“يوميا” الإنسان والتطور
13-3-2008
العدد: 195
قراءة فى أحلام فترة النقاهة
نقدٌ على نقد!!
بداية الدورية النقدية لأعمال: نجيب محفوظ
وقفة ضرورية:
الآن، وبعد أن بلغنا الحلم (40) ماذا بعد؟
ماذا كنت أعنى بالضبط حين اقترحت المرة تلو المرة إصدار دورية نقدية تختص بنقد أعمال نجيب محفوظ؟ كانت البداية بعد حصوله على جائزة نوبل، (يومية “الدعوة عامة، والبداية مع نجيب محفوظ ..!!) ثم كررت الدعوة فى كل مناسبة، وعبر كل قناة، حتى بعد أن رحل (برنامج مباشر “الذكرى الأولى الأستاذ لرحيل نجيب محفوظ”) وما رحل، ثم إنى حين عجزت عن تحقيق هذا الأمل، وحين خصصت له يوم الخميس من هذه اليومية سحبتنى أحلام فترة النقاهة إليها تماما، فحالت دون مواصلة تبادلها مع ذكرياتى “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”.
هانحن قد وصلنا إلى الحلم رقم (40)، لكننى لم أرتح أبدا لانفرادى بالنقد دون حوار حقيقى، اللهم إلا ما يجيئنى طيبا فى بريد الجمعة (مما سأعود إليه فى دراسة لاحقة).
لاحظت طوال ستة أشهر أن صعوبتى تتزايد باستمرار، ذلك أننى كلما تقدمت فى القراءة خشيت أن يستهوينى العثور على رمز هنا أو هناك فيطفو على حساب إعادة التشكيل نقدا، كذلك شعرت أننى بين الحين والحين أتلقى بعض الأحلام بفتور لايثير فىّ حاستى النقدية، وأفسر ذلك مرة بأن من حق المبدع أن تتماوج حدة إبداعة لظرف أو لآخر، كما أن من حق الناقد أن تخمد مسام تلقيه لبعض العمل، وأن يتعامل معها بنفس الصدق الفاتر الذى افترضه فى المبدع (ربما دون وجه حق)، أى أن يستعمل نفس الحق (أن تتراخى حاسته النقدية)، تبدى هذا بعض الشئ فى حلم (39) الأسبوع الماضى، وقبل ذلك ألمحت إليه فى حلمىْ (6 ، 11) وإلى درجة أقل (22) ثم حلم (41) الذى كنت أزمع نشره اليوم، وتأجل للأسبوع القادم.
حاولت أن أبحث فيما يصلنى من بريد وتعليقات حول الأحلام بالذات عن ما يعيننى فى تذليل صعوبتى، أو تعديل وجهتى، أو ما يدفعنى أن أؤجل الأمر برمته إلى حين أقدر على القيام بالدراسة الطولية الجامعة، وجاءنى الرفض واضحا من معظم المعقبين، وطلب أغلبهم منى أن أواصل.
كنت أرد على هذه الآراء أحيانا فى بريد الجمعة، وأستفيد من ذلك، لكن ليس أبدا إلى درجة أن أتخذ قرارا حاسما.
أمس فقط وصلنى نقد مطول لحلمَىْ الأسبوع الماضى (39 ، 40) بشكل جاد مسئول، شعرت معه أن هذا هو ماكنت أنتظره منذ البداية، وهو ما أسميته “النقد الآخر”، أو “نقد على نقد،” المهم أن هذا النقد الذى وصلنى التقط من حلم (39) ما غاب عنى فعْلاً حتى أعتبرته حلما فاترا، وإذا بهذا النقد الجديد يكشف لى عما أغفلته، فَرحْتُ به، بقدر ما خجلت من قصورى لما فاتنى، فيما يتعلق بحلم (39)، دون حلم (40).
وبعد
لعل هذا بالضبط هو ما كنت أعنيه، وآمل فيه، حين طالبت بإلحاح إصدار دورية نقدية خاصة بأعمال نجيب محفوظ، ليس لنصفق له أو نتذكره باستمرار، فهو لا يحتاج (ولم يحتَجْ أبدا) إلى هذا أو ذاك، ولكن لنستحث النظر إلى أعماله من أكثر من زاوية، وأيضا لنتحاور حولها، ونختلف، ونتكامل، إذْ يكمل كل منا نقص الآخر.
فكرة “نقد النقد“، أو “نقدٌ آخر“، أو “نقد على نقد“، هى التى يمكن أن تحيى الحركة النقدية عموما، وكان أملى أن تبدأ بشيخنا لأنه بحر زاخر، وأعماله قادرة على أن تفسح المجال لكل وجهات النظر. (سبق أن أشرت إلى أنه: خذ من محفوظ ما شئت لما شئت!!).
نقد النقد جائز، حتى لو كان الناقد هو هو، فإن من حقه أن يغير رأيه مع شحذ أدواته، أو تواصل نضجه،
هذا ما حدث لى شخصيا بالنسبة لبعض أعمال محفوظ، خذ مثلا: موقفى من نقدى للشحاذ (قراءات فى نجيب محفوظ)، أو السراب، أو ملحمة الحرافيش .
مع ورود هذا النقد الأخير حالا من أ. أمل زكى، وهو ليس تعقيبا، وإنما هو نقد فائق برؤية مستقلة، تذكرتُ ما أودعته من نقد د.أميمة رفعت فى زاوية “المحررون الضيوف“، وأيضا ما قمت به شخصيا من نقد على نفس الحلم فى زمنين مختلفين، وأودعته هناك أيضا “مع الضيوف“، شككت مؤخرا أن أحداً فتح هذه الزاوية من أصله، ذلك أنه لم يصلنى تعليق واحد على ما كتبته د.أميمة، ولا على ما أودعتُه أنا أيضا من نقد نفس الحلم (حلم 14) فى تاريخين مختلفين،
قررت – الآن- لتأكيد فكرة نقد النقد، وربما أملاً أيضا فى احتمال البدء فى تحقيق الفكرة الخاصة بدورية محفوظ النقدية، قررت ما يلى :
- أن أنشر ما وصلنى مؤخرا من “الناقدة” أ.أمل زكى مع تعقيب محدود،
- ثم أعيد نشر نقد د. أميمة
- وكذلك أعيد نشر نقدى المتباعد عن بعضه بفاصل عامين.
أمِلاً أن يتضح بذلك ما قصدت إليه، من “نقد النقد” أو “نقد على نقد“،
هذا وسوف أنشر نص الأحلام من جديد – برغم التكرار – وذلك احتراما لوقت المشاركين، بدلا من أن أحيل القارئ إلى يومية سابقة.
أرجو أن تكون هذه البداية حافزا حقيقيا لاستمرار المشاركة الجادة.
***
أولا: نص حلم (39)
دخلت حجرة الوزير ومعى بيان مكتوب على الألة الكاتبة بأسماء الموظفين المرشحين للترقية. اسمى بينهم وواضح أن الوزير يخصنى بالرعاية.
وقع الوزير البيان فى أعلاه وذهبت به إلى إدارة المستخدمين لتنفيذه. اتجهت إلى الموظف المختص وكانت فتاة شابة وجميلة. نظرت فى البيان ولاحظت أن الوزير وضع إمضاءه فى أعلاه وأنه كان يجب أن يضعه فى أسفله. وإلا فإنها لن تستطيع تنفيذ أمر الترقية على الموظفين المسجلين فى أعلاه، اغتظت وشكوت ما نلاقى من الروتين ولكنها أصرت على موقفها فحملت البيان من جديد إلى الوزير فوقع اسمه فى الموضع الصحيح وهو يضحك. ورجعت إلى الفتاة وسلمتها البيان. وكانت تجلس على يمين مكتبها موظفة صديقة معروفة بالمرح فدافعت عن تصرف زميلتها قائلة إنها تضن بالترقية على الموظفين العزاب وترى أن المتزوجين أولى بها. وتظاهرت الموظفة بأنها تضايقت من إذاعة هذا السر ولما قابلتنى الموظفة المرحة بعد ذلك سألتنى عن رأيى فى موظفة المستخدمين فصارحتها بأنها أعجبتنى فاقترحت أن تبلغها بإعجابى كمقدمة لجمع رأسين فى الحلال. فطلبت مهلة للتفكير فقالت إننى لم أعد شابا وأن عمرى يضيع فى التفكير وأصرت على إبلاغها واستسلمت فلم أرفض.
نص: حلم (40)
قبيل المساء وأنا عائد إلى بيتى متدثرا بالمعطف والكوفية اعترض سبيلى صبى وصبية غاية فى الجمال والتعاسة وطلبا منى ما أجود به لوجه الله وبحثت فى جيبى عن فكة فلم أجد فأخرجت ورقة من ذات الجنيهات الخمسة وطلبت من الصبى أن يذهب الى أقرب كشك ويشترى لى قطعة شيكولاتة ويجيئنى بالباقى. وما غاب الصبى عن عينى حتى بكت الصبية واعترفت لى بأن أخاها يعاملها بغضب شديد ويدفعها لارتكاب الأخطاء فهى تزداد كل يوم انحرافات وشرا وتدعو الله أن ينقذها مما تعانى. تأثرت وتحيرت. ثم عرفت أن الصبى لن يعود وأدركت مدى حماقتى لما أوليته من ثقة وتذكرت كيف يتهمنى أهلى بالطيبة والغفلة ولكنى لم أترك له أخته وأخذتها إلى بيتى لتبدأ حياة جديدة مع أهلى. وتحسنت أحوالها وبدت وكأنها من الأسرة لا شغالة لها.
وذات يوم جاء لى شرطى ومعه الصبى الأخ ولما رأى أخته أمسك بها. وعلمت أنى مطلوب فى القسم وهناك وجُهت إلىّ تهمة اغتصاب البنت والاحتفاظ بها فى بيتى بالقوة وذهلت أمام ما يوجه إلى وطلبت من البنت أن تتكلم فبكت ووجهت إلى من الكبائر ما لم يخطر لى على بال. وكان المحضر يسجل كل كلمة والدنيا تسود فى عينى وعلى الرغم من إيمانى الراسخ فلم تغب عنى خطورة الموقف.
* * *
الجزء الأول: نقدٌ على نقد(1)
قراءة أخرى فى أحلام نجيب محفوظ
قراءة لحلم (39 ، 40) أمل زكى.
علاقة محفوظ بالمرأة الظاهرة فى كتاباته مثيرة للجدل. فحلم (39) لا يمكن قراءته بدلالاته المباشرة. ولا أعتقد أن محفوظ يكتب سرد الأحداث بعينها منقولة مباشرة من الواقع، وإلاّ أين الإبداع، هل الإبداع هو مجرد رسم صورة بكلمات متماسكة جميلة، تشبه لوحات الطبيعة؟
فى تصورى أن التوقيع أعلى قائمة الترقيات، ثم أسفلها يشير إلى لغة خفية للحوار بين الوزير والفتاة الشابة، فتوقيع اسمه أعلى القائمة ربما يشير إلى أنه يبدّى نفسه على العزاب المكتوب اسماؤهم بقائمة الترقيات فى علاقته بالموظفة الجميلة. فلم نر أبداً مسئولاً يوقع أعلى الأوراق الرسمية، المتعارف عليه أن المسئولين يوقعون أسفل الموضوع وليس اعلاه. لكن الوزير وضع اسمه على قمة القائمة، بينما ترفض الموظفة الجميلة تنفيذ الأمر، وتنفيذ الترقية بهذا الشكل يعنى موافقة الفتاة الجميلة على علاقة خاصة بالوزير، المتزوج غالباً. والجملة التالية “وإلا فإنها لن تستطيع تنفيذ أمر الترقية على الموظفين المسجلين فى أعلاه” بها بعض الغموض المقصود فيما يتعلق بلغة الحوار الخفية بين الوزير والموظفة الجميلة، فلا يوجد موظفون مسجلون بالقائمة أعلى توقيع الوزير، بل جميع الأسماء أسفل التوقيع، وبالتالى فهى ترفض تنفيذ أمر الترقية على الوزير نفسه الذي يتصدر اسمه القائمة. وبالتالى فإن قبولها تنفيذ الترقية بهذا الشكل يعنى موافقتها على قبول علاقتها به، ووقف زواجها من أحد الموظفين العزاب الموجودين بقائمة الترقية. ولهذا فإعادة قائمة الترقيات للوزير مرة أخرى ليوقع فى الموضع الصحيح، هى استمرار للحوار الخفى بين الموظفة الجميلة والوزير، وهى بهذا تخيره بين زواجه منها أو قبولها بتنفيذ أمر الترقية بالزواج من أحد العزاب الموجودين بالقائمة. ولهذا يضحك الوزير ويوقع فى الموضع الصحيح، ويعرف حدود العلاقة بينه وبينها فيضع اسمه فى نهاية القائمة. إن إفشاء الصديقة المرحة لسر الفتاة الجميلة بإدارة المستخدمين بأنها تضن بالترقية على الموظفين العزاب وتعتبر المتزوجين أولى بها، يلقى الضوء على ما أشرنا إليه من أن الفتاه الجميلة تعطى نفسها للوزير المتزوج، ولا تسمح لأحد من العزاب الإرتقاء لمكانته عندها، ربما أملاً فى الزواج منه. وبهذا يحمل عدم تنفيذ أمر الترقية معنى آخر غير معناه المباشر. وهو أن الفتاة تساوم الوزير إما بالزواج منها، أو استبدال آخر مكانه وترقيه لمكانة أعلى من مكانة الوزير لديها فيصبح الوزير فى نهاية القائمة. لكن الوزير يضحك ويقبل بالأمر الواقع. ثم يأتى بعد ذلك دور الموظف “الساذج” الذي لا يفهم هذه اللغة المشفرة الدائرة بين الوزير والموظفة الجميلة. ويعتبره روتينا. ثم يتم فك اللغز فى نهاية الحلم. بأن تذيع الفتاه المرحة سر الفتاه الجميلة، بأنها تريد الزواج من أحد عزاب القائمة، و”تتظاهر” الفتاة الجميلة بالضيق من إذاعة سرها. ولم يكتب محفوظ أنها أغتاظت من إذاعة السر، بل تظاهرت بالضيق، مما يعنى أنها قررت وضع الوزير فى مكانةٍ أدنى، وترقية آخر مكانه. . ثم تمارس الموظفة المرحة دور الخاطبة بين الموظفة الجميلة التى تربطها بالوزير علاقة مشفرة وبين هذا الموظف “الساذج” الذي لا يفهم هذه الشفرة ويعتبرها نوعاً من الروتين. وفى النهاية يستسلم الموظف ” الساذج” للزواج من الفتاه الشابة الجميلة، لكن محاولات التملص من عرض الزواج الذي حاولت الفتاه المرحة (الخاطبة) إقناعه به مدعية بأنه لم يعد شابا، وأن عمره سيضيع فى التفكير تتكشف فى نهاية الحلم عن رجل ليس ساذجا كما بدا لنا فى البداية، بل على دراية ولو غير واضحه المعالم، باللغة المشفرة الدائرة بين الفتاة التى أعلن إعجابه بها وبين الوزير. وهنا بدا استسلامه للعرض وعدم رفضه الزواج منها ليس اقتناعاً بالمبررات التى قدمتها الفتاه المرحة، ولكن قبولاً بالواقع المر الذي لا مفر منه، واقع رغبة الرجل فى هذه المرأة الشابة الجميلة واضطراره للقبول بها رغم توجسه وتردده فى الزواج، ربما بسبب شعور خفى يجعله يتحفظ على سلوكها وهو ما ظهر بنفس الطريقة فى الحلم (15) حين طلب الموظف الآخر الزواج من امرأة ليست بالجميلة بل وسيئة السمعة، لكنها رفضته. التقابل المستمر الذي يصنعه محفوظ فى رواياته واحلامه بين المرأة حبيسة القضبان، التى يهرب منها زوجها للراقصات، والمرأة الراقصة، بائعة الهوى، سيئة السمعة، ناكرة الجميل يقدم فى النهاية نموذجين سيئين للمرأة لم يستطع محفوظ التخلص منهما فى معظم أعماله الأدبية. المرأة عند محفوظ اما حبيسة الجدران مثل الست أمينة، أو مضطرة لبيع جسدها بسبب الفقر، أو غير موثوق في أخلاقها كما فى هذين الحلمين. ثم ناكرة للجميل كما فى الحلم (40) الذى سنتعرض له. هذا لا يقلل من القيمة الأدبية لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ، بل بالعكس يزيد من تقديرنا له، لأنه يمثل فكر الرجل الشرقى تجاه المرأة، وقد عبر عنه إبداعاً فى أعماله. فهناك الرجل القاهر المستبد الذى يبيح لنفسه كل شئ ويقمع حريمه، والرجل المسكين المضطر لخوض تجربة العلاقة بامرأة تدرك وجودها الأنثوى، متجرداً من الحقوق التى أعطاها له المجمتع باعتباره سى السيد. هذه العلاقة المجردة من ممارسة السلطة والقهر تضع الرجل فى اختبار حقيقى فى علاقته بالمرأة. فهى إما أن تقبل به كآخر حقيقى، وإما أن ترفضه. هذا الرفض يعتبره الرجل جرحاً شديداً لذاته. الذات الرجولية التى ضخمها الواقع الاجتماعى فجعلت من الرجل بالوناً كبيراً، يفرقع بشكه دبوس واحدة. فالذات الحقيقية لرجل تملؤه التجربة الإنسانية الحقيقية، لاتنهار من شكة دبوس، بل تقوى لتتكامل ذكورة الرجل مع الإنسان الحقيقى بداخله.
تعقيب محدود من د. يحيى:
أعترف أنه قد غاب عنى هذا “السيم” (الشفرة) المحتمل بين الوزير وموظفة المستخدمين، وأشهد أن هذه الرؤية النقدية قد جعلت الحلم، أكثر حيوية وحضوراً، وليس فقط أقل فتورا، إذن فسيادة الوزير الذى لم يصلنى من هيبة منصبه إلا استبعاد أن يشارك فى “جمع رأسين فى الحلال”- كان “يلاعب” البنيّة، وأنا لا أدرى، ثم جاء هذا “النقد على النقد” ليكشف لنا كيف أن الأمر بلغ أن يُستعمل هذا الموظف “الدُغُفّ رائحا غاديا. يوصل الرسائل ليستسلم فى النهاية إلى ما لا يعرف،
فجأة أطل علىّ وجه “محجوب عبد الدايم” من “القاهرة الجديدة” وتصورت أن هذا الأفندى الذىّ قبل الخطوبة بقوله: “استسلمت ولم أرفض”، تصورت أنه قد ينتهى به الحال إلى دور محجوب عبد الدايم بعد أن يتزوج حضرته من هذه الموظفة الناصحة، بتزكية زميلتها المرحة،
أم يا تُرى سوف تتأبى عليه هذه الذكّية الواعية، وعلى الوزير معاً، وهما وجهان لعملة واحدة، وتَثْبت أكثر فأكثر فى مواجهة “ريالة” الرجال، فى مقابل تفاهتهم؟
كل هذا لم يرد على بالى ناقداً ابتداءً،
لكنه وصلنى من هذا “النقد على النقد” هكذا.
حلم (40) والمرأة ناكرة الجميل
فى حلم (40) أظهر محفوظ “الرجل العائد لمنزله متدثراً بالمعطف والكوفية” بصورة الرجل الطيب، فاعل الخير، المتهم من أهله بالطيبة والغفلة. منقذ الفتاه الجميلة التى يدفعها أخوها للتسول وارتكاب الأخطاء. رجل يأوي الفتاة الجميلة فى بيت أسرته ليست كخادمة ولكن باعتبارها أحد افراد الأسرة، رجل راسخ الإيمان رغم خطورة المصيبة التى وقع فيها بسبب هذه الفتاه التى ساعدها.
أما الفتاة فهى جميلة وتعيسة، عديمة الأخلاق، اتهمته باغتصابها والاحتفاظ بها فى بيته بالقوة. رغم سلوكه الخير معها.
تتكرر فى هذا الحلم أيضاً صورة المرأة الغشاشة المخادعة، ناكرة الجميل. تماماً مثل موظفة الوزير، والفتاة سيئة السلوك التى رفضت الزواج من زمليها بالعمل.
على الرغم من أن هناك مثل هذه النوعية من النساء والرجال فى الواقع الذي نعيشه، لكن تكرار وصف المرأة بانعدام الاخلاق فى هذين الحلمين وغيرهما مثير للتساؤل فى الحقيقة. كما أن تكرار وصف الرجل بالسذاجه والطيبة مثير للإندهاش ايضاً. فالرجل الذي أدرك مدي حماقته لثقته فى الصبى، وتذكر اتهام أهله له بالطيبة والغفلة، لم يدرك أن هذه الصبية الجميلة التعيسة هى نفسها أخت هذا الصبى المخادع الذي أخذ النقود وهرب. والغريب أن الرجل انتقم من الصبى الذي لم يعد بأنه “لم يترك له أخته، بل أخذها لبيته”. ولا نعرف ماهو الدافع الحقيقى الذي جعله يأخذ اخته، هل لجمالها، ام لأنه اشفق عليها من هذه الحياة التعسه. وهل هناك من البشر من هو خير على طول الخط، ومن هو شرير على طول الخط. أم أن الإنسان ليس سوى مزيجاً من هذا وذاك. يتزايد أو يقل شره أو خيره حسب الظروف التى يعايشها، ويخضع لها أو يقاومها.
أثارنى فى الحقيقة هذا الوصف المطلق للخير والشر، وتعجبت من هذا الحلم لمحفوظ لأنه يناقض أغلب الشخصيات التى رسمها فى رواياته وغاص فيها بخيرها وشرها. اللص والكلاب، السمان والخريف، بداية ونهاية، الشحاذ وغيرهم.
أما أن تقوم فتاه صغيرة جميلة بتوريطه فى قضية اغتصاب بعد أن اكرمها وجعلها أحد افراد أسرته، فهو جائز الحدوث باعتباره شراً مطلقاً يمكن أن يلبس الإنسان فى لحظة ما. لكن أن يصل الشر إلى حد تعريض الرجل الذي أكرمها لحبل المشنقة او السجن مدي الحياة فهذا أمر مدهش فى الحقيقة. حتى اللص فى اللص والكلاب لم يكن بكل هذا الشر. من الجائز أن الفتاه الصغيرة تعرضت لإيذاء شديد من قبل الرجل، أياً كان نوعه، حتى ولو كان هذا الإيذاء تمثل فى إجبارها على التخلى عن حياتها السابقة. ولهذا أرادت أن تنتقم من الرجل بهذا الشكل الشنيع. فقد كان بإمكانها أن تهرب، أو أن تتحالف مع أخيها لابتزاز الرجل مادياً، لكن أن يصل موقفها لحد الانتقام منه وإنهاء حياته، وإتعاس اسرته التى كانت أحد أفرادها، فلابد من وجود مبرر قوى لديها دفعها لفعل ذلك. وهناك احتمال آخر ربما رغبه الأخ فى الانتقام من الرجل الذي حرمه من التكسب من وراء اخته واستخدامها فى التسول، أو غير ذلك. فمن الممكن أن يكون الأخ قد هدد أخته ودفعها لاتهام الرجل باغتصابها رغبة فى الانتقام منه. ولهذا بكت وهى تتهمه بالكبائر.
تعقيب د. يحيى:
بقدر ترحيبى بما غاب عنى فى حلم (39) وفرحتى ببداية ما أسميته “نقد على نقد”، وتصورى أن مثل ذلك سوف يكون النواة لدورية نقد محفوظ، التى آمل أن تكون حوارا جادا مثل هذا، برغم كل ذلك فإننى تحفظت على هذا النقد الجديد لحلم (40)، والتحفظ لايعنى الرفض بقدر ما هو دعوة إلى ناقد ثالث ورابع، وأكثر، بأن يسهم كلُّ بما لديه، فتتحّرك الدورية.
“المرأة عند نجيب محفوظ”، أقصد فى أدبه، تمثل إشكالا قائما بذاته يحتاج دراسة ممتدة، حاولت أن أتذكر مقالا أو كتابا أحسب أنه قد ظهر بهذا العنوان، أو لعلها دراسة، لم تسعفنى الذاكرة، وسوف أسأل الصديق د. زكى سالم عن ذلك .
أذكر أيضا أنه قد وصلنى سؤال بهذا الصدد عن محفوظ والمرأة فى بريد الجمعة وقد تحفظت فى الرد عليه، فتصدى للرد زائر آخر فى الأسبوع التالى وتحفظت أيضا فى الرد على المعقب دون ذكر أسباب. وأورد فيما يلى نص ذلك:
د. محمد نشأت (الحلم 31) 29-2-2008
لماذا المرأة غالبا هى محور أحلام نجيب محفوظ ؟
د.يحيى:
– (ما هذا؟) حتى لو كان شيخى حيا – وهو عندى مازال حيا على فكرة – وسألته لما أجابنى على سؤالك (هذا).
د. هانى عبد المنعم: حوار بريد الجمعة 7-3-2008
رداً على تساؤل د. محمد نشأت (الحلم31) 7-2-2008 لماذا المرأة غالبا هى محور أحلام نجيب محفوظ. أستأذنك سيدى بالرد بشكل عام، فلست متخصصاً فى كتابات النُوبَلى نجيب محفوظ، ولكن بشكل عام بالنسبة للرجل – المرأة علامة استفهام- جانب مظلم بداخله يبحث له دائما عن شمعة تضيئة فتظهر زاوية فتنطفئ ويشعل شمعة أخرى لتظهر زاوية أخرى وهكذا… بالإضافة إلى أنها وقود محرك للفكر الذكورى ومحور إلهامه.
هذا، والله أعلم.
د. يحيى:
الله أعلم، فعلاً !
(ما هذا؟)
ثم دعنى لا أوافقك، لا بصفة عامة، ولا بالنسبة لنجيب محفوظ
كما أن نجيب محفوظ لا يوصف بالنوبلى، لا تؤاخذنى، بدون تحيز، لقد شرَّف الجائزة أكثر مما شُرف بها، وفى كلٍّ خير ومعنى.
(انتهى ردّ بريد الجمعة):
والآن أسمح لنفسى أن أضيف عدة تحفظات على هذا الحوار المؤجل:
أولا: أنا أتحفظ بشكل واضح على مثل هذه الانطباعات سواء بالنسبة لنجيب محفوظ أو بوجه عام، أتحفظ ضد اختزال المرأة إلى وقود محرك للفكر الذكورى، وضد اعتبارها بمثابة جانب مظلم بداخل الرجل، أو حتى محور إلهامه، ومحفوظ ليس له شأن بكل هذا.
إن مثل هذا الرأى. يصلنى على أنه إهانة للرجل أكثر مما هو إهانة للمرأة، فإذا كان الرجل يستحق هذه الإهانة لأنه السبب فيها غالبا، فبأى حق يتمادى هذا الخطأ الذكورى؟ وما هو تبرير إهانة المرأة، هكذا؟ وكأنها حضور مكمل أو ثانوى، وهو أمر ضد كل التاريخ الحيوى، والبشرى، والآنىِ بشكل أو بآخر.
فى دراساتى لمحفوظ حتى الآن، ما نشر منها، وما هو قيد النشر لم تحضر المرأة أبدا بهذه الصورة. المرأة حضرت دائما فى سياق الإبداع فى كل حال بما يقتضيه الحال: بما يكمل نسيج الإبداع فى موقف بذاته: خديجة عائشة غير أمهما أمينة، زهيرة (شهد الملكة) فى ملحمة الحرافيش غير ألفت الدهشورى، هذا فضلا عن أن شخصيات محفوظ غير ثابتة، للرجل والمرأة على حد سواء، يحدث هذا فى روايات “التطور التقليدى“، كما يحدث أكثر بكثير فى قصص وروايات “التفجر التحوّلى” ذات النقلات النوعية، مثل “رأيت فيما يرى النائم“، و”ليالى ألف ليلة“، ثم هنا فى “أحلام فترة النقاهة”، كل هذا يشير إلى ضرورة أن يقتصر كل حكم نقدىّ على موقعه، إلا فى الدراسات “المشتملة” التى لا يُرَدٌّ عليها إلا بدراسة مشتملة مقابلة، مثلما ردّ د.محمد حسن عبد الله على د.غالى شكرى (المنتمى <==> الروحانية).
……..
أما بالنسبة لتحفظى على ما هو “نقد على نقد” بالنّسبة لحلم (40) هنا، فمع أن الناقدة أقرت أن محفوظ غاص فى “أغلب الشخصيات التى رسمها فى رواياته، ليجمع فيها بين الخير والشر (اللص والكلاب، والسمان والخريف، والشحاذ … الخ) إلا أنها رأت أن ذلك لم يتحقق لا فى هذا الحلم ولا فى حلم (15) وربما غيرهما.
فإن صح بعض ذلك، فلابد أن يقتصر هذا الرأى تحديداً على نصِّ بذاته دون غيره، وقد أجلت –شخصيا- البحث عن هذه الانطباعات الشاملة فى، ومِنْ، أحلام فترة النقاهة إلى الدراسة الجامعة لاحقا.
المنهج الذى أتبعه هنا، وهو المنهج التشريحى ثم إعادة التركيب، تعلمته من قراءتى لأصداء السيرة، وقد بدأت فعلاً الدراسة المشتملة للأصداء بفصل واحد عن “الطفولة: نبض دائم متجدد (فى كل الأصداء: 223 فقرة)، هذا الفصل اضطررت أن الحلقة بما نشر لى مع الدراسة التشريحية، (كتاب أصداء الأصداء) خوفا من أن يسبقنى الأجل قبل أن أختم ما تعهدتُ به.
ملحوظة: قمت بمراجعة الأربعين حلما التى نقدتُها حتى الآن، لأبحث كيف ظهرت المرأة فيها، فلم تحضرنى بتواترٍ كافٍ إلا “الفتاة” مقارنة بحضور “المرأة“، وقد أجلت التعليق على ما وجدت بصفة مبدئية إلى الدراسة الشاملة إذا كان فى العمر بقية.
* * * * *
الجزء الثانى : نقدٌ على نقد(2)
ثانياً: نص الحلم (20)
خرجنا باحثين عن مكان طيب نمضى فيه بعض الوقت. ونظرنا إلى الهلال ثم تبادلنا النظر. ورأيت على ضوء المصباح رجلا عملاقا لم تر العين مثله أرسل عمودا لا مثيل لطوله نحو الهلال حتى بلغ طرفه. وراح بحركة ماهرة يفرد طيات نوره حتى استوى بدرا وسمعنا اصوات تهليل فهللنا معها وقلت أنه لم يحدث مثل هذا من قبل فصدقت على قولى، وانساب النور على الكون رفعنى على سطح الماء فهتفت “ليلة قمرية” فقلت “القارب يدعونا” وركبنا ونحن فى غاية السرور، وغنى الملاح “رايداك والنبى رايداك”، وأسكرنا الفرح فاقترحت ان نسبح حول القارب وخلعنا ملابسنا ووثبنا الى الماء وسبحنا ونحن فى غاية الامتنان ولكن القمر تراجع فجاة إلى الهلال واختفى الهلال.. انزعجنا انزعاجا لم نعرف مثله من قبل، ولكننى شعرت بأنه يجب مراجعة الموقف بما يتطلبه من جدية فقلت ونحن غارقان فى الظلام “لنسبح نحو القارب” فقالت “وإذا ضللنا الطريق”؟ فقلت: “نستطيع أن نسبح حتى الشاطئ فقالت: “سنكون عاريين على الشاطئ” فقلت: فليؤجل التفكير فى ذلك.
(الخط تحت بعض العبارات ليس فى الأصل)
****
قراءة د. أميمة رفعت
لاحظت أيضا الدهشة المتكررة، ولاحظت معها \”البدايه\” كما وضعتموها بين القوسين، فما لم نره من قبل هو شىء جديد.. بداية جديدة والجديد يدعو دائما إلى الدهشة… دهشة ممزوجة بالفضول، ولكنه هنا ليس فضولا حذرا بل على العكس هو فضول فرح سعيد، و قد أشعل حماستهما حتى أنهما أخذا يهللان ويغنيان بل \”واسكرهما الفرح\” ففقدا الشعور بالواقع..بالفعل ونتائجه \”فخلعا ملابسهما\”…. ومع إختفاء النورالذى\” لا مثيل له\” وتراجع البدر\”فجأة\”، تكون الصدمه و\”الإنزعاج\” الذىيرجع بالوعى والإدراك للواقع ويضطرهما للتعامل معه.
الحلم به أكثرمن بداية جديده، بل أنه أوحى إلى بالولاده الجديدة…ولاده هلال جديد… ولاده حياة جديده، تتطلب رجلا وإمرأة ربما آدم وحواء يسبحان نحو “الشاطىء”، أو يتجهان نحو الأرض الجديدة، فأدركا ما هما عليه من عرى ويتدبران أمرهما.
وأنا اتفق معكم فى الرأى تماما فالحلم يجسد دورة الحياة، البداية و النهايه، فالنور يبدأ و يعلو ويمتد ليغمر الكون ثم يخبو ليعم الظلام ، فهو يأتى من الظلام لينتهى إليه مرة ثانية والهلال يكبر ويكون فى أوج جماله ليتراجع هلالا مرة أخرى، والحالة الشعورية تأتى من مستوى هادىء لإثنين يبحثان عن \”مكان طيب\” يقضيان به \”بعض الوقت\” إلى فرحة غامرة ثم حالة حماسية لا شعورية لتخبو فى النهاية مثل كل شىء وترجع لمستواها المعتدل الواعى الذى \”يتطلب الجدية\”..أما رحلة العودة التى بدأت من الشاطىء ولابد لها أن تنتهى أيضا عند الشاطىء فقد تركت مفتوحة…فرحلة الإنسان تملؤها الخيارات والاحتمالات…فربما تنتتهى به فى\”القارب\” أو\” يضل الطريق\” أو يصل إلى شاطئه عارياًمفضوحاً..فى كل الأحوال هو يحتاج إلى \”التفكير\”..أليس الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يفكر ويختار اولوياته خلال دورة حياته حتى النهاية؟
وقد أعجبتنى جملتكم \”الحوار الفاعل بين الإنسان و الكون\”، فأنا أؤمن تماما بأن الإنسان يؤثر فى الكون ويتأثر به، أليس هو جزء منه فى النهاية؟.
وقد ذكرنى هذا الحلم/ الإبداع بفكرة (التقابل أو التشابه) أعتذر عن عدم إلمامى بالترجمة العربية للكلمة، وقد كانت فكرة شائعة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فى ألمانيا ثم فرنسا. La correspondence، وتبعا لهذه النظرية فكل شىء فى الكون له ما يناظره فى الأشياء الأخرى، فما فى السماء له ما يناظره على الأرض، وما على الأرض من جماد له ما يناظره فى الكائنات الحية، حتى الحواس تناظر بعضها البعض: فيمكن للرائحة أن ترى والسمع أن يبصر وهكذا…
وفى الحلم يظهر التقابل بين الكون والإنسان، ويكون الاتصال بعمود عجيب من النور يصل الأرض بالهلال، ينشر النور بالكون فيقابل هذا النور حاله مزاجية عالية فى الإنسان على الأرض، يختفى النور و فى المقابل تخبو هذه الحالة المزاجية عند الإنسان…..نعم هو حوار فاعل بلا شك بين الإنسان والكون…
حلم مبدع – بفتح الدال- جميل و تفسيركم للنص بديع، وقد إستمتعت حقا
* * * * *
الجزء الثالث : نقد “بعد” نقد: د. يحيى الرخاوى
قراءتان بينهما سنتان وشهران
نص حلم (14)
تريضت على الشاطئ الأخضر للنيل. الليلة ندية والمناجاة بين القمر ومياه النهر مستمرة تشع منها الأضواء. هامت روحى حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب. ووجدت نفسى تردد السؤال الذى يراودها بين حين وآخر. لماذا لم تزرنى فى المنام ولو مرة واحدة منذ رحلت؟ على الأقل لأتأكد من أنها كانت حقيقة وليست وهما من أوهام المراهقة. وهل الصورة التى طبعت فى خيالى هى الصورة الحقيقية للأصل؟
وإذا بصوت موسيقى يترامى إلى من ناحية الشارع المظلم. صارت أشباحا ثم تجلت مع ضوء أول مصباح صادفها فى طريقه، أدهشنى أنها لم تكن غريبة على، فهى الموسيقى النحاسية التى كثيرا ما استمعت إليها فى صباى ورأيتها تتقدم بعض الجنازات، وهذا اللحن أكاد أحفظه حفظا، أما المصادفة السعيدة غير المتوقعة فهى أن حبيبتى الراحلة تسير وراء الفرقة. هى هى بطلعتها البهية ومشيتها السنية وملامحها الأنيقة، أخيرا تكرمت بزيارتى وتركت الفرقة الجنائزية تسير ووقفت قبالتى لتؤكد لى أن العمر لم يضع هدرا، وقمت واقفا منبهرا وتطلعت إليها بكل قوة روحى. وقلت لنفسى إن هذه فرصة لا تتكرر – لألمس حبيبة القلب.
وتقدمت خطوة وأحطتها بذراعى ولكنى سمعت طقطقة شئ يتكسر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ. وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر وحملته الأمواج مثل ورد النيل تاركة إياى فى حسرة أبدية.
القراءة الأولى: (1)نشرت بتاريخ 30 – 9 – 2005
هذا الذى يتريض على الشاطئ، حضرنا مستيقظا يتذكر، كان يتساءل عن الحبيبة ولماذا لم تزره “فى المنام ولو مرة واحدة” ؟. أثير احتمال من البداية أن هذه الحبيبة لم تكن واقعا أصلا، يقول النص: ” على الأقل لأتأكد من أنها كانت حقيقة وليست وهما” ؟ ثم يشككنا النص فى الصورة التى طبعت فى خيال الراوى، على احتمال أنها ليست الصورة الحقيقية كذلك. تردد كل ذلك بعد أن رحلت الحبيبة الحقيقية أو المتصورة: هل ماتت أم أنها اختفت مرحليا: من الذاكرة أو الحلم أو الخيال ؟. هذه الزيارة المحتملة فى المنام بدت وكأنها هى الحَكَـم فى تحديد الحد الفاصل بين وجود الحبيبة أصلا، ناهيك عن رحيلها، كما جعلها النص أيضا الحكم الذى سيحكم على مطابقة زائرة المنام مع أصلٍ مشكوكٍ فيه، وعلى صورة ربما مصنوعة من البداية!!!
إلى هذا الحد داخَلَ هذا النص بين مستويات الحلم، واليقظة، والأصل، والصورة، والواقع، والخيال. ويا ليته توقف عند هذا المستوى، نكمل معا :
تترامى إليه أصوات تنقلب إلى أشباح (وليست أشباحا تصدر أصواتا)، وهى أصوات مألوفة، لكنها جنائزية دون حزن كئيب. هذه الاحتفالية الجنائزية عادة ما تتقدم نعشا لا شخصا حيا، لكنها هنا تتقدم الحبيبة بلحمها ودمها “هى هى بطلعتها البهية، ومشيتها السنية، وملامحها الأنيقة”
يبدو أن إبداع النص يحاول أن يؤكد للراوى أن الحبيبة كانت (وما زالت) حقيقة ماثلة وهاهى تسير خلف فرقة موسيقية جنائزية، وقد جاءت ..”..لتؤكد لى أن العمر لم يضع هدرا”.
المعنى المباشر هو أن الراوى عاش التجربة فعلا, وسعد بها، وأن هذه التجربة لم تكن أبدا أوهاما، وأن حبيبته هى حبيبته، وأنها أخيرا تعطفت عليه وزارته، وإن كانت فى ظرف غير مألوف للقاء الأحبة، فهى تسير وراء فرقة الموسيقى الجنائزية
تنتقل الحركة والراوى يتقدم إلى محبوبته بكل قوة وثقة، لكننا نلاحظ أن تلك القوة كانت “قوة روحه”، فننتبه (أو نتذكر) أنه منذ البداية أقر أن روحه هى التى كانت تهيم: “هامت روحى حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب” , ومع ذلك، فإن مطلب الروح الأخير كان حسيا وباللمس للتحقق من الواقع ماثلا عيانيا” “… وتطلعت إليها بكل قوة روحى. وقلت لنفسى إن هذه فرصة لا تتكرر – لألمس حبيبة القلب.”
المفاجأة الأخيرة هى أن الحبيبة لم تكن إلا هيكلها العظمى المخفى وراء صورتها بطلعتها البهية ومشيتها السنية، ويالته هيكل عظمى متماسك، بل تجسيد فراغ هش لم يحتمل مجرد التفاف ذراعى الحبيب حوله “….وتقدمت خطوة وأحطتها بذراعى ولكنى سمعت طقطقة شئ يتكسر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ”
هكذا نجد أنفسنا فى نهاية النهاية أمام وهم الأوهام “…. وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر وحملته الأمواج مثل ورد النيل”
رحيل آخر أخير، لعله الرحيل الحقيقى، الذى لا عودة بعده لخيال، أو لحقيقة ملتبسة، أو لحقيقة أصلية، أو لصورة هى هى، أو كأنها هى. هذا هو الرحيل العدم الذى يمسح الخيال مع الحقيقة مع الحلم مع الواقع ويساوى بينها جميعا، هو النهاية الباعثة على الحسرة الممتدة، “تاركة إياه :” فى حسرة أبدية.” لكن أبدا، حتى هذا الرحيل، هو ذخيرة الداخل!
وبعـد
نتذكر أن أحلام فترة النقاهة ليست إلا إبداعاً أصيلاً، وأن العنوان (أحلام) لا يلزمنا أن نتعامل مع النص إلا بصفته إبداعا متميزا لا حلما مرويا. هذ النص –كما قرأناه – يظهر لنا بشكل جلى أكيد : كيف أن الخيال هو واقع آخر، وأن الموت هو وهم آخر، وأن العودة هى غياب آخر، وأن الواقع هو خيال آخر. ليس معنى ذلك أن ثمة دعوة لتداخل مخل يسمح لكل شىء أن يكون ضده باستسهال غبى، لكن الدعوة هى إلى رفض سجن ما نسميه واقعا.
هى دعوة لإعادة النظر فى مدى واقعية الواقع المزعومة، وفى نفس الوقت هى دعوة لاحترام مستويات أخرى من الواقع لا نسميها كذلك، ثم التحرك بينها بأكبر قدر من الإبداع، لتظل الكينونة الجدلية الحقيقية تتخلق باستمرار.
القراءة الثانية:(2) نشرت بتاريخ 6-12-2007
(نفس الناقد – أنا – دون أن أرجع للقراءة الأولى أو أتذكرها)
قفزة أخرى فوق الحاجز يين واقع اليقظة، وواقع الحلم،
وفى نفس الوقت هى قفزة فوق الحدود بين الحياة والموت، ثم إن ثمة تداخلات موازية: بين الخيال والحقيقة، وأيضا بين الامتلاء بالحب والضياع فى الفراغ..!!
محفوظ هنا يستدل على الحقيقة من الحلم “لماذا لم تزرنى فى المنام….. لأتاكد أنها كانت حقيقة؟.
ذلك أنه يجعل الحلم هنا هو المقياس الذى يقيس به مطابقة صورتها على الأصل!! (إن كان هناك أصل).
وصول صوت الموسيقى قبل التيقن من طبيعتها استجلب الماضى مفتوحاً للأنغام (ربما أنغام المراهقة بالذات)، ثم تتعين الأنغام فى أشباح، لا تتحدد معالمها إلا فى نور مصباح بالصدفة، يتعرى الموقف أكثر حين تتحدد الموسيقى فى هذا اللحن الجنائزى، لكن متى كانت جنازاتنا العادية يصاحبها الموسيقى ويتقدمها العازفون؟ ومتى كانت تعزف لحناً يُحفظ؟ فنتذكره.
لم تستجلب الموسيقى الجنائزية أية ذكريات حزينة: لا ذكريات الموت ولا ذكريات الفراق، لعلنا لاحظنا فى الفقرة الأولى كيف أن السؤال كان حول عدم زيارة المحبوبة (الحقيقية أو المتخيلة) له منذ رحلت. هو لم يقل إن كان هذا الرحيل هو إلى بلد آخر أو إلى عالم آخر. أقول لم تستجلب هذه الموسيقى الحزن أو الأسى أو الحنين، بل جاءت “بالمفاجأة السعيدة”.
هذه المفاجأة قد تقتصر على أن الحبيبة عادت بعد طول غياب، وقد تمتد إلى أنها ليست هى التى بداخل النعش، فهى تسير وراء الفرقة بين المشيعين، هى لم تَمُتْ إذن.
هذه المفاجأة لم تتجلَّ حلماً، حضر المنظر وهو ينتظر يقظاً مشتاقا إلى محبوبته، يتمنى أن تزوره حتى ولو فى الحلم، حل المنظر المحكى فى بؤرة واقعٍ حلمىّ أكثر إغرابا من الحلم.
الحبيبة تركت المشيعين والجنازة والموسيقى والميت ووقفت قبالته ترد على تساؤلاته: أنها موجوده لم تمت، أنها لم تنسَهْ، وأنها هاهى قد عادت إليه.
قوة روحه جعلتها أوقع من الواقع، ومع ذلك فاللمس هو الحد الفاصل (نحن نعرف كيف يقرص الواحد منا نفسه ليتأكد ان ما هو فيه: علم لا حلم).
لماذا افترض من البداية أنها فرصة لن تتكرر؟
إن كانت قد عادت، حتى لو كان حلما، فلماذا لا يتكرر
وإن كانت ليست هى التى داخل النعش وإنما هى تسير بين المشيعين، فلماذا لا يتكرر اللقاء؟
ثم إن قوة روحه هى التى ربطته بها، فكيف لا تتكرر الفرصة؟.
لعله عرف أنها فرصة لن تتكرر لأنها لم تكن موجودة أصلا.
حتى الهيكل العظمى الذى طقطق لم يكن إلا فراغا: الرأس البديع الذى هوى كان رأساً وليس جمجمة، وقد تعرف عليها من خلاله (هى هى بطلعتها البهية.. وملامحها الأنيقة).
أما ما تحت الراس، ما ينسدل عليه الفستان، فلم يكن إلا الفراغ حتى لو طقطق داخله ما يمكن أن يكون هيكلا عظميا هشاً.
هذا الرأس البديع – وليس الجمجمة – هو الذى هوى إلى النهر.
هل هو نفس نهر البداية؟
البداية كانت مياه النهر تشع منها الأضواء وهو يتريض على شاطئه الأخضر.
أما نهر النهاية فقد توارى خلف ستائر ورد النيل، لتغوص فيه رأس الحبيبة بلا رجعة.
الحسرة الأبدية هنا لها أوجه متعددة، تثير تساؤلات مقابلة:
هل هى حسرة أنها لم توجد أبدا إلا فى خياله؟
ام حسرة أنها عادت لتثبت أنها كانت حقيقة، ثم تختفى؟
أم حسرة للتيقن من جوعه الذى لا يرويه خيال ولا حقيقة؟
أم كل ذلك معا؟
لعله كل ذلك معا
الخلاصة: (الآن)
مع كل شكرى للمشاركين واحترامى للجدية والجهد والإبداع، دعونا نأمل أن نكون بذلك قد أوضحنا فكرة “نقد على نقد”
أو “نقد النقد”
أو “قراءة أخرى فى النص”
ونكون بذلك قد أعلنا مرة ثانية :
بداية الدورية النقدية لأعمال محفوظ.
والدعوة عامة.
[1] – (“هل نحن نعرف ما هو الخيال؟!” جريدة روزاليوسف)
[2] – نشرة “يوميا” “الإنسان والتطور” قراءة فى حلم (13) وحلم (14)