى، (لماذا لم يشعر بالجوع طوال تلك المدة؟) جعلته فجأة يكتشف أن له جسدا، وأن هذا الجسد كله، وليس فقط الحواس الخمسة، له قدرة على أن يحس بكله، حتى لو كان المدخل إليه من أى حاسة من الحواس الخمسه.
بمجرد أن خطرت له هذه الفكرة، أو ربما قبل ذلك بقليل، أو لعل الفكرة قد جاءته بعد أن أحس هذا الإحساس، ليس مهما ما الذى جاء أولا: شعر وهو جالس هكذا أن كفه كله قد امتلأ بحفيف يدها البضة التى لامسها هذا الصباح وهى تسلم عليه بحرارة بعد أن جاءت من إجازتها، حفيف دافئ نابض مدغدغ ليس له صوت، كيف لم يلتفت آنذاك أن يدها بضة وليست بيضاء؟ كيف لم تحضره هذه الأحاسيس ساعتها؟ ثم ها هى تحضره الآن جديدة تماما لم يشعر بمثلها أبدا من قبل؟ وما علاقة المطر بالتعرى بالشمس بهذا الشبع الرضا، كأجمل تجليات الجوع المؤجـّل؟ ما علاقة كل ذلك بامتلاء كفه بيدها الآن بعد ساعات من المصافحة؟ هى ليست بيضاء بل سمراء، تلك السمرة المحمّصة التى تذكره بأبى فروة وهو يطقطق على اللوحة الصاج وقد جلس حولها هو وأولاده ذات مرة، لا، ولا حتى مرة واحدة، لقد خلط بينه وبينهم، أولاده لم يروا أبو فروة أبدا، ثم إنه ليس له أولاد، هو الذى كان جالسا بجوار أمه، وكلما لفه الدفء وأبو فروة يطقطق على النار، ازداد التصاقا بها حتى كاد يخترق ملابسها ليطمئن أن لحمها الحى ما زال فى متناوله، أبوه منشغل بتقليب حبات أبو فروة على الصاج، وهو يسعل من آثار الدخان الذى ملأ رئتيه حين نفخ فى النار بفمه، حتى استبدل ذلك بحركات أسفل جلبابه النشطة وهى تعلو وتهبط بانتظام تقلب الدخان الذى ملأ الحجرة وطرد الهواء النقى دون مقاومة، لعله لم يكن نقيا تماما، فرضىَ الجميع بهذا الإحلال الخانق.
اقترب الشبح الذى بدا من بعيد كأنه يترنح، لكنه حين أصبح أقرب فأقرب تبين أنه لا يترنح ولا حاجة، بل هو يقفز قفزات رشيقة نشطة متوازنة ما بين ساقه اليمنى المتحفزة وتلك العصا الغليظة بوسادتها المرتاحة تحت إبطه الأيسر، وقد راحت بقايا ساقه اليسرى تتدلى حولها. بدا الرجل واثقا ليس له علاقة بإعاقته وهو يتقدم بقفزاته المتحدية، الهواء البارد ينعشهما معا فتلتقى نظرات العيون الأربعة فى وقاحة لاذعة، لكنها مرحِّبة فى نفس الوقت، بها شىء مثل العشم المتبادل، المستعد طول الوقت لغير ذلك.
اقترب الرجل الشبح من الرجل الجالس فى رضا مترقبِّ، فتبين الأخير أن بفمه سيجارة غير مشتعلة ، لا بل هو سيجار بحجم السيجارة وقد ارتاح على جانب فمه بين شفتين رفيعتين تدلان على الذكاء والحرص معا، طلب منه كأنه يأمره أن يشعل له سيجاره وكأنه ونستون تشرشل عقب أن أفاقت بلاده من التهديد بالهزيمة الساحقة، لكنه انتصر فى النهاية، هو أيضا انتصر فى حربه معها بعد أن تأكد من عقمه نهائيا، فانزاح من على كاهله هم الثانوية العامة بعد أن ظل يحمله منذ تزوج، لم يكن يرهبه ويؤجل زواجه شىء سوى خوفه من أن ينجب ولدا يضطره للذهاب إلى المدرسة ذات صباح، ليسأل عن مجموع ابنه الذى سوف يحدد ليس فقط مصير ابنه بل مصير الأسرة بأكملها، أو ربما مصير الجنس البشرى، مضت المدة بسلام، ثمانية عشر عاما بالتمام والكمال، وبرغم تأكيد الطبيب الأستاذ له ولزوجته – حتى يعفيها من المسئولية- أن عقمه هو من النوع الذى لا يفرز حيوانات منوية أصلا، استغرب أن يكون ثم مرض بهذا الاسم حتى حفظ رمزه بالانجليزية (CCO) لابد أن هذا المرض يعرف طبعه وأن الله رحمه به، فهو مرض يعفى صاحبه من حفظ النوع ويكتفى بإفراز هرمونات الذكورة بوفرة، ربما من باب التعويض أو الاستعباط، برغم ذلك، فقد ظل هذا التوقيت انتظارا لنتيجة ابنه فى الثانوية العامة يشغل باله طوال هذه السنوات حتى انتهت المدة بسلام، وها هو يجلس وقد بدأ يسترد ملابسه قطعة قطعة مع تقدم دخول الليل.
تُـرى ماذا تفعل زوجته فى هذه اللحظة تحديدا؟ الساعة قاربت العاشرة والنصف مساء، كيف مضى كل هذا الوقت، لابد أنه يعيش بلا حاجة إلى توقيت بعد أن ائتنس بهذا المقعد القابع بين لحظات الزمن، برغم ذلك نظر فى ساعته مرة أخرى، المسلسل الذى تفضله زوجته انتهى من عشر دقائق، وهى لا تحب القراءة، ولا تعرف الكتابة، ولم تجذبها ألعاب الكمبيوتر، ولم تحاول أن تعدل عن حكاية المعاش المبكر، مع أنها فى المعاش طول عمرها، منذ استلمت الوظيفة، وربما قبلها، لكنها قالت له تبرر قرارها أنها لا تحب المدرسة ولا التدريس، ولا المدرسين، ولا التلامذة، لم تقل له أبدا ماذا تحب، فحفظ عن ظهر قلب كل ما لا تحبه، هى لا تحب أحًدا ولا شيئا، واكتشف دون جهد أن اسمه يقع على رأس القائمة، برغم أنها لم تصرح له بذلك أبدا، ولا بعكس ذلك، ثم إنه على يقين من أنها لا تحب نفسها أيضا، بل إن هذا قد يقع على رأس القائمة، حتى قبل اسمه شخصيا.
انتبه إلى الرجل الشبح ذى الساق المدلاة حول العكاز فى سخرية راقصة وهو يعاود طلب إشعال سيجاره، فى هذا الهواء الذى تزداد حركته كلما تقدم الليل، وهو يعلم أن إشعال السيجار غير إشعال السيجارة، وأن على مدخن السيجار أن يدبر حاله بنفسه طول الوقت، ثم إنه شخصيا قد توقف عن التدخين منذ خمس وثلاثين عاما، لكنه لم يتخل عن حمل الولاعة دون داع مباشر، ساعده ذلك على أن يشعل سيجارة لأحدهم أو لإحداهن حسب مزاجه بين الحين والحين، وهو لم يتوان، حتى عكس ما يمليه مزاجه أحيانا، عن تقديم خدماته الإشعالية لمن يطلب منه ذلك، أو يعرف عنه ذلك.
بالنسبة لهذا الرجل الشبح فالأمر يختلف، فهو سيجار وليس سيجارة، ثم إنها تبدو معركة من البداية وليست طلبا واستجابة. لم ينصرف الرجل الشبح برغم الاعتذار الواضح الذى صرح به الرجل الجالس بأنه لا يدخن أصلا، قال له الرجل الشبح أنه ليس معنى أنه لا يدخن أنه لا يحمل ولاعة الآن فى جيبه، من أين لهذا الدخيل أن يعرف – هكذا- ما فى جيبه، لكن الرجل الشبح استطرد شارحا “..مثل أنه ليس معنى أنه غير متزوج، أنه لا يمارس الجنس ما استطاع إلى ذلك سبيلا”، هذا هو، إنها الصدفة أنه حدس بنجاحٍ أن بجيبه ولاعة، لكنه لم يفلح أن يحدس أنه متزوج ويعولها، ثم إنه لا يمارس الجنس لا مع زوجته ولا مع غيرها.
مالذى جعله يحاول فى هذه اللحظة أن يحدد لنفسه سنا بدلا من الضياع وسط هذه المساحة الشاسعة بين الخامسة الثلاثين والسابعة والستين؟ فقرر أن يكون سنه ثلاث وأربعين عاما وخمسة أشهر وأربعة أيام، ثم مد يده إلى جيب سترته، فظن الرجل الشبح أنه سيستجيب ويشعل له سيجاره، لكنه أخرج نتيجة صغيرة أهديت له من أيام بعد عدم الاحتفال برأس السنة مباشرة، ودون أن يفتحها ليراجع اليوم الذى اختاره لمولده، قرر أن يكون اليوم هو يوم الثلاثاء الساعة الثانية صباحا، هو لا يحب الكذب، وقد يسمعه أحد وهو يقول “بعد عدم الاحتفال برأس السنة”، مع انه احتفل به – بالمشاركة الإلكترونية عن بعد- وهو جالس على بعد كيلو ونصف من بيت السفير الأمريكى، حيث أقام الأخير حفلة لم تحدث من قبل، لأنه دعى إليها السيد البدوى شخصيا، ردا على زيارته طنطا فى احتفالية مولده.
ليس هذا هو المهم، المهم أنه حين تحسس جيبه وجد أن الولاعة أكبر بكثير من حجمها المعتاد، حتى ملأت كفه كلها، حسب لأول وهله أنها حافظة المفاتيح، وأن الولاعة فى الناحية الأخرى التى أثبتت أنها خاوية على عروشها، فعاد إلى الجيب الأول فوجد أن الحجم أكبر وأكثر ليونة، وأنه يتصلب رويدا رويدا، فطرد إحساسا كان قد تحرك فيه مع استعادة جسده لقدرته على الإحساس حتى دون حواس، استعادها بالمطر فالتعرى فالسماء فالشمس، فطَرَدَ ذكريات سرية من أيام المراهقة، وحتى بعد الزواج، يقصد: وأكثر بعد الزواج، الشىء الذى بيده داخل جيبه يزداد برودة ويزداد صلابة حتى صار أقرب إلى أن يكون مصنوعا من معدن استشعر لمعانه من فرط نعومة سطحه.
انتبه إلى أن الرجل الشبح مازال واقفا ينتظر نتيجة هذا البحث العلمى، الرجل الشبح بدوره رجح أن الرجل الجالس لا يحب هذا النوع من البحث، وإنما هو يكتب الآن رواية طويلة راح يقرأها فى تعبيرات وجهه بسهولة غريبة، وحين وصل إلى حيرة الكاتب الجالس فى كيف ينهى روايته، قرر أن يساعده، فسأله مباشرة:
- ماذا بك؟
فاجاب الرجل الجالس دون تردد
- الدهر.
قال الرجل الشبح
- ماله؟
قال الرجل الجالس
- ابن “قحبة”
قال الرجل الشبح
- موافق
قال الرجل الجالس
- أنا لم أطلب موافقتك، ثم إنى قد أرجع عن رأيى فى أية لحظة
قال الرجل الشبح
- أعرف عنك ذلك
قال الرجل الجالس
- أنت لا تعرف شيئا، ولا حتى نفسك
قال الرجل الشبح
- أتحداك
قال الرجل الجالس
- قبلتُ التحدى
قالها الرجل الجالس وهو يخرج يده التى كانت ممسكة بالجسم الشىء الصلب اللامع، وحين فعل ذلك مال الرجل الشبح عليه وقد عدل السيجار الرفيع فى وسط فمه استعدادا لإشعاله، فأفرغ الرجل الجالس فى سقف حلقه ست طلقات دفعة واحدة، وحمد الله أنه كان كاتما للصوت.
رنّ جرس المحمول فى نفس اللحظة، فلم يفزع، جاءه صوتها غريبا وكأنه ليس صوتها، قالت له “أين أنت حتى الآن؟ شغلتُ عليك، عندى لك خبر يستأهل حضورك حالا، أنا أنتظرك، تعالَ بسرعة”، صمت غير قليل ولم يجد ما يقوله ودم القتيل مازال ساخنا، استطاع أن يقول لها أخيرا: “لكن ما هذا الخبر أولاً”؟، قالت بتردد متوسط “أنا حامل”، قال: دون أن يدرى، ودون أن يفكر فى تشخيص مرضه، “وأنا أيضا”، قالت له ضاحكة لتأكدها من أنه يمزح، “أنت ماذا؟”، قال لها: “لا عليك، أنا قتلت قتيلا منذ قليل”، ضحكتْ أكثر وهى تقول له: “كفى مزاحا، أنا فى انتظارك بجد، هذه الليلة حاجة ثانية” .
ركب التاكسى الذى وقف له دون إشارة واضحة، أعطاه العنوان وهو يدهش أنه ما زال يذكر عنوان بيته، أخذ ينظر فى مرآة السيارة ليتأكد أنه هو، أحكم أزرار المعطف حول رقبته وقد تأكد أنه جف تماما، فجأة طلب من التاكسى أن يعود أدراجه متعللا بأنه نسى شيئا على الأريكة الرخامية التى كان يجلس عليها، استجاب سائق التاكسى بدون ضجر، ودعا له أن يعثر على ما نسيه، وحين عاد إلى نفس المكان نظر من النافذة فلم يجد أثرا لأى شىء، أين الجثة؟
لم ينزل من التاكسى الذى تعجب قائده، فلحقه الرجل موضحا بأنه قد عثر على ضالته فى أحد جيوبه،
وأنه آسف،
وأنه شاكر.