- الاهداء والمقدمة
- رأيت فيما يرى النائم
- بين مقامى
العبادة والدم
- دورات الحياة
وضلال الخلود
- نقد رواية السراب
- قراءة نفسية الشحاذ
قــــــراءات فى نجيب محفوظ
أ.د. يحيى الرخاوى
الهيئة المصرية العامة للكتاب
1992
الاهـــــــداء
إلى
نجيب محفوظ
مقدمة:
تعرف
فى شتاء 1948، وكنت حول الرابعة عشر، قال لى زميل صديق ونحن نسير فى جماعة صباحا إلى مدرسة مصر الجديدة الثانوية، قال لى إنه اكتشف من يستأهل القراءة، ونصحنى بقراءة القاهرة الجديدة، وفعلت، وكنت ما زلت أتحسس بداية طريقى إلى تذوق الكلمة، قبل أن يصبح لى معها شأن آخر.
ومنذ هذا اليوم بدأت حكايتى معه:
تعرفت على نفسى من خلاله: القاهرة الجديدة، فالسراب، فخان الخليلى ثم خذ عندك ….حتى تاريخه..!!
وتحسست مصر الحارة معه، ممسكا بيده معظم الوقت، لا أتبع ..ولا أفلت.
لست أدرى لم تصورتـه شيخا مليئا بالفتوة والحياة واليقظة وحب الاستطلاع، يمسك عصا بيمينه يتحسس بها جدران بيوت الحارة وأسوارها المتهدمة، والوشيكة البناء، ويتجنب بها (العصا) عثرات الأرصفة والحجارة، ويمسكنى بيده الأخرى طفلا ناظرا يدعى البصر، ثم لا الطفل يكف عن القفز والتلفت والتساؤل، ولا الشيخ محفوظ يكف عن الشرح والإعادة.
قابلته فى أوائل السبعينات مرة واحدة فى الأهرام، ووددت ألا تتكرر المقابلة، مثلما أفعل عادة (للأسف) مع كل من أحب هذا الحب.
سألته فى هذه المرة الواحدة عن خبرة عمر الحمزاوى فى الخلاء، وعن التصوف حلا، وعن علاقته شخصيا بهذا وذاك، فنبهنى إلى ما لا أنساه كلما شطحت ألما، أو كدت أنسحب إنهاكا، قال:
إن ما لا يصلح لكل الناس هو حل مضروب محدود فى الواقع والتاريخ.
اغتظت منه حتى كدت أقتنع.
حاولت أن أتقمص سماحته فعجزت، …، أن أستلهم صبره فتوقفت
رفضت كل أغلفة قصصه، وبعض ‘سيناريوهاته وسيناريوهات’ أفلامه، وكثيرا من نصائحه، ومبالغته -أحيانا- فى الرمز القبيح.
وتحفظت على نوع أصدقائه وبعض خصوصياته وقلة أسفاره وفرط إنتاجه ولون فرعونيته .
قبلته لاعب كرة سابق- بعد دهشة مناسبة- كما قبلته وفديا قديما، وإبن بلد، وأنيس جليس، وسياسيا ملتزما، وحضاريا مستوعبا للتاريخ.
واكبتـه مؤمنا متفردا، وعارفا زاهدا، وفحلا مقبلا وغير ذلك من كل ما تنبض به حياة صورتها لنفسى دون أن أبحث فى مصادرها، أو أحاول التحقق من بعض صدقها.
وحين أخذ نوبل بالنقط بعد ألف جولة وجولة فرحت لنا أكثر مما فرحت له، وشكرته أكثر مما هنأته، وشعرت أنه أضاف إليها تشريفا، وفوت عليهم مناورة.
قراءة
لا أذكر أننى قرأت عملا لنجيب محفوظ (وربما لغيره) دون حــوار يكاد يكون مسموعا، ويصل أحيانا إلى التماسك، ولو أردت أن أكتب قراءتى المنظمة له لاحتاج الأمر إلى موسوعة كاملة مكونة من عدة كتب.
فأكتفى فى هذا الاستهلال بإشارة محدودة إلى تلك القراءة المكتوبة (النقد) والتى انتهزت فرصة ندوة كلية الآداب جامعة القاهرة عن محفوظ (مارس 1990) لأجمعها هكذا:
ثلاث دراسات عن: فيضان طبقات الوعى (وليس فقط تيار الوعى كما هو شائع) فى مجموعة رأيت فيما يرى النائم، وعن القتل بين مقامى العبادة والدم، فى ليالى ألف ليلة، ثم عن دورات الحياة وضلال الخلود فى ملحمة الموت والتخلق – الحرافيش
ثم ألحقت ذلك بهامشين:
الأول: مقتطف حول ملاحظات سبق أن أبديتها عن نقد سابق للسراب (عز الدين اسماعيل)، تبين تحفظاتى على الاتجاه التحليلى النفسى فى النقد.
والثانى: هو إعادة نظر فى نقد سبق أن كتبته شخصيا عن الشحاذ، حاولت من خلالها أن أنبه على مآخذ النقد النفسى الوصفى خاصة.
وبعـد
فلابد من الاعتراف بأن جمع هذه الدراسات مع الهامشين متجاورة هكذا، هو عمل متعجل فرضته المناسبة، ومع ذلك فالعذر غير كاف، وخاصة أن كل دراسة منها – أو هامش- لها نمطها المختلف شكلا أساسا.
ولابد أن القارئ سيلاحظ بوضوح أن ثمة محاور مشتركة بين الأعمال الثلاثة تفرض نفسها فى كل قراءة مقارنة، مثل وثبات التغير الكيفى فى كل من رأيت فيما يرى النائم: والحرافيش، أو مثل توظيف الوعى بالموت دفعا إلى الحياة فى كل من الليالى، والحرافيش، أو مثل القتل والدم فى الأعمال الثلاثة مجتمعة، وغيرذلك بلا حدود.
وقد يكون مناسبا أن نفترض أن هذا النشر المتباعد، غير المتجانس، ثم الجمع المستقل رغم التجاور، هو دعوة للقارئ أن يخلق منها الشبه والاختلاف.. فالجدل والحوار.
أو لعلها الخطوة الأولى نحو البحث الأشمل فى هذه المحاور المشتركة، ومثلها، وغيرها مستقبلا.
القاهرة. أعلى المقطم فى 16/3/1990
فيضان طبقات الوعى
فى
رأيت فيما يرى النائم
كتبت فى 1982 ونشرت فى ” الإنسان والتطور” أكتوبر 1983
أولا: تمهيد
صدرت هذه المجموعة فى كتاب مستقل عام 1982، وإن كانت قد نشرت أغلبها، أو كلها قبل ذلك (ولا ندرى متى كتبت)، وقد يكون الرابط بين مفردات قصصها مجرد صدورها فى مرحلة زمنية متقاربة، أو حتى صدف النشر وظروف حجم القصص، وهذا وحده يجعل محاولتى لقراءتها قراءة جامعة محاولة محفوفة بالمخاطر، ولابد أن أشير ابتداء: أن العمل فى مجموعة حتى دون قصد، لا يخلو من خيط يربط أطرافه. هذا، ولم يصل إلى علمى أن أحدا من النقاد قد سبق إلى دراسة هذه المجموعة بوجه خاص، ربـمـا لحداثة صدورها، اللهم الا د. فرج أحمد فرج[1] فى تناوله لأولى قصصها ” أهل الهوى” فى تفسير تحليلى نفسى سنشير إلى بعضه.
ثانيا: كلمة مبدئية حول : اللغة/ الشعر
مازال نجيب محفوظ يمثل التحدى الناجح لمشكلة اللغة، فهو الكاتب السلس الذى التزم بأن يكتب بالفصحى بطريقة ينسى معها القارئ أنه يقرأ بالفصحى، حتى ذلك الحوار المتبادل فى غرزة حشيش أو مخدع مومس، وهو لم يفشل فى هذه المهمة أبدا، ولم يتكلف، ولم يتراجع، ولكنه فى الآونة الأخيرة [2] راح يمـتـزج بلغته امتزاجا نابضا حتى وصلنى أنه يكتب فى كثير من الأحيان بلغة شعرية لا يمكن إلا أن تكون كذلك، وهى ليست لغة خاصة أو بديلة، لكنها جسد العمل الروائى، تؤكد المراد وتعمقه فى تشكيل إبداعى مناسب، ودعنى أورد بعض الأمثلة الدالة على ما وصلنى من مثل ذلك، داعيا القارئ أن يتذوقها فى ذاتها قبل أن يقفز إلى المغزى والمحتوى والرمز والدلالة.
ص12:، فخافت أن يصيبها سوء مجهول بين يديه المندفعتين بعنف البراءة العمياء
(أهل الهوى)
ص17: تورد وجه الفتى، وخانه السرور، فأضاء به وجهه.
(أهل الهوى)
ص21: فتــنــهد الظلام استجابة، وتلاشى الحضور فى الحال.
(أهل الهوى)
ص42: ومضت دقائق نسى فيها كل شئ كأنما امتص الرجل وعيه.
(من فضلك واحسانك)
ص11.: وانهمرت سيول مترعة بالنشاط والهيام والطرب، وانتفض القلب فى رقصة رائعة موحية بالإلهام والجذل. (العين والساعة)
ص113: فامتلأ القلب بأشواق التطلع والانتظار وآلامهما الجامعة بين التقرب والعذوبة.
(العين والساعة)
ص126: … شبح البيت يتبدى فى صورة جديدة، وأن رائحة تفوح منه كالشيخوخة.
(الليلة المباركة)
ص141: للزمن نصل حاد وحاشية رقيقة.
(رأيت فيما يرى النائم)
ص168: فرأيت السحب تتراكم كأنها الليل، ثم استجابت لرياح الشرق فانقشعت، فبشرنى هاتف الغيب بالعزاء (رأيت فيما يرى النائم)
ولا أريد أن أطيل فى معايشة شاعرية هذه المقتطفات التى لا تخفى عن متذوق، ولا أن أستطرد لأنبه على هذا الاستعمال الجديد والخاص لموسيقى اللغة وصور الكلام: حين تصبح للشيخوخة رائحة يقاس عليها، أو حين يمتص الرجل وعيه، أو حين يصبح للزمن نصل حاد وحاشية رقيقة، ولكنى أود أن أعلن عن ملاحظتى هذه: ان هذه اللغة الشعرية تنطلق وتطغى كلما غاص العمل فى “الحلم” أو فى “السكــر” أو فى “الأسطورة” أو فى “الجنون”، أى أن جرعة الشعر تزيد مع الغوص إلى الأعماق “الأخرى” وتقل حين يعلو مستوى الحدث الى ظاهر السلوك السطحي.
ثالثا: بعد الماضى والمستقبل (الأصل والمصير)
يغلب على هذه المجموعة [3] هذا البحث الدؤوب فى أصل الحكاية، ومسار الرحلة، واتجاه سهم الطريق وتحسس غايته:
فيظهر فى القصة الأولى (أهل الهوى) الشق الأول من هذا البحث كنقطة انطلاق وبداية، وفى نفس الوقت كمنطقة محـظورة مجهولة معا:
(ص1.) إنه بلا ذاكرة” ثم (ص16): “أى فرد يجهل مستقبله، أما أنا فأجهل ماضى ومستقبلى معا”
ثم (ص37): ” إنه صاحب حياة ماضية..”..”وسوف يجد نفسه وحيدا منبوذا ضائعا إن لم يهتد الى حقيقته الغائبة.”
ثم “(ص38): “ترى ما السبيل الى الكشف عن تلك الحقائق الغارقة فى الظلام؟”.
وفقد الذاكرة هنا ليس له تلك الدلالة المسطحة العادية بمعنى نسيان أحداث حدثت بذاتها، ولكنه يكاد يعلن القانون الحيوى الأصلى وهو أنه “فى حين ان الانسان (عبدالله-ابن ناس) له ماض حتما، الا أن طبيعة البداية-وربما حتى النهاية- تظهر منفصلة عن هذا الماضى بشكل أو بآخر”-ومسيرة الانسان التطورية، بمآزقها المتلاحقة ماهى إلا تلك المحاولات الدائبة التى تسعى الى توصيل هذا ” الظاهر المنفصل ” بحقيقة جذوره فى عملية واعية متدرجة بالضرورة، “وعبدالله” هنا إذ يبدأ بالبراءة العمياء مارا بالتدين الخوف لا يجد مفرا من أن يحاول أن يكتشف أصل الحكاية ” مما كان ” ربما ليستطيع ان يهتدى الى “ما يمكن”، وهو لهذا، وطوال القصة لا يكف عن”مخاطرة” التفكير فالتذكر.
لكن هذا الماضى قد يكون:
1- “الجريمة” “هارب تبحث عنه الدولة لتشنقه” (ص 38) (بـما قد يقابل: جريمة قابيل وهابيل، أو أكل الفاكهة المحرمة حتى الخروج من الجنة، أو حمل أمانة لا يتحملها .. )، كما قد يكون.
2-الحاجة غير المشبعة “: عد: جميع طلباتك مجابة” (ص38)، ولكنه قد يكون أيضا:
3- ماضيا “طيبا “(مجهولا فحسب) ” ويتساءل عن ماضيه الطيب” (ص19).
أما فى القصة الثانية، فيغلب البحث فى اتجاه الشق الثانى من القضية: “المصير”، والبحث فى هذا الاتجاه يبدأ-كما بدأ قرب النهاية فى القصة الأولى -بعد إنتهاء الحب أو فتوره أو عجزه “وفى هذه الدوامة المظلمة المنذرة بسوء المصير، انساق بقوة الى التفكير فى المجهول من حياته“ص37 (أهل الهوى).
ويتأكد هذا التتابع بوضوح فى القصة التالية : “من فضلك وإحسانك” “…ولكن قصتى تبدأ بعد وفاة الحب” (ص53) وحين يموت الحب بالحرمان (من فضلك واحسانك) أو يفتر بالعجز [4] (أهل الهوى) يطل الفراغ (من فضلك واحسانك) أو الضياع (أهل الهوى)، وينتهى الضياع الى ما يشبه اليأس والموت فى كفن أسود ”متلفعا فى عباءته السوداء” (ص45) أما الفراغ فهو يخلخل الوجود حتى ليبعث نبضا جديدا ودفعا جديدا إلى بحث آخر عن “معنى حياته أو عن معنى الحياة ” (ص57).
وتتجه الأسهم-فجأة-فى هذه القصة الثانية إلى: الأعلى، والآتى، والكلـى، والجوهر “من كرة القدم الى قلب الكون دفعة واحدة” (ص59)، وتكثر الأسئلة حول “الهدف” مقارنة بالقصة الأولى التى تسأل أكثر عن “الأصل”، ومن ذلك: “سؤال عن الهدف الكونى” (ص6.)، “لا معنى لحياتى إن لم أعرف ذلك الهدف البعيد” (ص61)، ثم نجده بعد التجربة والانطفاء والاغتراب والرتابة والإحباط ينتقل من البحث “الفكرى” الى “الخيال الجامح“، ولكن فى نفس الاتجاه: المستقبل “: عليه ألا يركن إلى الطمأنينة العابرة الخادعة، وأن يفكر فى المستقبل بجدية، تلزمه وثبة قوية غير معقولة، طفرة غير متوقعة وغير منطقية” (ص68)، ولكنه من موقع هذا الانسحاب والتعويض بالخيال الخائب ينتهى الى مستقبل ليس بمستقبل، مستقبل دائرى: سفر، وتأمين ضروريات الحياة على هامش مجرد الاستمرار، بعيدا كل البعد عن أى “قلب لأى كون”، بعيدا عن محاولة الوعى باتجاه سهم المستقبل.
وكما انتهت القصة الأولى ييأس من معرفة الأصل رغم دفع ثمن المحاولة، تنتهى القصة الثانية بيأس مقابل من معرفة المصير، رغم دفع الثمن مقدما أيضا.
ولا يختفى هذا البعد “الأصل / المصير” من القصص الأخرى، ولكننى لن أفصله خشية التكرار وسأكتفى بمجرد الاشارة إلى عينات دالة:
ففى ” قسمتى ونصيبى “:
ص (88): دائما ربنا..ربنا..أين هو؟.
وتنتهى القصة بتوحيد بين الموت والكون (ص1.4) “الموت فى الكون” ثم ص (1.5) “إنى أفعل ما فى وسعى: إنى أنتظر الموت”، يأس جديد يتحدى، ولكنه يتضمن احتمالا أخفى: أن يحقق الموت معرفة عجزت الحياة أن تكشف عنها.
وفى ” العين والساعة “: يظهر بعد جديد لنفس المسألة يشير إلى دور الانسان نفسه فى إخفاء ماضيه دون الاطلاع عليه، وكأن النسيان هنا يتم بفعل فاعل لأنه هدف مرحلى تكتيكى لغاية استراتيجية أكبر:
”رأيته يناولنى صندوقا صغيرا صغيرا ويقول: إنها أيام غير مأمونة، يجب إخفاؤه تحت الأرض حتى تعود اليه فى حينه” (ص111).
ثم يذهب الى أبعد من ذلك فيعلن أن البحث عما أخفينا ليس قضية خاصة بفرد ذاته، بل هى قضية البشر جيلا بعد جيل، وسيستمر السعى ما نقصت المعرفة، “.. إن الماضى لم يتمثل لى إلا لأن “الآخر”[5] حيل بينه وبين الصندوق، وإنى مدعو لاستخراجه وتنفيذ ما يشير به بعد إهمال طال واستطال” (ص113).
ولا يـخفى نجيب محفوظ أن هذا البحث هو-بشكل ما- المخاطرة المعرفية للجنس البشرى عامة فيما يسمى بالبحث عن الحقيقة والتى تعنى فى الواقع: معرفة المحظور تدريجيا: أكثر فأكثر.
ويرادف محفوظ بين “الحقيقة” و “الكلمة” بشكل مباشر وهو يقول: “إستحوذت على نية التنقيب فى الماضى المجهول لعلى أعثر على الكلمة التى طال رقادها ” (ص113)
وكأن هذه الكلمة هى التى كانت فى البدء، أو هى اللوجوس أو هى الله، وهو أيضا يشير الى أن أى انسان فرد لا يستطيع أن يواصل البحث إلا فى حدود قدره وقدراته :
“وتواصل العمل حتى غصت فى الأعماق مقدار طولى كله ” (ص114)
ثم يمضى بإعلان هام وهو أن هذا البحث ينبع من الدافع المعرفى الباطنى الحتمى “..ولا معين لى الا شعورى الباطنى بأنى أقترب من الحقيقة” (ص114)
ثم يعلن أيضا أن هذه الحقيقة مرعبة لأنها تهدد معالم الذات المنفردة، وأن هذه هى كلمة السر. (ص115) :
“إذا تغيبت بـدا..، وإن بدا غيبتى”،
أى أن المعرفة تزداد مع تناقص الذاتوية الخاصة، ومع الالتحام بما بعد الذات مما تتوحد به ويحتويها فى آن، وذلك فى رحلة الاستكشاف الكبرى.
وأخيرا فى هذه القصة (العين والساعة) يشير إلى ضرورة تناسب “جرعة المعرفة” مع “المرحلة”، فإذا تبدت الحقيقة متأخرة (أو متقدمة): “عدة مئات من السنين” (ص116) فإن مصير الساعى إليها أو معلنها ليس سوى الإعتقال والانكار والتسطيح: تعتقله المباحث وينكره الواقع ويـتهم بمؤامرة.
أما فى الليلة المباركة: فيتركز البحث فى: “الحاضر” كمنطلق إلى الأصل والمصير، والحاضر هنا هو ما يعنيه: البيت/ الهوية، بل وما يعنيه “العقل” أيضا “أفقدت بيتى أم فقدت عقلى ؟” (ص127).
ولكن البحث فى الحاضر هو بالضرورة إعادة اكتشافه بما يحمل من: مفاجآت ومخاطر:
- لكن هذا بيتي…
فصاح الرجل ساخرا:
- هذا بيت مهجور من قديم تجنبه الناس لما يشاع عنه من أنه مسكون بالعفاريت.
واكتشاف جديد بأنه (ذاته أو بيته) /ليس سوى “خرابة كما ترى، وتقام فيها سرادقات الموتى أحيانا ” (ص127).
وإزاء هذا الاكتشاف المريع، نراه يداهــم بالاستغراب الذى يفضى إلى الإنكار، ثم يضطر الى التخلى (التنازل عنه) فيما يشبه بيعه بلا مقابل، اللهم إلا أمل غامض فى محتوى غامض لحقيبة مغلقة مع مرشد مذبذب الخطى، وحتى هذا الأمل سرعان ما يتضاءل حتى بإرادته، وكأن البحث المعرفى الجديد لم ينته إلى التخلى عن الزوجة والبيت فحسب (الحاضر) وإنما امتد أيضا الى إسقاط الأمل فى المستقبل المجهول، “فلم يجد بدا من ترك الحقيبة تهوى إلى الأرض وهو يتأوه ” (ص137)، فهو إعلان جديد لحتمية اليأس سعيا إلى توازن صورى:
”عند ذاك..(ترك الحقيبة تهوى) خيل إليه أنه استعاد توازنه”(ص137).
غير أنه توازن كالموت، بل هو الموت:
“وتسلل الصمت الشامل من مسامه إلى صميم قلبه” (ص137).
أما فى “رأيت فيما يرى النائم” فإننا نجد هذا اللحن المميز الضارب فى التاريخ المتطلع للمستقبل فى أكثر من حلم وأكثر من موقع:
”أهى حجرتى الراهنة: أم أخرى آوتنى فيما سلف من الزمان؟”حلم 1 (ص141).
“لن أحيد عن التطلع الى الأمام” حلم 1 (ص142).
“آن أوان قراءة الطالع” حلم 4 (ص147).
والإيقاع سريع فى سعى المعرفة اللاهث، وهو يتواءم مع طبيعة زمن الحلم.
”ولكنى لم أدر أأركض وراء هدف أريد أن أدركه أم أركض من مطارد يروم القبض علي” حلم 5 (ص15.).
وحين يختفى الماضى والمستقبل تبقى الحركة، ولكنها حركة مغلقة فى الفراغ:
” لا يوجد ليل ولا نهار ولكن يوجد الهواء والركض” حلم 6 (ص153).
ولا يهم أن تكون ثمة غاية ظاهرة فى الوعى، فلا يرتبط هذا الركض هربا، أو اندفاعا.. بالعلم بالهدف منه:
”وشعرت طوال الوقت بأننى أسعى وراء غاية: لكنها غابت عن وعيى أو غابت عنها وعيي” حلم 11 (ص163).
إذن، فهذا البحث المستمر عن الأصل فى الماضى أو عن الغاية فى المستقبل إنما يمثل عمودا محوريا عند نجيب محفوظ فى هذه المجموعة، ناهيك عن بقية أعماله.
وهو بحث يبدو وكأنه جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة، لدرجة تبرر لنا أن نتقدم خطوة لنكشف عن البعد التالى فى هذه المجموعة وهو ما أفضـل أن أناقشه تحت ما يمكن أن يسمى ” غريزة المعرفة”.
رابعا: غريزة المعرفة، ومخاطر المحاولة
يمثل هذا الدافع فى أعمال نجيب محفوظ محورا لازما يكاد لا ينفصل عن الأحداث، وإن لم يبد ظاهرا على السطح فى كل الأحوال، وقد خيل الى أن محفوظ قد اعتنى بهذا الدافع الذى لا ينتبه إليه الكثيرون والذى أطـلـق عليه لفظ “غريزة” لتأصيل جذوره البيولوجية وإلحاحه الحتمى، أقول اعتنى محفوظ به حتى ليمكن وضعه فى مقدمة رؤيته لحفز رحلة الإنسان الواعى، ولم يهمل محفوظ بقية الدوافع الأساسية وخاصة الجنس والعدوان، إلا أنه جعلها فى موقعها المتواضع بالقياس الى هذا الدافع المحورى الأساسى، بل إن هذه الدوافع الأخرى قد تصب فيه وتخدمه، فكثيرا ما نجده يدمج الجنس باستكشاف جديد، أو يتخذ العدوان وسيلة للمعرفة أو مواكبا لها أو ناتجا عنها، وهذا وغيره يحتاج إلى مراجعة شاملة واستقصاء أعم، قبل الجزم بالنتائج، ونكتفى هنا بالتركيز فى إيجاز نقول به: إن المعرفة الغريزة ليست مجرد استزادة معلومات أو إضافة رؤى، وإنما هى أساسا مخاطرة اكتشاف[6] وتخطى حواجز بما يصحب هذا وذاك من مضاعفات.
ثم دعونا نرى بعض ذلك فى هذه المجموعة:
فى أهل الهوى نرى محاولات التذكر والتفكير فى مقابل الرفاهية والاعتمادية، وقد اعتدنا فى بعض الشائع من أعمال أدبية أن نلتقى بتقابلات واستقطابات سطحية بلا غور، مثل: الجنس الشهوى فى مقابل الحب الرومانسى أو العذرى، أوتقابل فجاجة الغريزة مع النضج الاجتماعى، أما نجيب محفوظ هنا، فقد قابل الغريزة الفجة (البراءة العمياء) بالغريزة المعرفية[7]، وهذا جديد وأصيل ومتحد، وهو بعض ما دعانى إلى ما ذهبت إليه.
وقد تحركت “الحاجة إلى المعرفة” جنبا إلى جنب مع اعتدال حدة الحب الشهوى والإفراط فى الجنس، ومع بداية الاهتمام بما “بعد ذلك” أو بما “بجوار ذلك”: “فخلطا أحاديث الهيام بهموم الوكالة والحارة ” (ص27).
ثم جرى الأمر كما ينبغى أن يحرى: شكوك – تساؤل – تفكير- مراجعة – توقف – عجز- ثم الموت.
ومع نغمة اليأس الحتمى فى نهاية المطاف لم تـطرح أية اشارة فى هذا العمل (أهل الهوى) لمسار آخر بديل عن الموت، وأعترف أن الفنان غير ملزم باعطاء البديل، فالعمل الفنى ينتهى بحدوده، ولكنى أخشى أن نتصور أن غريزة المعرفة مكتوب عليها هذا المصير حتما، وقد كان “عبدالله” يعلن- رغم حاجته القصوى إلى هذا البديل- أنه يطرق طريقا محظورا قد لا يلقى وراءه إلا الندم “ترى هل الندم هو الجزاء الأوحد لمعرفة المجهول من حياته” (ص33).
ويؤكد محفوظ الطبيعة التلقائية (الفطرية الجبلية…الخ) لحركة هذا الدفع الى المعرفة “..وزاد من قلقه أن التغيير ينبثق منه ” (ص34)، وتبلغ قمة روعة الحدس الإبداعى حين ينجح فى أن يصف تدرج وأطوار نضج غريزة المعرفة (هذا الذى ينبثق منه):
فهى تأتى فى البداية فى شكل إرهاصات سريعة مجهضة: “وانطفأت بروق كثيرة تحت عباءة العادة الثقيلة ” (ص34)،
ثم تفرض نفسها كوجود ملــح مزعج: ” فاستيقظ الفكر وخبت شعلة العواطف والغرائز” (ص34)،
وسرعان ما يطل الشعور بالذنب تجاه ظهور هذه الغريزة الجديدة، وإلحاحها، غريزة المعرفة، التى لعلها هى هى التى أخرجت آدم من تناسق الجنة إلى مسئولية الوعى، ومع ذلك، ولعدم تناسب القدرة المحدودة ..مع الآفاق الممتدة، نشعر بالذنب حين نخاطر بإطلاقها، وكأننا نقول: ياليتنا ماعرفنا، فإن حدس محفوظ يقدمها كما عايشتـــها فى نفسى وتخصصى على حد سواء، يقدمها كغريزة بيولوجية أصيلة، وبدئية، تقابل فى هذا القياس ما يشعر به المراهق مع ظهور بوادر الجنس: “وخاف أن يقف كالمتهم بين يديها ” (ص34).
وقد بيــن محفوظ أن هذا الدافع إلى المعرفة قد ينبعث أساسا من مجرد أن الانسان له “ماض” له تاريخ، وكأن المعادلة الطبيعية تقول: أننا نتعرف ابتداء على بعض ما اضطـررنا -بحكم التطور- لإخفائه مرحليا… أو على ما سبق تنظيمه -تركيبا- أثناء نمونا نوعا أو أفرادا، ثم بعد ذلك يصبح الدافع المعرفى قوة فى ذاته، ليستمر بلا توقف.
بل يبدو أنه من فرط إلحاح قوة هذا الدافع على الكاتب فى صورة عبدالله (أو غيره)، أنه مد فى أجله، أو فى أمله، إلى ما بعد حدود الذات المفردة زمنا، فاذا احتد اليأس من إمكان اكتمال المعرفة فى هذه الدنيا “قلبى يحدثنى أنى لن أعرف شيئا ما دمت هنا”[8] (ص47) فانه لا يغلق نهائيا ولكنه يطل من “هناك” كبديل محتمل.
وفى قصة “من فضلك وإحسانك” يأخذ هذا الدافع المعرفى مسارا آخر، فهو يظهر ويحتد بعد الإحباط والحرمان، فيتفجر الألم فى جوف الفراغ الناتج من هذا الإحباط، ولكنه حين يعاود ظهوره سرعان ما يكتمل بقفزة مرعبة، إذ هو لا يتدرج مثلما كان الحال فى أهل الهوى، فيصف لنا محفوظ هذه الفورة المتدفقة فيما أسماه ” تجربة طارئة” حين: ” التحم بأثاث حجرته التحاما غريبا جنونيا” (ص65)
وكان لهذا الالتحام خصائصه المتعلقة بما نزعم من غريزة للمعرفة، فالالتحام بالشئ الجامد-الجماد-قد يولد سكونا هامدا أو امحاء، ولكنه على العكس من ذلك قد يكون غوصا الى أعماقه “مباشرة” بحيث يبعث فيه حياة مقحمة، بما يفيض عليه من دفقات الوعى الفائق ليصبح الرائى هو هو نفس ما يرى فى مخاطرة لإحياء المحتوى، ثم “يعود” ليعرف عنه ما “كانه” فيعيد اكتشاف الأشياء البسيطة بجدة متفجرة: “وكأنه يكتشف لأ ول مرة الفراش الخشبى ذا اللون البنى الغامق”
“وبادامة النظر إلى الفراش ومحتوياته، دبت فيه- الفراش-حياة من نوع ما “
“ونفذ ببصره الى الأعماق فرأى القطن الـمكدس وراح يعد خيوطه الملتفة المضغوطة“[9] (ص65)
وقد يحلو لبعض الأطباء النفسيين و المختصين أن ينكروا هذه الخبرة كواقع محتمل، وأن يسموها ببعض أسماء أعراضهم أو أمراضهم، إلا أن هذا يستحيل أن يحجر على احتمال صدق حدس الكاتب بما يشمل الكشف عن طبيعة هذا النشاط الدافق من سعى معرفى الى النفاذ والتعرية نتيجة لإطلاق (بسط unfolding) دافع غريزى كامن متحفز، وقد تم هذا الإطلاق بعد التمهيد له بالإحباط، ثم الإفساح أمامه بما يشبه تناثر الجنون[10].
ومع قوة هذا الإطلاق لدافع المعرفة المخترق، فإن المثير له، والظروف المحيطة به، لا تسمح باستثماره إلى معرفة مسئولة، وصياغة جديدة (إبداع)، وحين تشتد حدة نشاط غريزة ما دون ناتج ملموس أو فاعلية معلنة أو صاحب يصدقها، لابد أن تنطفئ وأن تتراجع إلى نشاط متناثر، يعطل مسارها، بل وقد يرتد حتى يعطل “الإنجاز العادى”” قبل تفجيرها، فكل ما أصاب فكر “عبد الفتاح” ونشاطه العقلى بعد ذلك: كان فشلا، وإن كان نسبيا، تتخلله بعض “أثار الرؤية ” كجزر سراب وسط محيط من الظلام والعجز، فإن “الكون لم يغب عنه تماما” (ص66)، وتتواكب هذه الإلماحات المغرية بانطلاق معرفى مطلق تجاه ما هو أكبر من الكتاب والدرس.. تتواكب مع ما يلزم من تحريك مجهض (أيضا) لا ينجح إلا أن يذكــره “بحزنه المخزون المؤجل ” ص (66)،
ولكن إلى متى التأجيل؟، وما مصير هذا الدفع إلى المعرفة الأخرى-فى هذه الظروف-غير التناثر المشــل؟
إن العجز عن مواصلة هذا الدفع إلى اتجاه بذاته، قد يوحى باليأس الذى يبعث على طمأنينة السكون، إلا أن المسألة لا تنتهى عند هذا الحد ” عليه ألا يركن إلى الطمأنينة العابرة الخادعة، وان يفكر فى المستقبل بجدية ” (ص68)، ولكن هذه الجدية لا تعنى إلا صدق الدفع دون الالتزام بالنتائج “ملتزمة وثبة قوية غير معقولة” “طفرة غير متوقعة وغير منطقية” (ص68).
ولكن الرتابة والأيام والاستسلام المتدانى سرعان ما تأتى على كل تدفق أو نشاط، فينتهى إلى الرضا الميت، دون أن ينسى أن ثمة “هدفا” غير ما يبدو ظاهرا ما زال يكمن وراء “الانحراف” أو “السفر الاسترزاقى“.
وفى “العين والساعة“: نواجه غريزة المعرفة وهى تنطلق مكثفة كاسحة أيضا، فى لحظة بذاتها، وبدون سابق إنذار، لكنها بدلا من أن تدفع صاحبها للالتحام بغور الأشياء حتى النخاع، فإنها تذهب تخترق الوعى الظاهر لتغوص فيما وراءه من تراكيب تمتد بالذوات الأخرى فى التاريخ حيث يختلط الأمل بالماضى ..، بالرؤيا..، باليقين: ” إنه ليس بالغريب، وإننى أراه وأتذكره معا ” (ص111)
وفى وسط أرضية حافلة بالنشاط والهيام والطرب، وموحية بالإلهام والجذل ” شع نور الباطن فتجسد فى مثال ” (ص11.).. ثم يدور الحوار ليعلن عدم تحمل الرؤية ” الآن”..وربما كان ذلك ممكنا بعد حين، ربما حين يلوح فى الأفق إمكان التنفيذ فلا “يحسن الاطلاع عليه قبل إخفائه” (ص111) حتى لا “يحملك ذلك على التسرع فى التنفيذ قبل مضى عام فتهلك” (ص111). إذن فالرؤية السابقة للإعداد خطر، والتنفيذ المتجاوز للإمكانيات والقدرات أخطر، ومصيبة غريزة المعرفة أنها إذا انطلقت بجرعة مفرطة “قبل الآوان” أصبحت عاملا مــشلا لا حافزا هاديا.
وفى المقابل فإن خطورة التأجيل هى التمادى فيه إلى ما لا نهاية… وهنا يكمن المأزق المعرفى الخطر، وكل المحاولات الجارية للتحايل على الخروج من هذا المأزق باللجوء الى الرمز والفن والتجزئ والإسقاط وسائر الحيل هى محاولات مرحلية لا يضمن لها النجاح أى حتم تطورئ، لأنها إذا استقرت أعاقت، واذا تخلخلت هددت، ومع ذلك-ولذلك- فالمخاطرة تبدو بلا بديل “لعلى أعثر على الكلمة التى طال رقادها” (ص113)، ويبدأ “الحفــر” فيما يلى شباك “المنظرة” ولا أحب أن أطيل فى دلالات كلمتى الحفــر والمـنظرة فهى ظاهرة.
وقد كان تأثير الخمر فى قصة “الليلة المباركة” هو “المطلق”([11]) لمحاولة معرفية مشوشة أيضا تحاول إعادة التعرف على حقيقة “العقل” و”البيت” و “الأسرة” و”الهوية”، بل إن التنازل عن كل ذلك قد تم بلا مقابل، إلا الأمل فى سعى معرفى (مجهض) عدوا وراء شخص غامض مجهول حاملا حقيبة مجهولة المحتوى، تغرى بفتحها دون أن تتاح الفرصة لذلك حتى ينتهى بإلقائها عن كاهله قبل أن”يعرف” ما بها-وفى هذا ما أشرنا اليه من استسلام آخر: لاستحالة المعرفة رغم التنازل عن كل شئ.
أما فى فيضان سلسلة الأحلام فى “رأيت فيما يرى النائم“، فنحن نتعرف فيها على المغامرات المعرفية أيضا، ولكننا نجدها ملتفــة بأجواء الغموض دون الإقلال من: “نشاط السعى الدؤوب”: “مثقلة بآلاف الكلمات المبهمة ” (ص143) حلم (2).
” عدوت منها، ولكنى عدوت فى مجالها وحضنها ” (ص143) حلم (2).
وقد سبقت الإشارة إلى ارتباط المعرفة بالشعور بالتجاوز والذنب..ونضيف : فالحزن، ويعود هذا الارتباط إلى الظهور فى نهاية حلم (3) بدءا بالاشارة الى شعر المتنبى ”وشعر المتنبى فى هذا المقام [12] أكثر من أن يختص به بيت بذاته .. فحرت أى بيت يقصد” (ص145)، ويؤكد هذا التأويل ما ألحقه بعد ذلك مباشرة من معنى الحديث الشريف ” آه لو تعلمون ما أعلم..لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا ” (ص145) ويأتى التأكيد الحاسم فى تقديمه اللاحق فورا (لصديقه) ” أخشى أن يغلبنى الحزن ” (ص145) وكأنه يقول: أخشى أن أعرف مالا أطيق فأحزن كما لا أستطيع.
وتستمر المغامرات المعرفية مع مصاحـباتها من حزن أو تطلع أو ضياع أو ربكة طوال الأحلام بشكل ملح:
ففى حلم 14 نجد المتابعة للشاب الوسيم (الذى يمثل أمله) تحمل الرغبة الملحة لاستطلاع ما هو فاعل، وما هو وراء، ولكنه -كالعادة- ينهك ويسقط دون أن “يصل” ودون أن يعرف، تاركا وراءه الشرود والانخداع والعزاء، بما يذكرنا بالنهاية اليائسة من المعرفة بعد أغلب المحاولات.
وفى المقابل نرى مواجهة للرجل بالغ الكبر (التاريخ-الحكمة) والنظر فى عينيه كبلورتين متوهجتين، والحوار البديل المختفى للتو.. وقد نلمح وراء هذا “الباب” إشارات الى سبل أخرى للمعرفة واليقين غير تبادل الكلام والتفاهم بالرمز المألوف، وهذا النوع من المعرفة قد يكشف الداخل لدرجة الاتهام بأفعال لم تحدث فى الوعى رغم أن عقوبتها الاعدام، وكأنه يعرى غريزة العدوان وهى تحقق اغتيالها فى الخفاء، وهذا -مثلا- من أخطر مضاعفات إطلاق غريزة المعرفة -إلى الداخل- دون حساب.
ولا تنتهى سلسلة الأحلام إلا بمعرفة من نوع أخر (حلم 17): إذ تحل الفرجة على “صندوق الدنيا” محل النظر فى البلورتين، ويحل الانعتاق محل التيسير، وكأن الإنسان فى نهاية العمر(الحلم) لابد وأن يرضى بمعرفة الحكيم المتأمل على ربوة التكامل الهادئ ليستقبل الموت كمنطلق نحو يقين آخر، رغم أن ذلك لا يعدو أن يكون وعدا “بمسرات تعجز عن وصفها الكلمات” (ص173).
* * *
وبعد، فلا يمكن -بداهة- فصل الجزئين السابقين عن بعضهما البعض، وانما اختلف التناول فقط حيث ركزنا فى الجزء الأول على البعد الطولى من الأصل الى المصير، وركزنا فى الجزء الثانى على النشاط الحيوى ذاته الدافع للمعرفة ومصاحباته الخطرة ومختلف مساراته.
ثم ننتقل بعد ذلك الى بعد مختلف نوعا:
خامسا: الوجود و الحلم
الحلم ليس وجودا سلبيا، أو هو ليس نفيا للوجود، ولكنه وجود آخر، وجود مـناوب، والإنسان ليس هو ما يعى، وانما هو ما يتكامل بتوليفه من مستويات الوعى : بعضها فى مركز وعى اليقظة، وبعضها على هوامش وعى اليقظة، وبعضها “وعى” الحلم، وبعضهما وعى النوم ! (بلا حلم)، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله هنا .
ولهذه المقدمة المختصرة أهمية فائقة للنظر إلى أحلام نجيب محفوظ سواء ما وردت تحت عنوان “حلم”، أو ما اقتحم بها وعى اليقظة دون إشارة محددة إلى طبيعتها الأخرى.
هذا، ولا يمكن تصنيف هذه المجموعة، حتى القصة الأخيرة منها تحت ما يسمى “أدب الحلم” .
أولا: لأن أدب الحلم لم تتحدد معالمه نهائيا..
وثانيا: لأن هناك تداخل حقيقى بين ما يسمى “أدب الحلم”، وأدب “تيار الوعي” أو حتى “تيار اللاوعي”، ولعل تجربة محفوظ فى هذا العمل، ومن قبل فى ليالى ألف ليلة هى محاولة للتزاوج[13] بين أدب الأسطورة وأدب “الوعى الآخر، أو دعنا نتقدم لنسميه أدب “تعدد مستويات الوعي”.
ونجيب محفوظ يعلـمنا من خلال حدسه الفنى وقدرته الروائية معا بعض ما سبق الإشارة إليه من أن الحلم هو وجود كامل فى ذاته، قائم بذاته، وهو وجود غير رمزى بالضرورة، بل هو -أيضا- رؤية ورؤى عيانية مباشرة، ودلالة عنوان المجموعة “رأيت…الخ” تؤكد ذلك، والنوم هنا هو اليقظة الأخرى، والتداخل المتبادل يتضح مباشرة فى “العين و الساعة”:
”ومع أن الموقف كله تسربل بغشاء منسوج من الأحلام، غير أنه هيمن على بقوة طاغية[14]، فامتلأ القلب بأشواق التطلع والانتظار وآلامهما الجامعة بين الترقب والعذوبة “. ويؤكد أنه لم يكن نائما! إذ يردف فورا: ” ولم أنم الليلة ساعة واحدة ” ولكنه يعود فيؤكد حالة الخيال وحرية تجواله: “وظل خيالى يجوب أرجاء الزمان الشامل للماضى والحاضر والمستقبل معا ثملا بخمر الحرية المطلقة ” (ص113)، فالناتج الطبيعى هنا لإطلاق مستويات الوعى معا هو حرية تمازج المحتوى فى لعب وحضور وتنقـــل سهل خطر فى آن: وعلى ذلك نمسك بمفردات المجموعة من الأول:
ونحن نرى تداخل المستويات فى “العين والساعة” وفى “من فضلك واحسانك” وفى ” الليلة المباركة ” حتى ” رأيت فيما يرى النائم “، ولكننا قد نواجه الفصل القاطع بين مستوى وآخر مثلما فى “أهل الهوى” حيث يظل الماضى محظورا تحت وطأة تاريخ إرهاب ذئاب القبو.
وهنا يجدر بنا أن نعرج إلى استطراد واجب: وهو توظيف محفوظ للحلم، والجنون، والسكر، والمخدرات، لتفكيك التركيب البشرى شبه الواحدى إلى مكوناته المتعددة، فهو إذ يطلق سراح التعدد لا يترك الأمر فوضى بلا دلالة، بل يؤلف بين المستويات والمحتويات بشكل سلس وقادر، ويضيف بحدسه الى ما يجدر “بالعلم” أن يضعه جادا فى الاعتبار:
ومثال ذلك تصويره لعالم العفاريت بأنها “وجود” يحل بثقل حقيقى، يكاد من دقة تصويره له أن نحس به ثقلا ماديا ملموسا، وبذلك لا يعود العفريت هو ذلك الانشقاق المغترب الذى يأتى من بعيد، أو ذلك الرمز المجهول من عالم آخر، وإنما هو (العفريت “برجوان” مثلا) ” وجود جديد، ثمرة للرغبة الحارة المستميتة، كحضور ذى وزن ملأ فراغ الخلوة بثقله غير المرئى” أهل الهوى (ص2.).
وفى نفس الوقت فهو يعلن طبيعة مثل هذا الوجود المتجسد إذ هى من تراكيب الداخل أساسا “وشع نور فى الباطن فتجسد فى مثال ” (ص11.) العين والساعة.
ومحفوظ بذلك يتقدم خطوة تنويرية ليواجه مشكلة اغترابية طالما شقت الإنسان وأسقطت سائر مركباته إلى خارجه، فما الجان أو العفريت أو الخيال إلا “حضور” مقتحم، أو “حضور” بديل، أو حضور مجسد، لبعض تراكيب الداخل اذ تنطلق من إسار ” وحدة ” هشة.
وفى ” الليلة المباركة ” ” تبدأ القصة بإعلان الخمار عن حلمه، ” بأن هدية ستسدى الى صاحب الحظ السعيد ” (ص125)، يعلنها فى جو لا يعرف التحاور باللفظ العام والكلام المألوف، وإنما يمارس التناجى “فى الباطن” والتحاور “بالنظرات”، وتمضى القصة كلها فى نقلات سريعة أقرب إلى الصور منها إلى السرد اللفظى أو التسلسل المنطقى، وهى لغة الحلم الغالبة حيث الحلم صور وحضور عيانى متلاحق ومكثف، قبل أن يكون رمزا ودلالة، ويتضح ذلك بشكل مباشر ومكرر فى سلسلة “رأيت فيما يرى النائم”.
خلاصة القول أن حدس نجيب محفوظ قد استطاع بشكل فائق أن يقتحم التركيب البشرى بنشاطه المتناوب وإسقاطاته المجسمة، وأن ينسج من هذا وذاك رؤية قصصية لها وظيفتها التحريكية الكشفية: قبل وبعد محتواها الدلالى والرمزى، وهو فى هذا يواكب ويسبق المنظور التركيبى للذات البشرية، ويتجاوز المفهوم الدينامى التقليدى، كما يتجاوز أيضا -دون تخط أو تعسف-التركيز على المحتوى الرمزى لطبقات الشعور، وإن كان نجيب محفوظ قد يذهب فى بعض أعماله إلى المبالغة فى الرمزية لأسباب محلية ومرحلية تتعلق بحرية الفكر فى مرحلة تطورنا الحالى، فإن استعماله للرمز فى هذه المجموعة كان له طابعه الخاص، وتوظيفه الجديد:
سادسا: دور الرمز ومحدوديته
اقتحم نجيب محفوظ فى هذا العمل مستويات الوعى الأخرى حتى تبينت له معالمها “كما هى” لا كما تشير إليه أوتدل عليه فقط، ولكن القارئ لا يستطيع بسهولة أن يخلــص نفسه من التقاط الإشارات الدالة على رموز شائعة فى كتابات محفوظ السابقة بصفة عامة، وتــلاحقنا هذه الدلالات سواء قصد إليها محفوظ واعيا، أو فرضت نفسها عليه فى أثناء إبداعه وهو يكشف الغطاء عن طبقات الوعى الأخرى، وقد ترجع بعضها أو جميعها الى إسقاطات القارئ نفسه ناقدا كان أو متلقيا عاديا.
ولنبدأ بالقصة الأولى كمثال وتحد معا:
فالمغزى المباشر يقول إن القبو هو الرحم، وأن السائر على أربع هو الطفل، وأن المسيرة كلها هى الحياة الفردية المحدودة، وأن النهاية هى كفن أسود “متلفعا فى عباءته السوداء ” (ص45) وقد أوتى الكتاب بشماله “حاملا بيسراه حقيبة متوسطة الحجم ” (ص45)، وبالتالى تكون نعمة الله الفنجرى هى الدنيا[15]، وتكون علاقة عبدالله بنعمة الله هى علاقة الامتحان الذى ابتلى به ابن آدم (ابن ناس) وهو يغترف من إغراءات الحياة الدنيا، ويفشل عبد الله نتيجة انسياقه إلى التمادى فى الطبقة السطحية من اللذة الواعدة بالخلود الزائف، وكذلك نتجة لتاريخ قاهر غاب عنه مع ما غاب من ذاكرته
ولكن:
ما علاقة “الدنيا اللذة” بذئاب القبو؟ وما علاقتها بالعفاريت؟ وما علاقتها بمستويات الغرائز؟
إن الاجابة على هذه الأسئلة تمنعنا من القفز إلى اختزال رمزى مسطح.
ومع ذلك، فالدنيا (نعمة الله الفنجرى) تستعمل عذوبة الفطرة وقوتها للأغراض الأدنى دون فرص النمو الأعقد، وتستعمل الدين للتخفيف والتطويع ” الفتى يساق كل عصر لتلقى دروس الدين ” (ص14)، “المهم أن تـــعلمه كيف يخاف” (ص14)، وبذا يناسب مقاس الدنيا لا أطول ولا أقصر، والدنيا تستعمل الغريزة فى عملية ترويض وسلب نكوصى، ولا تطلقها فى عمليات التطوير والتكامل، وبذا تصبح الفطرة “براءة عمياء” وتصبح الغريزة زوابع تنحنى لها ثم تركبها، ثم هى تستعمل الذكاء (السحر) لتسيطر على العدوان لصالح أغراضها.
فالعدوان فى الظلام ذئب كاسر، ومع ذلك فهو تحت رحمتها، على أن ثمة عدوانا آخر تخاف منه، وهو عدوان الفطرة الزوبعة التى لا تخاف ولا تروض إلا بالقمع بدروس الدين (وليس بالدين)، وبالانهماك الجنسى وليس الارتواء الجنسى، ثم هى فى النهاية ” تعشق حتى الموت، وعشقها لادواء له “(ص19) فهى العشق الموت أى هى الموت .
ورغم كل ذلك، فإنى لست راضيا عن هذا الاستعمال الرمزى، أو هذا التفسير الرمزى، وكلما وجدت حلقة مفقودة فى التسلسل، أو ثغرة ضعيفة فى التفسير، زاد أملى فى أن أكون مخطئا وأن تتخطانى المسألة برمتها دون تفسير.
وقد يظهر الرمز جزئيا بشكل متواضع فى لمحة عابرة مثل رؤية عبد الفتاح “صورته على ضوء البطارية الخافت جسما بلا رأس” (ص65) ثم بحثه عنه داخل الدولاب ورؤيته “بدله المعلقة مشتبكة فى معركة بالأيدى والأرجل” (ص66) بما يكاد يشير مباشرة الى ذهاب وحدة العقل بالتفكك إلى وحداته الأولية (ذواته) المتصارعة المتشابكة بلا رئيس أو رأس منظم .
وكذلك ما ذهب إليه وأعلنه من ترادف بين ” فقد البيت ” وفقد العقل “أفقدت بيتى أم فقدت عقلى ” (ص127) مما يحمل جرعة زائدة من “المباشرة”.
لكن الإلحاح على الرمز بقدر مفرط من المباشرة قد يصل الى صورة مرفوضة حتما[16] مثلما أوضحت أضعف قصص المجموعة “قسمتى و نصيبي”، فشتان بين الصورة الرمزية لهذا الانقسام فى الفكر و العقل دون بقية الجسد، وبين التعدد الذى ظهر فى “العين والساعة”، وبدرجة أقل فى “الليلة المباركة” أو “رأيت فيما يرى النائم”، لكن الجدير أن نحترم قدرة محفوظ على تنبيهنا- ولو برمز مباشر- إلى طبيعة جديدة لانقسام الكيان البشرى، لابين عقل وعاطفة، أو بين شر وخير، أو بين ضمير ومذنب، وإنما جعلها بين طبع عملى انبساطى، “يفضل اللعب فوق السطح ومعاكسة السابلة والجيران”(ص92) وطبع انطوائى مفكر يحب أكثر فأكثر”مزيدا من القراءة والاطلاع”، ويبدو أن تأثر محفوظ بيونج[17] فى هذه القصة كان له وضع خاص، فقد رفض التوحد بالذوبان “ذوبان أحدكما فى الآخر مرفوض ” (ص94) واجتهد فى محاولة إلي”الوفاق” بالحب بين النصفين وكأنه يعنى تسوية ما ولكنه لم يشر إلى الأمل الأبعد فى تكامل ولافى بالتفرد individuation وجعل القصة تستمر على أنهما “نصفان” وليسا وجهين أو تنظيمين أو بنيتين “فعاش كل منهما نصف حياة، وتعلق بنصف أمل” (ص1.3).
وهذا أيضا من أثار تجزئ الذات الى أبعاضها دون النظر فى عمقها التركيبى فى شكل ذوات (وليست أجزاء أو أنصاف) متكاثفة متداخلة، وبتقدم التباعد بين النصفيين يتحدد التنافر ويتعمق الشـــق النصفى حتى ينتهى إلى استقطاب مضيع ” نحن مختلفان تماما ” ” فانك ان اخترت الحكومة اخترت من فورى المعارضة والعكس بالعكس ” (ص1.2).
وتمضى القصة لتعلن أن القضاء على أحدهما بالإلغاء ” الموت فالتحنيط ” هو الكبت الغائر”موطن الحقيقة الباكية”(ص1.3) فهو سيعيق النصف الحى الباقى ويهدده فيعيش” تحت سماء ماجت بالغبار فلا زرقة ولا سحب ولا نجوم ” (ص1.4) لا يفعل شيئا-مهما فعل- إلا ان ينتظر الموت.
الرمزية هنا صارخة، ولم يخفف منها محاولات التجديد فى أبعاد الإستقطاب، والمباشرة مزعجة، ويبدو هنا أن الوصاية الثقافية قد ثقلت بوزنها على الحدس الفنى.
ولعل نجيب محفوظ-مع ذلك-فى حفاظه على واحدية النصف الأسفل بما يحمل من جنس كان قد تجاوز فرويد، مثلما تجاوزه يونج، وإن كان فى نهاية الأمر قد أضعف-بشكل ما-ما إرادته الرمزية القحة من القصة، لأن النشاط الجنسي-عندي- مرتبط نوعا وكما باختلاف البنية المقابلة للتعدد داخل الكيان البشرى، فالجنس ليس مجرد آلة منفـذة تخدم الفكر السائد، بل هو جزء لا يتجزأ من البنية ” الفكرية الدوافعية الجنسية فى آن ” والتعدد الذواتى يتضح فى هذه المجموعة، وهو ليس غائبا عن محفوظ ولا هو ثانوى، ففى العين والساعة ظهر جليا وقد أشرنا الى ذلك قبلا، وفى “رأيت فيما يرى النائم” يظهر فى حلم (6) مباشرة: “ودق الباب دقا متتابعا، ففتحته، فخيل الى أنى أنظر فى مرآة ” (ص151)، وفى حلم (12) نرى التعدد فى شكل أرقى حيث كان من “جنس آخر ” ” صرخة أنثى فيما بدا لى ” (ص164) أى أن الكيان الأنثوى فى الذكر استقل ثم واكب بعضهما البعض، فبعد حوار شديد القصر يشتركان فى نفس التهمة ويمضيان معا “كشهابين فى ظلمة الليل”.
فإذا غامرنا بقراءة القصة الأخيرة -أيضا من بعد رمزى باعتبارها -مرة أخري- مسيرة الحياة وقد تلاحقت فى صور مرئية فى نسيج هذا الإبداع المتميز لأمكننا القول دون جزم:
1- تبدأ القصة من أحب نقط بدايات محفوظ اليه ” الظلام المحيط” (قارن مثلا ظلام القبو فى أهل الهوى) ” ولكن وعيى يرافق الظلام المحيط” (ص141) الحلم الأول، وتنتهى غائصة فى جذب يأسه – تحت مظلة سوداء (قارن العباءة السوداء: أهل الهوى) – ” إننى جالس تحت المظلة سوداء ” (ص172)، الحلم الأخير.
2-وهى تبدأ أيضا “شدتنى بخيوط خفيفة ومضت نحو الخارج ” (ص141) الحلم الأول : “وإننى لن أحيد عن التطلع الى الأمام” (ص142) نفس الحلم، ” ليس معى من الحوافز إلا الظمأ والشوق ” (ص142) (كل ذلك يكاد يترجم مباشرة الى ما يقابله فى الولادة بيولوجيا ونفسيا-وتنتهى إلى: “أتسلى بمشاهدة صندوق الدنيا ” (ص172) الحلم الأخير، ثم ” وأقبلت أنزع الأوسمة والهدايا من أركان جسدى ” (ص173) نفس الحلم، وذلك استعدادا لانتظار الزائر الهام، ثم اذا به هو الذى ” يشق لنفسه طريقا إلى الخارج وقد خف وزنه دون حاجة الى خدمات الزائر، ليرتفع فى الفضاء بسرعة متصاعدة، فينعتق إلى هناك حيث الوعد بمسرات تعجز عن وصفها الكلمات” – (ص173) وما بين الولادة العنيفة والموت المنتظر (فى انتظار ملك الموت عزرائيل بهدوء مستسلم) ثم الموت الاختيارى [18] أقول ما بين هذا الحلم الأول والحلم الأخير تمضى الحياة فى أطوارها شبه المعروفة والتى التقطها الحدس الفنى وأضاف اليها:
فنجد الحلم الثانى وهو يعلن “المواجهة”، وجها لوجه أمام أرض الواقع بتضخمها المتعملق وانفجارها المبهر، وإرعابها دون التخلى، حتى الاستسلام لحوزتها ” عدوت منها ولكنى عدوت فى مجالها وحضنها” (ص 143)، وتدور نفس الدوائر شبه مغلقة، ولكن فى حركة مرنة تذكـرنا برحلة الداخل والخارج “فلا منفذ للهرب، ولا صبر على التوقف والاستسلام “[19] (ص143) وهو فى هذا الاستسلام مثله مثل غيره ممن يعدون: “وتبين لى أنى لست الوحيد فى المأزق، وأن ملايين يلهثون من العدو” (ص143) ولا يخفف من بعض ذلك إلا الأمل فى بعض الترويح الجماعى الفنى ولكن: “هل يطيب الغناء والمطرب يتخبط فى القبضة”، ومع انعدام الغناء الجماعى (حيث كل يغنى على ليلاه) فقد بدت بداية الرحلة خليطا من الوحشية والجمال، وهذه لمسة أخرى تعلن روعة التناقض الواقعى الداعى لمكونات ولاف التكامل.
حلم3: ولا يمكن ألا يتحرك الموقف من هذا المأزق شبه الدائرى، ما دامت الحياة تسير وإذا بالانشقاق الأولى يتم كمحصلة لحركة التقدم والتأخر (آفة الحب الحياء)، ويخطو النمو من الموقف الاكتئابى الناتج عن ألم ضرورة اختراق الواقع، إلى العلاقة السطحية بالآخر التى تخفف من حدة الآلام قليلا أو مؤقتا، فمع اللقاء الودى لرفيق الصبا يذهب الحزن مؤقتا، ليبدأ الامتحان الأكبر والتخبط المعرفى (الذى سبق الإشارة إليه فى هذه الدراسة)، ومع كل جرعة معرفة تطل الأحزان.
حلم4: ولا يمكن تحمل جرعة المعرفة دفعة واحدة، فنهرب الى التخدير والثرثرة (فوق النيل والتاريخ)[20]، وحين تنتهى الثرثرة-بعد تبين أن كل شئ قديم معاد، “جميع الشكاوى مسجلة على حجر رشيد ” (ص147) تلوح آمال الثراء كبديل اغترابى آخر.
حلم 5: ويتأرجح البندول من أقصى المثال والزهد، إلى أقصى البهلوانية والبحث عن دراهم تحت سحابة متحركة، والممثل”الإنسان” واحد فى الحالين، والنهاية هي”الركض من” وكذلك ” الركض إلي” “هدف ما”.. فيما بعد الرواية.
حلم 6: وفى المواجهة التالية[21] مع الشق الأخر، تبدأ محنة محاولة معرفة الماضى (التاريخ الفردى أو الجمعى أو كليهما: قارن بوجه خاص: أهل الهوى)، ويتجسد هذا التاريخ فى ما هو الذات الأخرى وقد تعرت، لتطل أشباح الجريمة الأولى، ولا ينقذ من هذا التفكير (والمواجهة) إلا مواصلة “الجرى معا” فيما يشبه التسوية التسكينية، فيختفى الزمن إذ تغلق الدائرة بالركض “محلك سر”، ” فلا يوجد ليل ولا نهار، ولكن يوجد الهواء والركض” (ص153)، ويستمر العدو بالقصور الذاتى حتى بعد اختفاء “الآخر”[22] المبرر للركض الواعد بالنجاة (سواء كان هذا الآخر ذاتا داخلية أم أملا خارجيا، وهما واحد): اغتراب آخر بتسوية فاشلة معوقة للنمو.
حلم 7: ويظهر مهرب “فني” أرقى من الغناء المتعذر ونحن نتخبط فى القبضة (حلم 2)، وهو أكثر إغراء من “الركض” معا فى دائرة مغلقة، فيمضى “الإنسان ” يفرط فى الاهتمام بالطبيعة وشذاها أكثر من نتاجها اللاهث الغارق فى الجمع والتكدس، ومع الالتحام الكامل بالطبيعة فى صورة فنية بديعة ينعتق المطارد -ولو مرحليا- بتوحد نكوصى ناجح .
حلم 8: ولكن هذا الحل لا يحتمل الاستمرار، لأنه يستحيل على الانسان أن يحل مشكلة وجوده بأن يرتد “غصنا” متنازلا عن بشريته الرائعة رغم تركيبها المتكاثف المعقد، فهو يدفع الثمن بمزيد من تنازله عن ذاته فى إمــــعية بشعة، تسير فى زفة كل سلطان، فتجعله نهبا للأحوال بلا حول، ورغم أنه يدرك “بالحمق ” (والتبعية) (ص156، 158) ما لم يدركه بغيره، فإن العمى يطيب له مثله مثل الآخرين (زاوية العميان: ص157).
حلم 9: ومع تقدم العمر تبدأ العزلة تلبس ثوب الحكمة (المدينة خالية، وكليلة ودمنة دستور المرحلة ويتولد منها نوع من التسليم الايجابى) ” فما أبالى أطال الليل أم قصر ” (ص16.)، ولكنه ليس بحل، فالتعاسة قديمة ولكن: ليرفل-ولو مؤقتا-فى فندق ” الرضا “.
حلم 1.: وتعلن العزلة وتحتد فى صحراء لا يحدها الأفق، ومع زيادتها يتدفق الوعى بتاريخ مماثل، فإذا بأسير أخر للوحدة يعلن وجوده ” أنا الخلاء ” ومع زيادة المعرفة الخاصة (سيدنا الخضر) تزداد الوحدة ظهورا وخاصة فى مواجهة الأغراب، فيدرك الهارب إليها… أ لا صبر عليها.
حلم 11: ويتراجع الحل المغرى، الحل بالحكمة فالرضا فالوحدة والعزلة، ورغم عدم تبين الغاية المرجوة تبرق لحظة خاطفة كأنها القــــبــلة الهادية[23] المنيرة، ولكن سرعان ما تنطفئ بهجتها لتترك وراءها الحزن الحتمى، ولكن يظهر وسط الانخداع اليائس بريق أمل “ما”.
حلم 12: ولا يرجى تحقيق هذا الأمل إلا ببحث جديد “فى الماضي” (هكذا دائما!) فتظهر أوهام وشائعات التهمة الموجهة لوجودنا (الفاكهة المحرمة – المعرفة الخطرة – قتل الأخ / الأخر- قتل الرب: المسيح – الانفصال عن الكون.. مما يتواتر عبر تاريخ الإنسان كما يتهم نفسه، وكما يستوعبه محفوظ تماما..) ليستمر السعى مسوقا بحفز الهرب إلى الخلاص (وربما التكفير أو التطهير).
حلم 13: لم يظهر حتى الآن حل يشير إلى أن المسيرة لابد أن تتجه إلى إرساء علاقة “بآخر” مشارك (وليس كمثل رفيق الصبا المؤقت فى حلم 3 الذى يبدو صاحبا من الداخل)، الأمر الذى يستلزم استخدام وظيفة الجنس فى الحفز إلى المخاطرة، وبمجرد أن يطرح هذا الأمر فإنه يفشل حين تتركز العلاقة الجنسية فيما يشبه الأوهام الأوديبية ثم يتمخض الجنس تدريجيا عن التهام المرأة (الأم) جزءا جزءا ولا يبقى إلا لسانها يعلن سبب فنائها: الهرب من “الوحدة ” بلا نجاح والسعى الى ” الحنان ” بلا تحقيق-قضية الأزل- ” متى سمعت هذه العبارة ” (ص166).
حلم 14: ومرة أخرى، وبعد أن تلتهم المرأة عضوا عضوا بما تمثله من أمومة وجنس معا، (إلا لسانها)، تعود دورة النمو للنشاط إذ تدب الحياة شابة من جديد، فيواصل الشاب السعى وهو يتبع “نفسه” فى أمل متجدد، ولكن -مرة أخرى -سرعان ما يخبو من الانهماك والاغتراب، ومع ذلك، فاليأس لا يحل كاملا إذ ما زال ” هاتف الغيب يبشر بالعزاء ” (ص168).
حلم 15: ثم سعى جديد، ولكنه سعى مباشر الى معرفة ” أخرى ” تجمع بين الحكمة والرؤيا والحدس الأعمق، ولكن الكشف المعرفى يصدر من عالم آخر: قديم حكيم، وكأنه الحل الدينى أو الصوفى يتم على حساب الذات المحدودة، بل على حساب الإرادة، فالجريمة الأولى تبدو وكأنها بلا غفران إلا بإعلان الاستسلام لقوة مجهولة، أو معرفة غامضة، أو تأثير قهرى.
حلم 16: ولا تعود الذات إلى حدودها الضيقة بعد هذه الجرعات من الرؤية والتفتح – رغم المضاعفات-بل تنطلق لتفتح آفاقا جديدة نحو قوة خارقة وخلود “ما”[24]، فتتوجه المسيرة نحو الآخرين، لكنها لاتلبث-كالعادة-أن تنهك فترتد الى الذات المحدودة “سعادتى الشخصية” (المستحيلة ما دام ثمة آخرون)، ويلزم الصراع فتبدأ المطاردة لتختفى القوة ولا يبقى إلا الجسد منتهكا بين أيدى المطاردين، ولكن: لا يختفى الأمل رغم كل شئ
حلم 17: وأخيرا تأتى النهاية بالموت الاستسلامى شبه الإرادى (كما ذكرنا ص126)، ولا يطرح أصلا احتمال التكامل فالخلود، ويظل الأمل فيما بعد الموت فى “مسرات”، وليس فى “تناسق الكمال”.
وبعد ..
فلابد من الاعتراف بالحرج أثناء محاولة تعرية هذا العمل العظيم على هذه الصورة، كذلك لابد من تكرار اعتراف مبدئى باحتمال الخطأ، ويظل النص المبدع ابتداء هو الأصل الصادق “حتى لو صح التأويل وليس بسبب صدق التأويل”، وإن كان لنا أن نضيف كلمة أخيرة فهى تتعلق بما وصلنا من غلبة اليأس على هذه المجموعة رغم إصرار الأمل، وما طرحته القصة الرؤية من أمل المسرات النهائى رغم أن المسيرة الحيوية ليست دائما نحو السرور، وإنما هى أساسا نحو التكامل، ومع تسليمنا المؤقت بنتاج الوحدة والإنهاك من تراوح ما بين استسلام اليأس وخدر السرور لا يجدر بنا أن نستبعد الكاتب والناقد من نفس المصير، ولكن أيضا لا يجدر أن نستسلم له، بل ولا نستطيع ذلك بعد كل هذا التحريك .
سابعا: بعض رؤوس مواضيع:” غير ما فات “
كالعادة: لابد من إيقاف، ولا مفر من إشارة إلى ما لم تتناوله هذه القراءة من ملاحظات جديرة بالدراسة والنظر، وخاصة فيما ترتبط به من أعمال نجيب محفوظ الأخرى، ولا يسعنى إلا أن أكتفى بإشارات محدودة إلى بعض رؤوس المواضيع “الأخرى” التى استرعت إنتباهى دون توقف لحصرها والتعليق عليها، آملا أن أرجع إليها، أو داعيا غيرى لتناولها، إذ شعرت أنى أنتقص العمل -حتما- ما لم أشر إليها:
1- النقلات والتغير النوعى:
يتميز أدب نجيب محفوظ، المتأخر نوعا، ربما بدءا بالحرافيش: بإيضاح ظاهرة هامة جديرة بالنظر ألا وهى ” نقلاته النوعية المتغيرة الاتجاه والمفاجــئة ” وهى من صفات مسيرة النمو النشطة، وهو أمر نفتقده فى كثير من الأعمال المبـررة بأسبابها فى الماضى المتأثرة بالحتمية السببية الفرويدية ([25]) فى العادة، وتلاحظ هذه النقلات عند نجيب محفوظ فى ظاهرتين:
الأولى: فى تكراره لعرض ما يمكن أن يسمى ” إعادة التعرف ” أو ” تجديد الإدراك ” .
الثانية: فى وصفه لتلك الطفرات المفاجئة إلى أعلى أو إلى أدنى، وما يعقبها من تغير، وأورد هنا بضعة أمثلة لتوضيح ذلك دون تعليق:
(أ) ص23: لكنه وجد نفسه راقدا فى حضن الفتور الجليل ليرى الأشياء لأول مرة.
(أهل الهوى)
(ب) ص27: بدا كل شئ بالقياس اليه-بخلاف المرأة-كأنما يحدث هكذا لأول مرة فى تاريخ البشر.
(أهل الهوى)
(ج) ص46: ورغم ارهاقه كان يرى ما تقع عليه عيناه بوضوح شديد فكأنه يراه لأول مرة، فمازج نفوره حنين غامض.
(أهل الهوى)
(د) ص59: أليس مما يفزع أن ترتفع فجأة من كرة القدم الى قلب الكون، دفعة واحدة.
(من فضلك واحسانك)
(هـ) ص65: ومن خلال تجربة طارئة: التحم بأثاث حجرته التحاما غريبا جنونيا.. وكأنه يكتشف لأول مرة الفراش الخشبى ذا اللون البني.
(من فضلك واحسانك)
(و) ص1.9: ولكن الحياة كلها تجمعت أمام عينى فى التماعة خاطفة مثل كرة من نور منطلقة بسرعة كونية.
(العين والساعة)
(ز) ص126: وخيل إليه أن شبح البيت يتبدى فى صورة جديدة.
(الليلة المباركة)
(ملاحظة: لم استشهد بالتغيير النوعى الذى تكرر طوال أحلام “رأيت فيما يرى النائم” لأنه من طبيعة تنقلات الحلم وتبديل لقطاته وصوره).
2- العرى والتعرى:
يستعمل نجيب محفوظ عامة، وفى هذه المجموعة خاصة، ظاهرة العرى والتعرى بتواتر يحتاج الى تأمل فدراسة، وهو لا يقف عند دلالة واحدة بل قد يشير بذلك الى المعرفة الأخرى أو الفطرة أو النكوص أو كشف الداخل أو غير ذلك، وأيضا سأكتفى بالعينات دون تعليق:
(أ) ص5: بدا عاريا تماما.
(أهل الهوى)
(ب) ص8: المؤكد أن الذئاب هجموا عليه فضربوه وجردوه من كل شيء
(أهل الهوى)
(ج) ص137: ومضت الوطأة فى صعود فنـزع جاكتته وبنطلونه وطرحهما أرضا، ولم يحدث ذلك أثرا يذكر، فتخلص من ملابسه الداخلية.
(الليلة المباركة)
(د) ص151: فخيل إلى أنى أنظر فى مرآة، انه صورة طبق الأصل منى، الا انه عار تماما الامما يستر العورة.
(حلم6: رأيت فيما يرى النائم)
(ه) ص166: فأعرضت عنى ومضت، ثم رجعت وهى تربت خد شاب شبه عار.
(حلم 13: رأيت فيما يرى …)
3- العدو والاتهام والمطاردة:
الشائع-حتى علميا-أن المطاردة والاتهام والاضطهاد هى مظاهر ومشاعر مرفوضة أساسا، إلا أن النظر إلى هذه الظواهر من عمق آخر يرى فيها ؤنها “إعلان وجود” بشكل ما، فالحاجة للآخر التى لا تتحقق بالحب والمواكبة قد تعلن بالفر والمطاردة، والمطاردة تحمل عناصر الشوفان (من آخر) وأهمية المطارد، فضلا عن إثبات القدرة على التقدم ..ولو هربا، كما أنها تلوح-بشكل ما-بأمل الخلاص، ويبدو أن نجيب محفوظ قد أدرك كل ذلك وأكثر منه بحدسه الفنى أساسا، وهاكم بعض العينات:
(أ) ص38: دار الحديث يوما عن هارب تبحث عنه الدولة لتشنقه.
(أهل الهوى)
(ب) ص79: ” تلقى (عبد الفتاح) المنشور بقلب خافق، لكن قلبه توقف عن الخفقان عندما تبين أنه لا علاقة له بعبثه” “ودار رأسه فشعر بأن اصبعا ستشير إليه بالاتهام”.
(من فضلك واحسانك)
[ السياق هنا يلزم بتذكر أن عبد الفتاح كان يسعى سعيا الى أن يـطارد ويـتهم طلبا لأهمية أو ذكر “ما” ]
(ج) ص136:: وأوسع الرجل خطاه، فطالت المسافة، فأسرع بدوره رغم سكره.
(الليلة المباركة)
[ وتستبدل بالمطاردة هنا من آخر، ” الملاحقة ” لآخر، والدلالة تتشابه من عمق معين، مع ملاحظة أن الملاحقة هنا كانت للذات الأخرى وليست لآخر فى الخارج حيث انتهت من تباعد فتقارب الى “غزو ثقل جديد ينقض على منكبيه”(ص137) وكأنهما أصبحا واحدا، ولكن باقتحام مخل].
(د) ص15.: رأيتنى عقب ذلك وأنا أركض بسرعة فائقة، ولكنى لم أدر أ أ ركض وراء هدف أريد أن أدركه أم أركض من مطارد يروم القبض علي.
(حلم 5: رأيت فيما…)
[ أنظر كيف وصل حدس محفوظ الى ما ذهبنا اليه فى الفقرة السابقة من تكافؤ المطاردة والملاحقة ].
(هـ) ص151، 152: ” لولا مجيئك ما لحقتنى الشبهة “، ثم ” سنفكرفى ذلك ونحن نعدو ا ” ثم: ” إجر، إجر، ألا تشعر بفساد الغرفة ؟ ” وأخيرا “لماذا لا أسمع أصوات من يطاردونا ؟ “
[ لاحظ هنا كيف ينقلب الجرى “سويا”، الى مطاردة ” ما “، ثم” تتلاشي”-ولولا الاكتفاء بالأمثلة دون التعليق لأشرت الى بعض معنى ذلك: تركيبا ذواتيا داخليا ].
(و) ص154: وفى لحظة مشرقة، استحلت غصنا فأفلت من مطاردة السمسار .
(حلم 7: رأيت فيما…)
[ لاحظ كيف تخلص من المطاردة بالالتحام بالطبيعة: نكوصا، ومع ذلك ]
(ز) ص165: ” فسألتها بشدة: ما تهمتك ؟ ” “-التهمة التى لا يبرأ منها أحد حتى أنت”.
[ إذان فثمة تهمة، ولا مفر من الهرب ].
” فقبضت على يدها وأنهضتها، ثم انطلقنا معا كشهابين فى ظلمة الليل “.
(ح) ص17: ولكن ما كاد يزايلنى القلق حتى ترامى وقع أقدام ثقيلة تطاردنى، وهزئت بالمطاردة والمطاردين و ” …لم يصدع جسدى بأمرى، وتطاريت قوتى فى الجو فوقعت فى يد المطاردين بلا حول”.
(حلم 16: رأيت فيما..)
* * *
4- عن الجنس والعدوان والجنون:
على غير عادة نجيب محفوظ، لم يطلق للعدوان سراحه فى السلوك الظاهر، فكاد ينعدم القتل الذى يكاد لا يخلو عمل لمحفوظ منه صراحة ومكررا، كذلك لم يظهر الجنس بشكله المحورى الوجودى وأن يطل فى خلفيات كثيرة، وحتى حينما ظهر صريحا فى “أهل الهوي”مثلا، فقد كان يعبر عن الاستغراق فى ” الدنيا ” أكثر من وظيفته ودلالته المباشرة.
أما بالنسبة للجنون، فإن التفكك والتعدد قد حلا محله بشكل أو بأخر، بحيث نرى أن محفوظ يستعمل لفظ الجنون أكثر بشكل لغوى بمعنى الإفراط والمبالغة والغرابة (مثلاص25، 35) وهو يختلف عن العمق الذى يوظف فيه ظاهرة الجنون المبدع فى نسيجه الفنى فى أعمال أخرى (اللهم الا فى قصة من فضلك واحسانك ص65، 66) فقد أحسن-هنا أيضا-عرض هذه الخبرة الجنونية التفككية المجددة .
ثامنا: خاتمة
بديهى ان ما تقدم ليس نقدا نفسيا بالمعنى الشائع، ولكنه قراءة خاصة بما هو أنا: بما فى ذلك معايشتى لما هو” نفسى “: معرفة منهجية، وذاتا معانية، وحرفة مشاركة، وهى قراءة أتعلم منها ما يضيف إلى فكرى، ولا أفرض عليها ما سبق ان تعلمته، والمحاولة مستمرة.
[1] – فرج أحمد فرج (1982) فصول-المجلد 2 عدد 4ص175-177 0
[2] – أشرت إلى هذه اللغة الشعر فى قراء تى اللاحقة للحرافيش
[3] – فيغلب فى بعضها البحث عن الأصل: مثل الطريق، وفى الأخرى البحث عن المعنى والمصير، مثل الشحاذ…0
[4] – العجز هنا ليس سببا مباشرا لفتور الحب الشهوى، بل لعله إعلان لعجز هذا النوع المنشق من الحب عن أن يروى شبق الوجود المعرفى فى البحث عن الأصل والمصير
[5] – ورد لفظ الآخر فى النص هكذا بين علامتى تنصيص، وربما كان ذلك يشير إلى دلالة التعميم الذى ذهبت اليه، أو الى بعد تاريخى غائص يعنى الذات الأقدم المحتواة فى التركيب الأحدث والعاجزة- وحدها- عن هذه المغامرة قبل تطور الوعى المعرفى بالدرجة المناسبة
[6]- يمتلئ وعى نجيب محفوظ بما تعنيه ‘السببية الغائبة’ التى ينطلق فيها الدفع الحياتى والإبداعى نحو غاية محددة بالتركيب وحركة التاريخ وليس بالأسباب التفصيلية وجزئيات المحتوى، ويمكن مناقضة هذا الموقف مع ‘السببية الحتمية’ عند فتحى غانم حيث يغلب عليه الفكر الفرويدى المبرر للأحداث والمفسر لها بشكل ملح (راجع الانسان والتطور عدد أكتوبر 1983) دراسة عن ‘الأفيال’0
[7] – لابد أن أذكر هنا ما أعنيه بالغريزة بالمعنى التركيبى (البنيوى) حيث أقصد بذلك ‘التركيب الجبلي-أساسا-المهيأ للبسط Unfolding، المندفع إليه تلقائيا فى وقت النضج المناسب وتحت الظرف الملائم، وهو يشمل طاقته فى طبيعة تنظيمه، ومع أنه عرضة للقمع والشجب الا أنه متاح له فرصة الاضافة والتكامل فى ‘الكل’، وإعادة التنظيم، وفى هذا يستوى الجنس والجوع والعدوان والدافع للمعرفة، وهذا الأخير مرتبط بأول الدوافع الفطرية وهى ما أسميه: الحفز إلى التطلع Orientation
[8] – يؤجل بعض الصوفية مشاهدة وجه الله تعالى (قمة الكشف المعرفى) إلى المرتبة الأعلى من الجزاء فى الآخرة، وما السعى فى الدنيا إلى ذلك إلا لمجرد ضبط الاتجاه، لا طلبا للتحقيق العاجل
[9] – تــقربنا هذه الصورة-رغم اختلاف المنبع والمسار-إلى بعض ملامح المنهج الفينومينولوجى فى البحث
[10] – اكتفيت هنا بالتركيز على ما يتعلق بإطلاق غريزة المعرفة من خلال هذه الخبرة ‘ الجنونية’، وقد أغفلت جوانب أخرى ‘ للإحياء ‘ أدت إلى الحوار بين الكتب والبدل داخل الدولاب، ومع صورته فى المرآة.. وهذا كله مرتبط بما أعرض هنا الا أن له مدخلا آخر ليس هذا مكانه
[11] – يستعمل لفظ المطلــق releaser ليشير إلا أن المثير stimulus لم يفعل سوى أن بـسـط أو أطلق ما كان كامنا، فهو إطلاق وليس استجابة كما ألفنا من العلاقة بين المثير والاستجاب.
[12] – هذا المقام-فى رأينا-هو مقام الربط بين المعرفة والهم، ومن أبسطها ‘ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله’ أو ‘ يخلو من الهم أخلاهم من الفطن’ وقد وصلت هذه المعرفة المزعجة عند المتنبى أحيانا قدرا من التعرية لا شك يعتبر صدمة للشائع وتحديا للإستسلام الغبى ومجلبة للهم مثل ‘تيقنت أن الموت ضرب من القتل’ أو ‘هل الولد المحبوب إلا تعلة، وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل’ … الخ0
[13] – يمكن أن نتبع هذا التزواج فى أعمال سابقة من أول أولاد حارتنا وحكاية بلا بداية ولا نهاية، وحارة العشاق إلى مجموعة قصصه الصغيرة بعد 67 خاصة مثل خمارة القط الأسود وتحت المظلة وشهر العسل رافضين فى نفس الوقت التسمية الأسوأ باسم ‘أدب اللامعقول’!!
[14] – يقابل ذلك مثلا فى ليالى ألف ليلة : إن يكن حلما فما له يمتلئ به أكثر من اليقظة نفسها ص (16)0
[15] – يذهب أحد علماء النفس (فرج أحمد فرج) الى أن القبو هو الرحم وأن البداية هى الطفولة، ولكنه يذهب-فى إصرار-إلى أن المسألة كلها هى حكاية علاقة الرجل بالمرأة، فنعمة الله الفنجرى هى المرأة الأم المقابلة لتخييل الأم Phantasmere (جابرييل ريبان)، وأننا لسنا إلا أمام ‘قصة حب’ بالمعنى الشامل. (المرجع السابق ص 1.3)0
[16] – شعرت بنفس درجة الرفض إزاء الرمز المباشر كما ورد فى آخر قصة قصيرة نشرها نجيب محفوظ فى إبداع (مايو1983 العدد الخامس/السنة الأولي4-6) تحت عنوان ‘الفأر النرويجي’.
[17] – كارل جوستاف يونج.
[18] – قرار الموت هنا ليس ضربا من الانتحار وإنما نهاية شبه إرادية لبرمجة فردية متعلقة بهدف ظاهر أو خفى، فهو اختيار تتوقف بعده الحياة إذ حققت أغراضها فى كيان بشرى فردى بذاته0
[19] – فكرة رحلة الداخل والخارج التى قال بها ‘جانترب’ Guntrip وغيره تشير إلى أن مسيرة النمو ليست خطية مضطردة وإنما هى نتاج محاولات أنجح لاقتحام مؤلم للعالم الخارجى، فهى تظهر وكأنها ذهاب وإياب مغلق، وفى الواقع-فى الأحوال الطبيعية-هى كذلك مع تغير موقع المحطات الأمامية، والذى يحتم هذا التقدم هو مأزق اللاعودة (إلى الرحم) ودفع الحركة الحيوية فى آن، وهذا يكاد يكون الترجمة الأقرب لما أشار اليه محفوظ بحدسه أو علمه
[20] – العلاقة بين هذا الحلم وبين ‘ثرثرة فوق النيل’ علاقة مباشرة وخاصة مع الإشارة إلى شطحات التاريخ ‘كما يفعل قدماء المصريين’ حتى عم عبده، يبدو هو عم عبده خادم العوامة هناك
[21] – يتم النمو كما يقول أوتورانك إريكسون وكاتب هذه الدراسة = فى دورات مكررة مع فروق تفصيلية ونهايات متصاعدة، وبذا فان الانشقاق والتعميم المرحليــيــن يتبادلان مع المواجهة ومحاولة الولاف المرحليين أيضا… وهكذا0
[22] – قارن استمرار نصف الحياة (كالموت) بعد اختفاء قسمتى فى قصة ‘ قسمتى ونصيببى
[23] – قارن هذه اللحظة بإشراقة عمر الحمزاوى فى الشحاذ، ثم انطفائها، وقارن أيضا مسار ‘ التجربة الطارئة ‘ فى ‘من فضلك واحسانك’0
[24] – يمكن أن تقارن فى مثل ذلك-مع الفارق-جلال صاحب الجلالة فى الحرافيش
[25] – ضربنا قبل ذلك مثالا لمثل هذا بفتحى غانم وأشرنا إلى دراستنا للأفيال، ونضيف هنا أن نفس البعد غالب فى زينب والعرش، وفى الرجل الذى فقد ظله على حد سواء
القتل: بَين مقامى العبادة والدم
فى
ليالى ألف ليلة
كتبت فى 1983 ونشرت فى “الإنسان والتطور”يوليو”1984
رغم أنها قراءة شاملة للعمل الروائى المتميز “ليالى الف ليلة”لنجيب محفوظ، فقد اخترت لها هذا العنوان الفرعى، لما وصلنى أن هذه “الفكرة”(القتل/العبادة) هى محورية عبر أغلب الحكايات، ورغم أن “نص”العنوان لم يرد إلا فى عبارة متأخرة فى الحكاية الثالثة: (ص: 67) على لسان الشيخ على البلخى (العارف-المعلم) مخاطبا عبدالله الحمال (الميت- المتناسخ)، إلا أنها كانت أوضح ما يكون منذ البداية، وبالذات فى الحكاية الأولى (صنعان الجمالى)[1]وإن كانت الحكايات كلها تجرى فوق أرضية بشعة من “شلالات الدم”التى تدفقت من شهوة وجبن وأنانية وذعر “شهريار”معا.
وقد كان القتل دائما سهلا على نجيب محفوظ[2]، يدفع إليه أبطاله أو يجعلهم ضحاياه بشكل سلس مفزع معا، وربما يحدث ذلك دون مبرر ظاهر، مما يجعل قارئه يكاد يوقن كم هو (القتل) حدث تلقائى من صلب طبيعة الحياة، إن لم يكن فى جوهره هو الحياة ذاتها، وحتى الموت (الطبيعى) كان كثيرا ما يبدو وكأنه قتل بشكل ما، وذلك فى أولى رواياته وقصصه حيث كان يوكل المهمة “للقدر أو الموت”، لكنه تقدم فى مرحلة لاحقة ليوكل به الفتوات والأبطال، كل فيما يخصه !!، ثم ها هو يفاجئنا إذ يقتحمــنا يمد إبداعه فى داخل داخلنا ليجذب جذور القتل الغائرة خلف ما نتوهم أنه “نحن”، فنتبين أننا “قتله أصلا”- بالحق والباطل- وأننا سنظل كذلك ما لم نواصل المسيرة إلى تكاملنا بشرا بحق.
ونـظرة سريعة نتعرف بها على كم القتلة والضحايا فى عمل متوسط الحجم مثل هذا العمل، قد يثبت للقارئ أحقية إختيارى لهذة القضية محورا لقراءتى[3].
الداخل والخارج:
ويجدر بى إبتداء أن أعود لقضيتى القديمة، فما زالت تلح على، وما زال الرفض يــشهر فى وجهها معظم الوقت، وهى قضية أو إشكالية “الرواية/الراوي/المجتمع”، وسأحاول أن أعيد رأيى فى هذا الصدد بشكل جديد فأوجزه قائلا:
أولا: إن الكاتب لا يكتب إلا ذاته.
وثانيا: إن ذلك لا يعنى أنه يتكلم عن تجارب “شخصية”أو عن فرد محدود باسم وتاريخ، وإنما أعنى به أن الكاتب يحتوي- بحيوية نشطة-كل تجاربه وانطباعاته ومنطباعاته [4] من خارجه وداخله جميعا، وإذ تصبح ذاته ثرية – مرنة-مقلقلة ـ فى آن.. يمضى يعيد تنظيمها من كل ذلك بتوليف جديد، وهو ما يظهر هنا فى شكل عمل روائى متميز.
وثالثا: إن ما يساعد على هذه الرؤية هو ما انطلق منه من مفهوم تعدد الذوات والتنظيمات والكيانات داخل الذات الفردية الواحدة، ذلك المفهوم الذى أعتبره المدخل لفهم عالم الذات، إذ هو المصهر والمحتوى لكل العالم، وعلى قدر مرونة الحركة وجـدة التوليف بين هذه الكيانات اللانهائية: يكون الابداع.
وعلى ذلك-فإننى أستطيع أن أتقدم خطوة نحو إيضاح أبعاد هذا العمل من حيث واقعيته، فالواقعية فى العمل الروائى تقوم بقدر ما يكون هذا العمل موضوعيا لا بقدر التحامه بالواقع الخارجى أو وصفه له، ويكون العمل موضوعيا بقدر صدقه وقدرته على استقبال قلــقلة شخوص ذات كاتبه بحجمها الحقيقى، ثم مدى قدرته على الإضافة لها وتحريكها وإعادة إفرازها فى عمله دون وصاية فكرية مسبقة، أو خيال مصنوع.
فهذه الليالى “واقعية”فى مجملها رغم الاسم والجو الأسطورى، من كل ذلك نجد أن جرعة الواقعية تخف حتى تكاد تختفى كلما تقدمنا خلال العمل حيث يغلب فى نهايته الخيال (لا الحلم) حتى ليفرض نفسه على الحلول المطروحة، كما يطغى الأسلوب التقريرى وتعلو لهجة الخطابة ونبرة الحكمة قرب النهاية أيضا يحدث ذلك بشكل ملح، لكنه لا ينجح فى أن يبعد العمل عن واقعيته الغالبة فى البداية خاصة.
والعمل فى مجمله، ورغم تراجع نهايته، ( كالعادة !!) إنـما يمثل مرحلة متقدمة من رحلة كاتبه فى أغوار نفسه/العالم، وبه نجح نجيب محفوظ فى إعادة إبداع هذا الأصل “الفريد”، فأعاد خلق بعضه فى دورة تناسخية رائعة، ورغم كل هذه المساحة بين الأصل والتجديد، فنحن لا نملك لهما فصلا، ولكن أى مقارنة تفصيلية تبدو أبعد ما يكون عن المطلوب فى قراءة مثل هذا العمل.
العفريت .. والوجود:
سبق أن بينت أن نجيب محفوظ قد أخذ بيدنا ليرينا أن عالم عفاريتنا هو “وجود“ماثل فى دواخلنا، وقد صرح بذلك بشكل مباشر، كما كرر الإشارة إليه بشكل غير مباشر فى عمل آخرسبق أن قدمت قراءته [5] وفى هذا العمل يعود ليؤكد هذه المقولة، والوقوف عندها مرة ثانية هام لإثبات بعض أوجه الفرض الذى أعلنـاه ابتداء عن ” القتل فى داخلنا “- وظيفته وأشكاله-، والعفاريت فى هذا العمل تمثل شخصيات أساسية تتبادل مراكزها بين ” الشكل”و ” الخلفية ” مع الشخصيات الإنسية التى يحركها الكاتب فى براعة مناسبة.
يعلن نجيب محفوظ فى الحكاية الأولى و منذ ظهور العفريت الأول (قمقام عفريت صنعان الجمالى) أنه “وجود“ داخل “الوجود”، أو بتعبير أدق: هو”وجود“مع “الوجود”، فهو يتحدث عن “كثافة“هذا الوجود و“ثقله”، و”غشيانه“و “حلوله“و”اصطدامه“بتجسيد آنى لا يسمح للقاريء اليقظ أن يذهب بعيدا عن الذات وتركيبها المتداخل، يقول:
1 – وغشيه “الوجود الخفى”.. وسمع الصوت.. (ص33)
2 – هيمن عليه “الوجود الأخر“(ص27) (وهو هنا يشير إلى أن هذا حدث حين “أخلد للنوم”، لكنه يعلن بشكل لم يعد يحتاج إلى شك أنه لا فرق بين نوم ويقظة، بين “وعى الحلم”و “وعى الصحو”(“إن يكن حلما فما له يمتلئ به أكثر من اليقظة نفسها”، (ص16) ).
3 – ” ارتطمت ذراعه ” بكثافة”صلبة ” (ص13) (لاحظ هنا تعبير”كثافة ” وليس جسما صلبا).
4- “جاء صوت غريب … … صوت اجتاح حواسه“(ص14) واجتياح الصوت للحواس جميعا دون الاقتصار على الأذن .. يذكرنا بطبيعة الكثافة والإغارة ومصدرها.
5- ” وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيا جثم عليه فملأ شعوره”(ص38) (لاحظ تعبير”ملأ شعوره”).
6- “شعر بنفاذ “وجود جديد”هيمن على المكان“( ص40) (ولا أنكر أنى ربطت، ربما متعسفا بين النفاذ والوجود و المكان، فلم أدرك إلا أن المكان هو الذات: أساسا!!) .
7- مضى “الوجود”المهيمن يخف حتى تلاشى تماما (ص41) .
8- طرح تحت ثقل “وجود”غليظ احتل جوارحه … (ثم) فجأه الصوت مقتحما وجدانه. (ص48) .
9- ولكن الآخر أطلق ضحكة ساخرة، ثم سحب “وجوده”بسرعة وتلاشى (ص50) .
وأحسب أن استعمال الكاتب لألفاظ “الوجود”، والاقتحام، وامتلاء الشعور، واحتلال المشاعر، والثقل، والكثافة، والغلظ، والسحب، والالتحام، لم يعد يحتاج إلى مزيد من التأكيد بأن الأمر هو كما ذهبنا إليه : “عفريتا فى داخلنا”= “وجود ثان”:عيانى “الحضور”.
وأهمية هذا الاستطراد هو فى ترجيح ما ذهبنا إليه من أن هذا العمل يكشف عن القتل فى الداخل، ذاك الذى يتحرك مع تنشيط الوعى الآخر، القتل بمختلف دوافع انطلاقه وتنوع مساراته ونتاجه .
والآن لنواكب القتل حكاية حكاية :
1- صـنعان الجمـالى
”التنشيط الخطر .. بين التفكير والتروى”
هو ” قتل ” غريب حقا !!
1-لأن القاتل ليس “قاتلا”بطبيعته !! فهو رجل طيب، رجحت كفة خيره بشهادة العفريت ذاته وشهادة الناس، (فهو من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم)، أماشهادة العفريت “.. لا أنكر أيضا مزاياك، ولذلك رشحتك للخلاص”(ص28)، “.. قلت هذا رجل خيره أكثر من شره”(28)، أما شهادة الناس “.. كانت له منزلة بين التجار والأعيان، وكان من القلة التى يحبها الفقراء“(ص35)
2- وهو غريب لأن القتيل ليس واحدا، والقتيلان ليسا متجانسين، فالضحية الأولى طفلة بريئة، والقتيل الثانى حاكم ظالم .
3-وتشتد غرابته حين يبدو الدافع للقتل بلا مبرر شخصى ظاهر.
فما هى الحكاية ؟ لم القتل؟ هذا القتل؟ ومن هذا القاتل بالذات؟
إن هذه الحكاية الأولى أزعجتنى حتى كدت أعدل عن أخذها بكل هذه الجدية التى لاحت لى إبتداء، تلك الجدية التى غمرتنى فور قراءتها بتكثيف متلاحق، ولكنى عجزت عن التهرب وتماديت، وليتحملنى القارئ:
صنعان الجمالى شخص عادى، تاجر تغلب عليه الطيبة، لكن عليه أن يساير ويمالئ، وأن يسكت ضميره حتى يسيـر حاله مثله مثل الأخرين، وهو يحاول التكفير والتعويض بالطيبة والصدق وبعض العبادة (المحسوبة)، غير أن هذه الحياة الوديعة المتصالحة مع الظلم-رغما عنها بشكل ما-ليس لها ضمان، إذ لادوام لاستقرارها لمن يتورط فى إكمال المسيرة، أو بتعبير أدق لمن”يضطر”لإكمال المسيرة، وحين يحبس مثل هذا الشخص “العادى”داخله بما فى ذلك حسه الجماعى إذ يخدره بالتدبير والسلبية والانسحاب”استأنسنى بسحر أسود“(ص15)، فإنه قد ينشط فجأة إذ يدق الزمن “… دقة خاصة فى باطنه فيوقظه“(ص13) (لاحظ: فى باطنه)، حين ينشط هذا الكيان الداخلى الفطرى الحر[6] فإنه ينطلق ابتداء بقوة الغرائز الدافعة نحو ارتقاء تكفيرى، وقد تحدد التكفير هنا بقتل رأس الظلم (الحاكم)، هكذا: مرة واحدة !، ومن ذا الذى يقتله؟ شخص لم يعرف من قبل شيئا عن القتل، ولأن المسافة واسعة بين الحياة الأولى، واليقظة الأخيرة، فان التنشيط يندفع فى عنف تخبطى، فلا يكتفى بإحياء القتل: وسيلة لتحقيق إلهام بقصاص عادل، ولكنه يـنـشــط معه- بحق الجوار ! -الجنس الغريزى الفج، والقتل العشوائى الجبان، وذلك نتيجة التوازن بين الداخل والخارج: فلا الداخل النشط-بغير مناسبة ظاهرة-قادر على ضبط الجرعة (جرعة الثورة للتكفير عن مسالمتـه للظلم وممالأته للجارى) ولا (الخارج) القديم بمستطيع العودة إلى السيطرة على الموقف برمته (بما فى ذلك ثورة الداخل)، فالمتغير الذى حدث ببداية حسنة الاتجاه (ومرعبة معا) سرعان ما غيـر اتجاهه إلى غير ذلك بلا قصد واضح، وبألفاظ أخرى: إن التغير الذى فرضه الداخل بدا وكأنه حفز إلى أعلى، وإذا به يتردى (بمساعدة المنزول-ولكن ليس فقط بسببه ) إلى حيث لا يدرى، وها هو صنعان يخرج فى الصباح “لأول مرة فى حياته منذ صار صبيا دون صلاة“(ص19)، ثم “توغل فى حال يتعذر الهيمنة عليها“(ص29)، فهو الجنون أو ما شابه “فراح يخبط فى الظلام مشعث العقل“(ص21)، ويمضى هذا التنشيط الغريزى الفج يسحبه إلى أدنى فأدنى “تسوقه أخيلة معربدة“(ص22)، وإذ يستيقظ الجنس البدائى المندفع، يفجر خياله إلى ما سبق حظره: إلى المحرمات دون موانع “… وتذكر نساء من أهله شبعن موتا، فتمثلن له عاريات فى أوضاع جنسية، فأسف على أنه لم ينل من إحداهن وطرا ” (ص21).
إذن، فقد ثار الداخل (العدوان أساسا) نحو الخير من حيث المبدأ (قتل الحاكم الظالم)، ولكن من أين له بضبط الجرعة وتوجيه الدفــة ؟ ومع نشاط الجنس المحرم والشهوى بلا ضابط يندفع عدوان آخر ليقتل طفلة إذ يغتصبها ثم يزهق روحها رعبا ونذالة، فيجتمع الجنس والعدوان فى أدنى مراتب البدائية، .. فهو وجه الجنون القبيح.!
وهنا يصل نجيب محفوظ بحدسه إلى ما لم تصل إليه أى من العلوم النفسية إلا فرضا مجتهدا غير مقبول من أغلب المختصين، فهو يؤكد وجهى الجنون[7] معا، فبالاضافة إلى هذا التردى، يظهر الوجه الإيجابى بشكل مباشر “.. ما طالبتك بشر قط”(ص23)، ولكن أليس الذى نشـط الدفع نحو قتل الظلم هو هو الذى نشــط الجنس البدائى والقتل الجبان الهارب؟ نعم هو كذلك، ولست أدرى كيف استطاع الكاتب أن يلتقط هذة الحقيقة المعقدة، حيث لا يقتصر تنشيط المستوى البدائى للوجود على جانب دون آخر، كما لا يمكن ضمان التحكم فى مسار تنشيط أى منهما وخاصة حين يثور هذا المستوى فى سن متأخرة، وبعد حياة راتبة، نجح صاحبها فى اخفاء ” بقيته”بتسكين دفاعى متزايد.
ولألتمس العذر مرة ثانية من القارئ، وأعيد سلسلة أفكارى (فروضى) بأسلوب آخر:
(1) صنعان الجمالى رجل هادئ، تاجر، فى منتصف العمر,
(2) خدر داخله ليواصل إنحرافا مشروعا (مثله مثل غيره)
(3) كان فى ذلك يمالئ الدنيا ويدارى الحاكم
(4) لم يثنه ذلك عن مواصلة العبادة وعمل “بعض”الخير الظاهر
(5) وفجأة: (بدون مقدمات ظاهرة) ثار داخلــه وقرر التكفير بمبالغة غير مفهومة فى الظاهر، إذ “تــقـرر له”أن يقتل الحاكم (خلاصا لروحه وللناس)
(6) بدلا من أن يتم التغيير فى هذا الاتجاه الخيــر، فوجيء صنعان أنه غير قادر على تحمل مسئولية ” الحقيقة ” أو الإلمام بأبعادها
(7) ثار فى نفس الوقت-مع ثورة الداخل-دافع الجنس المكبوت (نحو المحارم والأطفال .. الخ)، وكذلك ثار دافع الهرب الجبان قتلا وكذبا
(8) فى الجولة الأولى رجحت كفة هذه الدوافع فى صورتها السلبية دون قدرة من جانبه على كفها شعوريا بعد انهيار الكبت التلقائى (الآلى) فحدثت جريمة هتك العرض فقتل الطفلة .
وهكذا يتجاوز محفوظ نفسه، ويخرج من الصورة التى كان محبوسا فيها فى أول كتاباته حين كان يرسم المقدمات (الظاهرة) بحيث تؤدي-حتما-إلى النتائج المتوقعة، بشكل يؤكد معنى الحتمية السببية (النفسية) [8] وبعض النقاد لا يرتاحون الى هذا النوع من الحتمية الذى يطمئن مستوى معينا من القراء، ولكنه أبدا لا يفسر كل هذه الظاهرة البشرية، على أن محفوظ قد استطاع بكل جسارة أن يوصل إلينا أن رجحان كفة هذا التنشيط البدائى فى الاتجاه السلبى لم ينجح أن يلغى استمرار الاتجاه الإيجابى الذى ما نشط-أصلا-إلا ليحققه، فينقذ صنعان نفسه مرة أخرى إذ يواصل سعيه لإنجاز مهمته الأولى، فيؤكد الحقيقة التى قدمناها ويعلنها مباشرة بأنه: ليس هو مغتصب الطفلة فقاتلها “.. إنه شخص آخر، القاتل المغتصب شخص آخر”، ” نفسه تتمخض عن كائنات وحشية لا عهد له بها ” (ص23)، إلا أن إنكاره نفسه هذا لا يصح ولا يفيد، لأنه هو القاتل المجرم دون غيره، وفى نفس الوقت فهو أيضا كان التاجر الطيب الممالئ، ثم هو هو-أخيرا-القاتل العابد الأواب، وإنكاره القتل الجبان المجرم يعلن ضمنا رفضه أن “يكون”هو كله ليس سوى هذا الجزء القاتل، مجرد جزء من ذاته دون بقية “الآخرين”(داخله)، إذن فليواصل ليتعرف على الباقى، على بقية ناس الداخل، وخاصة “القاتل العابد“فيه، وما أشق ذلك.
” إنها مهمة شاقة ” (ص27)، ويريد أن يتردد، ولكن إذا كان الذى أطلق دافع القتل العبادة هو رفض الاستمرار فى انحراف خفى لم يعد يطيقه (من داخل)، فإن قتل الطفلة قد أصبح دافعا جديدا إلى تكفير ألزم “.. ولكنها (مهمة القتل العبادة) أسهل من قتل البنت الصغيرة !” (ص27)، بل لعلها أصبحت الطريق الوحيد للخلاص، ويحاول صنعان أن يعزو الجريمة إلى التنشيط البدائى لداخله (كما يحاول البعض أن يعفى المجنون من مسئوليته دون تحفظ)، فلا يجد أمام صدق الداخل إلى ذلك سبيلا، يقول لقمقام[9] مدافعا (ص28): .
”- لولا اقتحامك حياتى ما تورطت فى الجريمة
فقال (قمقام) بوضوح
– لا تكذب، أنت وحدك مسئول عن جريمتك “
وهذة رائعة أخرى من روائع محفوظ الحدسية، فهذا هو الجنون بعمق تناقضاته، وهذه هى المسئولية بعمق الوجود، وليس بمنطق الشفقة المزرية أو تبريرات القانون الوضعى، وإذا كان للجنون جانب تدميرى، فجانبه الآخر ارتقائى بنـاء لو واصل المسيرة ” الفرصة متاحة ما زالت ” “الحياة تتسع للتكفير والتوبة ” خلاص الحى من رأس الفساد وخلاص نفسك الآثمة “(28) .
وهكذا يتواصل الدفع، وتقام صلاة القتل فيتوكل على الله[10] ويقتل الظلم ويدفع الثمن، وهو لا ينجو هذه المرة كما نجا من الجريمة الحقيقية الأولى إلا ليتم الثانية التى تبدو أنها ليست جريمة أصلا بل قصاصا وصلاة، فيأتى بعد ذلك إعدامه جزاء الجريمة الأولى، واستشهادا فى الصلاة الثانية فى نفس الوقت، وهكذا يذهب بطلا-ولو رغم أنفه ” كن بطلا يا صنعان، هذا قدرك “(ص34).
2-جمصة البلطى
”قتل تكفـــــيرى آخر”
وأحسب أن محفوظ قد انزعج-مثل انزعاج القاريء أو مثل انزعاجى على الأقل -من إقحام قتل الطفلة فى طريق خلاص صنعان (والناس)، فعاد يؤكد جانب العبادة فى القتل التكفيرى الهادف فى حكاية جمصة البلطى، وجمصة يتفق مع صنعان فى أمور مبدئية، منها: أنه-أيضا-من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، (رغم مركزه فى السلطة)، ” فى قلبه موضع للعواطف، وموضع للقسوة والجشع ” (ص37) ” لا يوجد قلب فى الحى كقلبه فى جمعه بين الأسود والأبيض”(ص43)، ولكن موقفه (تركيبه) أصعب من صنعان، فمهمته أثقل، فإذا كان صنعان قد ابتعد عن داخله بالانحراف التدريجى بالملاينه والاستغلال المستور ” أجل له علاقات مريبة مع كبير الشرطة، ولم يتورع عن الاستغلال أيام الغلاء“(ص28)، فإن جمصة البلطى هو سيف السلطة نفسها ذاتها، وحتى يواصل قهره للناس، فضلا عن قهره لنفسه، فقد كان عليه أن يحبس “داخله ” فى “قمقم”، إذ لم يكن ليكفيه-مثل صنعان-أن يزيحه بعيدا عن الواجهه، وأن يسمح له بالتجوال المحدود فى أحلام غامضة، فالسلطة لها متطلبات قهر لايصلح معها نشاط “داخلى معاكس”أصلا، وجمصة حامل سيفها شخصيا، ولكن سبحان من له الدوام!!، حتى سيدنا سليمان يموت، فما هو إلا “بشر”، وجمصة ” السلطة ” يموت أيضا فى لحظة اختلاء بالذات مع ذكريات مؤلمة مؤنبة “رباه .. هو الذى قبض عليه (على صنعان: جاره) هو الذى رماه فى السجن، هو الذى قدمه للمحاكمة، ثم ساقه أخيرا للسياف شبيب رامه، هو أيضا من علق رأسه بأعلى داره، وصادر أمواله، وطرد أسرته ” (ص37)، يتذكر ذلك وقد اختلت به نفسه: “قطرات من الراحة فى خضم العمل الشاق الوحشى“(ص37)، وفى نفس الوقت يمضى يؤكد مبررا “اضطرار السلطة الى ما تفعل“، فهذا هو قانونها الأول ” أليس السلطان نفسه هو من قتل المئات من العذارى والعشرات من أهل الورع والتقوى ؟ ” وما أخف موازينه (موازين جمصة) إذا قيس بغيره من أكابر السلطة ” (ص37)، إلا أن التبرير لم ينفعه طويلا، فما أن اختلت به نفسه حتى كان ما كان “.. بغتة تحول وعيه إلى يده..” “وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيا جثم عليه فملأ شعوره بحضوره الطاغي“(ص38) ولا أكرر هنا كيف أن ظهور سنجام هو-مرة أخري-إعلان يقظة الداخل (فجأة)، انكسر الكبت (القمقم) وانطلق عملاق الداخل، ولم يتعجل هذه المرة فى إصدار أوامر القتل تحديدا، تركه لتطوره الجديد، فماذا يفعل؟
انطلق جمصة (سنجام) لا يصب غضبه إلا على ” الطغمة المستغلة للعباد“(ص48)، وهو لا يدرى أنه هو، فأصبح صاحب السلطة “على الناحيتين “، “هو”من الطغمة الفاسدة، “هو“يسرقها عقابا لها “استجابة لهواتف شريفة “، ولكنها لعبة خبيثة ليس لها قرار، ففى النهاية: يمضى يطارد هذه ” الهواتف الشريفة كما تطارد الشرفاء“(ص49)، ويتمنى أن يستمر التحايل على نفسه ليرسم خطة استيلاء أكبر، لكن “داخله”يقف له بالمرصاد ” تود أن تمكر بى لتحقق أحلامك الدفينة فى القوة والسلطان ؟ ” (ص50)، ويتركه انتظارا لترجيح تسخير هذه القوة الجديدة المنطلقة من قمقم الداخل الى “خلاص نفسه وخلاص الناس”ويصبح التغيير حتما محتوما، ولكن دون إملاء مباشر اذ يصبح ” القتل العبادة”هو قرا العقل والإرادة والروح وليس قرار الشيخ العارف، عبد الله البلخى “الحكاية حكايتك وحدك والقرار قرارك وحدك ” (ص53)، كما أنه ليس قرار العفريت الـمنطلق: “لك عقل وإرادة وروح“(ص50) .
ولا يجد جمصة سبيلا إلى التنصل، من المهمة الملقاة عليه، لأنها واجبة، بل… بل هى هى “قراره”” إنى أقوم بواجبي””فوجه إلى عنقه ضربة قاضية، فاختلطت صرخته المذعوره بخواره، واندفع الدم مثل نافورة”[11] (ص55)
وهكذا قتل الحاكم خليل الهمذانى بعد أن أطلق سراح الثوار جميعا “..أفرج بقوته الذاتيه عن الشيعه والخوارج فى ذهول كامل شمل الجنود والضحايا جميعا“(ص54)، ويتقبل قرار القصاص بشجاعة فائقة تختلف عن موقف صنعان الجمالى الذى أخذ يستنجد بعفريته دون جدوى، فهنا: القرار قراره هو “جميعه”، وليس مجرد تنفيذ لقرار صدر من “بعضه”، من داخل لم يلتحم مع بعضه البعض، وحين تحمل مسئوليته تماما وتوازنت الكفتان: أنقذ داخله من ذاته الظاهره، فأنقذ الناس ونفسه من الظلم، انعتق بالموت الأصغر “ما قتلوا إلا صورة من صنع يدى“(ص59) ليخلد بالاستمرار وسط الآخرين وفيهم (بأى صورة كانت)، فهنا معنى جديد للخلود، وتصنيف مبدع لأنواع الخلاص، فالخلاص الانتقامى المنشق عرضة للتخبط والتردى، أما الخلاص المسئول الإرادى، فهو لايأبه للموت ولايسجن فى ذات فردية محدودة،[12] بل يستمر فى أى صورة، تحت أى اسم .
فهذه خطوة جديدة فى تصعيد الرؤية الأعمق للمسيرة البشرية تقول: أن الإنسان حين يستجيب لداخله بصدق ومسئولية لا بانفصال وبدائية، لا يموت .. حتى لو مات .
3 – الحمال
“تأكيد … واستمرار”
وتأتى الحكاية الثالثة أضعف من حيث أن بطلها ليس هو الانسان الخير الشرير معا، المهلك نفسه الساعى للخلاص فى آن، لكنه الإنسان الذى تخطى هذه المرحلة ليقوم بدوره الإيجابى “العادى”(فى القتل أيضا)-و كأن نجيب محفوظ لايدعنا نتصور أن القتل حادث عارض، يخرج من داخلنا تكفيرا أو خلاصا فى ظروف محدودة، ولكنه يبدو فى هذه الحكاية الثالثة وكأنه يعلن القانون الطبيعى الذى يحقق التوازن بين ظلم الحاكم وعائد هذا الظلم، فها هو عبدالله الحمال يستلم “العهدة”من (نفسه) جمصة البلطى ليقوم بالقتل المنظم ومساعدة الثوار (ممثلين فى فاضل صنعان)، وهو يملك من قدرة التناسخ الكامنة ما يمنحه سلطه عادله، وهو يعلن أنه لا معنى للخلود (بشتى صوره) ان لم يكن لعمل جليل، وإلا فما جدوى المعجزة ؟ “هل بقيت فى الحياة بمعجزة لأعمل حمالا؟”(ص67)، وحين يذهب يسترشد برأى الشيخ البلخى يرفض-ثانيه-أن يقوم عنه باتخاذ القرار، ويكتفى بأن يعلن له موقعه “بين مقامى العبادة والدم“(ص67)، وهو الموقف الكيانى الأصيل الذى يخرج منه كل منا “..كل على قدر همته ” (ص68).
وعبدالله الحمال بصورته هنا يمثل تحديا لمحاولات النقد والتفسير، فهو ليس عفريتا، ولكنه أيضا ليس إنسيا، فهو يخوض “تجربة لم يمارسها من قبل”(ص62)، وهو يحقق “ما ينبغى أن يحققه الانسان الفرد العادى وهو يمارس حياته فى طيبة لا تستبعد القتل احقاقا للحق”، وهو لا يخلو من ضعف “بشرى”يخلط عليه الأمور، فبعد أن “يقرر”ويختار طريق القتل العبادة بادئا ب “بطيشة مرجان”، يقتل ابراهيم العطار، ويتذرع لذلك-بأثر رجعي-بأنه كان يساهم فى دس السم فى أدوية أعداء الحاكم، ولكن الأمر لا يخلو من نوازع شخصية (إنسية).
وهنا يقفز تحذير هام، ومـمـن؟ من ثائر شاب كان المتوقع منه أن يكون أكثر اندفاعا و… وقتلا، ذلك أن فاضل صنعان يقول “ليس الاغتيال ضمن خطتنا“(ص78)، وظهور سنجام بعد تناسخ البلطى يؤكد الجانب الإنسى، لعبدالله الحمال، فليس ثمة “وجود”داخلى “آخر”إلا لمن هو إنسى، أى أن الإنسان هو وحده الذى يتميز بهذا التعدد والتناقض الحتميين، أما العفريت أو الملاك أو حتى الإله فكل منهم “واحد صحيح”، وهنا تبدو دقة الكاتب، وصدق حدسه، وهو يرتقى بالإنسان نحو الكلية والتفرد والتناسق الداخلى. ولكن دون أن يستسهل فيختزل الطريق إلى ما لا يكون على هذه الأرض، وهكذا يفيق عبد الله الحمال من شبهة عثرته بقتل إبراهيم العطار، ويؤكد استمرار مسيرته بقتل عدنان شومه كبير الشرطة.
تناسخ جديد:
ولست أدرى لم استسهل الكاتب عند هذه النقطة أن يبدله من عبدالله الحمال إلى عبدالله البرى، هكذا بخبطة من خبطات “العجائب المباركة”، ولكن يبدو أن هذه الخبطة قد سمحت لعبدالله الحمال أن “يستمر”وفى نفس الوقت أن يعترف دون أن يـعدم، غير أن السهولة التى تمت بها هذه النقلة فكانت نهاية الحكاية المفاجئة بإرساله-فى صورته الجديدة-إلى دار المجانين، هذه السهولة قد تعلن وقفة إنهاك من الكاتب فى رحلة الغوص إلى كل هذه الأعماق، وهذا حقه على كل حال (وربما قدرته فى لحظة بذاتها).
وقبل أن ننتقل إلى المرحلة التالية، يجدر بنا أن نشير من جديد إلى اعتراض فاضل صنعان “الثائر”على هذه الوسيله (الاغتيال) حتى لو كانت لتحقيق العدل، إذ يبدو طوال الحكايات-رغم تبرير القتل/ العبادة من خلال ثورة الداخل (العفاريت)-أن الحل الفردى (الاغتيال) مشكوك فيه من البداية، حتى لو كان عبادة، ولكن ثمة تأكيدا أسبق يقول أن ” البادى أظلم فما ظهور العفاريت أصلا إلا لأن الظلم استشري: “على الوالى أن يقيم العدل .. فلا تظهر العفاريت ” (ص75) .
4 – نور الدين ودنيازاد
“(حتى ) لعبة القدر ( لا تخلو من قتل إزاحى)”
ويزداد نجيب محفوظ تلطفا بنا، فيخفف عنا رؤيتنا لداخلنا: “قاتلا يتأرجح أبدا بين العبادة والدم”، ويتقدم نحو مرحلة وسطى من الليالى، تبدو وسطا بين مغامرة الإبداع الأعمق (الثلث الأول)، وبين الأسلوب التقريرى والتكرارى (الثلث الأخير)، وفى هذه المرحلة لا يتمثل داخل فرد بذاته له فى شكل عفريت “خاص”، بل تظهر العفاريت باعتبارها تمثل “قانون الداخل عامة”، قانونا لا يعرف قوانيننا، ولكنه ليس ” لا قانون ” على كل حال، فهو إذ يخل بنظام ما هو واقع محسوس يعلن أن المقادير تجرى بحسابات تفوق ظاهر معلومات وأحاسيس البشر وواقعهم المعلن، فكل من “سخربوط””وزرمباحة“يمثلان الأمل والحدس العشوائى، وما هو قبل و بعد الواقع وبالرغم منه، ولكنهما لا يمثلان كل الداخل، بل يمثلان جانبا “دنيويا”أو ” لذيا ” أو ” حسيا ” مقترنا باتجاه عابث لدرجة الشر والأذى فى سخرية مفيقة. فهما يرسمان فى أول حكايات هذه المرحلة الوسطى لعبة عابثة تجمع بين دنيازاد (أخت شهرزاد) وبين نور الدين بائع العطور، تجمع بينهما فى حلم “الواقع الآخر”، وكأن نجيب محفوظ يريد فى هذه المرحلة من تطوره أن يؤكد فى أكثر من عمل على أن الحلم هو واقع أيضا، أو حتى أنه واقع “قبلا”. وهو حين “يظهر”الوجود الآخر“فى شكل عفريت، يغامر بأن يعلن أنه حلم يجرى فى حالة النوم فعلا: (لما أخلد إلى النوم ليلا هيمن عليه الوجود الآخر، وسمع الصوت يقول متهكما… الخ) (ص27)، ثم إنه يذهب ليؤكد أيضا موقع الحلم من الجنون “وثبت إلى الأرض، فاكتشفت عريها، أكتشفت حبها المسفوح… هتفت فى يأس: إنه الجنون….، …. ولاح لها الجنون كوحش يطاردها ” (ص94)، فحين يفرض ” الوجود الآخر“نفسه حتى ليترك آثارا عيانية (الدم: من حبها المسفوح)، فإنه بذلك يعلن واقعا جديدا، ويفرض احترامه على الواقع الظاهر، بل إنه يحتويه إحتواء “هل سمعت من قبل عن حقيقة تتلاشى فى حلم ؟ ” (ص98) (لاحظ التعبير : لم يقل عن حلم يتلاشى فى حقيقة) فالحلم هنا هو الأقدر، وهو الأصل (وهو الجنون من بعد أخر)، وهو المستقبل “من ملك الحلم ملك الغد”(ص12)، يؤكد على أن هذا كله هو عقل آخر، “إنه الجنون نفسه… والعقل أيضا“(ص112) فكما أن للحلم واقع فللجنون عقل[13].
وتمضى لعبة الحلم/الجنون/الواقع الجديد: فارضة نفسها ضد كل الحسابات، ولكن محفوظ لا يستطيع أن يواصل ملاطفة مشاعرنا التى أزعجها ما أثاره فينا من قبل حين عرى القتل داخلنا، فتفلت منه بارقة حل مرعب، يظهر فى شكل حل سافر يدبره الداخل وهو يتسلي:
- تسلية نادرة
- ترى هل تنتحر الجميلة أم تقتل
- الأجمل أن تقتل وينتحر أبوها”(ص107)
هكذا، ببساطة، لا رفضا للظلم، ولا نكسة إلى بدائية جنسية عدوانية غير مميزة، ولكن ما دام هذا هو الداخل “بقانونه الغامض، فليكن الحل بلا حسابات ولا منطق ولا هدف، وها هو القتل يتحرك مثل حركة الأمعاء، مجرد ظاهرة طبيعية تحل المشاكل عبثا أو تسلية أو مصادفة أو قصدا… لا يهم.
لكن ثمة داخل “أيضا”مواكبا يتحرك فى نفس الوقت، فيخيف العبث، ويخيف القتل نفسه، فيوقف المسخرة، فيعلن “سخربوط”خوفه من “.. أن يتسلل الخير من حيث لا ندري“(ص108)، فكما تسلل الشرإلى نفس صنعان من حيث لا يدرى فقتل الطفلة وهو الذى كان يعد نفسه للخلاص بقتل الظالم، كذلك قد يتسلل الخير هنا من حيث لا يدرى العبث الشرير.
وبهذا يؤكد نجيب محفوظ أن “الوجود الآخر”فى الداخل ليس شرا وليس خيرا، ولكنه حركة على طريق التكامل، يتوقف مسارها على أمور كثيرة فى الداخل والخارج جميعا، ولاتوجد ضمانات فى طبيعة تكوين هذا الداخل تحدد المسار وتطمئن من يطلق سراحه إلى ترجيح كفة على الأخرى، ولعل هذه الحقيقة هى قمة مأساة طبيعة النمو البشرى الصعب.
وها هو الخير المتسلل-رغم أنف سخربوط وزرمباحة-يفرض نفسه بعد أن تتعقد الأمور وتنذر بكارثة، وبعد أن تقبل شهرزاد خطبة (فعقد قران) كرم الأصيل (المليونير) على دنيازاد، أملا فى دعمه للمجهود الحربي!! ويقترب موعد الزفاف، إلا أن ثلاث مصادفات تحدث ترجيحا لكفة الخير:
1- بعد أن أطلق سحلول[14] سراح نور الدين من دار المجانين بشق نفق عجيب، يقابل نور الدين عبدالله المجنون، فيثبـت أقدامه ويكسر يأسه
2- ويقابل شهريار فى تجواله السرى نور الدين فيحكى له حلمه/حكايته، فيعده بتحقيق الحلم واقعا (ما دام واقعا)
3- ويقابل عبدالله المجنون دنيازاد بعد هروبها للانتحار ثم عدولها عنه فيرجعها إلى نور الدين، ويقرر السلطان أن يفى بوعده، إلا أن نجيب محفوظ لا يدع النهاية تسير بسلام!، وإنما يسارع بإزهاق روح كرم الأصيل بيدى عبد الله المجنون الذى يسارع بدوره ! بالاعتراف بجريمته فيحميه جنونه من القصاص، ولا يصدقه أحد، وكأن محفوظ لم يعجبه أن يترك حكاية تمضى بلا قتل، ربما من باب “الجمال الدموي”(!!)
فى هذه الحكاية-كما قرأتها-عدة حلقات لم أستطع أن أتبين تماسكها مع ما حولها، أو ضرورتها أصلا، فتكليف سحلول-وهو الذى أعلن الكاتب صراحة عن هويته- “ولكنه ملاك، نائب عزرائيل فى الحي“(ص80)، وكذلك ” أنت ملاك الموت ” (ص227) بإخراج عبد الله المجنون من دار المجانين يبدو بلا مبرر خاص، فهذه مهمة ملاك الحياة، لاملاك الموت، ولا يصح أن نعتبر عبدالله المجنون فى عداد الموتى فيصبح إنقاذه من اختصاص ملاك الموت، كما لم أتقبل أن يكون ملاك الموت قد أنقذه بالموت، وأن من قام بالدور بعد ذلك هى روحه، وليس هو، فعبد الله يدور حول محور الخلود، وهو نفى لموته (مرحليا على الأقل).
كذلك كان ظهور عبدالله المجنون-رغم كل ما يمثله-ظهورا ثانويا فى هذه الحكاية، فرغم أنه قد ساهم فى حل العقدة، الا أن المصادفة بدت أقل من دوره كثيرا، ولكن يبدو أن محفوظ قد اختار للمجنون دورا جديدا بدءا من هذه الحكاية وحتى نهاية الليالى حيث يظهر عادة عند لحظة الحسم حلا للمأزق، وخاصة حين يستعمل معرفته الغائرة لإحقاق الحق، ثم هو يظل يحوم حول مشاعر الناس (وفى ضمائرهم)، وكان لابد له إذن من إطلاق سراحه ليقوم بدور الحاضرالغائب أبدا.
وأخيرا، وكما أشرت، فإن قتل كرم الأصيل بيد عبدالله المجنون لم يكن له مبرر كاف، لا من الداخل ولا من الخارج، فقد كان بوسع السلطان أن يفرض عليه الطلاق مثلا.
ولكن لعل ما غاب عنى دلالته أو أهميته هو ناتج عن إصرارى على محاولة أن أرى الحكايات كلها فى “وحدة ما”، وهذه مغالاة لا أعفى نفسى من مسئولية المخاطرة بها.
5- مغامرات عجر الحلاق
“العجز عن القتل “
ثم تأتى مغامرات عجر الحلاق لتعلن جانبا آخر من طبيعة الوجود البشرى، حين يعجز الانسان عن القتل ابتداء، بكل صوره: القتل فى الحلم، القتل للخير، القتل للشر…,هو عجز عن العدوان إذن، بل هو عجز عن الإقدام أصلا، فهل يعنى ذلك أنه إذا نجح إنسان أن ينفذ بجلده من حفز داخله الى هذا الاتجاه القاتل، أنه نجا بنفسه؟ أبدا: بل لعل بدائل القتل أبشع منه، ربما لأن أغلبها أدنى وأخفى.
عجر الحلاق “طفولى عريق“(ص125)، يحب النساء، فتأتيه الفرصة حتى قدميه من دعوة غامضة، فيمضى إليها غير عابئ بتحذير المجنون “عقلك فاسد فلا تطاوعه“(ص126)، ويعيش حلمه الفاجر فى حضن “جلنار””ليلة”كل أسبوع، وتتفتح شهيته للجنس والأكل (دون القتل) ولا-يكتفي-طبعا-بجلنار، بل يزوغ بصره الى أختها زهريار[15]، وسرعان ما يتورط-بعد خيانة جلنار مع شقيقتها.. بتدبير منها كما سيتضح- بأنها مقتوله بجانبه، فيدفنها فى حديقة دار اللهو بعد أن يسرق عقدا ثمينا كانت تتحلى به، وهنا يحدث تقاتل بين المجنون وبينه، وهو يتهم المجنون (محدثا الطبيب المهينى) بأنه “قلبى يحدثني”الآن بأن هذا المجنون قاتل خطير“(ص130),إن ظهور المجنون، ورفض عجر له، لا يعنى أنه لم يحرك ما يقابله فيه، يقول المجنون لعجر ” لا يدعونى الا أمثالك يا جاهل ..” (ص130)، وهذا ما يؤكده الطبيب من أن ظهور الجنون هو إعلان لعجز العلم المتاح عن الإلمام بأبعاد الجارى، فهذه إضافه لدور الجنون “المعرفي”، يقول الطبيب ” أنه (المجنون) يدعى عادة إذا عجز علمنا عن الخدمة “(ص130)، فليس المجنون هو القاتل لأنه مجنون، ولكن القتل جزء من طبيعتنا مع اختلاف صور التعبير “ما أكثر القتلة يا عجر”المهينى (ص131).
إذن، فقد تحرك فى عجر “شيء ما”رغم أنه لم يقتل، ولا يستطيع أن يقتل “.. ولن يألوا أن يذكر نفسه بأنه لم يرتكب طيلة حياته جريمة قتل، هيهات، ولا قتل دجاجة مما يستطيعه“(ص133)، ومع إعلان العجز عن القتل، يعجز عن الجنس والطعام والشراب “أطبقت الكآبة متجسدة وران الاحباط على الطعام والشراب وجفت ينابيع الرغبة “(ص132)، لكن ما تحرك تحرك، ومضى يتلصص ويتجرأ حتى خطب حسنية صنعان، يعتذر فاضل شقيقها، فيواصل هياجه الجنسى “خاض فى أجساد العذارى كالمراهقين“(ص134)، ويقع فى حب “قمر”أخت “حسن العطار”، بلا طائل، وفى ضربة مصادفة يجد ما “تحرك فيه“سبيلا للتفريغ والظهور، وبعد أن شارك مقتحما فى سهرة جمعت زبائنه بما فيهم مهرج السلطان “شملول الأحدب”تقع جريمة القتل (مع وقف إزهاق الروح) فى صورة شرب وضرب، ويتبرع عجر أن يقوم عنهم بالدفن والإخفاء، ثم يكتشف-بمساعدة المجنون-أن الجثة حية، فيخبئها فى بيته، ويمضى فى ابتزاز زبائنه، ويتصاعد الطمع بلاحدود، وبظهور “شملول الأحدب”، بمكيدة من زوجة “عجر”التى غارت من زواج عجر الإرغامى بقمر العطار- يقع عجر فى مأزق عجز جبان جديد، لكن طمعه لا ينتهى فيسوقه حلم السلطة إلى مشاركة جماعة يلتقى بهم عشوائيا وهم يسيرون مقبوضا عليهم من الثوار، يفعل ذلك بإيحاء من سخربوط (طمع جديد) وبأنهم سيتولون القيادة !! إذ تنكشف الخدعة ويضبط عـقد القتيلة-مصادفة-حول وسطه، ويكاد يـعدم لولا تدخل المجنون لدى شهريار ليعلن الحقيقة، وتنتهى الحكاية هذه النهاية السطحية[16] التى يقوم فيها المجنون بدور الضمير المنقذ.
ومع ذلك، فما هو مناسب لمحور قضيتنا هنا كما قرأتها يقول: إن العجز عن القتل ليس فخرا وليس فضلا، وبالتالى فشتان بين العجز عن القتل وبين الامتناع عنه، وبين توجيهه وبين إطلاق طاقته فيما هو أبقى، كما يعلن أن تحريك القتل فى الداخل-دون قتل فعلى إذا اتخذ مساره السلبى ظهر فى صورة جشع مكافئ له، يستغرق صاحبه فى لذائذ حسية وسلطوية، لابد وأن تقضى عليه مع تصاعد أطماعه بلا حدود.
ولا يستطيع أحدنا أن يتعاطف مع عجر الحلاق الذى لم يقتل ولا دجاجة، فى حين أننا نستطيع أن نتعاطف مع صنعان الجمالى نفسه رغم أنه هو قاتل الطفلة البريئة بكل بشاعة. هو الإبداع !!!!
6- أنيس الجليس
“سحر الدنيا … وعفة الجنــون”
فى هذه الحكاية، تتمثل الدنيا فى فتنة لا يقاومها عاقل “فتتجسد فى صورة أنيس الجليس، وتنجح فى إغواء كل من يقترب منها دون إستثناء، والدنيا فى داخلنا ابتداء، وهى التى تسبى عقولنا وتستدرجنا إلى الهلاك الظاهر، وفى مقابلة بين “زرمباحة”و”سخربوط”من ناحية وبين “سنجام”-فى حضور “قمقام”-من ناحية أخرى، ينشأ ما يشبه التحدى بين “الدنيا”و “الهدي”بشكل يدفع زرمباحة-بتدبير وموافقة سخربوط-إلى الإقدام على هذه المغامرة، فيقع فى حب الدنيا كل الناس، من أول عم “ابراهيم السقا”حتى “شهريار”نفسه مارين بيوسف الطاهر و”حسام الفقي”، ثم بعد أن يقتـل الأخير الأول بسببها (جريمة قتل جديدة) يخيل للقاريء أن السحر سيهدأ لكنه يطغى ويستمر ليوقع بيومى الأرمل الذى ما فتيء يأسف على صديقه القديم “حسام الفقي”وهو يحاكم بسبب جريمته، ولكنه يمضى فى غوايته. لا يتعظ حتى يضبط فيتهم الجنون السلبى فى داخله “اغتاله المجنون الذى حل في“(ص166) (شتان بين هذا الجنون[17] وبين جنون عبدالله البرئ!)، وتواصل “فتنة الدنيا” إغارتها فتوقع “المعين بن ساوى”وتضرب له موعدا يتبعه موعد آخر مع “الفضل بن خاقان”(كاتم السر) ثم “سليمان الزيني”… حتى “نور الدين”(عديل شهريار وزوج دنيازاد) والسلطان نفسه ووزيره الحكيم دندان وفى تسلسل قديم جديد تحبسهم “الدنيا” عراة الواحد تلو الآخر فى أصونة تعدها للبيع فى المزاد، وهنا يظهر المجنون ليتحداها، وهو الوحيد الذى ينجح فى أن يواجه سحرها حتى تختفى دخانا بلا أثر، ويدفع الرجال ثمن تكالبهم عليها خزيا أمام أنفسهم دون الناس: بما ينفعهم ولا يضر العباد[18].
وقد بلغت المباشرة فى هذه الحكاية مبلغا لم يكن الكاتب -فى ظني- فى حاجة إليه، فهو يصف أنيس الجليس بصفات “الدنيا”كما هى شائعة عند الجميع، فهى “ساحرة فاتنة، تحب الرجال، لا يرتوى لها طمع… لا يستأثر بها أحد ولا يزهد فيها أحد“(ص159)، ثم فى موقع آخر “إنها القدر الذى لا ينفع معه حذر ولا ينتفع لديه بمثال“(ص165)، وهذا يفسر أنه حتى نور الدين بعد ما تحقق حلمه فى زواج دنيازاد بمعجزة طيبة، وشهريار وهو فى موقفه الجديد من المراجعة والتعلم ومحاولة التكفير، ودندان والد شهرزاد الوزير الناصح، لم يسلموا من إغرائها (الدنيا)، إذ لو كانت الشر فقط، أو الجنس، أو الحس فقط، لأعفى الكاتب نفسه من أن يجمع تحت لوائها كل الناس خيرين وأشرارا، مجتهدين وفجارا، واحد فقط هو الذى استطاع أن يبطل مفعولها هو المجنون، لم تسكره لأنه سكران بالحقيقة “رأسى ملئ بالدنان“(ص170)، “ولأول مرة لا يحدث وجهها أثره“ثم مباشرة “إنه فتنة ولكن للعقلاء لا للمجانين“.
وهذه مخاطرة من الكاتب حين يصور قوة الجنون بهذه الإيجابية، بعد أن صور ثورة الداخل بشقيها، حتى قمقام وسنجام (خير الداخل) لم يسمح لهما بالتدخل المباشر لصالح البشر “لماذا لا يسمح لنا بمساعدة الضعفاء؟ ” (ص161) جاءهم الرد جاهزا “وهبهم الله ما هو خير منكم، العقل والروح“[19] (ص161)، لكن العقل تـفتنه الدنيا، هكذا تقول هذه الحكاية، فكيف يكون الجنون هو الوقاية الوحيدة من سحر الدنيا؟
قد يمكن تفسير ذلك بأن جانبا محددا من الجنون يجعل صاحبه زاهدا الضرورة ولكنه للأسف إنما يحقق الزهد بما يشبه العجز لا بما هو استغناء أو رضا: اللهم إلا فى الجنون الذى هو ليس جنونا، وهذا مأزق الكاتب,فالبدايات واحدة، والأسماء واحدة، والكاتب مضطر لأن يعلن رؤيته فى كل لحظة على حدة، ليكن، ولتكن دعوة لأن نحتمى بالدنيا ولو بالجنون شريطة أن نكون مسئولين عنه، قادرين على قوانينه “الأخرى” مرجحين إيجابيات مسيرته دون غيرها. ولكن، ما هو موقع هذه الحكاية من مسألة القتل بين مقامى العبادة والدم؟
لم أجد علاقة مباشرة، فلم أحاول أن أفتعل علاقة مصطنعة، إلا أن للقارئ أن يتساءل معى عن هذا الإلحاح الذى يلح على نجيب محفوظ حتى لا يدع حكاية دون جريمة، فلو أن حسام الفقي -مثلا- لم يقتل يوسف الطاهر لما تغيـر السياق كثيرا، كما أن ما ورد فى الحوار بين حسام الفقى (القاتل) وبيومى الأرمل-كبير الشرطة-من أنها ليست سوى قصة قديمة يستدفئ بها العجائز: قصة الحب والجنون والدم (ص162)، يذكرنا هنا بالعلاقة الوثيقة بين الجشع الدنيوى حتى التقاتل من أجل اللذة (بأشكالها: الجنس والسلطة والمال)، وبين تحريك العدوان فى الاتجاه السلبى. وفى موقع أخر أثناء مساءلة كبيرالشرطة لأنيس الجليس عما يفعله الرجال عندها، فتجيب أنهم انما “يتحدثون فى الشريعة والأدب”يجيبها “عليك اللعنة، ألذلك أفلسوا وتقاتلوا؟ ” (ص164)، فكأن الكاتب يذكرنا، ولو فى أرضية الحكاية، بأن تحريك القتل فى الاتجاه السلبى! إنما يواكب حب الدنيا، وهو فى نفس الوقت يسخر من عقلنة ولفظنة من يدعى أن “الحديث”فى”الشريعة والأدب”هو ضد الإقتتال على الدنيا، بل لعله-إذا أفرغ من جوهره-هو فتنه أخرى أخبث وأضل.
وأخيرا، فإن نشاط سحلول “رجل المزادات”، ومندوب الموت كان مفرطا وهو يحوم حول الضحايا الموشكين على الافلاس، وترجيح هذا الجانب من دوره على حساب الموت الذى يمثله سطــح أكثر فأكثر من دوره، وجعلنى أواصل رفضى له، مع أنه كان يمكن أن يكون الموت هو المقابل المتحدى للدنيا، أو أن يكون الترياق المفيق من سحرها وفاعليته الإيجابية (أعنى فاعلية الوعى به) وهى أكثر من فاعلية الجنون حتما فى هذا الصدد.
7 – قوت القلوب
”قتل مع وقف إزهاق الروح”
ووسط هذا الجو اللاهث حول الحب والجنون والدم، تطل علينا حكاية ليس فيها إلا شروع فى قتل، حيث تم إحياء القتيله قبل طلوع الروح وشتان بين هذا الذى كان لقوت القلوب (جارية الحاكم سليمان الزينى) التى دبر قتلها المعين بن ساوى بناء على تحريض من جميلة زوجة الزينى، وبين إحياء شملول الأحدب مهرج السلطان فى حكاية عجر الحلاق، كذلك شتان بين فتنة قوت القلوب الهادئة الحزينة وبين سحر أنيس الجليس الطاغى المدمر، حكاية قصيرة، لم تخل من قتل، وإن كان الحب قد أنهاها نهاية وديعة بالعفو وعرفان الجميل، كذلك كان إدخال شهريار ودندان فى الحكاية حشرا ليس له دلالة كبيرة.
وقد خيل إلى أنه بدءا من هذه الحكاية وإلى نهاية الليالي -فيما عدا طاقية الاخفاء- خيل إلى أن حدة الإبداع بدأت تفتر، حتى أصبحت الحكايات أقرب إلى الليالى السلفية، حيث نجد فى مفاجآتها أنس الحكاية وطيب النهاية، أكثر مما تعرضنا لتعرى الداخل وتناقض المسار والنهايات المفتوحة.
9،8 “علاء الدين أبوالشامات”
و”السلطان”
”مقام الحيرة بين مذهب للسيف، ومذهب للحب”
القتل فى هذه الحكاية مؤلم غاية الألم، هو استشهاد بلا شك، فالمقتول بريء، والقاتل فاجر كاذب متسلط، لكن من يقرأ الحكاية ويرى كيف رجـح علاء الدين (إبن عجر الحلاق) مذهب الحب، فاتــبع سبيل شيخه عبدالله البلخى حتى زوجه الأخير ابنته، ثم فجأة يـحاكم بلا جريمة، ويقتل بلا ذنب، من يراجع هذا التسلسل لابد وأن يعتصر قلبه الألم الحانى، لكنه ألم قديم عادى، مثل ما يثيره القصص القديم، افتقدنا فيه التكثيف الرائع لتضارب الداخل، كما كثرت حوله الحكم والمواعظ [20] وقصص الصوفية المعادة،[21]، كما تكرر فيه النقاش الذى يدور حول دعوة الثورة العنيفة التى يمثلها “فاضل صنعان”، ودعوة الإصلاح المسالم التى تميل إليها نفس علاء الدين، أى بين من يمثلون جنود الله، ومن يمثلون دراويشه (ص196)، بين “سيف الجهاد… والحب الألهي“(ص201). جسدت هذه الحكاية حيرة علاء الدين من البداية للنهاية “ولكنى دائر الرأس فى مقام الحيرة ” (ص186)، ” إنى فى مقام الحيرة ” (ص195)، “حقا إنى لفى حيرة”(ص201) ولم يـنــه علاء الدين هذه الحيرة باختياره، وإنما بناء على رأى شيخه-ولو غير المباشر- بأن يسلك طريق الحب.، وما إن فعل حتى قـــتل.
لتنتهى الحكاية بأنه ربما يكون قد نجــاه الله “من الموت بالموت“(ص202).
ماذا يريد أن يقول لنا نجيب محفوظ بهذا القتل الجديد؟
أيريد أن يقول إنه لو لم يـقتل علاء الدين ” هكذا ” لكان ثمة احتمال أن اختياره لمذهب الحب (دون مذهب السيف) هو موت أخر؟
ولكن رمز الحق والحقيقة-الشيخ البلخي-هو الذى شجعه على ذلك حتى خطبه لابنته، كما أن الرواية التى أوردها الكاتب فى نهاية الحكاية -على لسان البلخي-هى رواية غاية فى السلبية، لدرجة أعترف بأنها نفـرتنى بلا موعظة.
وأخيرا فإن التحيز لمذهب السيف (الذى يمثله فاضل صنعان) قد انهار بشكل أو بأخر حين تشوهت صورة صنعان بمجرد أن استطاع أن يستر ذاته الظاهرة عن عيون الآخرين (بطاقية الاخفاء) فاذا به يتورط فى إطلاق عدوانه، فجنسه، فجنونه الفج، بلا رادع (أنظر طاقية الأخفاء).
إذن ماذا ؟
حكاية أخرى، غلب عليها الأسلوب التقريرى من جهة، وأطلت منها ألف ليلة القديمة من جهة أخرى، رغم ظاهر حداثة مقام الحيرة بين مذهبى السيف والحب.
القصاص
ويبدو أن نجيب محفوظ قد استاء مثلما استأنا من هذه النهاية الماسخة، فسرعان ما ألحق بها حكاية “إصلاحية”قصيرة، ما كان لها أن تستقل أصلا، فوظفها توظيفا مباشرا لينال الظالم جزاءه، ومن خلالها-على أى حال-رأى شهريار نفسه فى مغامرة إبراهيم السقا [22]التى تنتهى بأن يدرك السلطان الحقيقة فيأمر بتنفيذ حكم تعلمه من السقا: فيقتل ثلاثة، ويعزل اثنين، مع مصادرة أملاكهما.
وبهذا القصاص العادل الماسخ يتأكد تراجع نجيب محفوظ من الجريمة المفككة التى قدمها فى حكاية علاء الدين.
وقد لاحظت-أيضا-أن دور المجنون أخذ يتوارى فى ضباب الأحداث المهزوزة، فمرة يظهر فى حلم علاء الدين ينصحه بأن يترك لحيته شبكة للصيد، ولكن هذه النصيحة لا يتولد منها شيء، ومرة يــنذر “درويش عمران”بمصير سلفه كبير الشرطة “المعين بن ساوي”، ثم يفد على فرح علاء الدين بلا دعوة، ولم أكن أتوقع من النسيج المحكم لشخصية المجنون فى بداية الليالى أن يتسع ليسع كل شيء بهذه الصورة.
10- طاقية الأخفاء
”ماذا لو خلعنا القناع[23]؟
وفجأة، يعود نجيب محفوظ إلى نشاطه الإبداعى المزعج.
وهو يجعل ضحيته هذه المرة رمز الثورة طوال رحلة الليالي: الشاب اليقظ الأمين، الجاد الغاضب ” فاضل صنعان “، والكاتب لم يتوان فى إعلان ما يمثله فاضل، حتى قال عنه سخربوط ساخطا فى أول هذه الحكاية ” إنه مثال حى للعمل المفسد لنوايانا وخططنا ” (ص211)، وقد عرفنا ما هى نواياهم وخططهم من مسخرة طفلية، وتعرية فاضحة، ودنيا لاهية، ومجون لذى، وشر محاك، ولم أستطع-بسهولة-أن أهتدى الى ما دفع نجيب محفوظ لإستعادة نشاطه الابداعى فجأة قرب النهاية بعد أن فتر حتى التخلخل، إستعادة بهذه الصورة المزعجة من جديد، وكيف تجرأ أن يـعــرى فاضل صنعان هكذا.. فيفجعنا فى حلم طيب.
هل هو حبه المجرد للحقيقة حتى على حساب مقدمات واعدة ؟
هل هو رد شخصى على بعض حماس صغار الثوار أحاديى النظرة؟
هل هو تنبيه لخطورة الفضيلة الظاهرة المستمرة ما استمر “رأى الناس”” ورؤيتهم ” فى دعمها – يريد بذلك أن ترجح كفة ” الفضيلة التلقائية-الفطرة النامية ” ؟
لعله كل ذلك. تقول هذه الحكاية “إن الاختبار صعب”، وإن أى واحد منا: حتى لو كان فاضل صنعان نفسه، لو لم يراع الناس ورأيهم، مطمئنا إلى فطرة خام، فلا ضمان للسلامة أو للنقاء. وحين عرض هذا العرض عفريت صنعان فى صورة طاقية الاخفاء زاد الامتحان صعوبه حين اشترط عليه ألا يفعل ما يمليه عليه ضميره، فاذا تذكرنا أن الضمير ما هو الا “ناس الداخل”يراقبوننا كما يراقبنا ناس الخارج، لأمكن أن نفهم أن الامتحان كان لاختبار الفطرة الأولى خالية من كل تطوير أو تأثير، حتى أثر الضمير.
لكن الفطرة الأولى لا تعيش فى فراغ، فظروف الخارج وطول الحبس يفعلان فعلهما حتما، ثم ما هى تلك المساحة التى تقع بين ما يحث به الضمير وما لا يضر الناس، يقول له عفريته “وبين هذا وذاك أشياء كثيرة لا تضر ولا تنفع“(ص213)، فأى فطرة تلك التى لاتضر ولا تنفع، فهى لعبة تشويه لا محالة، وهذا ما جعل سخربوط يثق من نهايتها، حيث لا مسار لحرية مطلقة: بلا ناس ولا ظاهر يحاسب عليه صاحبه، ولا مسئولية، إلا نحو الهاوية.
وقد كان: فسرعان ما بدأ الميل بزاوية صغيرة، لكنها محسوبة (من مانح طاقية الاخفاء بشروطها): ثلاثة دراهم لا أكثر من درج قصاب، ودين يرده فى ميسرة، ويستر به فاضل عن آل بيته لعبه طول النهار، ولكن هكذا يبدأ الانحراف أبدا، زاوية صغيرة ومأزق فــتبرير، ثم تظهر فرصة لتأديب شملول الأحدب الذى سخر من فاضل فى غيبته، (وهو حاضر لا يراه)، فيسكب على رأسه الكركديه وتتواتر المناظر القديمة بنفس الصورة التى يذكرها حتى من شاهد الفيلم المصرى القديم.
لكننا نقترب سريعا من قضيتنا-القتل- إذ سرعان ما يظهر القتل نشطا بشعا، ليذكرنا بخطورة إطلاق سراح العدوان الفردى، (حتى لفعل الخير مخالفا الشرط) دون قانون أو ضابط، نفس القضية التى بدأت بها الليالى (خلاص صنعان الجمالي-والد فاضل-بقتل الحاكم).
فها هو الإبن يقتل بريئا أيضا، وها هى روح توأم شاور السجان تــزهق، وفاضل يحسب نفسه أنه يعمل عملا بطوليا ناسيا أن شاور نفسه ليس إلا منفذا لأوامر السلطة، وناسيا فى نفس الوقت (أو متناسيا) العهد الذى قطعه على نفسه مع سخربوط باعتبار أن قتل السجان من عمل الضمير، ولو كان كذلك لقفز له الوجود الآخر يمنعه، وبعد تمام الجريمة يفاجأ فاضل أنه إنما قتل بريئا.
وهكذا تتدهور الحالة من السرقة- للسخف-للجريمة- فيسقط فاضل صنعان فى الهاوية، ويعود القتل يضطرم، أطلقت سراحه من جديد صحوة نجيب محفوظ قبيل النهاية، فيعدم بائع البطيخ بتهمة قتل توأم شاور، وينفتح باب “الجنون الأحمر“(ص217)، فيجر وراءه الجنس الفج الذى كان مختبئا وراء الكتب والالتزام وثوب الفضيلة وخطب الثورة.
وحين يضاجع فاضل-بفضل الطاقية-قمر أخت حسن العطار، وقوت القلوب زوجة سليمان الزينى (التى تزوجته باختيارها بعد إنقاذها)، يعود محفوظ ليخلط الحلم بالحقيقة، مثلما سبق أن فعل مع نور الدين ودنيا زاد، ولكن بدناءة بشعة هذه المرة، فيجعل استقبال المرأتين لهذه المضاجعة فى حلم، كانت اثارة ملموسة، ساقت كلا منهما إلى الموت بعد أن تماثل لهما كل على حدة، خافتا الفضيحة، فكان الموت بالسم البطيء، إلا أن قرارهما معا نفس القرار، وشعورهما بنفس المشاعر، وذكرهما-قبيل الموت-لنفس الأسم، قد يوحى بدور خبيث قاتل لفاضل وهو مخفى عن العيون يدس لهما السم تدريجيا وهو يعاود اللعبة الدنيئة، لكن الأمر ليس واضحا وما كان ينبغى أن يغمــض هكذا دون مبرر.
ويمضى فاضل يترحم على نفسه كأنه مات، بل لقد اعتبر نفسه ميتا مادام لم يعد هو ظاهرا “ظاهـره”، فلم يبق له إلا أن يواصل لعبته الدامية الوحشية، فلا يخلو الأمر من تحريض سخربوط لقتل المجنون والشيخ البلخى، فهما الوحيدان القادران على حدس السر واختراق الحاجز، ومن يعرف أكثر هو العدو الأكبر، وحين يبلغ الطبيب المهينى كبير الشرطة أن قمر العطار وقوت القلوب ماتتا مسمومتين بعد أن نطقتا اسم فاضل صنعان بتقزز ورعب من يذكر مغتصب دخيل، يقوم كبير الشرطة بالقبض عليه فيهرب بالطاقية ليصبح فى عداد الموتى فعلا، إذ يستحيل عليه أن يظهـر خوفا من الإعدام.
وهنا نتذكر طريقة إختفاء جمصة البلطى ليتناسخ فى عبد الله الحمال بالمقارنة باختفاء فاضل ليستمر فى ظلام الدم والدناءة، ولا يجد فاضل ما يكسر به وحدته الجديدة إلا المضى فى سبيل المسخرة مخمورا باليأس والجنون، ولا يدفع ثمن عبثه وجرائمه إلا صفوة زملاء الجهاد والثورة، حيث يقول المفتى “ولا أتهم الا الشيعة والخوارج“(ص224)، ويخطر على باله-تكفيرا-أن يهرب أصدقاءه القدامى فى غفلة من صاحب الطاقية، فيظهر له سخربوط مذكرا بالشرط، ولاينفع خداعه بادعاء أن تهريب أعداء الدين ليس من أحوال الضمير، فهى حيلة لا تجوز، وبعد تهديد ونجاة كالهلاك، يضطر صنعان للإفاقة النهائية فيلقى بالطاقية بعيدا ليمضى إلى مصيره بإباء واستعلاء، ويلقى ربه لا يرجو إلا العدل.
حكاية سريعة النقلات حافلة بالجرائم والصراع الداخلى، وورودها بعد أن هدأت حدة القتل والعذاب يمثل صدمة جديدة للقارئ، وتشويهها لفاضل صنعان بالكشف عن داخله هكذا.. يمثل صدمة أخرى فيما يمثله، ومحفوظ يكاد بذلك يضرب فكرة التسامى الفرويدية حيث الحضارة والفضيلة-عند فرويد، هى تسامى بالغرائز، فإذا كان هذا التسامى يخفى وراءه كل هذا القتل والجنس والدناءة، فهو موقف مهزوز يكتفى بصورة خارجية تحمل مقومات الزيف مهما بدت براقة، والبديل عن التسامى الذى لم يشر إليه محفوظ هو سمو تكاملى، يستوعب القتل لا يخفيه ولا يكبته، والفرق بين السمو، والتسامى هو هذا الخيط الرفيع بين التمثل الواعى والكبت التلقائى، ولكن هذا موضوع آخر.
وعلى أى حال فالكاتب يعلن بهذه الحكاية أنه لا يكفى للفرد منا أن يحسن وجهة الظاهر (الفاضل-الثائر) وأن يفرح بكبت ما دون ذلك، حتى إذا ما سنحت الفرصة، فى الظلام، انطلق داخله المكبوت فى صورة “… الاغراء محطما قمقمة عن شهواته المكبوته“[24] (ص226) .
وقد استبعدت- بعد أن خطر ببالي- أن يكون محفوظ قد قصد عامدا أن يشوه بذلك صورة بعض المتشنجين من أشباه الثوار، ردا شخصيا على بعض الهجوم عليه، فقد رجع فاضل إلى أصله النقى بمحض إرادته لينال جزاءه بنبل يجعلنا نثق فى محاكمته العادلة بعد الموت رغم كل الضحايا.
خلاصة القول إن حكاية طاقية الاخفاء قد أرجعتنا إلى قضيتنا الأولى، وهى تظهر القتل هنا دما خالصا، وحلا فرديا عابثا بشعا، وأن سبيل فاضل صنعان الأول حين كان مع الناس وبالناس ملتزما فاضلا كان هو السبيل الأسلم، ولو على حساب داخله الفج، حقيقة أن ثمة تكامل من نوع آخر مأمول وممكن، إلا أن الفضيلة الظاهرة خير من الفطرة العشواء الضاربة فى الظلمة بلا رادع أو قانون، والضمير ضرورى حتى ولو كان يمثل مرحلة ضبط مؤقتة يحل محلها باضطراد النمو الخير التلقائى، وهكذا يلقى الكاتب فى وجهنا تحديا جديدا، أصعب وأخطر.
11- معروف الاسكافى
”القدرة الخارقة، والبطولة بالصدفة”
مرة أخرى -رائعة- يؤلف الكاتب بين الحلم والواقع بصورة جديدة تعلن أن المهم فى الحلم أن يصدقه صاحبه ويصدقه الناس فتقع المعجزة، حتى وإن لم يكن إلا طيفا يظهر لحظة ويختفى، وهو بذلك يتفوق على الليالى القديمة فيما يتعلق بخاتم سليمان، وكما تقدم خطوة بطاقية الاخفاء، يقدم لنا أثر الخاتم، دون الخاتم، فنعيش أثر اليقين بقوة الحلم دون أن يكون الحلم مسئولا مباشرا طول الوقت عن نتائجه، أى انه يعلمنا أن الأحلام انما تتحقق بتصديقها لابفاعليتها الذاتية، وقاريء هذه الحكاية لابد وأنه قد انخلع قلبه-معي-وهو يعلم أن الحلم (المعجزة) لم يظهر إلا مرة واحدة وبـمحض الصدفة، وأن معروف عاش آثارها الطيبة عليه وعلى صحبه من الفقراء والصعاليك نتيجة هذه الصدفة السعيدة، وما ترتب عليها من وعود ومخاوف، أقول انخلعت قلوبنا حين دخل امتحانا جديدا نعرف مسبقا نتيجة فشله، وأمام من؟ السلطان شخصيا!، ولكن الحلم يتحقق-دون توقع منا أو منه-مرة أخرى (وأخيرة فى الأغلب) ربما ليقول لنا من جديد: أن الحلم الذى مر بتأثير المنزول، قد تكرر بتأثير الإرادة الفردية/الكونية (إذا التحمتا) “ربى لتكن مشيئتك… لا تدع كل شيء يتلاشى كحلم ” (ص237).
ولكن محفوظ يعلمنا منذ البداية أن مصدر هذه المعجزة هو القوى الخفية السرية غير المضمونة، وأن من يتخطى الواقع والظاهر هو معرض لأحد السبيلين حتما، ليكن حلما، ولتكن ارادة الخير، ولكنها أيضا-ما تجاوزت الواقع-عرضة للإستغلال فى الاتجاه الآخر، وهكذا يتجسد التحدى حين يطلب من معروف-من قبل القوى الخفية (فى الداخل ) أن يستعمل سلطته (المزعومة) فى قتل المجنون والشيخ البلخى (ص240) (ممثلى الرؤية والحقيقة) نفس الطلب من صاحب الطاقية (ص219)، الفرق بين التجربتين واضح، فالطاقية استعملت طول الوقت بشرط قاس فجر المكبوت الشهوانى القاتل العابث، أما حلم الخاتم فلم يستعمل إلا مرتين ولن يجر عائده إلا لخير الفقراء دون سلطة أو استغلال، ولا يحق هنا تفضيل لمعروف الاسكافى عن فاضل صنعان، فالفرصة لم تتح لمعروف أصلا، والاختبار كان فى أضيق الحدود، وشرط ازاحة الضمير لم يرد، والمقابلة الأقرب لمعروف هى مع حكاية ابراهيم السقا وكنزه وجزيرته المسرحية (السلطان: ص202)، ووجه الشبه بينهما واضح من حيث السن والطيبة والفقر.. وربــما سطحية الحكمة. وقد ظهر القتل فى حكاية معروف عابرا حين بدا فى شكل مجرد تحريض لقتل قوى الخير والحقيقة (المجنون والبلخى)، وبالرغم من أن جزاء الامتناع عن هذا القتل كان مبالغا فيه، لدرجة غير مقبولة، حيث قلد معروف ولاية الحى من قبل السلطان (ربما تذكر بغير وعى حكايته مع إبراهيم السقا) فاننا لا نستطيع أن نتبين مدى فضل معروف الأسكافى فى هذا الامتناع عن القتل، أهى مجرد صدفة ؟ أم هو السن؟ أم هو العجز؟، أم أنه امتناع الجهاد والوعي؟، والأرجح أنه ليس الأخير على كل حال، مما يذكرنا أن مجرد عدم القتل ليس بالضرورة فضيلة، كما يحذرنا من أن يكون نجيب محفوظ قد أنهك فعلا، فأخذ يبتعد عن الواقعية الجديدة التى التزم بها فى البداية، ليحقق العدل بطريق الصدفة الخطرة.
12- السندباد
”نهاية فاترة”
يتم خيال محفوظ (لاحلمه) ختام هذه الحكايات بطريقة مصنوعة، فيعين معروف (الحاكم الجديد) نور الدين كاتما للسر، ويعين المجنون كبيرا للشرطة (ويسميه عبدالله العاقل-بلا مبرر لكل هذه المباشرة)، ثم يحكى السندباد أكثر الحكايات مباشرة فيرسم أسطح نهاية متوقعة لهذا العمل العظيم، وحكايات السندباد فى هذه الحكاية إما معادة أو متوقعة، وهى دائما أحادية الجانب، تبدأ بالحكمة ثم تسرد الأقصوصة دون داع للأثنين معا، مثل “الانسان قد ينخدع بالوهم فيظنه حقيقة”، وأنه “لا نجاة لنا إلا اذا أقمنا فوق أرض صلبة“(ص247)، أو “أن النوم لا يجوز اذا وجبت اليقظة”أو حتى “أنه لا يأس مع الحياة“(ص248) وهكذا حتى يقول فى تسطيح أكبر “أن الإبقاء على التقاليد البالية سخف ومهلكة“يظهر، وكأن الكاتب يرتد عن العمق الذى قلقل به وجودنا حين يقول “إن الحرية حياة الروح وإن الجنة نفسها لا تغنى الانسان شيئا اذا خسر حريته“(ص251) يقول هذا ويتبعه بأقصوصة خاوية لا تتناسب اطلاقا مع هول بداياته وتطور حدسه المبدع وخاصة فى الثلث الأول ثم فى طاقية الاخفاء حيث علمناكم صعوبة الاختيارات وتداخلها، واستحالة ترجيح الخير المطلق، وسد مسارب الانحراف … الخ.
ولكن بارقة أمل تفتح من جديد، إذ يصر السندباد على العودة إلى الترحال بالرغم من موفور الحكمة والمال عنده، فنطمئن إلى أنها ليست النهاية على كل حال.
13- البكاؤون
“خاتمة بعد النهاية: مزيدة وملفقة”
يبدو أن نجيب محفوظ كان مصرا-بوعى أو بغير وعي- على أن يخفف من جرعة الفزع التى جرعنا إياها فى بداية حكاياته، فعاد يضيف خاتمة بعد النهاية، رسم فيها حلم الجنة الحسى الساكن، دون صراع أو اعتراض “افعل ما بدالك“(ص216) وبدلا من أن يجعل الحلم هو “الواقع الآخر”كما علمنا طوال الليالى، وبدلا من أن يمزج بينه وبين الواقع الأول فى تداخل مناسب كما عودنا، جعله بديلا منفصلا تماما، أوقف فيه الزمن فصار ممتدا بلا حدود، ولم ينتبه شهريار إلى أنه الخلود الخامد، أو لعله رفض ذلك، فتصور حاجته لاستمرار ما، بدءا بالاستمرار البيولوجى فى ولده: “متى يكون لنا ولد“(ص263)، ولكنه-مثلما فعل السندباد- اندفع إلى مواصلة رحلة البحث عن ما وراء الباب المحظور فتحه، وعلى خلاف ما ينتظر من سندباد أن يحصل على مزيد من ” الماس والحكم “، وجد شهريار نفسه فى صحراء الندم واليأس، يشارك البكائين حسرتهم على ضياع “الخيال المنشق“(إذن: لم يكن حلما واقعا آخر بل كان خيالا منفصلا مصنوعا!!).
وتنتهى الليالى بنصيحة عبدالله العاقل له أن يأخذ مكانه القديم (ربما مجنونا نادما) “تحت النخلة قريبا من اللسان الأخضر”(ص268) ربما ليكون شهريار البرى.. ينثر الحكمة العشوائية، ويرى ما لا يراه الآخرون، ويؤكد عبدالله العاقل فى النهاية، أن الطريق بلا نهاية، وأنه “لا وصول اليه ولا مهرب عنه ولابد منه”(ص268).
وهكذا ينقذنا الكاتب-رغم فرط المباشرة والأسلوب التقريرى من الاستسلام لنهايته المصنوعة .. ما دام يعلن أن محطة الوصول لم تحن بعد.
وبعـد
فمن حق القاريء أن يتساءل عن مكان هذه النهاية من موضوعنا الذى اخترناه عنوانا لهذه القراءة “القتل بين مقامى العبادة والدم”، وليس عندى جواب جاهز، الا أننى تصورت-غير مقتنع تماما- أنه من الجائز أن نجيب محفوظ قد خاف-مثلنا-من البعد الذى اندفع إليه فى البداية يكشف فيه عن داخلنا وداخله، وأنه فى الثلث الأخير من العمل- فيما عدا طاقية الاخفاء-وحتى النهاية قد عاد يخفف عنا (وعنه) من جرعة الرؤية، فتوارى القتل، وتوارى الدم، ولم يبق من وجه العبادة إلا الأمل المنشق، والجنة المسحورة، والندم (الكاثوليكى) على فقدها، وكأنه انتهى بنقض ما بدأ به بشكل أو باخر، قلت: لست مقتنعا بهذا تماما ولكنه ما خطر ببالى حتى هذه اللحظة.
ولا يصح أن أخفى أنى كدت أنكر ما ذهبت إليه مندفعا فى بداية الأمر لأثبت من خلاله الفــرض الذى تقدمه هذه القراءة.. وذلك حين فوجئت بهذه النهاية التقريرية الساكنة، فقلت لنفسي: لعل التناقض النوعى بين النهاية والبداية يرجع إلى إندفاعك فى رؤية ما لم يقصد الكاتب إليه أصلا، وفى نفس الوقت فإننى لم أستطع التراجع، إذ من حقى أن أرى حتى ما لم يره الكاتب أو لم يقصد إليه واعيا، ومن حقى أن أرى اندفاعات ابداعه ثم تردد تراجعه، ومن حقى أن أذهب أبعد منه إن استطعت، وأن أقف دون رؤيته إن عجزت، نعم من حقى كل هذا، أخطأت أم أصبت، وإلا: فلماذا القراءة ؟ إلا أنه علينا مهما غاص الإبداع أو اجتهدت القراءة أن نتذكر مع نجيب محفوظ “أن الوجود أغمض ما فى الوجود”(ص6)، و “أن الإنسان أعظم مما نتصــور“(ص55)
* * *
[1]- باعتبار أن كل ما قبل هذه الحكاية (شهريار- شهر زاد-الشيخ- مقهى الأمراء) هو تعريف تقديمى ليس الا.
[2]- بالمقارنة بفتحى غانم مثلا (أنظر قراءة الكاتب للأفيال: الانسان والتطور عدد ابريل1983).
[3]- فالقتلة يشملون: شهريار-صنعان الجمالي-جمصة البلطجي-(= عبدالله الحمال = عبد الله المجنون البري) -جلنار- سمار حفل سهرة اللسان الأخضر(شروع) -المعين بن ساوى (شروع)-فاضل صنعان، هذا فضلا عن أحكام الاعدام التى تبدو أحيانا قتلا، وأحيانا قصاصا، وأحيانا تكفيرا، هذه الأحكام التى اغتالت: علاء الدين أبو الشامات (شهيدا) وحسام الفقى، والمعين بن ساوى، ودرويش عمران وابنه وحبظلم بظاظة عقابا، وفاضل صنعان (تكفيرا)- أما الضحايا و المقتولون فيشملون الأبرياء والمقتولون، وبالصدفة من أول الطفلة المغتصبة ثم على السلولى، كرم الأصيل-زهريار-شملول الأحدب (مع وقف التنفيذ!!) يوسف الطاهر-قوت القلوب (مع وقف التنفيذ ثم القضاء عليها بالسم) علاء الدين أبو الشامات-المعين بن ساوي-درويش عمران-حبظلم بظاظة، توأم شاور العجان بائع البطيخ (إعدام بتهمة باطلة) (حتى وفاة قمر العطار بالسم كانت تعتبر قتلا أيضا).
[4]- فرق بين الانطباع Impressionو المنطبع Imprintحيث أعنى بالأول: الميل الفكرى العام تجاه موقف أو موضوع، فى حين أعنى بالثاني: ‘المعلومة’ الـمـدخلة بصما فى أوقات التعلم المأزقى الكيانى، التى يتميز باستقبالها فى أوقات النمو الحرجة الطفل حتى تغير الخلايا أحيانا، كما يتميز بذلك المبدع فى بعض تلقيه
[5] – قراءة رأيت فيما يرى النائم ‘ الانسان والتطور ‘ عدد أكتوبر 1983 المجلد الرابع العدد الرابع (ص104-137)
[6]- تسميته ‘بالضمير’ هو أقرب تسمية شائعة، لكنها غير دقيقة بالمرة، فهو كيان أعقد، وأكثر تلقائية، وأقرب الى صدق الغرائز من الضمير بالمعنى الأخلاقى التأنيبى المعيق.
[7]- أقصد بالجنون هنا تحديدا: تنشيط الداخل البدائى ليعمل مستقلا وعلى حساب الخارج الواقعي.
[8]- ) Psychic determinism (determinism causality)أنظر أيضا بالمقارنة: بين استمرار فتحى غانم فى تأكيد هذا النوع من الحتمية (فى قراءة للكاتب : الموت.. الحلم .. الرؤيا، فى رواية ‘ الافيال’ لفتحى غانم ‘ الانسان والتطور ‘ عدد يوليو 1983 المجلد الرابع العدد الثالث ص108-136)، فى حين تطور نجيب محفوظ إلى الحتمية الغائية
[9]- لا تنس أن قمقام هو’ صنعان الجمالي’ .
[10]- يتضح ذلك بوضوح فيما بعد، ولكن بالنسبة لجريمة أخري-(ص56) ‘ ماذا دفعك إلى ارتكاب جريمتك الشنعاء (قتل خليل الهمذانى الحاكم) فيجيب بوضوح ‘ أن أحقق ارادة الله’ .. وسنرجع الى ذلك.
[11]- لولا أن الرواية قد سجلت أنها تمت فى 11/27/ 1979 لكان الارتباط بدراما المنصة وثيقا ومباشرا-مع بعض التحفظ فى التفاصيل-ولكن هذه الإرهاصات بقتل الحاكم، والتأكيد على جانب العبادة فى هذا القتل، مع رفضه باعتباره حلا فرديا.. الخ، كل ذلك من تفضيل يعد من قبيل الرؤية الأبعد لحدس الفنان قبل الحدث ؟
[12]- يتأكد هذا المعنى فى بداية الحكاية التالية بعد أن تناسخ البلطى فى صورة عبد الله الحمال، إذ يخاطب نفسه القديمة (رأسه المعلقة) قائلا ‘لتبق رمزا على موت الشرير الذى عبث بروحه ‘ (ص62).
[13]- راجع أيضا (ص130) ‘ لا تخدعنى يا رجل .. فالجنون منتهى العقل’.
[14]- كان ظهور سحلول طوال الرواية ثانويا وعابرا، رغم أنه كان يمكن أن يمثل تحديا موقظا فى مقابل لعبة القتل الخطر، ولكنه بالصورة التى ظهر بها خالطا بين مأساة الموت، وتجارة العاديات .. لم يبد بالعمق الكافي.
[15] وهما شقيقتا الحاكم يوسف الطاهر، والحاكم يعلم بسلوكهما، وقد أعانتاه ماديا قبل ولايته، فتستر عليهما بعدها.
[16] كذلك لم أفهم الدافع ‘ الخاص’ الذى دفع جلنار أصلا لاختيار عجر رفيقا جنسيا، وهو الثقيل العديم الميزات، ولا يكفى أن نتصور أنها-بذلك-كانت تدبر لجريمة القتل، وكذلك لم يبد أنها هى التى لفظته بعد الجريمة، لكنه عجزه الذى أبعده، وأخيرا فهى الوحيدة التى نسى الكاتب أن يـعدمها قصاصا، وكأن الافتعال الذى أحس به-مثلنا -قد أضجره، فأنساه القاعدة التى اتبعها طول الحكايات … من يدرى ؟
[17] لم أتطرق لموقع الجنون وأشكاله تفصيلا فى هذة القراءة، وقد أعود إليه فى دراسة مقارنة مع أعمال أخرى لمحفوظ.
[18]- اذا ما افتقدوا ‘الدولة’ فجأة، فيأخذها (السلطة) أقوى الأشرار (ص172).
[19]- جاء هذا الرد على لسان سحلول، ورفضا لدور سحلول أصلا-دوره كما جاء فى هذا العمل- تصورت أن الأولى أن يـطلق مثل هذا الرد عبدالله المجنون شخصيا.
[20] – التى أخذت تتزايد بدءا من هذا الجزء
[21]- مثلا (ص190)، (ص202)
[22]- الذى عثر على كنز أنفقه فى تجسيد أحلامه بتنصيب نفسه سلطانا مسرحيا كل ليلة، مع تنصيب أصدقائه من الحفاة والجياع وزراء وقادة
[23] – أعنى بالقناع هنا ما يشير اليه ‘يونج ‘ على أنه Personaولا أعنى به ما قد توحى به الكلمة من خداع أو تظاهر
[24]- قارن تحطيم هذا القمقم ‘ كبت الجنس والعبث والعدوان’، بتحطيم قمقم جمصة البلطى لينطلق منه سنجام يدعوه لقتل الظلم، ومن قبله تحطيم كبت والده صنعان لينطلق منه الداخل بتناقضاته وتراوح خبطاته
دورات الحياة وضلال الخلود
ملحمة الموت والتخلق
“فى الحَرافيش”[1]
ظل نجيب محفوظ يحاول، ويحاور، ويطرقها من كل جانب، وبكل سبيل، حتى بلغت أوج البدايات فى “الطريق” ، وتعددت المحاولات فى أكثر من موقع فى الرواية الواحدة، وفى أكثر من قصة قصيرة، اختلفت ظهورا (مثلما فى: حارة العشاق، أوحكاية بلا بداية ولا نهاية)، والتفافا (مثل: ثرثرة فوق النيل، أو اللص والكلاب، أو الشحاذ) حول المسألة نفسها، بل يكاد لا يخلو عمل له إلا وأنت تلمحها-أعنى المسألة نفسها -بشكل أو بآخر.
وحين تقدم إلى إعادة صياغة مسيرة الحياة من خلال استرجاع الرسالات السماوية بلغة معاصرة نسبيا، راح فغامر فقالها رمزا صريحا فى أولاد حارتنا، لكنه وقع، وما كان له إلا أن يفعل، فى خندق الالتزام التاريخى، والتحفظ الدينى، فخرج العمل فى صورة إعادة صياغة أكثر منه خلقا طليقا، وحين انتزع منهم جائزة نوبل، وقالوا إنها للثلاثية وأولاد الجبلاوى، كدت أسمعه يقول فى بعض تصريحاته، بل هى للمحاولة الدؤوب والحرافيش، فقد استطاع أخيرا أن يقولها كأفضل ما يكون القول فى الملحمة، بل أظننى قرأت له، بعد الجائزة، دون أن أتذكر المصدرالمحدد تصريحا فهمت منه أنه يقر ان الحرافيش هى التطوير التجاوزى لأولاد حارتنا .
ورغم ما قيل فى الحرافيش وعنها، فإننى أحسب أنها لم تأخذ حقها، ولا أحسبنى قادرا على الوفاء بذلك. وإذا كنت سوف أركز على موقف بذاته فى هذه الدراسة البداية، فإننى لا أملك إلا أن أشير فى الوقت نفسه للخطوط العامة لما أنوى تناوله حالا، أو فيما بعد.
(1)
1/1 أما أنها ملحمة، فهى ملحمة ” …. هى قصيدة قصصية طويلة (1)، جيدة السبك…تتسم وقائع قصتها بالشرف والجلال، ويعالج فيها الموضوع على نحو يتناسب مع أعمال البطولة ..إلخ”
فما الموضوع، وكيف هى القصيدة ؟
أما الموضوع فهو الحياة، الحياة بماهى حركة دوارة، لا تبدأ بالولادة - كما- دأبنا على تعريفها – بقدر ما تتخلق بيقين الموت، ويقين الموت ليس وعيا خاصا به، بقدر ما هو الحقيقة الموضوعية الأساسية فى الوجود البشرى، فوق قمة الوجود الحيوي. وما بين طرفى “الموت: المصير”، و ” التخلق: إعادة الولادة”، تتجدد الحركة، وتبعث الحياة من أبيات القصيدة / الملحمة طولاوعرضا، دورة وإعادة، جدلا وتوليفا، دون انقطاع.
1/2
الدافع/ البدء : هو الموت.
والقانون/ الحتم: هو الحركة.
والمسرح/ المجال: هو الزمن.
والفصول/ التتالى: هى دورات الحياة المفتوحة النهاية، برغم استعادة كثير من الخطوات نفسها.
والعلاقات/ التجاوز: هى التراكمات المتفاعلة معا، حتى التغير الكيفى.
كذلك: الكمون/ التمثيل حتى التفجر/ البدء مرة أخرى،
بما يشمل حتما: المواجهة/ النقيضية فالولاف، والنبض الدوائرى المتناغم: بدءا من داخل الذات وانطلاقا إلى مسارات الكون، مارا بجموع الناس، ملتحما بهم، إذ هم أساسا البداية، المصير.
(2) الموت
1/2: أما أن الموت هو الأصل، وهو اليقين، وهو الدفع، فقد شغل هذا الأمر محفوظا بشكل ملح، وراسخ، وجاثم، حتى اضطر إلى إظهاره بصورة رمزية مباشرة، كادت أن تتسطح منه -مثلا- فى مسرحيته القصيرة: “المطاردة”، وإلى درجة أقل: “المهمة” (وعادة فى أغلب مسرحياته القصيرة على وجه التحديد، أكثر من قصصه القصيرة)
وهو يقرن الموت بالزمن، أوبتعبير أدق، بمرور الزمن (فالزمن عنده شئ آخر)، حتى ليمكن فى العمل الواحد أن يفسر الرمز على أنه الموت، أو على أنه الزمن، دون اختلاف كبير (لاحظ ذلك فى مسرحية “المطاردة” على وجه التحديد).
فلننظر كيف تناول الموت فى الملحمة، إذ نعده البداية، واليقين، والتحدى، والدفع جميعا:
الموت عند محفوظ -وفى هذه الملحمة خاصة- ليس عدما
(ص64): الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه.
والموت (لا الولادة الجسدية) هو البداية، والحياة هى إرادة التخلق من يقين الموت والوعى به، فمنذ السطر الأول يعلن محفوظ أن ملحمته تدور “… فى الممر العابر بين الموت والحياة “، وليس بين الولادة والموت، الموت هو الأصل، والحياة احتمال قائم. هذه الحقيقة هى سدنة الملحمة ولبانتها.
فالموت بمعنى العدم -كما يشيع عنه- لا وجود له . (ص403)
حين راح شيخ الزاوية (خليل الدهشان) يصبر جلال ( الأول) بعد موت خطيبتة قمر دون مبرر(!!)
-كلنا أموات أولاد أموات
فقال بيقين: لا أحد يموت.
لكنه يقول لأبيه فى الصفحة التالية مباشرة
- يوجد شئ حقيقى واحد يا أبى، هو الموت.
وفى الصفحة نفسها:
”كلهم يقدسون الموت ويعبدونه، فيشجعونه حتى صار حقيقة خالدة” .
وفى الصفحة التالية: “نحن خالدون، ولا نموت إلا بالخيانة والضعف“.
(وسوف نعود لكل ذلك بعد حين)
ومنذ البداية، واجهتنا الملحمة بالموت يسير على أرجل، حين أعلن عن نفسه بمواكب النعوش:
(ص 51): ” ميت جديد، ما أكثر أموات هذا الأسبوع”
(ص52):” وأحيانا تتابع النعوش كالطابور، ولا يفرق هذا الموت الكاسح بين غنى وفقير”
وفى مواجهة هذا الموت منذ البداية:
(ص54): ” جرب عاشور (الأول) الخوف لأول مرة فى حياته، نهض مرتعدا، مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت.
تساءل فى أسى وهو يقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور”
وكأن الملحمة ظلت بعد ذلك حتى نهاية النهاية، تحاول أن تجيب عن هذا السؤال . فهل أفلحت؟
هذا ما سوف نحاوله فى هذه الدراسة.
2/2: ثم اقترنت رؤية الموت رأى العين -يقينا- بالهرب منه- منذ البداية- بالحلم، فعاشور حين قرر شد الرحال هربا من الشوطة (الطوفان)، كان ذلك بناء على حلم رآه، فهم منه أن الشيخ عفرة زيدان ينصحه أن يشد الرحال، فكان قوله الموجز المكثف لحميدو شيخ الحارة:
- لقد رأيت الموت والحلم (ص58).
كان ذا دلالة خاصة، فقد استعمل فعل رأيت، وكأنه يعنى البصر والبصيرة معا، و حينئذ جاء رد شيخ الحارة:
- هذا هو الجنون بعينه، الموت لا يرى
ثم ننتبه إلى عطف الموت على الحلم دون زيادة، فنشعر أن ثمة دليلا آخر على خصوصية هذا الترادف فى التعبير، وكأن الحلم (فالضلال فيما بعد) هو البعد المكمل للموت، وفى الوقت نفسه هو نقيضه، والقطب المقابل له.
كل ذلك برغم البدايات المنطقية:
(ص56)
- بل رأيت الموت أمس، ورائحته شممت.
- وهل الموت يعانـد يا عاشور؟
- الموت حق والمقاومة حق
- ولكنك تهرب.
- من الهرب ما هو مقاومة.
لكن الملحمة بعد ذلك راحت تتناول صنوف الهرب وصنوف المواجهة بأدق ما يكون التناول.
وبداية يأتى اختفاء عاشور الناجى (الأول) دون موت، وكأنه تأجيل للحكم، ويظل عاشور طوال الملحمة هو الحاضر الغائب مثل الجبلاوى فى أولاد حارتنا، وآخرين، ولكن هذا الاختفاء هنا له وظيفة أخرى غير السعى إلى الأصل، والحنين إلى المطلق، فهو من جهة أخرى يترك الباب مفتوحا للتواصل بين نزلاء التكية الحاضرين الغائبين، الذين لا يعرف أحد هل يموتون أم لا، وإن ماتوا فأين يدفنون موتاهم (مثلا).
ومن جهة أخرى يعد هذا الاختفاء تكريما بتجنب الموت الفناء (ص130): ألم يكرم عاشور بالاختفاء ؟، و يعد فى الوقت نفسه وعدا باحتمال العودة.
بعد ذلك، وطوال فصول الملحمة، تحدث المواجهة بالوعى بالموت، وحتمه قبل حدوثه.
2/3: وها هو ذا شمس الدين الناجى: (ص127) ” لأول مرة يتساءل عما فات، وعما هو آت، ويتذكر الأموات”.
وفورا يرتبط ذلك بالشعور بتوالى ثوانى الزمن كما أسلفنا:
فى الصفحة نفسها:” إن هدم زفة مسلحة أيسر ألف مرة من صد ثانية بما لا يقال، وأن البيت يجدد والخرابة تعمر لا الإنسان، وأن الطرب طلاء قصير الأجل فوق موال الفراق”
(نتذكر هنا اكتئاب الشحاذ بشكل ما)
ولكن هل هو يخشى الموت نفسه، أم أنه يخشى الضعف والشيخوخة:
يواجه شمس الدين هذا السـؤال، وهـو يعى تماما مغزى الدعـــاء: “أن يسبق الأجل خورالرجال”، يواجه أكثر فأكثر بعد موت حميه، المعلم دهشان، ثم عنتر الخشاب صاحب الوكالة0 ” فهذا (الأخير) رجل يماثله فى السن، يقف معه فى صف واحد”، يواجه السؤال فيجيب عنه بأن (ص130): ” ولكن الموت لا يهمه، لا يزعجه بقدر ما تزعجه الشيخوخة والضعف، إنه يأبى أن ينتصر على الفتوات وينهزم أمام الأسى المجهول بلا دفاع”.
فهل صحيح هذا؟ وهل صحيح ان الضعف لا الموت هو قضية الملحمة؟ . أجيب بدورى حالا: بل هو “الموت يقينا”.
وفى بدايات المحاولة للتصدى للنهاية يهم شمس الدين بالمغامرة التى خاضها أبوه من قبل، والتى أدت إلى زواجه من فلة، أمه، فيذهب إلى الخمارة لكنه لا يتمادى، لا يستطيع أن يتمادى، (ص136) ” أفاق من جنونه فتلاشت نواياه المستهترة، استسخف سلوكه، كلا لن يتحدى الهواء، لن يتمادى فى ارتكاب الحماقات.
لكنه لم يتنازل تماما، فقد استعد للتلقى دون المبادرة، فهو ينتظر:
”ستسنح فرصة فينتهزها”، ثم:” ستعرض تجربة فيخوضها”
ولم تسنح الفرصة، ولم تعرض التجربة إلا فى ظروف أخرى ألحت وفرضت نفسها على حفيده البعيد: جلال، فيما بعد.
ومع التسليم للقدر الزاحف تمنى شمس الدين حسم الموقف “أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة “؟ (ص 137)
وبـموت عجمية زوجته يرى الموت (رأى العين) كما رآه أبوه من قبل، فيهرب منه إلى الخلاء، ثم استبدل به الاختفاء تكريما أسطوريا ليظل منتظرا مهديا طوال الملحمة، رأى شمس الدين الموت فى عجمية:
(ص138): رآها وهى تغيب فى المجهول، وتتلاشى
ولكن هل الموت هو مجهول بهذه الصورة، أم أنه مازال اليقين الذى مابعده يقين؟، فيكرر فى ( الصفحة نفسها): ” إنه لا يخشى الموت ولكن يخشى الضعف”
ويكرر: (ص139): “ماذا تعرفون عن لعنة العمر؟”
ثم: “ما أبغض قفا الحياة” .
ويأتى موت شمس الدين الناجى صورة مجسدة لنجاح ما، فقد مات وهو فى أوج انتصاره، وكأنه نجح فى أن يؤجل الضعف أو يخفيه حتى استقدم الموت المفاجئ تكريم لا يرتفع إلى تكريم أبيه بالاختفاء، لكنه أفضل من الضعف والشفقة على أى حال.
لكن ثمة مشاعر لم نرها فى أبيه عاشور الكبير، صاحبت خبرة النهاية عند شمس الدين، وهى مشاعر الوحدة المتعالية، لكنها ليست متعالية فحسب، بل “متعالية وموحشة ” ومنها تسحبت النهاية:
(ص141): ووردت كلمة تقول، إن كل شئ هباء حتى الفوز…إلخ،
وتعلن الوحدة فى اللحظة نفسها التى يعلن فيه الفوز الأخير، وبعده:
(ص141): ولكنه وحيد، وحيد يتألم….إنه يقترب من الحارة وفى الحقيقة هو يبتعد.
وصور الموت بذلك المجهول الذى يصارعه فى وحدته، إنه يصده عن السير يرفع أديم الأرض حيال قدميه، يسرق فوزه العظيم ببسمة ساخرة، يكورقبضته ( المجهول) ويسدد إليه ضربة فى الصدر لم يعرف لعنفها مثيلا من قبل.
إذن فالموت هو المجهول، لكنه هو اليقين المعين فى قبضة حقيقية تضرب لـيتهاوى شمس الدين فتتلقفه أيدى الرجال .
مات..
وكأن هذه الصورة نفسها قد وصلت إلى حفيده جلال فيما بعد، فى ظروف أقسى كما ذكرنا، فطورها بجنون أعتى -كما- سيأتى .
سمى شمس الدين ” قاهرالشيخوخة والمرض” (ص143) وكأن وحدة النهاية، ويأس النزول لم يصلا إلى الناس بأى شكل يهز الصورة، فمضى مكرما مثل أبيه. وكأن محفوظآ يستدرجنا بإصرار فيقدم إلينا التصعيد المتزايد لمواجهة القضية
أولا: يمضى بعاشورالكبير دون موت، بعد أن يلف ويدور حول المسألة، بحجمها ويقينها
وثانيا: هو يظهرالمسألة فى وعى ابنه شمس الدين، دون أن يعلنها للآخرين، حتى فى شدة الوحدة، وعمق اليأس.
…ثم ماذا؟
دعنا نرى .
2/4: (ص178): موت سليمان، (ابن شمس الدين وعجمية) أظهر لنا وجها آخر للموت، وهو الانقطاع .
حين أدرك سليمان، من الواقع ومن رد بكر ابنه الذى كان يعلمه مسبقا، أدرك أنه لا يوجد من بين ذريته من يكمله، من يحمل رسالته، حتى لو كانت رسالة الشر والطغيان، قالها مباشرة:
- إنى أودع الدنيا مثل سجين..أستودعك الحى الذى لا يموت.
فما البديل لذلك؟ وكيف يمكن أن يودع الناس الدنيا وهم طلقاء أحرار؟
إن النظر فى عكس مقولة سليمان هو الذى يمكن أن يوضحها بشكل ما.
وحين تحرك فى عزيز (إبن قرة وعزيزة البنان) الوعى الآخر، الوعى: الحياة، الجنس، الطبيعة، الفطرة (هل بوسعه أن يحول بين المطر وبين أن ينهمر؟) قفز السؤال حول الموت (مع الأسئلة الأخرى) سؤال هو أقرب إلى الجواب حيث تقدمته صيغة: هل عرف أخيرا: لم تشرق الشمس، لم تتألق النجوم فى الليل، عما تفصح أناشيد التكية؟ لم نحزن للموت ؟ فيحضر التساؤل حول الموت هنا مع البصيرة المتفجرة بمضمون آخر، أكثر منطقا، وموضوعية وحيوية.
ولعل السؤال اللاحق فى الصفحة التالية (ص326): لم لا نفعل مانشاء ؟ يزيد الأمور وضوحا
2/5: مرة أخرى نلقى الموت فى ثلاث شخصيات فى صفحة واحدة (ص370)، بل فى بضعة سطور متتالية:
يموت رمانة فى سجنه، وتنتحر رئيفة هانم حزنا عليه مشعلة النار فى نفسها، ويقتل العريس الفتوة نوح الغراب برصاصة مـــن مجهول (فؤاد عبد التواب)
وإذا كنا قد أجلنا الحديث عن القتل والانتحار فى هذه الدراسة المبدئية، فإن الحرص على التنويه بتلاحق الإيقاع اضطرنا فى هذا الموقع إلى الجمع بين الموت والقتل والانتحار .
2/6: و من المنطلق نفسه أسمح لنفسى بفتح صفحة الموت الأهم والأكثر دلالة، التى منها ينطلق جنون/ ضلال الخلود بقتل زهيرة أمام طفليها (ص380) وخاصة أن الطفل – بعامة- يكاد يصعب عليه أن يفرق بين الموت والقتل، من حيث أن الاختفاء، وفقد الدعم هما الأصل، سواء انقض الخاطف من المجهول، أو مثل أمام ناظريه رأى العين.
يتأكد هذا من تساؤل جلال طفلا بعد فقد أمه (وهوالأكبر سنا)، فقد قام من نومه مفزوعا ذات ليلة (ص385) ليسأل أباه وهو يجهش بالبكاء:
- متى ترجع أمى؟
فلنا أن نعد هذه البداية الفاجعة هى أول صفحة فى القضية المحورية فى دراستنا الحالية.
وعلى الرغم من بدايتها المأساوية بقرع طبول الموت قتلا منقضا، إلا أن نغمتها انسابت، وخفتت وهى تتسحب إلى كيان عزيز (زوج زهيرة الثالث) لتسرقه استجابة لنبذه ” جسد الحياة” (ص381)، فهو الذى نبذ جسد الحياة، قبل أن تنبذ الحياة جسده، وكأن محفوظا يزاوج هنا بين الموت الزاحف، والانتحار التسليم، ثم يسرع الفالج بالإيقاع، فيقضى عزيز نحبه فى أسابيع.
وإذا كان تفجر الحياة/الفطرة قد أثار التساؤلات السالفة الذكر، ومن بينها: لم نحزن للموت، ومن قبل ذلك ثار تساؤل عاشور الأول: لماذا تخاف الموت يا عاشور ؟، فإن صراع الحظ مع القدر فى مصرع زهيرة، فموت عــزيز قد أثار تساؤلات مقابلة، مناقضة، ومكملة: ص 382: تساءلت (الحارة): لم يضحك الإنسان ؟ لم يرقص بالفو ز؟ لم يطمئن سادرا فوق العرش؟ لم ينسى دوره الحقيقى فى اللعبة ؟ ولم ينسى نهايته المحتومة؟
وملحمة الحرافيش برمتها تطرح هذا التساؤل: لم ننسى الموت ؟
ولكن ماذا نفعل لو لم ننسه ؟
هذا ما تصاعدت منه وبه الملحمة حتى وجدنا أنفسنا من ناحية: وجها لوجه أمام يقين الموت، ومن ناحية أخرى وجها لوجه أمام الزمن الزاحف، وهما صنوان يكادان-موضوعيا-أن يترادفا.
ثم ماتت قمر (خطيبة جلال) خطفت خطفا فى ريعان صباها دون مبرر أو مقدمات أو تفسير.
ماتت ووالده (عبده الفران) يغنى بطريقته الهمجية الساخرة فى ساحة التكية، (فى الحلم، ولا فرق).
ماتت فاستيقظ بموتها خطف أمه مضرجة بدمائها،
وبموتها، وهذه الاستعادة، تفجرت القوة/ الخرافة/ المستحيل فى كيانه:
(ص401) شعر جلال بأن كائنا خرافيا يحل فى جسده، إنه يملك حواس جديدة، ويرى عالما غريبا. عقله يفكر بقوانين غير مألوفة، وهاهى ذى الحقيقة تكشف له عن وجهها
واختلط الوجود بالعدم:
طوى الغطاء عن الوجه، إنه ذكرى لا حقيقة. موجود وغير موجود، ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع. غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أى معرفة له. متعال متعلق بالغيب . غائص فى المجهول، مستحيل غامض مندفع فى السفر. خائن، ساخر، قاس، معذب، محير، مخيف، لانهائى، وحيد.
وغغمم بذهول وتحد:
-كلا-
وكان هذا هو أحــد الأجوبة المطــــروحــة-وأهمها-إجابة عن تساؤل الملحمة المحوري:
وإذا كان التساؤل/ المقدمة هو لماذا نخاف الموت، ثم يليه التساؤل التالى: لم نحزن للموت ؟ فإن التساؤل المحورى هو: لم ننسى الموت؟ ومن هذه الأسئلة الثلاث نستطيع أن نصوغ التساؤل الجماع بمواجهة السؤال: فما العمل ؟
إذا كان الخوف من النهاية ماثلا، وكان الهرب مستحيلا، أو فى أحسن الأحوال مؤقتا، وكان الحزن أقوى من الحياة، والنسيان أبعد عن التناول…
فما العمل؟
هنا قفزت إجابة جلال صريحة أنه: كلا.
فهو الرفض، والإنكار:
مازلنا (ص401)
يد غطت الوجه فأغلقت باب الأبدية
آه: لم يقل “فتحت باب الأبدية”، فالموت عادة، فى العرف الدينى، طريق إلى الأبدية (الحياة الآخرة)، بغض النظرعن أين سنمضى هذه الأبدية: فى جنة أم فى جهنم، فالخلد فى أيهما سواء، لكن التعبير هنا يشير إلى أن الموت هو الذى أغلق باب الأبدية، لا أنه فتحها.
فهل يعنى ذلك أن الأبدية ممكنة على هذه الأرض دون سواها ؟
لم يتأوه، لم يذرف دمعة واحدة. لم يقل شيئا، تحرك لسانه مرة أخرى مغمغما:
-كلا.
وتكاثفت صور الموت بما ينبغي:
رأى رأس أمه مهشما، وكأنها ما ماتت إلا هذه اللحظة (ألم يسأل أباه منذ زمن غير بعيد: متى تعود؟)
وحين نبهه الآخرون أن وحد الله ؟ فزع لوجودهم حتى أنكره، وكأنه وهو يلغى الموت، قد ألغى الناس والحياة جميعا بضربة واحدة.
وهو إذ يتساءل: من قال إذن أن الحياة خالية، خالية من الحركة واللون والصوت، خالية من الحقيقة، خالية من الحزن والأسى والندم .لا يتساءل متراجعا، ولكنه يشير إلى قراراته الصاعقة ضمنا، فالجواب المتضمن فى هذه الأسئلة هو: أنه هو الذى قال ذلك دون سواه، قال وقرر، كل ذلك، فى هذه اللحظة الصاعقة المولدة معا، قرر، فتقرر، ولا راد لقراره، وبقراره هذا تحرر فعلا من كل شئ: من الموت ثم من الناس، ثم من المشاعر: (ص402): إنه فى الواقع متحرر .لا حب ولا حزن. ذهب العذاب إلى الأبد . حل السلام، ولكن كيف؟: بالانسحاب والتبلد؟ أبدا. بل بالمحال والتوحش المتحدى:
(ص402): وثمة صداقة متوحشة مطروحة لمن يروم أن تكون النجوم خلانه، والسحب أقرانه، والهواء نديمه، والليل رفيقه.
وللمرة الثالثة يغمغم:
-كلا.
ويعلن إنكاره للموت (وللناس والأحياء) حين يرد على شيخ الزاوية:
- لا أحد يموت.
هام جلال بالمستحيل (ص404)
وحين كانت تعاوده ذكريات الحب كان يحتمى منها بالكراهية،
(ص405): أكره قمر، هذه هى الحقيقة. هى الألم والجنون، هى الوهم.
لكن مشاعر الكراهية نفسها هى مشاعر والسلام، وهى أفضل من اللامبالاة، لكنه يتمادى من الكراهية إلى التشويه:
كيف هى الآن فى قبرها؟ قربة منتفخة تفوح منها روائح عفنة، وتسبح فى سوائل سامة ترقص فيها الديدان.
ثم من التشويه إلى الاحتقار:
لا تحزن على مخلوق سرعان ما انهزم …لم يحترم الحياة، فتح صدره للموت
ثم ينسلخ إلى المستحيل:
إننا نعيش ونموت بإرادتنا
نحن خالدون، ولانموت إلا بالخيانة والضعف.
وحين ألغى / أنكر الموت، فمحا الحياة، والناس، وراح يستعمل الجميع محتقرا: فبعد أن اعتلى عرش الفتوة، وجاء أبوه يذكره بالعدل الذى يتساءل عنه الناس، فيرد عليه ” بازدراء”:
-إنهم يموتون كل يوم وهم مع ذلك راضون.
2/7: ويجئ موت زينات (الشقراء) أم جلال الثانى، كالزلزال، ليقول لنا إن الموت أكبر من كل رتابة، وأقوى من كل هروب.
وعلى العكس من موت قمر (خطيبة جلال الأب) جاء موت زينات (أم جلال الإبن)
ماتت قمر وهى بعد الفتاة البكر، صغيرة السن، الخطيبة الطيبة العاشقة البطلة، ماتت بمرض عابر وهى فى ريعان صباها تستعد لزواج سعيد بعد أن انتصر الحب على صلافة أمها ومقاومتها.
أما زينات الشقرا، فهى بائعة الهوى، ثم هى عشيقة جلال الأب، وقد بلغت بها الجسارة أن تسمى ابنها منه، وهو ابن سفاح، أن تسميه باسم أبيه مباشرة، و هى تموت وهى فى الثمانين بعد أن تابت وأنابت، -وتحدت- ونجحت- أن ينشأ جلال ابن الحرام معروفا بالطيبة والأمانة وحسن الخلق والورع، ولا تموت إلا عن ثمانين عاما، وكان جلال قد بلغ الخمسين من عمره.
وكما قال جلال الأول للموت كلا، ثم راح يدرب نفسه على كره قمر فى تربتها، وتشويه صورتها فى شكل قربة منفوخة متعفنة يرعى فيها الدود، راح جلال الثانى-فجأة- يشوه صورة أمه، أمه التى “..هو نفسه كان يقول أنه طالما أحبها حبا جما، لكنه لم يكن يتصور أن يفعل به موتها ما فعل ” (رؤى فى الجنازة وهو يبكى وينتحب)، أما الأعجب من ذلك فهو ما حصل له عقب انقشاع الكآبة.
لقد قالها أيضا: كلا، ولكن بطريقة عملية مغايره، لم يقلها للموت، وإنما قالها الموت له، فأعادها، أن كلا للرتابة والاستقامة والفتور، كلا للمحافظة والدعة والسلامة، كلا لما فرضته أمه عليه، عكس ماهى، وما كانته من فجور وجنس وعشق وقتل، وكأنها أنشأته نقيضا لها، وتكفيراعنها، فحرمته حقه فى تجربته، ولم يولد إذن هذا الجديد “مجهول الأصل “(ص450)، إلا بقدر حسابات الظاهر، بل فعلا لقد قذفه قبو مملوء بالعفاريت، وهو الداخل المروض المكبوت، زينات الأولى بداخل داخله، فانقلب أول ما انقلب عليها:
تبدى له حبه لأمه عاطفة غريبة مضللة كأنها السحر الأسود، تبخرت فى الهواء مخلفة حجرا باردا شديد القسوة(نفس قسوة أبيه فى مواجهة موت قمر)، أصبح يثور لذكراها ويلعنها، لم يبق فى قلبه أثر لحزن أو بر أو وفاء، وثمة صوت يهمس له فى ذهوله بأنها ينبوع العداوة والمقت فى حياته، وأنه ضحيتها إلى الأبد(قبل الموت وهو الفاضل الأمين، وبعد الموت وهو النقيض الفار الضائع: وجهان لعملة واحدة).
وبديهى أن كل ذلك (مثل موقف أبيه) هو نتاج مواجهة الموت، فقهر الحزن حتى إخفائه، وهو فى الوقت نفسه هو دليل العجز عن التخلص منه (الحزن)، ثم إنه الاحتجاج القاسى على الميت الذى تخلى بموته عن الحى العاشق المعتمد عليه -بموته-، ثار جلال الأول على قمر، واتهــم -بعد موتها- بالضعف والتخاذل أمام الموت، وكأنها اختارت الموت بمحض إرادتها دونه، أما جلال الإبن، فقد ثار على أمه بأثر رجعى، فهى لم تخنه بموتها (وقد بلغت الثمانين)، وإنما خانته بما صاغته فيه، حين صنعته نقيض ما هى، وما هو .
وتأتى ثورته صريحة مباشرة ضد كل ما فرض عليه، تأتى بعد مشاهدته، فيقينه بهذه الحقيقة الموضوعية الأولى: عارية مجردة، يقول لدلال الغانية، العشيقة الجديدة ( زينات الحقيقية):
كرهت حاضرى وذكرياتى، حتى التجارة والربح، ومشاكل البنات المتزوجات، وكرهت ابنى شمس الدين الذى يعمل سواقا عندى، وكأنه حمار يسوق حمارا، وكرهت أمه التى يمضى محصنا ببركاتها، ورأيتها تستنزفنى بغير وجه حق، كما استنزفتنى أمى من قبل..(إلخ ….أنظر بعد)
فيقين الموت هنا، واقعا ماثلا، قد فاجأ جلال الثانى برغم بلوغ أمه الثمانين وهو فى الخمسين، ومحفوظ بذلك يذكرنا أن جلالا الابن لم يضع موت أمه فى الحسبان، أنكره فى غيبوبة الاعتماد والكبت، ثم حين فوجئ به، رغم كل التوقعات، كاد تحوله يقول إنه لم يولد من قبل، وكأن ظهور الموت هنا بهذه الصورة المــفــاجئة، بلا مفاجــــأة، وبشكل مباشر-هو الوعى بحقيقة الحياة، ومن ثم محاولة اللحاق بها، ولكن، كيف ؟
(3) ضد الموت؟
هذا هو الموت كما تصاعد حتى تجسد، وسحق، وأرهب، فأنكره جلال ابتداء، بدلا من أن يخاف منه، أو يحزن له، أو ينجح فى أن ينساه، أو يتصور أنه يفعل.
فما هو مقابل الموت؟ وكيف عالجت الملحمة هذه القضية ؟، وكيف المسار؟
يبدو أن الحياة، مجرد الحياة، ليست هى المرادف الحقيقى لما هو: ضد الموت.
فمن الموت تتفجر الحياة.، وكأن الموت هو هو صانع الحياة.
الموت، كما تقدم، هو حركة، بعكس الشائع عنه، إنه عدم وسكون
فإذا كانت حقيقة الموت هى الباعث للحياة، وهى المبرر والدافع لاستمرار الحركة، وهى المسئولة عن إعادة التخلق وتفجر الوعى ، فما السكون؟ وما الضد لما هو موت؟
فى الواقع أن نجيب محفوظ ألمح إلى عدة احتمالات أغرت بأن تكون هى الضد المحتمل، منها على سبيل المثال:
التكية، و الخلاء، وأحيانا الظلام، والظلمة، وأقل من ذلك الفراغ.
وفيما عدا التكية بسكونها وأناشيدها المعادة، لا نجد سكونا يقدر أن يكون ضد الموت بكل زخم دفعه كما صورته الملحمة، حتى التكية، فإنه يكسر سكونـها غموضها، ذلك الغموض الذى يسمح للخيال أن ينسج حولها، وفى داخلها ما يكاد يحييها .
وكل هذه المقولات والمواضيع هى موضوع دراسة لاحقة، ومكملة، لكننى فى هذه المرحلة سأكتفى بأن أشير إلى أن الخلود، كما قدمته الملحمة، هو السكون الجاثم، وهو الموت الحقيقى كما يشيع بين الناس.
وكأن الأولى بمن يرى ويتيقن-أى بنا إذا فعلنا-أن يخاف الخلود (عكس الموت) لا أن يخاف الموت . وكأن مأساة الإنسان الحقيقية ليست هى الموت بما هو شائع بمعنى العدم، فى مقابل حياة بما هو شائع بمعنى الاستمرار على وجه الأرض لا فى بطنها، وإنما القضية الأولى بالاهتمام والنظر، هى السكون فى مواجهة الحركة.
كذلك فإن الفضية -من ثم- ليست هى أن نولد بيولوجيا، ثم نقضى هذه الحقبة من الزمن المحدود التى ستنتهى بيقين، وإنما هى أن يكون فى يقيننا بالنهاية ما يجعلنا نولد مرة أخرى، بمجرد أن نعى موتنا.
بهذا تكاد تصبح الحسبة أنه لا معنى لولادة تنتهى بموت، إن آجلا أو عاجلا، فالموت بالصورة الشائعة يلغيها حتما، لكن الولادة تبدأ حين نعى الموت، فنتخلق بالحركة، لنتصاعد بالإبداع، والاستمرار فيمن يلى، وليس بأنفسنا.
فهل يا ترى قالت الملحمة ذلك حقيقة ؟
وكيف كان ذلك ؟
(4) الحركة / الزمن / التفجير
4/1: لا دائم إلا الحركة. هى الألم والسرور. عندما تخضر من جديد الورقة، عندما تنبت الزهرة، عندما تنضج الثمرة، تمحى من الذاكرة سفعة البرد وجلجلة الشتاء.(ص247)
بهذه المباشرة، وفى قمة وسط الملحمة، أقرها نجيب محفوظ، وحددهـا، وقدمها، لكن كل ذلك لا يجعلنا نقر أنه بسطها أو سطحها.
لكن الحركة تبدو ذات أبعاد ودلالات متغيرة يستحسن الوقوف عندها حتى لا تختلط الأمور:
فثمة حركة راتبة متعاقبة، مثل مرور الأيام وتتالى الليالى.
وثمة حركة دائرية مستعادة، فيها من التغير والتفتح بقدرما فيها من التكرار والانتظام، مثل تغير الفصول، ودورات السنة. لكنها فى أغلب الأمر عود على بدء.
وثمة حركة متفجرة مغامرة، تعلن إعادة الولادة، والقفز فى المجهول الرائع إلى الجديد الواعد، متضمنة المخاطرة بالقديم، بغض النظر عن النتيجة إن بناء، أو هدما. لكنها تحمل فى الحالين من مقومات الحياة المتجددة ما يجعلها المقابل الحقيقى للسكون.
ثم ثمة حركة ممتدة عبر الأجيال، تقاس وحدتها الزمنية ليس فقط بطولها، وإنما بما تحويه من معانى التغييرالكيفي. وهى يمكن أن تحمل إيجابيات الحركات السالفة الذكر، ولكن على مدى أطول، وشمول أعم.
وسنتناول كلا منها بما تسمح به هذه المقدمة.
أما الحركة الراتبة المتعاقبة، فهى الزمن بمعناه التتابعى الـملاحق. (وليس الزمن بحضوره المكانى القابل للتخلق: ” الممرالعابر بين الموت والحياة”).
بل إن هذه الحركة الراتبة هى أقرب إلى السكون، ولم يعتن نجيب محفوظ بإظهارها لذاتها، بل كانت تطل من ثنايا الإيقاع، أو تستنج بالسلب من أحاديث الرتابة، ومسار العجلات الصامتة.
فالتكية كانت بمثابة جدار الزمن الثابت، ففضلا عن أنها تمثل رمز خلود غامض، كانت تمثل تحدى الهمود المرفوض فى الآن نفسه.
وتشبيه عاشور بالتكية ” نما نموا هائلا مثل بوابة التكية “، ثم اختفاؤه الواعد بالرجوع، له دلالة مبدئية لمانقول، فإن كانت التكية هى جدار هذا الزمن الراتب، فعاشور الناجى الأول هو طواره إن صح التشبيه.بل إن صراع شمس الدين مع زحف الزمن قرب النهاية، فى صورة معركته الإرادية مع ابنه وصف كالتالى (ص132):
شعر شمس الدين أنه يغالب السورالعتيق، وأن أحجاره المترعة برحيق التاريخ تصكه مثل ضربات الزمن.
فتكثف سور التكية العتيق، مع صلابة ابنه سليمان- برغم أنه ابنه-وتقدمه زاحفا بفعل تتالى الأيام، مع ما هو زمن يمضى دون توقف، يجسد الماضى فى المستقبل فى جدار الزمن (التكية) المتحدى، وقد راح شمس الدين يصارعه.
وهذا الزمن الراتب، عاجز فى ذاته، ولكنه باعث فى الوقت نفسه إذا بلغت حدة الوعى بحقيقته، ومآله (الموت) ما يكفى لإعادة التخلق، الولادة. ولننظر فى عجز التكية- رمز الزمن الراتب والخلود السلبي-
(ص19): إنهم يتوارون، لا يردون … فتر حماسه، انطفأ إلهامه.
ثم انظر إلى تعرية سلبيتهم:
(ص5): ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟ أليس عندكم دواء لنا؟ ألم يترام إلى آذانكم نواح الثكالي؟
ثم (ص66): سكتت الأناشيد، وتلفعت بطيلسان اللامبالاة
وثمة إيقاع لاهث، لكنه راتب أيضا: مثلا:
وأنجب مع الأيام حسب الله، ورزق الله، وهبة الله،وفى أثناء ذلك يتوفى المعلم زين وزوجه، وتزوجت البنات.
فنلاحظ أن الأشخاص الهامشيين كانو يظهرون فى رتابة ليختفوا فى رتابة، وكأن ذلك مقصود لذاته، ولإظهار هذا البعد الخاص حيث يعلن أن من يستسلم للمألوف ورتابة الزمن، سوف يمضى بلاتاريخ:
(ص449): وتمر أيام رتيبة ومريحة فى حياة جلال عبد الله وأسرته، ويعرف الرجل بالطيبة والأمانة وحسن الخلق والورع. ويتوفر له الرزق، وعشق العبادة……وتدل البشائر على أن هذه الأسرة ستشق طريقها فى يسر وبلا تاريخ”
هنا نقف كما ينبغى عند: بلا تاريخ.
وبرغم أن الأسرة لم تمض فى هذا المسار كما أوحت البدايات (وإن طالت خمسين عاما)، ورغم أن الانقلاب وإعادة الولادة لم يكونا فى اتجاه البناء، فإن هذا الزمن الراتب المتتالى، الماضى فى يسر، هو والعدم سواء. فمن لم يع ذلك فولد ومات، فكأنه ما ولد وما مات، أما من استيقظ أمام الوعى بالموت، وبالرتابة، فهو مطلق مارده الوليد من غيابات المجهول، أو عباءات العفاريت، ثم يكون ما يكون، وهذا ماحدث لجلال الإبن حين واجه موت أمه، ولجلال الأب حين واجه موت خطيبته (أنظر فيما قبل)
4/2: الحركة الأولى للزمن هى تلك الحركة الراتبة اليسيرة الهامدة المتتالية المعادة، التى هى ليست زمنا، بقدر ما إن نهايتها: الموت ليس عدما، فالعدم هو ضد الوجود، والذى يستسلم لهذه الحركة الراسخة الهامدة لم يوجد أصلا.
لكن الحركة الأخرى الأكثر وعدا، وخلقا، وتحريكا: هى حركة فى دورات، دورات الحياة، اقترنت فى الملحمة أساسا- ولكن بوصفها مجرد أرضية- بتتالى الفصول:
(ص194): لو أن شيئا يمكن أن يدوم، فلم تتعاقب الفصول؟
فهل يعلم القارئ أن هذا السطر الناقص قد أخذ رقم فقرة 45 فى الحكاية الثالثة من ملحمة الحرافيش: الحب والقضبان؟ هكذا مستقلا دون زيادة … !!!
وفى بداية الحكاية الرابعة:
(ص199): الشمس تشرق الشمس تغرب، النور يسفر الظلام يخيم
وهو يكرر مجئ الفصول بما هى علامات زمنية محددة فى أكثرمن موقع:
(ص230): وجاء الصيف زافرا أنفاسه، إنه يحب ضياءه..
(ص321): ودارت الشمس دورتها . تطل حينامن سماء صافية، وحينا تتوارى وراء الغيوم.
(ص355): ما يمر يوم إلا نرى الشمس وهى تشرق، ثم نراها وهى تغرب وما على الرسول إلا البلاغ.
كان هذا الحديث بالذات من أم هشام الداية، ردا على اعتراض زهيرة-الظاهر على الأقل-على طلب نوح الغراب القرب منها (أى قرب، بأى ثمن)، اعترضت زهيرة قائلة:- ألا ترين أنى زوجة وأم. فردت أم هشام الداية هذا الرد الدال، الذى انتهى بأنه: ما على الرسول إلا البلاغ (وكأن نجيب محفوظ قد قالها أيضا فى الحرافيش، وفى غيرها).
هنا إعلان ضمنى أن شروق الشمس اليومى فغروبها ليسا دليلا على حركة معادة، أو دائرة مغلقة، وإنما هو إعلان لدورات الطبيعة الموازية لدورات الحياة المفتوحة النهاية بشكل أو بآخر.
والفيضان، بوصفه مواكب لفصل بذاته، ودالا عليه هو علامة من علامات دوران الفصول، ولكنه ليس -بداهة-مجرد إعادة عقيمة، بل هو إعادة تحمل الحياة للأرض والزرع والناس جميعا، هو زائر فصلى معاود نعم، لكنه ولادة متجددة، وإن كانت دورية محددة، فهو أبدا ليس نسخة مكررة.
(ص354): وعندما وفدت الفلاحات يبشرن بالفيضان، ويبعن البلح، كانت زهيرة تعانى ولادة عسيرة أنجبت فى أعقابها راضى الإبن الثانى لها من محمد أنور.
ونرى الفيضان هنا، مع بشارة الفلاحات، مع الولادة العسيرة (من محمد أنورعلى التحديد)، كلها أحداث متوازية شديدة الترابط والدلالة على حيوية الدورات لا تكرارها، وعلى ارتباط ما هو طبيعة بما هو بشر، بما هو فرد، فى حلقات متداخلة فى نمط مواز بشكل أو بآخر.
وقد أعلن محفوظ بعد الإخفاق الأكبر لتجربة الخلود على يد زينات الشقراء، أن دورات الفصول ليست بهذه السلاسة التى تبدت فى أول الملحمة، بل إن الفصول حين تختل القوانين، فيلوح الخلود قسرا، ثم يقهر سفحا، إن الفصول تصبح كيانات متصارعة رغم تلاحقها:
(ص439): واستنامت (زينات) إلى نسائم بشنس، وقالت لنفسها إنه شهر غدار، سرعان ما تدهمه الخماسين، فينقلب شيطانا مغيرا يفتك بالربيع.
جاء هذا عقب أن قالت لنفسها:
إن الشر يرفع الإنسان إلى مرتبة الملائكة.
فهذه الحركة الدائرية ليست هى هى إعادة مكرورة. وإنما هى من ناحية: تعلن طبيعة الاستعادة القادرة على الإحياء والبسط، من ناحية أخرى تؤكد فرص المضى تصعيدا من خلال الفروق الكيفية، التى مهما ضؤلت فهى خطوة دالة خطيرة، إذن تعلن إستحالة عكس إتجاه الدورات:
(ص477): وثمة حقيقة تنشب أظفارها فى لحمه وهى أن الأمس لا يمكن أن يرجع أبدا.
جاء هذا فى سياق مأزق شمس الدين (الثانى) بين إبنه سماحة، وحميه سنبلة. والتى إنتهت بالتحام الأب مع الإبن-بالصدفة-وكأن هذا الالتحام دعوة للإستمرار رغم كل شئ (رغم الخلاف، والاختلاف، والذعر، والصفقات)، وكانت هذه النهاية التصالحية من أجل الاستمرار قد أشير إليها ضمنا بالهاتف القائل.
(ص481): لا تقتل إبنك، لا تدع إبنك يقتلك.
دعوة صريحة إلى مواكبة الزمن. ولكن ما الزمن؟ وكيف؟
على أية حال، فقرب النهاية يعلن محفوظ أن هذه الدورات المتلاحقة تحمل فى داخلها حسم التغيير حتى وإن بدت معادة، يقول:
(ص526): وحلت تغيرات حاسمة مثل تغيرات الفصول الأربعة.
غير أن هذه التغيرات الحاسمة كانت فى هذه المرحلة خارجية على أية حال، حيث كانت الإشارة بها إلى ما حل بحليمة البركة وأولادها من ربيع الناجى (آخر جيل فى الحرافيش) بعد عودة فايز من غربته ليرفلوا فى أثواب الوجاهة والأبهة، وما بلغنى هنا أنها تغيرات خارجية على كل حال، وكأن التغيرات الفصلية هى، فى أغلب ظاهرها أقرب إلى تغير المناخ، لا إلى طفرة التخلق الجديد كما سيأتى ذكره فى نوع آخر من الحركة.
4/3:
“لا تنفصل قضية الزمن، عن قضية الحركة بأنواعها”:
فالزمن الراتب المتتالى (مجرد مرور الزمن متتابعا) هو حركة خامدة، وإن كانت مرعبة بما تعد نهايتها: الموت العدم ( المفهوم الشائع)
والزمن/ الدورات هنا يعنى أن كل شئ يتحرك، وأن كل شئ يعيد نفسه فى الوقت نفسه، فإن كانت الدائرة مغلقة، فهو بعد لا يختلف فى حصيلته عن سابقه (الراتب)، أما إن كانت مفتوحة فهى دورات الحياة، بما تعد.. فتعيد.. لتدفع.
لكن للحركة بعدا آخر، أدق دلالة وأشد خطرا.
(5) الولادة الجديدة
مهما بدأ الزمن راتبا خاملا، فإن الوعى بخموله، دفع إلى عكس ذلك.
قد يمضى فرد دون ذكرى أو تاريخ، قد تتوالى أيام دون أحداث، وقد تعود دورات وكأنها هى هى، لكن كل ذلك هو ظاهر ليس إلا، ومهما بدا الخمول وفترت المشاعر الظاهرة. فثمة توترات كامنة، وثمة تراكمات تتجمع فى يقين متصاعد، وثمة طفرات واعدة، سرعان ما تتكاثف لتندفع، وهى فى ذلك لا تتبع ظاهر الأشياء إلا جزئيا، وإنما تمضي-تحت الظاهر ومعه- فى تضافر له قوانينه الخاصة المتجددة أبدا.
وهذا البعد المتجاوز لما هو راتب تتابعى، هو حصيلة ما هو متراكم متضافر، بقدر ما هو طفرة مكثفة لما هو دورة خلاقة. وهو المرادف للتغيرات النوعية فى تاريخ الأحياء من جهة، ولطفرات الإبداع فى أطوار البسط من جهة أخرى، وبلغة الزمن لعله يكون أقرب إلى ما يمكن أن يسمى الزمن/ البدء المتجدد.
وقد حذق نجيب محفوظ فى أغلب أعماله تقديم هذه النقلات النوعية، سواء فى صورة التحول المفاجئ والنوعى فى مسار شخصياته فى رواياته الطويلة والأطول، أو فى صورة دفقات الوعى فى قصصه القصيرة
وكنت أتوقع أن تكتمل هذه الخاصية المميزة لمحفوظ فى الحرافيش، بوجه خاص، وقد كان.
5/1:
أول تحول دال، ومميز، كان تفجر عاشور أثر رؤيته فلة، وهو يسلخ ولديه عنها:
(ص38): قال له بخشونة، وهو ينتزع عينيه منها.
(ص38): انتزع عينيه منها مرة أخري.
(ص38): فى ظلام الحارة تنفس بعمق، شعر بأن سراحه قد أطلق، وأنه تملص من قبضة شريرة. الظلام كثيف لا عين له.
(ص38): شعر وهو يشق الظلام أنه يودع الطمأنينة والثقة، هاهو تيار مضطرب يلفه فى دوامته، وهو يساوره الخوف كما يساوره النوم، وقال لنفسه: إن البنت بهرتهم بجمالها، وقال أيضا: إن البنت قد بهرتهم بجمالها الفتان.
وحين قال: لماذا لا يتزوج الحمقي؟(كان داخله قد قرر أمرا دون أن يدرى هو به بعد).
وحين أضاف: أليس الزواج دينا ووقاية؟
كان يحاول أن يخفى قراره عن نفسه من جهة، وأن يعمم الأمر على فلة وعلى أولاده من جهة أخري.
فهذه النقلات تحدث فى الظلام، والظلام عند محفوظ غير الظلمة، فهو الجانب الآخر للوجود.
(ص41): الظلام مرة أخرى، يجسد فى القبو…. ينطق بلغة صامتة يحتضن الملائكة والشياطيين، فيه يختفى المرهق من ذاته، ليغرق فى ذاته.
ثم يستشعر عمق القرار وصلابته فلا مفر فيردف:
إن قدرة الخوف على أن ينفذ من مسام الجدران فالنجاة عبث.
وهذا تعبير من أدق ما يمكن أن يوصف به داخل الذات (المرموز له هنا: بالقبو) فما أهون معارك الخارج مثل معركته مع درويش، أو معركته لتخليص أولاده. أما وقد صار الأمر فى داخل الداخل، فمع من تكون المعركة؟ فلا نجاة، أو… لعلها النجاة !!!
خرج الداخل إلى الوعى، الظاهر، أو اخترق اللاشعور الشعور أو وبتعبير محفوظ: خرج من القبو إلى الساحة.
فماذا تحرك من الداخل فى هذه النقلة- تحركت أمه.
والأم عند نجيب محفوظ من أهم ما يمثل الآخر، كما أنها مقومات شخوص الداخل ذى الدلالة المتميزة، وهى تطل علينا من داخل عاشور الناجى الأول رغم أنها لم تكن أبدا فى وعيه، لم يرها أبدا حقيقة مرئية مدركة.
وهو يتذكر أمه الحقيقية فى موقع ما أثير من تفجر حيوى يقع الجنس فى جوهره، ولا يتذكر أمه بالتبنى، سكينة زوجة الشيخ عرفة زيدان.
ونلمح قدرة محفوظ على إعادة تشكيل ما سمى خطأ الموقف الأوديبى، وصحته حنين الرحم، أو نداء الأرض، فطوال الملحمة، والأم تظهر بعنف مقتحم، وبحضور يستحيل تجاهله، وهى عادة ما تظهر مع دفقات الجنس والحب الغامر الدافق، تظهر بكل قوتها وجذبها ودلالتها، سواء كانت حاضرة بجسدها أم غائبة، إلا من حقيقة موقعها بداخل الداخل، وحقيقة توحدها مع الأرض الرحم، وكانت أدق هذه المواقف-مما قد يحتاج إلى أن يفصل فى دراسة لاحقة مستقلة-هى علاقة شمس الدين بأمه فلة، وصراع أمه مع عجمية، ثم ارتباط نقلة جلال الأول (الأب صاحب الجلالة) بموت خطيبته وما أثارته هذه اللحظة من إستعادة مقتل أمه ومنظر رأسها المهشم، وتكتمل الصورة حين ترتبط نقلة جلال الثانى، وإعادة ولادته بما هو تراجع وانحراف، وهو فى الخمسين من عمره بعد فقد أمه زينات الشقرا وهى فى الثمانين، فيرتمى فى حضن دلال الغانية، وكأنه يستعيد علاقته بأمه الغانية، عشيقة أبيه، بعد فوات الأوان.
ولعلنا نكتفى هنا أن نشير إلى أن محفوظ، وله ما له من علاقة شديدة الخصوصية بأمه شخصيا، قد تجاوز فرويد تجاوزا لا جدال فيه، بل إنه تجاوزه من قبل فى رواية مهمة من أولى رواياته وهي” السراب” التى يعدها أغلب النقاد الرواية التحليلية النفسية بوجه خاص، فقد ربط بين الأم والجنس والحب، دون الحاجة إلى مناورات تنافسية مع أب قادر وبأقل قدر من الشعور بالذنب.. ومن ثم عقاب الذات.
وها هو ذا عاشور يذكر أمه وهى لم توجد أصلا فى وعيه ولو لحظات عابرة، لكنه يحدد شكلها، وإغراءها، وعودها:
(ص41): ” لكى تحتدم المعركة لابد من بشرة صافية، وعينين سوداوين مكحولتين، وقسمات دقيقة مثل البراعم. لابد من الرشاقة والسحر وعذوبة الصوت، وقبل ذلك لابد من القوى الخفية المتدفقة المناسبة…“
إلى أن قال، إذ يعمم:
“ومن يتزوج الحياة فليحتضن ذريتها المعطرة بالشبق“.
أليست الأم هكذا هى الحياة، ولكن ليس بمعنى أننا نقوم بعملية تجريد أو ترميز ماسخة، بل على العكس، إن محفوظا، بذلك، يقوم بعملية تعيين لما يمكن أن يجرد من خلال الخوف والرمز والنواهى دون داع، فالحياة جسد (إنظر قبلا)، وأولى بنا أن نرى الجسد أما معجونة بماء الشبق، من أن نفرغها من حيويتها خوفا من مواجهة نبضها.
ومع كل هذه المواجهة الطبيعية المبررة بحقيقتها الموضوعية، فكل ذلك لا يكفى تفسيرا (أو تبريرا لما يمر به)
(ص42): “فلا مفر من أن تعترف بأن ما حدث لا يمكن أن يصدق. وأن تعانى إحساس المطارد إذا سبق“.
(لاحظ هنا ان المعاناة هى معاناة الخلاص، فقد قال: إذا سبق، ولم تكن المعاناة لأن مطارده قد يلحقه) ثم يؤكد محفوظ أن التعيير ليس مصادفة، ولا هو خطأ مطبعى كما قد يخيل لبعض القراء بما أورده بالصفحة التالية:
“وسرعان ما استنام إلى الهزيمة جذلان بإحساس الظفر“
هذه النقلة ليست ميل هوى، أو تغيير مذاق، أو قرار تحول، ولكنها التغير النوعى الصارخ والدال، وبنص ألفاظ الملحمة، فعقب كل ما سبق اقتطافه يردف محفوظ:
(ص42): “ها هو مخلوق جديد يولد مكللا بالطموح الأعمى والجنون والندم. ويسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمر الفتن“.
كان هذا أول ميلاد جديد، وأهميته القصوى أنه بدأ من البداية، بدأ بعاشور الأول، فى داخل داخله.
لم ينتظر حتى تتشابك المسائل وتتعقد العلاقات ويحتد صراع الخير بالشر، أو يقتل الأخ ثم يعلنها: إن الولادة الأخرى محتملة، فضلا عن إنها حتمية، بل طرحها من البداية فى عاشور الكبير، وكأنها طبيعة أساسية لما هو بشر.
ثم إنها لم ترتبط جذريا بمعركة بين الخير والشر كما أعيدت صياغتها فى أولاد حارتنا مثلا، بل هى معركة الحياة كيفما اتفق والحياة كما تتفجر لتعيد بناءها، معركة الرتابة والتجدد، بل إنها ليست معركة بمعنى التضاد بقدر ما هى إطلاق ما هو طبيعة ثانية بوعى متجدد، بل إنها طبيعة أولى تكاد تكون أصلا، لأنه بغيرها تمضى الحياة بلا ذكرى، ولا اكتشاف، ولا تاريخ.
5/2
أما شمس الدين (الأول) فقد عاناها فأجهضها.
بداية، لم تكن ثمة معركة مع أبيه أصلا، بل لعل حضور أبيه فى كيانه فى السر والعلن هو السبب فى اجهاض ولادته المحتملة.
(ص112): “أجل إن عاشور الناجى هو أبوه، ولكنه يمثل فى الوقت ذاته حقيقة أكبر من الأبوة، وهو يهيم بهذه الحقيقة أكثر من الأبوة نفسها، هى محور حياته، ومعقد أمله، سر افتتانه بالعظمة الحقيقية“.
وهذا يبدو أصعب فى اعاقة الحركة تحديا فانطلاقا فمغامرة.
نتج عن هذه العلاقة أن تمركز أبوه فى الداخل مقبولا جاثما، بالحب، لكنه جاثم على كل حال، فهل تركت له أمه فى الخارج مساحة للحركة اللازمة لتفجر محتمل؟
(ص112): “اعترف شمس الدين بأن أمه قوية وعنيدة، اعترف أيضا بأنه يحبها ويحترمها، لا باعتبارها أمه فحسب ولكن بصفتها أرملة عاشور الناجى أيضا“.
فماذا تبقى له ليفعلها؟
حين أحاط به الزمن، رغم قدرته على الاحتفاظ بكل ما يقنع الآخرين- دونه- أنه ليس عرضة للشيخوخة، حين أحاط به مرور الزمن:
(ص136): ” دارت برأسه أفكار شيطانية وسرعان ما هرع إليه عثمان الدرزى. أفاق من جنونه فتلاشت نواياه المستهترة، استسخف سلوكه. كلا. لن يتحدى الهواء. لن يتمادى فى ارتكاب الحماقات، ستسنح فرصة فينتهزها. ستعرض تجربة فيخوضها“.
وكما قلنا من قبل، لم تسنح فرصة، ولم تعرض تجربة، فقد أجهضت فرصة ولادة جديدة قبل أن توجد أصلا.
5/3
وثمة نقلات واضحة تكاد تكون من النقيض إلى النقيض، وكان يمكن الوقوف عندها بوصفها نقلات كيفية، إلا أنها لا تمثل الولادة الجديدة فى عنف حضورها، لكنها تذكرنا- أيضا- بالتغيير الكيفى الذى لا تشير إليه المقدمات. مثل زواج محاسن البولاقية من حلمى عبد الباسط أو حتى مثل جنون ضياء ودروشتها، فضلا عن النقلات الطبقية، أو الاقتصادية، مثلما حدث عند استيلاء عاشور الناجى الكبير على بيت البنان، أو عند إفلاس بكر الناجى.
وحتى الانتحار، فانه يعد اجهاضا لإعادة الولادة المحتمل (ولهذا حديث مستقل لاحق).
وقد أوردت هذه الفقرة الإعتراضية لتوضيح الفرق بين ما أعنيه من إعادة الولادة، وما يمكن أن نلحظه من مجرد التغير الظاهر.
5/4
أما النقلة الصارخة التالية فجاءت فى اتجاه معاكس، أو قل: فى اتجاه له انحرافه الخاص، هى نقلة وحيد (ابن سماحة الناجى من محاسن البولاقية)، وبرغم التمهيد لها، وطبيعة سماحة الغاضبة الخاصة المستغرقة فى الخيال حتى قال له عمه رضوان.
- احذر الخيال واقبل على العمل!-
رغم هذه المقدمات فإن النقلة حدثت وكأنها مفاجأة، بدأت إرهاصاتها(مثل كثير من النقلات الدالة طوال الملحمة) بحلم، وكان الحلم فى هذه المرة صادرا عمن لا يهمه الأمر، وليس عن صاحب الشأن (بعكس أحلام أخرى مباشرة كثيرة، وخاصة حلم عاشور الناجى عرفة زيدان)، كان حلم ضياء امرأة عمه (الهائمة على وجهها فى جنون هادئ): أنه يمتطى جرادة خضراء، ثم تفسيرها لهذا الحلم، وهى تجيب نفسها (أكثر مما تجيبه):
انه إنما “خلق للهواء“.
ثم: من الحلم إلى الإلهام (كالعادة):
(ص263): “عندما استيقظ وجد نفسه مفعما بالإلهام“.
والإلهام هنا- وفى هذه المواقف-لايقف عند الإيحاء بفكرة، أوإضاءة زاوية رؤية، وإنما يتخطى هذا وذاك إلى فعل، إلى تغيير مفاجيء، شئ أقرب إلى السحر أو المعجزة.
“لم يشك انه قادر على المعجزة (وإن لم يتبين بعد طبيعة المعجزة)، وانه يستطيع أن يقفز من سطح الدار إلى الأرض دون خوف من الكسر“.
ويستقبل الناس هذه النقلات عادة على أنها الجنون ذاته،إذ عادة ما تكون المسيرة إلى تفكك، لكن أن يترتب عليه قفزة فى الهواء حقا، ثم لا يكسر، فهو الفعل الخارق الدال على ما نقول به من ولادة تغير المسار نوعيا فعلا، وهذا ما كان حين تحدى وحيد الفسخانى الفتوة، فصارعه-فجأة- وانتصر(بيده المسحورة!!) واعتلى عرش الفتوة فى نهار واحد.
5/5
ونستطيع أن نتابع بسهولة نقلات زهيرة، وتصاعد طموحاتها منذ أول زواجها بعبده الفران، ثم انتصارها على العواطف والشهوة ورسمها حتى تزوجت محمد أنور، فأحلامها بالفتوة (النسائية) بدت من البداية، لذلك فنحن لا نجد فيها التغير النوعى الواحد المحدد الذى نعنيه هنا بالولادة الجديدة، وإن كنا نلحظ بسهولة ماوراء هذه النقلات المتتالية من طموح، وثورة، وكلها تشير إلى داخل متفجر ومتوثب لا يهدأ.
(ص332): “باطنها يتغير ببطء، ولكن بثبات وإصرار“.
وحتى هذا البطء، لم يكن بطئا.
(ص 332) ” يتمخض كل يوم عن الحركة، كل أسبوع عن وثبة، كل شهر عن طفرة، إنها تكشف ذاتها وراء طية، تنبثق من جوفها أنواع شتى من المخلوقات المتحفزة الصارمة. وتحاكم فى الخيال أمها وزوجها ومسكنها وحظها، تحقد على كل ما يطالبها بالرضا على حكمة الأمثال وعطف الهانم وفحولة الرجل“.
فانظر برغم أنها موجات متلاحقة من الثورة والتغيير إلا أن حدوثها على مراحل متتالية فى الاتجاه نفسه: طموح وراء طموح، يعلن ما وراءه من طفرة مصغرة وراء طفرة مصغرة، إلى حد عدم إعلان الطفرة النوعية الكبرى التى نعنيها فى هذا العرض لإعادة الولادة .
وتتلاحق هذه الطفرات حتى لا تكاد تتوقف، حتى أنه من كثرة تلاحقها وما تترجم إليه من أفعال، وزيجات، وتقلبات اجتماعية وطبقية، من كثرة كل ذلك تصبح مثل نبضات القلب فى كثرتها، وحيويتها، وتتاليها.
(ص362): ” وعند كل نبضة تتشكل صورة براقة تخرق كل مألوف“.
وتتميز هذه الطفرات المتعاقبة بأن إرادة زهيرة الواعية تمسك بعجلة قيادتها بقدر متميز من التحكم، استجابة لقفزات التحرك الداخلى، ورسائله فالداخل يحفز، لا يفرض نفسه بنوع جديد تماما من الإدراك، فالنقلة، وزهيرة تلتقط هذا التحفز، وتسير به فى دروب الوعى بإرادة محكمة، لتؤكد التغير حلقة بعد حلقة، فى اتجاه يكاد يكون معلنا من قبل، وتظل تحافظ على الإتجاه نفسه طول الوقت.
وتتأكد الإرادة فى نقلات زهيرة فيما بعد:
(ص354): “إنها تطمح إلى اكتساب حق. فى سبيل ذلك وطئت قلبها بلا رحمة،. فى سبيل ذلك تحس أحيانا بجيشان الجنون السامى فى قدح من الخمر المقدسة“.
فتقرر- فى حلم يقظة- الانقضاض على عزيز الناجى، وسرعان ما تحقق حلمها من خلال حسن استيعابها لتفجرات الداخل، وقدرتها على صياغتها واقعا عيانيا يواصل مسيرتها.
5/6
أما نقلة عزيز، وعلى الرغم من أنها شديدة الإرتباط بآخر طفرة لزهيرة -الطفرات المترجمة أولا بأول إلى طموحات محققة-، فهى من حيث المبدأ أقرب ما تكون إلى نقلة عاشور الكبير التى انتهت إلى الزواج من فلة، وهى قريبة من النقلة المجهضة لشمس الدين الكبير، وذلك من حيث التوقيت (السن) والاتجاه، (الجنس والزواج أو احتماله)
(ص376): “وأغرب الجنون ما يصيب المرء فى كهولته“.
5/7
أما الولادة/ المارد/ الجنون، فهى ما حدث لجلال الكبير عقب أن اختطف المجهول قمرا خطيبته دون أدنى تمهيد أو تبرير.
وقد أشرنا إلى بعض تفصيلاتها ونحن نتحدث عن مواجهة الموت، فقرة 2 /1.
ولا مفر من إعادة، مع اختلاف السياق:
(ص401): ” شعر جلال كأن كائنا خرافيا يحل فى جسده“
(أنظر كيف كانت النقلة بيولوجية ذات لغة جسدية- لا مجسدة)
“إنه يملك حواس جديدة ويرى عالما جديدا غريبا“
(لاحظ تواكب الجدة والغرابة)
“عقله يفكر بقوانين غير مألوفة“
فالعقل يلحق بنقلة الجسد النوعية، فالجنون تغير فى الكيان الحى/الجسد، الذى أحد وجوهه ما هو عقل، وليس الجنون ذهاب العقل ابتداء.
ومن خلال ذلك ينفصل عن الواقع حتى ينكره، لكن انكاره ليس كاملا حتى يعفيه من استقباله بكل تحديات “الآن” إنه إنكار حاضر.
“إنه ذكرى لا حقيقة، موجود وغير موجود، ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن قطعه“
وإذا كان عاشور الناجى الكبير قد ولد فيه مخلوق جديد إثر تحريك الجانب الآخر(الأم/الغريزة/الحياة)
(ص42): “ها هو مخلوق جديد يولد مكللا بالطموح الأعمى والجنون والندم. ويسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمر الفتن“.
فإن جلال قد أعاد استعاد الخبرة مضاعفة مغتربة مقتحمة، أثر تحريك العدم/ القهر/ الرفض، لا تحريك الحياة.
(قارن: ” مخلوق جديد يولد مكللا بالطموح الأعمى” بـ شعور جلال بأن كائنا خرافيا يحل فى جسده)
وإذا كانت زهيرة- أمه- قد تلقت طفرات الداخل باستيعاب فإرادة فتحقيق، فإن جلال قد تلقى الانسلاخ مضاعفا مكثفا ساحقا غائرا مغيرا فى جرعة واحدة.
(قارن (ص332): “يتمخض كل يوم عن حركة، كل أسبوع عن وثبة، كل شهر عن طفرة عند زهيرة“.
أو (ص362): ” وعند كل نبضة تتشكل صورة براقة تخرق كل مألوف“.
بـــــ: “ يد غطت الوجه فأغلقت باب الأبدية، تهدمت الأركان تماما“.
فالنقلة هى النقلة، والولادة هى الولادة، ولكن شتان بين ولادة نتيجة تحرك، تفجر وانبعاث فى اتجاه حياة، وقرار واستيعاب، مهما بدت النتائج شاطحة ومستغربة فى أولها(عاشور الناجى) وبين ولادة فى طفرات متلاحقة تسبقها وتلحقها إرادة طموح (زهيرة)، وبين ولادة تسمح لكائن خرافى أن يلبس فجأة وتماما كل الكيان الحالى المتجمد حتى العدم من هول الفقد والخيانة، خيانة القدر(جلال)!!!
وقد ترتب عن هذه الولادة أمران:
أولا: الرفض فالإنكار: “كلا”- ثم:- لا أحد يموت (أنظر قبلا).
ثانيا: الجنون “ضلال الخلود” (انظر بعد)
5 / 8
أما ولادة جلال الثانى إثر موت أمه عن ثمانين سنة، فقد جاء أكثر مفاجأة، وأقل تفسيرا، فقد يكون مفهوما أن سلب جلال الأب خطيبته بدون وجه حق، بعد تهشيم رأس أمه أمامه كفيل بأن يفقده توازنه، فيتجمد ظاهره، فيحل فيه الكائن الخرافى.
أما موت الأم وهى فى الثمانين، وابنها فى الخمسين، فهو أقل قبولا كتفسير لكل ما حدث من نقلة نوعية جسيمة وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.
على أية حال: “ما يهمنا هنا هو انها ولادة جديدة“، وإن كان مسارها لم ينته إلى جنون صريح، أو زواج ثان، فقد جرى فى اتجاه انطلاق شبقى واندفاع تلذذى يعلن التخلى عن البلادة والرتابة لا أكثر.
(ص450): “أما الأعجب من ذلك فهو ما حصل له عقب انقشاع الكآبة، لقد ولد شخص جديد مجهول الأصل“.
وحكاية مجهول الأصل هذه تستدعى وقفة جديدة قديمة، إذ علينا ألا ننسى أن عاشور الأول كان مجهول الأصل من حيث ولادته الحقيقية، وأن إعادة الولادة -مهما بدت مبرراتها- تبدو لأول وهلة مجهولة الأصل، منفصلة عن أسبابها، لكن بالنظر فى تفاعلات الكمون نتبين أن ما هو مجهول هو الأصل من حيث حقيقة التركيب البدئى وتفصيلات التفاعل وما حدث خلال حركية الزمان.
وهذا البعد هو ما يؤكده فى قوة هذا النوع من الحبك الروائى حيث يساعدنا على تجاوز ما سمى بالشخصية النمطية، و الحتمية السببية التى غلبت على النقد فترة من زمان.
أما أنها ولادة، فهى ولادة بنص الألفاظ، وولادة بطبيعة التغير:
“وكان يخفق بصدرى قلب جديد، كرهت حاضرى وذكرياتى“.
حتى قال:
“وثار القلب، والعقل والكبد وأعضاء التناسل، وهتفت بشرى للشياطين“
(قارن عاشور الناجى حين استشعر الولادة: “يسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمر الفتن بهذه الولادة: بشرى للشياطين!:”
ولا نجد ما نختم به هذه الفقرة أدق، أو أدل مما دار بين دلال، وجلال الإبن
- “إنك ألذ رجل فى العالم..
فقال بثقة:
سمعت أن الرجال يولدون من جديد فى سن الخمسين..
فقالت بيقين:
ومرة أخرى فى الستين والسبعين.
6- المقدمات.... و المسارات:
لا تسمح هذه الدراسة المقدمة بالتمادى فى إيضاح أطوار إعادة الولادة كما قدمها نجيب محفوظ فى الحرافيش خاصة، إلا أننى أجد من الضرورى الإشارة إلى تتابع المراحل على الأقل لحين الرجوع إليها مع إكتمال الدراسة بتفصيل أكثر:
أولا: فثمة استعداد خاص لهذه الولادة، بهذه الصورة المتبادلة، وما جاء طوال الرواية من اشارات إلى أن عائلة الناجي-بوجه خاص- تمثل: سلسلة من الدعارة والإجرام والجنون بالإضافة إلى صور الجوع إلى السلطة فى شكل الفتوة الغاشمة والظلم حتى القتل.
وهى فى الوقت نفسه عائلة تمثل سلسلة من المناجاة الصوفية، والتوق للعدل، وإطلاق إسار قوة الحياة، لإرساء دعائم الحق. فهل يا ترى هذا الاستعداد بشقيه خاص بأسرة الناجى أم أنه يمتد إلى سائر الناس؟
من رأينا أن ثمة عائلات تتميز بهذه الطاقة الحياتية المتدفقة المبدعة المدمرة فى آن واحد، أكثر من غيرها، وهذا ما يسمى الاستعداد الوراثى، لكن الملحمة ترينا أن هذا فى ذاته ليس استعدادا للجنون بقدر ما هو استعداد لوفرة حياة، أو زخم مخاطر، أو مفاجآت تدمير.
وبالرغم من أن هذا التركيب يخص عائلة أكثر من غيرها، إلا أنه بالتتبع الدقيق نتيقن أنه نمط عام لكل الناس، مع فارق الجرعة، وحدة النقلات، وبسطها على عدة أجيال، أو تكثيفها فى جيل واحد، أو فرد واحد.
ثانيا: إن ثمة أحداثا مرصودة، أو مغفلة، تتجمع وتتفاعل مع هذا الاستعداد المتحفز، وقد أشرنا إلى ذلك كلما سنحت الفرصة وقد نعود إليه فى دراسة لاحقة بتفصيل أشمل.
ثالثا: إن ثمة تغيرات مفاجئة، تبدأ بطفرات الداخل، مثارة أو غير مثارة بأحداث الخارج، ثم الولادة الجديدة.
رابعا: إن مسار الولادة الجديدة ليس دائما واحدا، بل إنه يتراوح بين تجدد الشباب (مثل:عاشور الأول) والرضا بالإنسحاب (مثل شمس الدين الأول) وسرعة الانحراف (مثل وحيد، وجلال الثانى) والجنون المطبق (جلال الأول).
خامسا: إن التغييرات فى السلوك، مثل تقلب محاسن البولاقية، أو ما طرأ على بكر الناجى فى بدايات الملحمة، أو على فايز الناجى قرب نهايتها، ليس مرصودا بوصفه إعادة ولادة مما تعنيه هذه الدراسة، وإن كنا لا نستبعد مثل ذلك من بعد أعمق، كل ما أريد توضيحه بهذا الاستطراد، هو أن المسألة ليست مسألة تغير نوعى فى السلوك، سواء إلى الإنحراف (فايز الناجى) أو الجنون (مثل ضياء الشبكشى)، وإنما التركيز لتوضيح طبيعة النقلات كما ظهرت فى الملحمة، بلا اعتراض على التعميم الحذر فى مجالات دراسات علمية أخري.
سادسا: إن إعادة الولادة لها علاقة وثيقة بالحدس التنبؤى و الحلم كارهاصات دالة، كما أن لها علاقة بالجنون الصريح كمسار محتمل وكل هذه الأمور قد وردت بتتابع وأناة وتفصيل وتنويع طوال الملحمة، على نحو يعد مما يعتبر إضافة تأكيدية لكل هذه الاتجاهات المعرفية، نفسر بها بعض الفروض والنظريات العلمية، أكثر مما نثبت بها طول باع محفوظ فى الإلمام بها.مما يستأهل المزيد من الدرس التفصيلى، الذى نأمل العودة إليه مستقبلا.
7 – .. فى مواجهة يقين الموت (.. ضلال الخلود )
فلما كان الزمن هو الحقيقة الماثلة، والموت هو اليقين الثابت، ووعى الإنسان بهذا وذاك هو التحدى المصيرى، أصبحت مسيرة الإنسان الفرد (بما يترتب عليها من احتمالات التأثير على مسيرة (الإنسان النوع) أصبحت متوقفة على:
كيف يواجه الإنسان- فردا- هذا التحدى اليقينى الكيانى فى آن واحد؟
وأحسب أن هذه هى قضية نجيب محفوظ فردا، ومبدعا.
7/1
وأول ما تناولته الملحمة فى مواجهة يقين الموت هو رفض إعلانه، بديلا عن رفضه، فما إختفاء عاشور الناجى الكبير إلا تعبير عن ذلك.
ويمكن ربط هذا الحل الأقرب إلى الوهم بفكرة الحياة الآخرة من جهة، وفكرة المهدى المنتظر من جهة أخرى مارين بقضية رفع سيدنا عيسى عليه السلام.
وقد عبرت الملحمة عن هذه القضية بشكل مباشر وغير مباشر كما شاء لها نجيب محفوظ.
وما ان قارب عاشور الناجى الأربعين حتى أعلن-باللفظ-أن فكرة الخلود تراوده، وكان ذلك مرتبطا بشكل مباشر بالموت ” القرافة”.
(ص27): “كان يحمل فوق كاهله أربعين عاما، وكأنها هى التى تحمله فى رشاقة الخالدين“.
بل إن تبادل العلاقة بالزمن (يحمل السنين أو تحمله) قد أوحى إلى منذ البداية بما يقدم عليه محفوظ فى تطور ملحمته من الوقوف على هامة الزمن للتحكم فيه، بديلا عن مواكبته، ناهيك عن التسليم له، أو إلغائه، ولا أتصور أنها كانت هكذا محسوبة مسبقا فى كامل وعى محفوظ، لكنها أطلت (هكذا) منذ البداية.
لكن لنر ماذا لحق- فورا- بتعبير رشاقة الخلود التى وصف بها محفوظ الناجى الكبير فى الأربعين؟
“همسة فى باطنه جعلته يحول عينيه نحو ممر القرافة فرأى رجلا يخرج منه يسير فى تكاسل“.
(كان هذا الرجل هو درويش زيدان، ابن الشيخ عفرة زيدان، رمز الشر الغبى واللذة العاجلة)
أليس فى هذا التلاحق ما نريد إيضاحه من دلالة؟
ثم تسير مسيرة عاشور كما ذكرنا، وهو لا ينسى الموت، ولا يفتعل الخلود، وهو أول من تساءل:” لماذا تخاف الموت يا عاشور؟”
ثم إنه كان منطقيا مع الحياة برغم ذلك، حتى وهو يهرب من الموت بمغادرة الحارة فورا من الطاعون، برغم اعتراض زوجته الأولى وأبنائه منها، وتنبيه شيخ الحارة له ألا يهرب.
وتكرر ظهور عاشور الناجى فيما يمثله (من عدل، وقوة، وتحد، وانطلاق، وتفجر، ووعود، وتناسق مع الغيب، وسعى إلى ما بعده)
كما تواتر القول بعودته شخصيا:
(ص93): ” وأصر أناس رغم اليأس على أنه سيرجع ذات يوم“.
حتى قالت سحر الداية لفتح الباب (ص489) وهى تحكى له أسطورة جده:
“كما أنقذه الله من الموت“ وتفصل ذلك فى الصفحة التالية:
” ــ .. وطال اختفاؤه حتى آمن الناس بموته، أما الحقيقة التى لا شك فيها فهى أنه لم يمت“.
ثم يعود محفوظ يعلن خلود عاشور الكبير فى سياق موقف ضياء
(آخر جيل الحرافيش، شقيق عاشور الناجى الأصغر) يعلنها.. حين يقول عن خروج ضياء:
(ص519): “…. خرج إلى الظلام، مسوقا بقوة خفية نحو ساحة التكية، نحو خلود جده عاشور”.
إذن فقد ظل هذا الحل بالإنكار، والتأجيل قائما منذ البداية حتى النهاية.
وفى الصفحة نفسها كانت ثمة مقابلة بين اختفاء عاشور الناجى، والزمن الذى لا يتوقف وقد جاءت المقابلة نصا، وفى سطور منفردة، هكذا:
“ لقد اختفى عاشور الناجى”.
“ولكن الزمن لن يتوقف، وما ينبغى له“.
وكأن الملحمة برغم كل هذا التكرار، والتأكيد، إنما تضرب هذا الحل إبتداء، بقولها إننا إذا نجحنا فى أن ننكر الموت، بإبدال الاختفاء به، فلن ننجح فى أن نوقف الزمن، فالتحدى قائم وممتد ولن يعفينا منه أن نسمى الموت اختفاء ونروح ننتظر من لا يعود.
وكذا تعرى حل “المهدى المنتظر“.
7/2
ومنذ استوعب شمس الدين اختفاء أبيه، وهو يواجه المشكلة نفسها، فجاءت دعوة أمه له وكأنها تقرأ الغيب: “فليمد الله فى عمرك حتى تلعن الحياة“ وجاء رده:
“ استودعك الحى الذى لا يموت “
ويبدو هذا الحوار الباكر بمثابة تنبيه ضمنى لعبثية الخلود إلا لمن هو الله.
وعاش شمس الدين عمرا طيبا حتى لعن الحياة حقاحين رفض أن يتقدم فى العمر بمعنى الضعف داعيا ” أن يسبق الأجل خور الرجال” متمنيا أن يكرمه الله بالإختفاء مثل أبيه وهو فى غاية القوة والكرامة.
وكأن شمس الدين فى محاولته الإبقاء على شبابه، بالطرق الصحية والطبيعية، كان يقدم الحل العادي-إن صح التعبير-وإن كان لم يستطع أن يوقف ظهور علامات التقدم فى السن( رمز: الشعرة البيضاء، فالاغماءة العابرة)
ثم نكتشف أنه مهما نجح الشباب المتأخر، والاستقامة، والحفاظ على الصحة (مثل الأساليب الحديثة فى التخسيس، والعدو..إلخ)-مهما نجح كل هذا، فما هو إلا تأجيل، وليس أبدا حلا للموت القادم لامحالة.
و يعلن شمس الدين وهو وجها آخر يوقظه فينا يقين الموت، وهو ما يفرضه على الباقى منا بعد زميله من وحدة قاسية. فها هو ذا شمس الدين يقولها صريحة فى صيحته عند موت زوجته عجمية.
(ص138): “ لا تتركينى وحدى”.
7/3
تبدو المحاولة الثالثة فى مواجهة الموت كأنها حل مجازى إن صح التعبير، حل يقول: إنه ما دام الإنسان ميتا ابن ميت فليتكرر فى أبنائه من صلبه، ونلاحظ هنا كيف أن الملحمة لم تدع مجالا إلا وأشارت إلى هذا الحل، سواء بتكرار الأسماء، أو بتكرار السمات، فثمة عاشور وعاشور (البدء والنهاية) وثمة شمس الدين وشمس الدين وشمس الدين، وثمة سماحة وسماحة إلى آخر ذلك.
وكلما اعتلى عرش الفتوة من يشبه عاشور (مثل فتح الباب) أو من يعد بأن يشبهه (جلال قبل أن يعلن جنونه)، ارتفعت الأصوات أن عاشور رجع.
فكأن هذا الحل هو الحل العادى، بل لعله أقرب إلى ما هو عادى من محاولات استبقاء الشباب والصحة (شمس الدين)، لكنه حل بالنسبة للنوع، وليس حلا بالنسبة للفرد، اللهم إلا إذا توحد الفرد بنوعه، ولا يتم ذلك - طولا- إلا إذا توحد بناسه-عرضا-وليس فقط بأبنائه من صلبه، فالمشكلة هنا-كما تطرحها الملحمه، وكما هي- هى فى وعى الفرد بنهايته فردا، مع عجزه عن التوحد باستمراره نوعا.
ويبدو أن هذا الحل هو المبرر للإنجاب/ فالتوريث فى النظامين الدينى، والرأسمالى، ولكن التطبيق يجعله مبررا للخلود بالإستيلاء على وسائل البقاء، وليس على مسئولية الاستمرار إلى أفضل.
وهذا عراه أيضا محفوظ فى الملحمة:
(ص412): سأل راضى جلالا
“لم لا تتزوج يا أخى؟
………………
- لم الزواج يا راضى؟
– إنه المتعة والأبوة والخلد.
فضحك جلال عاليا وقال: ما أكثر الأكاذيب يا أخى!”
واندفع أكثر فأكثر للحل التالى:
7/4
وهو محاولة الاحتماء بالمال والسلطة ضد الضعف فالموت، أى فى اتجاه خلود ما.
ولكن أى خلود هذا؟ إنه خلود نسيان النهاية من خلال الإغماء فى بهر القوة المتزايدة أو الغيبوبة فى لين رفاهية مخدرة.
وقد ضربت الملحمة هذا الحل طوال الوقت برغم أنها لم تبرزه فى ذاته بوصفه حلا فى مواجهة الموت بشكل مباشر.
على أن الملحمة قد كشفت خواء الثراء فى ذاته ولا جدوى الجنس المنفصل عن الوجود، وقصر عمر الوجاهة المتعالية، وخواء الرفاهية المانعة، وانتهاء مفعول الخدر المؤقت، كشفت كل ذلك بإلحاح يغنينا عن إعادته، إلا إننا سنختار مثالين صارخين لإخفاق هذا الحل تماما:
صورتان أظهرتا هذا الحل ثم ضربتاه وعرتاه بشكل صارخ:
الصورة الأولى هى صورة نهاية سليمان شمس الدين الناجى التى بشعها محفوظ حتى بدت كاريكاتيرا منفرا.
(ص153): “ومضى يمتلئ بالدهن حتى صار وجهه مثل قبة المئذنة، وتدلى منه لغد مثل جراب الحاوى“.
فإذا تذكرنا تعبيرا سبقت الإشارة إليه وهو: “رشاقة الخلود”، يصف به عاشور الناجى الأول وقد بلغ الأربعين، لفهمنا إعلان إخفاق هذا الحل بتقديم هذه الصورة المقززة المنفرة، والتى أكملها بأن أوقعه العجز فى شلل نصفى بضعة أعوام، وفى عته عقلى (ص167): (وقد هجرته معانى الأشياء) ثم فقد نفسه أيضا
(ص.17) وتلاشت الدوافع والمعانى وتأكد أن الصورة المنفرة مقصودة حين يعيد تصويرها بعد أعوام:
“وظل يزحف على عكازين، ويجمد فوق أريكة مثل قدر المدمس“.
ثم تنتابه(سليمان) حكمة لم يعرفها فى حياته ليلخص فشل هذا الحل:
فقال: “إن الإنسان لعبة هزيلة والحياة حلم“.
الصورة الثانية للحل نفسه تبدو فى بداية إدعاء جلال الأول الفتوة:
حين فقد جلال قمر (بعد فقد أمه طفلا) فاهتز كيانه، وأعلن رفضه، وانمحى الآخرون من وجوده، وأعلن من ناحية أنه ” لا أحد يموت” (ص403)، ثم “هام بالمستحيل” (ص404) قبل أن يتبين ما هو المستحيل هذا، حين حدث كل ذلك انفرد بنفسه وتحدى فأعلنها.
” نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف” (ص405)، حين حدث ذلك وانطلق بالكائن الخرافى الجديد بين ضلوعه فكان قوة خارقة:
“اعتلى الفتونة بعد أن حسم المعركة فى ثوان مع سمكة العلاج.
ثم أصبح يتحرك بإلهام القوة والخلود“
دون أن ندرك حتى هذه اللحظة: كيف انتوى أن يثبت مقولته هذه “اننا خالدون مالم نضعف أو نستسلم أو نجن“ ؟
بدا الأمر فى البداية أنها القوة، والاستغناء، القوة من كل مصادرها: ” غذاء الفتوات وتاج القوة والسيادة” والاستغناء عن الناس بإلغائهم والتعالى على كل العواطف مصدر كل حاجة وضعف.
“ ليس ثمة قوة تتحداه، ولا مشكلة تشغله، تركز تفكيره فى ذاته، تجسدت له حياته فى صورة بارزة واضحة المعالم و الألوان“.
لكن سرعان ما أعلن ضمنا أن هذا الحل الذى فرض نفسه فى حدود قوانين الحياة العادية، وهو اجتماع الثروة، والقوة، والسلطة، والإستغناء، أعلن أنه: ليس حلا، لأنه لا يمنع الموت، بل إنه أدرك أنه حتى بفرض استعمال كل هذا لإرساء العدل، وتعميم الخير، كما فعل عاشور الناجى الكبير، لن يكون هذا حلا أيضا، ما دام الموت ما زال يترصد لجلال (ظالما) وللحرافيش (مظلومين) لا يملكون إلا الرضا حتى بالموت.
“– إنهم يموتون كل يوم وهم مع ذلك راضون“.
ويخفق هذا الحل ” العادى” فيطل علينا التمادى فى الرفض الذى أعلنه عقب موت قمر مباشرة أن: “كلا”
وكل غير ذلك، على الطرفين، هو الغباء بعينه.
السلطة والقوة ليستا حلا، سواء كان من ملكهما هو العدل بعينه أم هو السلطة الغاشمة:
لقد انتهى سمكة العلاج كما انتهى عاشور، انتهيا إلى اللاشئ، وعلى من يستعيذ ألا يستعيذ من الكفر.بل:
“– أعوذ بالله من اللاشئ” (ص410)
نعم، غدا جلال “أكبر فتوة، وأكبر تاجر، وأغنى غني” (ص410)
لكنه:
“– …لا يغرنك (يا أبى) ما بلغت، واعلم أن ابنك غير سعيد“.
“الظاهر متألق ينضح بالقوة والسيادة والنهم، والقلب: أجوف تتلاطم فيه رياح الكآبة والقلق.
جمع الإتاوات، وتقبل الهدايا.. وشيد العمارات، كما شيد دارا خيالية سميت القلعة وفرشها بفاخر الثياب، وحلاها بالتحف كأنه حلم الخالدين“.
آه ها هو ذا يعلن ينص الألفاظ أنها المحاولة الفاشلة المخفقة لخلود مخفق.
ثم بنص لاحق أكثر صراحة:
“لقد غرق فى خضم الحياة الدنيا ولكنه لم يغفل قط خداعها، كان: كأنما يتحصن ضد الموت، أو يوثق علاقته بالأرض حذرا من غدره“.(ص412)
وكان على يقين منذ البداية-برغم تماديه-من فشل هذا الحل العادى المبدئى، كما كان على يقين من إخفاق الخلود فى الأولاد، أو عن طريقهم،
“سيرث المال قوم آخرون وهم يغمزونه بالسخريات، ستعقب الانتصارات الباهرة هزيمة أبدية“.
ويقبل دعوة زينات الشقرا، ويلوح الجنس بحل مبهج.
“- أقول لك إن الحياة ليست إلا الحب والطرب“.
وأتوقف عن الاستطراد هنا، فأنا لا أريد أن أفرد للجنس (فى الملحمة) موقفا خاصا كحل مستقل، فهو يحتاج إلى دراسة مستقلة لاحقة متى سنحت الفرصة، وإنما أكتفى بضمه هنا إلى ما يمكن أن يسمى الحل بالاستغراق فى الوسائل مع تعتيم النظر فى العواقب والغايات، وحتى تلميحات زينات الشقراء إلى أن اللذة لا تذهب معنا بل يمتصها الجسد والروح ولا يرثها أحد، هذه التلميحات تبدو لجلال مهربا تبريريا سخيفا مثل قولها اللاحق عن الموت
“ إنه علينا حق، وإن كنت لا أحب سيرته“ (ص415).
7/5
“ الانسحاب فى خلود ماسخ (الرهبنة/التكية).
كما قلنا أن جدار التكية هو جدار الزمن الصامت، نذكر بأن كل نداءاتها الغامضة، وأبوابها التى لا تفتح، وتساؤل عاشور الناجى عما إذا كانوا يحسون بما لحق بالحارة من طاعون أم لا، وأين يذهب موتاهم إن كانوا يموتون أصلا، كل ذلك فيه إشارة إلى إخفاق التكية بديلا عن الحارة برغم الإغراء بالسلام، والوجد فى الألحان، والهدوء الساحر، والهمس الواعد.
وبرغم أن محفوظا لا يشجب هذا الحل صراحة، بل إنه يكاد يدافع عنه، ليس فقط فى الحرافيش، وإنما فى تكرار صورة الدرويش فى كثير من أعماله، فإنه فى عمق بذاته يكشفه، وقد يعرضه ليقوم بدور تعريشة لالتقاط الأنفاس، أو محطة لإعادة النظر، لكنه سرعان ما يعريه بوصفه حلا فرديا تماما، بل حلا خادعا فيه من الزيف أكثر مما فيه من التفاعل الحركى الخلاق، يعلنهاجلال الأول فى موقفه من التكية بعد أن أطبق عليه المارد الخرافى بعد وفاة قمر:
(ص402): “باستهانة طرق الباب . لم يتوقع ردا. عرف أنهم لا يردون . إنهم الموت الخالد الذى يتعالى عن الرد“ .
ولا أحسب أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الإفصاح، ولكن هذا ليس شجبا للتكية فحسب، وإنما هو شجب للخلود ضمنا، وهو يعلن من مدخل آخر ان الخلود هو الموت. أليس هو السكون والثبات مهما صدحت الأنغام وانسابت الأناشيد ؟
7/6
أما الحل المجنون جنون العقم والوحدة فهو طلب الخلود الفعلى لفرد بذاته ضد كل القوانين، وبالذات ضد حركة الزمن. وهذا ما أسميناه ضلال الخلود:
وقد اقترن هذا الحل بشرطين منذ البداية (هما فى العمق شرط واحد) هما: الكفر، ومؤاخاة الجن.
ويبدو أن جلال وهو يغامر بدفع الثمن، كان يلوح له أنه، بشكل أو بآخر، يمكن أن يتجاوز هذه الشروط بعد أن يضمن الخلود، لم يـظهر هذا صريحا فى نص المتن، لكنـه، لأمر ما بلغنى متلقيا، ربما لتعاطف خاص مع جلال فى محنته.
تمثل جلال جانب الخلود دون سواه من سيرة جده الأول عاشور الناجى:
قال جلال وهو يحاور المعلم عبد الخالق:
“- إنى أعتقد أنه (جده عاشور) مازال حيا“
وواصل:
“– وأنه لم يمت“.
ولم يسمع لقول المعلم:
“إن الموت لا يخطئ الصالحين وإنه لايتطلع للخلود مؤمن“
ثم يتطورالحوار إلى مواجهة صريحة، وقبول كل الشروط، ولا ينفع التحذير:
جلال:
“– إنك تخاف الخلود“
عبد الخالق:
“يحق لى ذلك، تصور أن أبقى حتى أشهد زوال دنياى، يذهب الناس رجالا ونساء، وأبقى غريبا وسط غرباء، أفر من مكان إلى مكان، أبيت مطاردا أبديا، أجن، أتمنى الموت“.
“- وتنجب أبناء وتفر منهم، وكل جيل تعد نفسك لحياة جديدة، وكل جيل تبكى الزوجة والأبناء، وتتجنس بجنسية الغربة الأبدية“.
ولكن جلالا لا يهمه كل ذلك مقابل:
- “وتحافظ على شبابك إلى الأبد“.
لكن المسألة خرجت عن دائرة التحذير، والمنطق، خرجت من زمن بعيد، فقد بدا أن هذا هوالطريق/ المخرج الأوضح من كل حسابات والأقوى من كل عقل.
ثم إن المحاولة بدأت بعد النهاية، لم يكن جلال يبحث عن حل لحياته، بل كان يبحث عن شكل لموته، القائم فعلا، فقد بدا أنه انتهى بنهاية قمر.
(ص409): ” تجسدت له حياته فى صورة واضحة المعالم والألوان حتى النهاية العابثة، بدءا من رأس أمه المهشم، ومعاناة الحارة المهينة، وموت قمرالساخر، وقوته المهيمنة بلا حدود، وقبر شمس الدين الذى ينتظر الركب راحلا فى أثر راحل“.
ما جدوى الحزن؟ ما فائدة السرور؟ ما مغزى القوة؟ مامعنى الموت؟ لماذا يوجد المستحيل ؟
(لاحظ أنه لم يقل لماذا لا يوجد المستحيل !!! وإنما لماذا يوجد)
فقد راح بعد ذلك يحقق مستحيلا هو على يقين من وجوده، وإن كان لا يعرف معنى لوجوده لأنه ضد الطبيعة، مهما وعد وحل.
لم تنفع الحلول التسكينية بالقوة، فالسلطة، فالجنس، لأن ميتا مستعليا وحيدا هو الذى يمارسها.
ومنذ بداية جلسته عند الشيخ شاور، اتضحت فصلة هذا الحل المجنون عن الواقع الحى:
“وجد نفسه فى ظلام حالك، حملق فلم ير شيئا كأنما فقد الزمان والمكان والبصر“.
لكن فقد الزمان شيء، وأن الوقت يمضى شئ آخر، فبعد سطر واحد:
“مضى الوقت ثقيلا خانقا“.
وأيضا فى الحوار بدا التسليم مطلقا منذ البداية
عاد الصوت:
“- ماذا تريد؟”
أجاب (جلال) متنازلا عن كل شيء:
”- الخلود“.
وبعد تحذير عابر
” ستتمنى الموت، ولن تناله“.
يأتى القبول بقلب خافق (من الخوف أو من النوال)
“– ليكن!”
فتعطى له الوصفة كاملة: بالعزلة عاما لا ترى أحدا ولا يراك إلاخادمك، تجنب ما يذهلك عن نفسك
(ويلاحظ هنا في-جملة اعتراضية – كيف أن جلالا بعد كل هذه الثورة، لم يستطع أن يكفر، كما رجحنا)
كما يلاحظ أن شاور نفسه طلب منه ما يوقفه على جاريته حواء حتى تنفق من ريعه على تكفير ذنبه.
فرفض الكفر هنا، أو نفيه، ربـما يرجعان إلى موقف نجيب محفوظ أكثر من رجوعهما إلى طبيعة الموقف، أو لعلهما يفسران نقطة الضعف فى تجربة الخلود هذه بمايبرر إخفاقها على يد سم زينات فيما بعد.
أما أن هذا الخلود هو الموت عينه (مثلما كان خلود التكية: الرهبنة / الهرب) فقد أعلن محفوظ ذلك منذ البداية على لسان الناس.
(ص429): “وكأنه الموت وقد انتزع فتوتهم منهم”
أما المئذنة المستقلة بلا زاوية ولا جامع، فهى رمز رائع ومباشر لخلود عقيم، وهى إعلان آخر أننا أمام الموت لا الخلود.
ولما كان الموت الحقيقى ليس عدما، بل علامة وقوف مؤقت على طريق حركة ممتدة، ولما كان اليقين بحقيقته هو الدافع لتجاوزه بقبوله والحركة فى اتجاهه بما يتجاوز العدم الذى يهدد به سوء فهمه، فإن الموت الذى يرعب، فنفر منه بلا طائل هو شئ آخر، هو كل ما هو ضد الحركة والتغير، هو إيقاف الزمن، هو هذا الخلود (الموت الحقيقى).
وقد كان هذا الحل يشمل كل مظاهر الموت العدمى فعلا:
الحرمان من الناس، واقتلاع جذور العالم الخارجى، والتركيز على الذات، منفردة ومطلقة.
كل ذلك تأكد وتعمق من خلال علاقته بالزمن بما هو كيان متحد زاحف، لا مهرب منه إلا بإيقافه، والسيطرة عليه:
“عاشر الزمن وجها لوجه بلاشريك، بلا ملهاة ولامخدر”.
لا لم تكن معاشرة بل مواجهة.
“واجهه (الزمن) فى جموده وتوقفه وثقله“
لا.. لم يكن فى جموده ميتا بل إنه كيان “شيء” يتحدى:
“إنه شئ عنيد ثابت كثيف“ .
وبدل أن يتحرك الزمن مارا به أو حاملا إياه ( تذكر قول الملحمة عن عاشور الكبير إذ بلغ الأربعين: “كان يحمل فوق كتفه أربعين عاما، بل وكأنها هى التى تحمله”).
راح جلال يمسك مقود الحركة من يد الزمن ليسيطر على حركته حتى يوقفها:
“إنه هو الذى يتحرك فى ثناياه كما يتحرك النائم فى كابوس إنه جدار غليظ مرهق متجهم“.
ثم تتراءى الحقيقة التى تدور حولها الملحمة منذ البداية:
“كأننا لا نعمل ولا نصادق ولا نحب ولا نلهو إلا فرارا من الزمن“.
وتصل قمة المواجهة فى تعبير محفوظ:
“أما اليوم وهو يزحف فوق الثوانى فهو يبسط راحتيه سائلا الرحمة“.
ولايصبره على آلام هذه التجربة المجنونة إلا ما يؤمل به نفسه من أنه:
“عندما يدركه الخلود، سيجرب آلاف الأعمال بلا خوف وبلا كسل، سيخوض المعارك بلا تدبر. سيسخر من الحكمة كما يسخر من الحماقة، سيتقلد ذات يوم عمادة الأسرة البشرية“.
ما زلنا (ص430) ويخدع نفسه أكثر حين يؤكد لها:
“إنه مؤمن بما يفعل، لن يتراجع، لن يخشى الخلود، لن يعرف الموت“.
ويتجاوز- فى أمانيه التى يصبر بها نفسه- فصول السنة:
(ص431): “سيظل الكون خاضعا لتقلبات الفصول الأربعة أما هو فربيع دائم”.
ويمنى نفسه أيضا بتجاوز قانون الكون الحالى لأنه:
“سيكون طليعة كون جديد، أول مستكشف للحياة بلا موت، أول رافض للراحة الأبدية”
ويتصور، أو يصور لنفسه، أن الخوف من الخلود، هوالخوف من الحياة:
“إنما يخشى الحياة الجبناء“
(فيستسلمون للموت كما نعتهم منذ قليل (ص405): ” نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف“، وهذا هو هوما فصله عنهم استعلاء: إنى أحتقر الناس )
ومع بلوغ القصد، وتثبيت الضلال، يمتلئ ثقة بالوصول إلى بغيته، دون أن يختبر ذلك: فاليقين هنا لا يحتاج إلى اختبار مثله مثل كل الضلالات.
(ص431): إنه ثمل بروح جديدة تملأ أعطافه، تسكره بالإلهام، تنفخه بالقوة والثقة”.
وتمتد قدرته إلى اختراق أسوار الآخرين (وهذا عرض آخر دال) دون استئذان:
“بوسعه أن يحدث نفسه فيحدث الآخر” (فى آن).
وحين يعدد المكاسب تبدو كلها فى اتجاه ما تمنى، إلا الأخيرة منها يقول:
“لن يبتلى بالتجاعيد ولا بالشيب والوهن“ (فيذكرنا برعب جده شمس الدين)
“لن تخونه الروح، لن يحمله نعش، لن يضمه قبر، لن يتحلل هذا الجسد الصلب“ (فيذكرنا بموقفه من موت قمر و يعيده)
وفجأة يكمل:
“ لن يذوق حسرة الوداع“
فنتساءل: كيف؟
إنه إذ يخلد.. فإن كل من سواه يفارقه كما نبهه الـمعلم عبد الخالق، ثم إنه إذ حصل على الخلود، لم يفكر ثانية فى أن يمد هذا الاحتمال إلى غيره، حتى ممن يحب أن يؤنسه، فكيف أنه لن يذوق حسرة الوداع، الأولى أن غيره ببقائه حيا هو الذى قد لا يذوق حسرة وداعه مادام (جلال) لا يموت.
ولا أريد أن أعتبرها سقطة لمحفوظ، ولكننى أتصور أن جلالا فى لحظة انتصاره المجنون هذا ..قفز إلى مكان ما من وعيه أصل الدافع إلى هذا الجنون: وهو هزيمته أمام موت قمر، وما صاحبه من حسرة الوداع، وكأنه بذلك يقول أنه لما انتصرعلى الموت كأنه استرجع قمر، لأنه هزم من هزمها، فلن يذوق-بذلك-حسرة الوداع...
أو لعله خلط يعلن بداية تخلخل الجنون بعد يقين الضلال.
وهو يعلم أنه الجنون، فبصيرته مازالت حادة بقدر كاف. فهو يتساءل بعد انتصاره، يسأل مؤنس العال:
“ألم يظن أحد بى الجنون؟“
ولا ينفعه انتصاره فى استعادة العلاقة مع الآخرين الذين ألغاهم من زمن، رغم الفتونة والقوة والنصر، ولا يزيده محاولات اقترابهم منه إلا إحساسا بالرفض والكراهية.
“ما أكثر الكره وما أقل الحب“
ويتوحد مع المئذنة بإعلان مباشر:
“سيفنى كل شئ فى الحارة، وتبقى هى”
ويعترف أبوه بذلك:
(ص437): “أصبح غريبا بين الناس غرابة المئذنة بين الأبنية. إنه مثلها قوى وجميل وعقيم وغامض“.
وفوق المئذنة يزداد انفصاله عن الناس الناس:
“كل شئ تحته غارق فى الظلام، لعله لم يصعد ولكن قامته طالت كما ينبغى لها. عليه أن يرتفع، أن يرتفع دائما“.
“وفوق القمة تسمع لغة الكواكب، ومسارات الفضاء، وأمانى القوة والخلود،
ثم يتوحد بالكون ذاته:
“من هذه الشرفة يستطيع أن يتابع الأجيال فى تعاقبها،…وأن ينضم بصفة نهائية إلى أسرة الأجرام السماوية“.
لم يعد بشرا !!!
ثم تأتى النهاية على يد زينات الشقرا
فبداية تعرى إخفاقه أمامها وهو فى عز انتصاره
وقالت لنفسها: “إنه فقد قلبه كما فقد براءته، وانه لا يتباهى وهو لا يدرى بقسوته مثل الشتاء“.
ومرة أخرى يفقد منطقه التسلسل0 فكما ذكر منذ قليل أنه لن يذوق حسرة الوداع، وليس ثمة ما ينتظره إلا الوداع، يرجع فيقول لزينات الشقرا إنه يعمل بنصائحها الغالية حول قصر الحياة.
أى قصر وأية حياة وقد بلغ-فى تصوره-مبلغ الخلود؟
وتلتقط زينات خرفه
وقالت لنفسها:”إنه لا يدرى ما يعنيه كلامه”
لكنها تضيف: “وأن الشر يرفع الإنسان على رغمه إلى مرتبة الملائكة”.
وهذا أيضا تعقيب يحتاج إلى إعادة نظر، لعلنا نستطيع التكهن بما تعنى زينات فى هذا الموقف، أهى الملاك إذ ستخلصه بالقتل مما آل إليه، إذ أنها إذ تقتله.. تعتبر ذلك بمثابة: أنها تنتحر بوعى وإرادة ولا تفعل إلا الخير له، ولها وللناس؟ أم أنها تعنى أن خرفه وكلامه الذى لا يعنيه بالنسبة لشكرها على ماتقوله بشأن قصر الحياة، هو عكس ماتراءى له من إمكانية الخلود فهو بذلك، وهو على قمة قمم الشر (بما هوخلود) قد تراجع إلى تواضع الضعف فبدا ملاكا؟
لست أدرى.
وتأتى النهاية حين أعلنته (وهى تنتحر بقتله)
“– الموت يطل من عينيك الجميلتين“.
فيرد بعناد
“– الموت مات يا جاهلة“
ثم يموت على حافة حوض الدواب، جثة عملاق بيضاء ملقاة بين العلف والروث.
وبموت جلال يعلن إخفاق آخر الحلول، “الحل بالجنون”.
ولعله من المناسب أن نلاحظ أن الوحيد فى الملحمة الذى عمر حتى ناهز المائة كان شخصا عاديا، سكيرا طيبا، فحلا حاضرا، تائبا متزنا، وهو عبد رب الفران (والد جلال الأول)
كذلك ماتت زينات الشقرا (أم جلال الإبن) عن ثمانين عاما.
فهل يريد محفوظ أن ينبهنا إلى أن الشخص العادى، الذى يواجه الموت العادى لاأكثر ولا أقل.. هو الأطول عمرا، إن كان طول العمر هدفا تسكينيا فى ذاته؟.
8 – الخاتمة ..
ليس من مهمة الملحمة أو الرواية أن تقدم مخرجا لمأزقها، أو مأزق الحياة، أصلا.ومع ذلك فقد بدا أن محفوظ يهمه أن يقدم حلا ما، بل لعلى لا أبالغ حين أقول أنه بدا وكأنه ملتزم بذلك.
ولعل أضعف ما فى هذا العمل هو نهايته، ونظرا لأننى أحببت هذا العمل عدة مرات بعدة سبل فى عدة مواقف، وأننى كلما عدت إليه ازددت حبا فيه، فإننى أميل ألا أشجب خاتمته فى هذه الدراسة المقدمة، وأكتفى بالتنبيه إلى بعض مايمكن النظر فيه:
فقد جاءت نبرة الخطابة فى الخاتمة عالية نسبيا، وإن لم تخل منها الملحمة طوال المسار
وقد وجه عاشور الأخير جهده لحمل الناس، لا القائد الفرد، على تحمل المسئولية برمتها، ولكن بصورة لا تتفق مع ما أوحت به الملحمة طول مسارها من خطورة دور الفرد بشكل يحتاج إلى جهد أكبر ومعاناة إبداعية بلا توقف، فى محاولة الخروج من مأزق لا يبدو له حل حتى فى التنظير الفلسفى أو السياسى المباشر، أما أن يعلن الإبداع الروائى (وهو متقدم عادة على التنظير الفكرى، وعن الممارسة الواقعية) – أن يعلن حلا بهذا الوضوح، فإننى رفضته.
يقول عاشور الصغير:
“لقد اعتمد جده على نفسه على حين خلق هو من الحرافيش قوة لا تقهر“.
وظاهرالتناقض هنا أنه هو الذى خلق، ثم ما هذا الاستقطاب (على حين)؟، وهذا الإطلاق ( لا تقهر) ؟
وبدون وجه حق أيضا – حق مستمد من مسار الملحمة أساسا- أعاد محفوظ للتكية موقعا ما كان لها أن تتميز به فى النهاية بعد ما عراها كل تلك التعرية، وإن كان محفوظ قد فتح بابها للإثراء مما هو غيب مفتوح النهاية مولد للإبداع، إلا أن حضور هذا البعد كان ثانويا إذا ما قيس بتأكيد السكينة الهامدة ( رغم وصفها بالصفاء).
ثم إنه محفوظ (عاشور الأخير)، وبطريقة قد تلغى احتمالات الإيجابية التى رجـحناها حالا عاد ففتح بابها، ليـخرج منها درويشا (كأنه مندوب فوق العادة لعاشور الناجى الكبير، المختفى ، المهدى المنتظر) يعلن أنه:
“غدا سيخرج الشيخ من خلوته، وسيهب كل فتى نبوتا من الخيزران وثمرة من التوت“ (ص567)
فنقف طويلا أمام يهب، وأمام ثمرة ..
فأين: يحصد .. (بدلا من “يهب”؟ وكيف البذرة ؟.
وأخيرا، فالوعد بفتح باب التكية كان لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة..
ففضلا عن الشك فى طبيعة براءة الأطفال وقصورها، ناهيك عن احتمال إسهامها فى التهيئة لكل شر من خلال التمادى فى تقديسها، فإنه -قطعا- ليس للملائكة طموح.
وأتوقف .
9- … المخـــرج:
وبالرغم من أن محفوظ قد أنهى هذا العمل الرائع بما لم أستسغه، فقد عشت الملحمة بما أعطت وما وعدت بحيث أستطيع أن أقول إنها قد أشارت إلى التوجه الخلاق نحو المخارج الحقيقية لموضوعية الموت وتحديات زحف الزمن على الوجود الفردى ، وهذا أيضا مبحث يحتاج إلى دراسة مستقلة، فأكتفى حالا بالإشارة إلى ما أشارت إليه الملحمة.
ذلك أنه بعد أن أخفقت كل الحلول المواجهة، مواجهة الوعى بيقين الموت، من أول الإنكار، والتأجيل، والعمى ، والهرب من …، والهرب إلى …، والهرب فى،… وبعد أن أخفق الجنون فى إيقاف الزمن وصد الموت، وحتى بعد أن أخفق الحل الأخير كما ورد فى الخاتمة بما أعده نوعا آخر من الهرب “فى الناس = الحرافيش”، وهو بديل أرقى من الهرب فى الأبناء من صلب الفرد، وإن كان أكثر تجريدا وأخفى أنانية، إلا أنه هرب أيضا، أقول بعد كل هذا الإخفاق تبدو المسألة وكأنها بلا حل.
وأكتفى هنا بالإشارة إلى أن الأمر ليس كذلك تماما، فقد أعلن محفوظ من خلال الملحمة ( وليس بنهايتها):
ان الفرد لا يولد إلا إذا ولد نفسه باستيعابه طفرة تخلقه من واقع جدلية وجوده.
وانه لا يلد نفسه إلامن واقع ما يختمر به داخله وخارجه من علاقات ونبض ومواكبة فاعلة متفاعلة مع الناس والطبيعة على حد سواء.
وان هذه الولادة ليست حلا وإنما هى خطوة ضرورية وبداية واعدة.
وانها (إعادة الولادة) إذا انتهت إلى التركيز على الفرد فهى موت جديد، فى صورة الانحراف، أو الاغتراب، أو الجنون، وكل ذلك يلغيها تماما إذ ينتهى إلى عكس ما تفجرت من أجله، وإليه.
وان هذه الولادة المتأخرة هى الإبداع البشرى الناتج عن اكتساب الوعى بكل طبقاته وتضفرها معا، وهو ما يمكن أن أسميه إبداع الذات.
وان هذا الإبداع لا يتمادى إلى غايته- للفرد- إلا من خلال احتمال تكراره عند الناس، كل الناس، وترجيح فرص هذا التكرار انطلاقا من المبدع الفرد، وهو أول علامات التوجه الإيجابى نحو المخرج الحقيقي.
وان هذا الاحتمال-ولادة الذات-لا يتم إلا بوسائل وفرص، ليست غاية فى ذاتها بقدر ما هى حق مواكب لمسئولية وعى الإنسان، ومن أهمها العدل الذى شغلت مساحته ما يحق لها أن تشغله طوال الملحمة.
وان ما يلى خطوة ولادة الذات، فالالتحام بالناس فى إطار العدل، هو الوعى بما بعد الإنسان، طولاوعرضا.
“من هنا يصبح الموت فى هذا الإطار نقلة فرد، لا تحتاج لكل هذا الجزع مادام ثمة من يكمله ويمثله عرضا، وما دام ثمة ما يذوب فيه ويتمثله طولا. وقد قالت الملحمة كل ذلك“.
10- آفاق واعدة:
لا يكتمل هذا العمل-وبداهة- إلا باكتماله من حيث محاولة ربط شتى أبعاده، ولست متأكدا إن كان ذلك سوف يكون من أوائل ما سأقوم به فى المدى القريب، لذلك فضلت أن أشير فى عجالة إلى هذه الأبعاد، مجرد عناوين، وملاحظات، لعل فى ذلك مايحفزنى إلى الرجوع إليـها من جهة، أو لعل فيه ما يذكر قارئ هذا العمل المقدمة إلى أن المسألة لم تتم فصولا. فيلتمس لى العذر فيما افتقده مما قصرت فى تقديمه، رغم أنه لم يغب عنى.
ومن تلك الآفاق الواعدة:
1- كيف تناولت الملحمة البطولة من كل الوجوه ؟
2- وماذا عن دورات الحياة فى تنوع حضورها فى الملحمة (مثل: دورات الثروة، ودورات الفتوة ودورات الخيانة..إلخ) ؟
3- و أين موقع الجنس – بصنوفه- وكما ورد فى الملحمة – من قضية الحياة والموت،؟ وهل له صور حية وأخرى ميتة ؟
4- و ما مساحة كل من الخلاء، والغموض، والظلمة، والظلام، والمجهول، ودلالاته كما وردت، وألحت فى الملحمة وكما ألحت عليها؟
5- وكيف وظف محفوظ الأحلام بطريقة مباشرة، أكبر دلالة، وأقل تكثيفا وروعة من عمله التالى (رأيت فيما يرى النائم)؟
6- ثم كيف تناول بـعد الجنون،؟ وكيف وظف لفظ الجنون، فاختلطت الأمور، أوتعددت الدلالات؟
7- ثم ما موقع الحدس التنبؤى من إعادة الولادة، والحلم، والجنون ؟
8- وما موقع القتل- وكم تكرر- (وفى درجة أقل الانتحار) من قضية الموت من خلال ما قدمنا ؟
9- وكيف تواترت العلاقة بالأم، والأرض، والرحم، وعلاقة ذلك بما يسمى عقدة أوديب ؟
10-وما دلالة الزواج الثانى، الذى بدا وكأنه حل جاهز فى أكثر من جيل (حوالى خمسة)؟
11- وأين يقع الدين، فالإيمان من مسيرة التحديات، بأبعادهما المتعدده، وحضورهما صراحة أو ضمنا؟
12- وما علاقة التكية، وطبيعتها، بما يقابلها فى مقام الجبلاوى مثلا ؟
13- ولماذا كان الإفراط فى إطلاق الحـكم والمواعظ التقريريةـ طوال القصيدة، دون مراعاة على لسان من تجرى الحكمة ؟
14 – وهل كانت للأسماء دلالة فى ذاتها ؟
15- وكيف تناولت الملحمة موضوع العلاقة بالآخر من خلال هذا اليقين بالموت خاصة، والوعى بالمسار؟
16- وكيف وظف محفوظ تكرار الرحيل والاختفاء لفتح آفاق ما لم يذكر صراحة ؟
17- ثم بوصفها رواية أجيال، ألا يجدر أن تقارن بأعمال محفوظ نفسه فى روايتيه: الثلاثية، و أولاد حارتنا، أو فى أعمال غيره، وأقرب ما بدأت به هو مقارنتها بمائة عام من العزلة لجابرييل جارثيا ماركيز ؟
تذييل:
حين هممت أن أكتب هوامش لهذه الدراسة وجدتنى أقوم بعمل آخر، مقارن ومتكامل، يكاد يفوق الدراسة الأولى، ثم لمحت كل هذه الآفاق التى أشرت إليهافى نهاية الدراسة، والتى لم أتمكن من تناولها، فقررت أن أتوقف بعد الهامش الأول الذى يقدم محفوظ شاعرا، ثم جعلت الهامش الآخر هو شجرة عائلة عاشور الناجى حتى إذا أراد القارئ أن يتذكر هذا الشخص أو ذاك أثناء السرد، ساعدته فى ذلك.
وقد قدرت أن هذه الدراسة هى بمثابة المتن الذى لا يحتاج إلى هوامش، بل إلى شرح على المتن أرجو أن أتمكن منه بما ينبغى.
ومع ذلك فقد يكون مناسبا أن أثبت الهامش الوحيد الذى بدأت تسجيله.
(1) نعم: هى ملحمة،
هى: قصيدة بأسلوبها الشعرى المميز،
هى قصيدة بصورها المكثفة، وإيقاعها المتصاعد المتناغم، المتبادل بين اللهاث الموقظ، والانسياب العذب، وبتخليقها للغة، وتفجيرها لطبقات المعانى فى المقطع الواحد إلى آخر ما يمكن أن يتصف = به الشعر.
- فى ظلمة الفجر العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة
- عندما تشرق الوجوه بضياء السماح، وحتى الحشرات تمسك عن الأذى.
- رغم ذلك هفت فى ضميره الوساوس كما يهفو الذباب فى يوم قائظ.
- سرى التوقع فى ثنايا الخمول
– حتى اصطبغ الأفق بحمرة نقية متباهية، تلاشت أطرافها فى زرقة القبة الصافية، وأطل من وراء ذلك أول شعاع مغسول بالندى، وتراءى الجبل رزينا صامدا لا مباليا.
- ركبه عناد ذو عين واحدة
- كان يذوب فى السماع تحت ضوء البدر الذى حول بكيميائه بلاط الساحة إلى فضة
- ترامى جيدها كالشمعدان الفضي. شئ هتف به أن الجمال الآسر قد خلق للقتل، وأن الأسى أثقل من الأرض وأشمل من الهواء، وأن الإنسان لا يتنفس بحرية إلا فى منفى الهجر.
- تسقط الأمطار فوق الأرض ولا تتلاشى فى الفضاء. وتومض الشهب ثانية ثم تتهاوي. والأشجار تستقر فى منابتها ولا تطير فى الجو، والطيور تدوم كيف شاءت ثم تأوى إلى أعشاشها بين الغصون. ثمة قوة تغرى الجميع بالرقص فى منظومة واحدة لا يدرى أحد ما تعانيه الأشياء فى سبيل ذلك من أشواق وعناء. مثلما تتلاطم السحب فتنفجر السماء بالرعود.
[1] – قرنت فى صورتها الأولى فى المؤتمر العربى الرابع للطب النفسى صنعاء ديسمبر 1989.(*) ثم قرئت فى صورتها الحالية فى الندوة الدولية لأعمال نجيب محفوظ. كلية الآداب. جامعة القاهرة. مارس 1990.
(*) ثم نشرت فى مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990.
ملاحظات: حول
نقد “عز الدين اسماعيل“
لرواية السـراب
مقتطف من: مقدمة عن إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبي.
نشر فى فصول 1984
أما النموذج الذى اخترناه للناقد نفسه[1] ليمثل النقد النفسى للرواية المصرية المعاصرة، فهو رؤيته لرواية “السراب” لنجيب محفوظ. وقد اعتمد الناقد فى تفسيرها على عقدة “أورست”. وقد استعار الناقد تفسيرا لشخصية “أورست” فى المسرحية الثانية من ثلاثية “أجاممنون” أكد فيه رولو ماى Rollo May أن قتل أورست لأمه كان إعلانا للانفصال عن الأم إلى العالم الخارجى: “لقد اتجه حبى إلى الخارج”.
ولن أناقش هنا ماسبق أن أكدته عند تناولى لشخصية هملت من أن قتل الوالد ليس إيذانا بالانفصال بل هو تعويق له نتيجة لاحتمالات الاحتواء والبتر، فهذا يرجع إلى رولو ماي; ولكن دعوتى تنصب على الاعتراض على التــقاط وجه الشبه الضعيف لمجرد الاتفاق حول فكرة قتل الأم; فبالرغم من أن أورست قد قتل أمه فعلا، فى حين أن كامل قد شعر “وكأنه قتلها “فإن بقية الملابسات لا تسمح بافتراض شبـه آخر من حيث خيانة كليتمنسترا أم أورست لأبيه، ثم تآمرها لقتله، ثم نفيها لابنها. فالذى حدث بالنسبة لكامل يكاد يكون العكس تماما; فالوالد هو الذى هـجــر، وكأنه تآمر، إهمالا وتخليا عن المسئولية، وكامل كان شديد الالتصاق بالأم، وكأنه لم يولد أبدا، بفعل عدم أمانها وامتلاكها إياه بديلا عن كل شيء.
ومن حيث المبدأ، فإن التقاط خيط أن المسألة ليست مجرد تعلق جنسى أوديبي، وإنما هى صراع للاستقلال فى كدح الجهاد للولادة النفسية فالكينونة المستقلة، هو كل مايربط بين التفسيرين. ولو انطلق الناقد-دون حاجة إلى القياس على عقدة أورست أصلا-فالتقط مراحل هذا الصراع بصوره “الجنسية” و”الاجتماعية” و”الأخلاقية” وغيرها، لقدم لنا إضافات جديدة شديدة الثراء لما تمثله رحلة كامل رؤبة لاظ[2] الفاشلة للاستقلال بالانطلاق إلى رحاب العالم بعيدا عن رحم أمه (النفسى القابض).
فمحنة كامل التى عوقت استقلاله لم تكن فى علاقته الاحتوائية بأمه فحسب، أو فى علاقته الاستمتائية بجسده، أو علاقته الانشقاقية بالجنس المجرد، بل كانت كل ذلك معا، بالإضافة إلى الحرمان من الأب بكل الصور التى يمكن أن يتمثلها; الأب الخلقي; والأب القاهر; والأب الحاني; والأب الحامي. كل ذلك حرم “كامل” من فرص الصراع مع “آخر” (واللجوء إليه) فى طريقه إلى النمو; فكان التذبذب بين الخوف لدرجة التراجع إلى عالم داخلى مليء بالأوهام واللذائذ السرية، وبين أوهام الأمان فى رحم أم (مرة أخرى: رحم نفسي) لم يعد قادرا على إعطاء أى درجة من الأمان، بل لم يعد قادرا على المخاض أصلا.
وتكرار حوادث قتل الوالد (فى الأدب عامة) قتلا فعليا (…….. كرامازوف)، أو تدبيرا فتنفيذا مؤجلا (أوديب)، أو ثورة وثأرا (أوريست)، أو حلما أوأدبيا (كامل رؤبة)-كل ذلك نابع من صعوبة الصراع : تعبيرا مأساويا عن جدل “الأجيال” فى قمة عنفه .
وبينما يلزم استمرار وجود الوالد كأحد شقى الصراع، تتأرجح كفة الصراع فى مأساوية خطرة حين يبدو التخلص منه أحد صور الانتصار (الذى يحمل فى داخله حرمانا حتميا من الشريك الضرورى لإكمال مسيرة التكامل)، وكأن هذا التكرار فى الأعمال الأدبية المختلفة ، بهذه الصور المتنوعة ، إنما يعلن-ضمنا-أن مسيرة التكامل لا يمكن أن تتحقق فى “جيل واحد”، وأنه إذا كان على أحد شقى الصراع أن يذهب فى جولة جيل واحد، فليذهب الأكبر; ومابين البداية (المواجهة فى كفاح الاستقلال) والتدبير (قتل الوالد) وبداية الصراع من جديد (نقله إلى الجيل التالي)، تتحرك الأحداث[3].
وأداة “التخلص الاضطراري” (القتل) إنما تنبع من غريزة العدوان أساسا، ثم تلعب غريزة الجنس دورا مواكبا، حتى لايكون القتل نهاية مرعبة ساحقة، حيث ثمة ضمان-فى الجنس ، وبالجنس- يعلن أنها نهاية “فرد”; وليست نهاية “نوع”; أى أن الجنس يتحرك ليسهل “الفناء” الفردى بضمان البقاء النوعي; فلا مبرر-إذن-لأن تترجم ترجمة مباشرة محتزلة كل جريمة قتل والديـه إلى ماوراءها من دوافع جنسية، أن نتيجة نفى العدوان القاتل – فى معركة الاستقلال والبقاء – هى عملية بتر للوجود البشرى.
ويعد تفسير رولوماى لأوريست، وتفسير عز الدين إسماعيل لكامل، من التفسيرات التى لم تدر أساسا حول العلاقة الجنسية الثلاثية بين أب وأم وابن، بل هى معركة استقلال تظهر على السطح من منطلقات متعددة وبلغات مختلفة، إذن فهى خطوة متقدمة.
ثم إنى أزعـــم-إضافة-أن العلاقة المريضة رواية “السراب” كان ينبغى أن يكون النظر إليها من منطلق مشكلة الأم أساسا لامشكلة الابن. وقد أشار الناقد إلى هذا البعد، ولكن فى موقع الأرضية غالبا، ظنا منه أنها ماتت إثر انفعال محبط[4]
وتجاوزا لهذا التسطيح أستطيع أن أتقدم بفرض أن “العقدة” (مع تحفظى على هذه التسمية) هى ليست عقدة كامل، إذ ينفصل عن أمه، بل هى عقدة أمه إذ ترفض ولادته، وكلما تحرك كامل عنوة بعيدا عنها لاحقته بكل ثقل أنفاس حبها وعنف إغارة عدم أمانها. فالتفاف الحبل السرى حول عنق كامل وروحه وجنسه كان يعلن طوال الرواية أن الأم قررت ألا تكمل الولادة وأنفذت قرارها، فكانت الرواية كلها محاولات مأساوية متلاحقة لتحقيق “التراجع” المستحيل; تراجع الأم عن أن يصيرا “اثنين”. وفى البداية أسقطت ذاتها الطفلية عليه لتعلن أنها هى هو; فألبسته ملابس البنات، ثم بعد ذلك أعلنت امتلاكه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وحين قرر كامل الانفصال عنها ذهبت “معه” فى داخله، تعجـــزه عن أى علاقة كاملة; فإما جنس فج، وهو صورة مؤقتة لاستمناء آخر، وإما زواج “نظري” (مع وقف التنفيذ)، أما أن يكون كامل رجلا (شخصا) كاملا يتصل بشخص كامل غيرها ، فهذا هو الموت بعينه لكيان الأم المهزوم بالوحدة والهجر من قبل أن يوجد كامل بزمن بعيد.
فالقتل يصبح هنا نوعا من إعلان استحالة الانفصال بالحوار والمواجهة; لأنه ليس ثمة فرصة أصلا لحوار أو مواجهة; فالأولى أن نسمى العقدة بعقدة “الاحتواء ‘، أو “الولادة المستحيلة “(مع التحفظ على كلمة عقدة وتفضيلى لكلمة “قضية ‘-ولكنه الحرص على المقارنة). وهذه العقدة أظهر عند كامل منها عند أوريست; فطغيان كليتمنسترا كان طغيانا صريحا متلاحقا (بحيث يغرى بالمواجهة، بل هو يدعو إليها)، فى حين أن طغيان أم كامل كان سلبيا امتلاكيا يحرم الابن من أى معركة; فليس أمامه إلا الهرب، وأين المهرب، وهي-أيضا وقبلا-بداخله؟.
على أن جذب الأم المستمر ينشط فى الابن-كل ابن-دافعا أصيلا أيضا يغريه بالتراجع عن محاولة الاستقلال، وهو مايظهر فيما يسمى الحنين للعودة إلى الرحم. وقد يأخذ شكل الجنس “رمزيا”، فتتعقد المشكلة، ويصبح الجذب من “الخارج” (الأم) والدفع من الداخل (التراجع إلى الرحم تجنبا للاستقلال والمسئولية) من أقوى القوى التى تحول دون الحياة (الإقدام/الأمام/ نحو الآخر).
* * *
وبديهى أن هذه الشروح الجانبية ليست سوى “هوامش” على النقد المقدم، حيث لا مجال لإعادة النظر بشكل متكامل إلا بدراسة مفصلة مستقلة، ولكنى أردت فقط أن أعلن حاجتنا إلى الانتقاء (من أكثر من مصدر نفسي)، وإلى المراجعة، وإلى إعادة الصياغة، ماظل النص مثيرا مولـــدا، وماواصلت المعارف النفسية وغير النفسية كشوفها وتعديلاتها.
كذلك أردت أن أنبه إلى أنه قد يكون من الأفضل مواجهة كل نص أصيل (بما هو) وليس بقياس ملزم بأسطورة قديمة أخذت مكانها ومكانتها فى وجدان المجتمع البشري، حتى لو تشابهت الجزئيات; فينبغى ألا نشير إلى هذا التشابه بكل هذا الإلحاح، حتى يصبح كل نص جديد بمثابة فرص جديدة لإضافة جديدة. وقد بينا قبل قليل أوجه الاختلاف البالغة بين النص والأسطورة المستشهد بها[5]. وأعتقد أن معركة كامل مع أمه قد بلغت من الثراء ووعدت بالعطاء بما لا يستدعى إقحام موضوع موت الأم (وكأنه القتل الفعلي) إلا بما يمثله من أرضية داخلية كامنة، أو بوصفه النتاج الطبيعى للعجز عن الولادة النفسية; فالولادة (النفسية) الطويلة المتعسرة هنا تتنتهى بموت الأم، وإخراج جنين عاجز مشوه.
بقى تعقيب مهم على أبعاد أخرى عرضها الناقد بشكل يذكرنا-مرة ثانية-بموقفه الاستقطابى الذى سبقت الإشارة إليه; فقد رفض الناقد “فجأة” التناقض فى شخصية كامل “الأودبية الأورستية” التى نشأت من “إقحام موضوع آخر مناقض هو قتل الأب ‘.. “فالشخصية إما أن تمثل هذا الوجه الحضارى الاجتماعى أو ذاك; أى أنها إما أن تكون بكل مشكلاتها النفسية وليدة حكم الأب أو حكم الأم” [6] ويرفض الناقد احتمال “أن تكون وليدة هذين النوعين من الحكم معا “على المستوى “الفردي”، ولكنه يقبله على المستوى الرمزى (للمجتمع)، مع التحفظ ضد “الصناعة المقصودة مسبقا“.
وهذا رأى لابد أن يثير الدهشة; لأن العكس يكاد يكون هو الصحيح; فمعركة الاستقلال البنوى تسير دائما فى خطوط متوازية ثم متداخلة، وتصارع كل الصور الوالدية بنفس الحتمية، وإن اختلفت اللغات. وأعتقد أن هذا الميل إلى الاستقطاب قد ساعدت عليه شدة رغبة الناقد فى تطبيق نموذجه الذى ارتضاه: ‘… ومن ثم أرى لو اقتصر الكاتب على تقديم كامل فى إطار “أورست “وحده لكان ذلك أكثر إقناعا لنا بوجوده الحي” [7] (لا الرمزي). وأحسب أن هذا الاقتراح الذى صرح به الناقد هو الذى كان يمكن أن يجعل العمل ماسخا; لأنه هو الذى سيقدم لنا شخصا مصنوعا يسير فى “خطوط هندسية مصنوعة له من قبل“. وهى مصنوعة من إلزام-ضمني-بأبعاد أسطورة قديمة أدت دورها فى حدودها، ولو تكررت لما كان ثمة حاجة إلى فن جديد. وأخشى أن يكون هذا هو بعض مضاعفات الحماسة لهذا المذهب (التحليلى النفسي).
والرواية بوضعها الواقعى الفردي، لا الرمزى الاجتماعي، قد وصلت فى أغوار مشكلة تعسر الولادة النفسية إلى أبعد مما أتاحته المعرفة النفسية المتاحة للكاتب وقت صدورها، (أو حتى لغيره أو حتى الآن)، وبهذا هى جديرة بأن تصبح مصدرا معلـــما نقيس عليه (إن شئنا) ولا نقيسه بغيره.
كذلك أدخل الناقد بعد ذلك “فجأة أيضا” قضية تحرر المرأة، خوفا من أن يدل تمرد كامل على أمه على انتكاس رجعى فى حياتنا، حين ينكر الإبن سلطان أمه (وحقوقها) ويجاهد للتخلص منها. ولنفس هذا الظن يورد تفسيرا من محاكمة أورست (لا “كامل” !) .
وقد كان الأولى أن نذكر أن تحرر الأم يستحيل أن يتم إلا بتحرر الإبن (جدل “العبد” و”السيد” عند هيجل)، ومن ثم -دون إستعارة أى شيء من أورست- يكون تمرد كامل على أمه هو لصالح أمه، ولصالح قضية تحرر المرأة التى لا أجد مبررا لإقحامها أصلا بالطريقة التى أوردها الناقد.
وقد خيل إلى أن وقفة أرحب عند نهاية القصة-متحررين من وصاية أورست-كان يمكن أن تضعنا “مباشرة” أمام “سيدة العباسية” وقد حضرت للعزاء (أو الزيارة أو الدعوة أو الإثارة) وكأنها جاءت لتحل محل الأم والزوجة جميعا. ومع أنها نقيض الأم (على الأقل من الناحية الشهوانية) فإنها هى هى الأم من ناحية الاحتواء، مع اختلاف نوع الاحتواء; وكأن “كامل” قد تخلص من الرحم النفسي-أخيرا-ليرتمى فى أحضان الرحم الجنسى (لا ليتحرر إلى الاستقلال).
وكأن “السراب” هو أن يخيل للفرد أنه قادر على أن يكون “كاملا” بذاته، أو بالتخلص من غريمه، دون هذه الرحلة الدائمة من الرحم إلى الآخر، وبالعكس، حيث نتاج الفرصة للاستقلال بالنمو الولافى المتناوب، لا بالبتر المندفع العاجز .
[1] – عز الدين اسماعيل (1963) التفسير النفسى للأدب القاهرة . دار المعارف .
[2]- فضلت أن أورد هذا الخاطر فى الهامش دون المتن لما يحمل من احتمال خطأ أو مبالغة; فالاسم ‘كامل رؤبة لاظ’ شديد الغرابة على الأذن المصرية, حتى لو افترضنا جذوره التركية. وقد رجعت إلى محاولة معرفة دلالته فوجدت أن الرؤبة: القطعة تدخل فى الإناء ليرأب (ورأب الإناء أصلحه), ولاظ من مادة لظ, ولظ به لظا لزمه ولم يفارقه (الوسيط), فياترى هل قصد نجيب محفوظ-بوعى لغوى تلقائي, وليس بقصد إرادي-يقصد أن ال ‘كامل’ (ولادة جسدية مكتملة شكلا) لم يكن نفسه أبدا; فهو لم يكن سوى ‘أداة’ ترأب بها أمه صدعها, إذ تفرض عليه أن يلزمها لا يفارقها, لأنها قررت ألا يولد نفسيا أبدا ؟!.
[3] – يظهر هذا أيضا فى روايات ‘الأجيال’-مثلا حرافيش نجيب محفوظ, وإلى درجة أقل كثيرا ثلاثيته
[4] – القتل الضمنى الذى اعتبره الناقد مقابلا للقتل الفعلى عند أورست يحتاج-بالذات-إلى مراجعة; فكامل لم يقتل أمه فعلا, ولم يكن سببا فى موتها, حتى حين أغضبها إلى ذاك الحد, حتى لو أعلنت هى بنص الألفاظ أنه يقتلها بكلامه. ولايوجد أى تأييد علمى مباشر يسمح بالربط السببى بين أى وفاة وبين انفعال سابق, برغم أنه رأى شائع بين العامة. وأرى أن الناقد اضطر إلى هذا ليسهل المقارنة بأورست دون حاجة إلى إليها.
[5] – التفسير النفسى للأدب-عز الدين إسماعيل, ص 269.
[6]- نفسه ص 270
[7]- يقول إن الذى رجح براءة أورست وأعطاه حريته هو صوت الإلهة أثينا التى جاءت من جبهة زيوس دون المرور برحم الأم, وعلى ذلك, فقد يكون النضج (والحكمة) هو رفض العودة إلى الرحم, وعلى هذا فصراع كامل بعيدا عن رحم أمه هو فى اتجاه الحكمة (والنضج)-وهذا إقحام لأورست فى كامل دون مبرر أو وجه شبه, كما أن التقابل بين الحكمة والرحم هو دليل جديد على الموقف الاستقطابي, ونرد برحلة الداخل الخارج (إلى الرحم/بعيدا عنه) بشكل مرن ومتغير ومرجح للخطوة الأمامية قليلا بعد كل جولة (رحلة).
قراءة نفسية: بمفهوم تقليدى (1970)
الشحـاذ
ثم قراءة فى القراءة
(هوامش مؤقتة) (1990)
….ولا أحب أن أطيل الآن[1] فى الحديث عن نجيب محفوظ كظاهرة فريدة فى عصرنا هذا - فى بلدنا هذا- فإنه ظاهرة لها جوانبها التى تحتاج إلى تمحيص وإفاضة، لامن حيث محتوى كتاباته الأدبية وعمقها وأبعادها فقط، ولكن من حيث دلالة انتشارها واستقبال العامة والخاصة لها أيضا، فقد أصبح نجيب محفوظ هو فارس الحلبة لمن يريد أن يقرأ ليتسلي، ومن يريد أن يحضر مسرحا، أو يشاهد “سينما”، ومن يريد أن تروج بضاعته- ناشرا أو مخرجا أو ناقدا أو منتجا، لذلك فإن رواجه فى كل هذه المجالات ظاهرة فى حد ذاتها تستحق الدراسة-وإن كان فى العمر بقية وفى الوقت متسع، وفى الثورة على روتين حياتى أمل، فإنى راجع له لامحالة.. أحكى قصتى معه، وما أتخيله من جوانب قصته مع أبطاله.. وقصة أبطاله مع الصحة والمرض، وخاصة فى المرحلة الأخيرة وهو يغوص فى مشاكل الوجود والدين ومستقبل الإنسان[2]، وإن سرقتنى أيامى بين “مظاهرات” البحث العلمى والارتزاق من آلام الناس، فإنى لا أشك لحظة فى أنه سيأتى من يكتب ما كنت أريد أن أكتب أفضل مني.
وهنا سأقدم رؤية عابرة لزاوية من زوايا قصصه فى المرحلة الأخيرة.
وسأبدأ بتأملاتى فى قصة “الشحاذ”، لا لأنها أعمق القصص وأروعها فأنت لاشك حائر بين كتاباته، لاتكاد تنجح فى التفضيل بينها، ففى كل متعة وإشباع، ولن تغنيك إحداها عن الأخرى فأنت دائما فى حاجة إلى مزيد من الإنصات لغنائه، والاستمتاع به فى مجال آخر يختلف قليلا أو كثيرا، ولكنه دائما يحمل متعة رائعة جديدة.
وإنما اخترت “الشحاذ” لأنها من الناحية النفسية تمثل وضوحا وصراحة فى الأعراض لامثيل لهما.. فهى تصف نوعا من المرض النفسى وصفا لاأكاد أصدق أن إنسانا يستطيع وصفه إلا إن مر به وعاناه.
ولا بد أن أعترف أننى أشفقت على كاتبنا الكبير أن يكون قد عاش بعض هذه الألام، وجزعت حين خطر ببالى هذا الخاطر برغم ما داخلنى من راحة حقيقية، إذ أن هذا الاحتمال نفحنا نحن قراءه هذا الوصف الذى لا يقدر عليه إلاهو… إلا أني-حبا فيه ثانية- استبعدت ذلك جدا، وراجعت نفسى وقلت لعله صديق صادق، اندمج معه كاتبنا العظيم، حتى قاسمه مشاعره، ثم استطاع ببصيرته أن يترجم خلجاته إلى ما أقرأنا من فن صادق.
ولكن الذى استبعدته تماما هو أن تكون هذه القصة برمتها محض خيال.
ويبدأ المرض -أعنى تبدأ القصة- بعد حوار قصير بين “عمر” المحامى الكبير، وبين أحد عملائه، ويغتاظ عمر ويصاب بدوار مفاجيء[3] ولكن.. هل كانت هذه هى البداية فعلا؟
إنه يقرر أنه كان هناك تغير خفى مستمر قبل ذلك ومن هنا جاء “تأثره الذى لامعنى له” بكلام الرجل. وينطلق عمر يستشير طبيبا صديقا.. فيطمئنه هذا بما لايدع عنده أى شك، ويخبره بأنه طبيب نفسه...
وتستمر الحوادث، وتضطرد الحال اضطرادا رهيبا، وقد تتحسن حالته أحيانا تحسنا ظاهريا وتعتريه صحوة انتعاش نتيجة تغيير فى السكن أو فى الصحبة، أو حين يعلم أن ابنته تقرض الشعر مثلما كان يفعل فى صباه، ولكن لاتلبث هذه الصحوة أن تهمد تحت وطأة المرض العاتية، ويهجر مكتبه، ثم يهجر بيته، ثم يدخل فى تجربة حب جديد، ثم يرتمى فى أحضان اللذة المحرمة فى شغف ثم فى ضجر، والأمور تزداد سوءا، والناس من حوله فى انزعاج وعجب لايجدون لما يحدث تفسيرا ولايستطيعون له دفعا، ويفقد كل شيء طعمه: “نشوة الحب لاتدوم ونشوة الجنس أقصر من أن تكون لها أثر”.
وذات يوم ذهب إلى الطريق الصحراوى وحيدا، ووقف وسط الصحراء يضرع للصمت أن ينطق، وفجأة ينبض القلب بفرحة ثملة ويجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، ولكنه لايلبث أن يهبط إلى الأرض ويستقبل موجات من الحزن.
وتستمر الحال لا يوقظه منها أن يرزق بمولود جديد، وإن دفعه ذلك إلى بيته فترة يلقى فيها صديق عمره، وزميل كفاحه، بعد خروجه من السجن، فيترك له مكتبه… ويزوجه ابنته، أو يدعه يتزوج ابنته.
ويعود ثانية إلى هجر بيته ويعاود محاولة الصحراء مرات ومرات، فلا يـمن الخلاء عليه بها ثانية أبدا.
وبازدياد وطأة المرض يرفض استشارة الأطباء ويـعرض عن إظهار أعراضه خوفا من مستشفى الأمراض العقلية.
وتتم المأساة بأن يعتزل الناس فى كوخ بعيد يناجى الصخر، ويخاطب الحيوان ويناقش الكائنات المنقرضة، ويفكر فى السمو طيلة يقظته، وينزعج لأحلامه التى تتمسك بالحياة الدنيا.
* * *
لم يدع نجيب محفوظ فى الأمر لبسا أو غموضا.
فهو يتحدث عن الحالة بوصفها مرضا صريحا فى كل مجال، وبكل لسان، فأى مرض هذا الذى يفرض كل هذه المرارة والقسوة والسواد ؟ وهل هو حتمى التطور بهذه الصورة المفزعة، وما أعراضه وأسبابه وعلاجه إن كان ثمة علاج ؟
هو مرض “الاكتئاب” وآسف لاضطرارى إلى تسميته[4].
وهو نوع من الأمراض النفسية (أو العقلية إن شئت) يبدأ أساسا باضطراب العاطفة[5] دون سبب ظاهر، أو لسبب لايتناسب ومقدار هذا الحزن ومدته… ويترتب على ذلك همود حركى وانصراف عن الدنيا والناس دون مبرر حقيقي. بل وفوق ذلك يصاب التفكير ببطء ظاهر وسوداوية قاتمة.
إذا فهو المرض يصيب وظائف النفس الثلاث ( العاطفة ، والتفكير، والسلوك الحركي) بالهمود والانحطاط ، وهو يصيب عادة ذوى الشخصية النوابية: أى التى يتناوب مزاجها بين المرح والحزن فى الأحوال العادية، تلك الشخصية التى أطلق عليها صلاح جاهين مؤخرا الشخصية الفرحانقباضية، وهى تسمية خليقة بالاعتبار .
وإذا ترك هذا المرض يتطور حتى يبلغ مداه، زاد الضجر والاكتئاب إلى حد التبلد، وانتهى إلى جمود حركى بالغ، وعزلة تامة، وسكون خامد، ثم يتوقف التفكير ويزيد سوادا أو اضطرابا ويختل الإدراك ، وتختلط المرئيات فيرى المريض مالا وجود له ، وينكر ما هو كائن.
ولكن ما حقيقة هذا المرض ووظيفته؟ أهو تحطيم للذات هربا وجزعا.. فقط؟ أهو اليأس من مستقبل الإنسان، والرفض لهذا النوع من الحياة التى يحياها؟ أهو تغير كيميائى يصيب خلايا المخ فيقلب الدنيا على رأس صاحبها؟ أهو استعداد وراثى فى الخلايا ذاتها يجعلها عرضة لهذا التغير الكيميائي، ومن ثم لهذا الرفض واليأس والتحطيم ؟ أم هو كل ذلك ؟
بل هو كل ذلك .
وأنا - رغم أنى طبيب أمارس وأداوي- كثيرا ما أرفض ولو داخليا أن نستسلم لفكرة الحتمية فى الوراثة.. والآلية فى الكيمياء.، إلا أننى لا أستطيع أن أكف عن إعطاء المرضى الكيمياء ، وأن أبحث فى تاريخ أسرهم عن جذور هذا الضجر والحزن، بل هى جذور الثورة….، ولكنى دائما أقر وأعترف أن الكيمياء ستهديء من ثائرة المرض، وهذا واجب إنسانى لامحالة، فما أقسى الضجر! وما أشد وطأة المرض! ولكنى دائما أتمنى أن تخفف الكيمياء المرارة ، ولا تخفف الثورة التى يحملها المرض، وأن تحد من العمق فى رؤية اللامعنى واليأس، ولكن أن تحافظ على العمق فى رؤية المشكلة الإنسانية، ووجوب الامتداد فى الآخرين.
لذلك فإن مرض الاكتئاب بالرغم من أنه يفسر كثيرا من أعراض “عمر” إلا أنهم بدأوا يتحدثون عن نوع منه اسمه “الاكتئاب” الوجودي، ولا أحب أن يخطر على البال ارتباط سطحى بمذهب فلسفى بذاته، ولكن دعنا نسميه “الاكتئاب المتعلق بالكينونة” الذى يواجه فيه الانسان السؤال الخالد “أن يكون أولا يكون” إذ هو حينئذ يواجه حقائق الأشياء بعد تعريتها من كل زيف .
لذلك كان علينا ونحن نسير مع عمر فى مأساته ألا نغفل الجانب البنــاء من هذا المرض،. وإلا مسخنا كل شيء، ونحن نرى جوهر الانسان فى عنفوان ثورته .. رغم احتمالات تصدعه.
ولعل الإنسان لايكون إنسانا بغير مسحة من هذا الاكتئاب.
* * *
ثم نرجع إلى “عمر”
ماذا عنده مما نسميه أعراضا؟
هى أعراض صريحة تقليدية، أو كما يحب أن يسميها الأطباء المختصون “كلاسيكية” ليس فيها لبس أو غموض أو التواء [6] ومع ذلك يقابلها الطبيب الصديق بأنها “لاشيء البتة”
وهذا هو بيت القصيد [7] الذى نحب أن نوضحه فى هذا المجال.. ولو أنى أعترف -ابتداء- برغم قسوة التجربة ومرارتها، أنه داخلنى فرح خفى إذ أخطأ الطبيب التشخيص[8] ، والإ لهجم عليه من فوره يقمع ثورته بالكيمياء والكهرباء، ولكنه أتاح لنا أن نتمتع كل هذا الإمتاع ونعيش كل هذه الروعة فى الوصف التفصيلى للمرض من أوله إلى آخره، حتى إنى أستطيع أن أعتبره مرجعا أصيلا وأساسيا فى وصف الاكتئاب، فهو يشرحه ويوضحه بكل دقائقه، ويعطى القاريء صورة كاملة عنه، تفوق -بلا أدنى شك- أى صورة يمكن أن نقدمها له عن هذا المرض فى كتاب مختص.
من أول ماأدرك عمر ببصيرته أن “المسألة خطيرة مائة فى المائة، وأن الحال أخطر من أن أسكت عليها” وذهب طائعا مختارا إلى الطبيب الصديق.. إلى أن فقد بصيرته فى آخر الأمر، وتطور الحال، وأنكر على زوجته قولها أنه مريض، وخاف الاتهام بالجنون، واعتزل العالم اعتزالا تاما.
وقد بدأت الحالة دون مبرر ظاهر حين أظهر أحد عملائه أمله فى كسب قضيته بفضل قدرة محامينا الكبير …ويشعر عمر بغيظ لا تفسير له حين يسأله:
“تصور أن تكسب القضية اليوم وتملك الأرض ثم تستولى عليها الحكومة” فيهز العميل رأسه استهانة ويقول:
-المهم أن أكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله يأخذها.
وزاد غيظه، وأصيب بدوار مفاجيء.، واختفى كل شيء.. هكذا دون أدنى سبب.
ولنسأل: ماذا أغاظه فى الظاهر؟ أهى استهانة عميله بتعليقه؟ أهو صدى للغيظ من الحياة برمتها حين تذكر أنها تنتهى برغم كل شيء دون مبرر ظاهر؟ أهو مجرد إعلان لبداية المريض؟
بل هو كل ذلك[9].
ويظهر اضطراب العاطفة فى كل كلمة وكل فعل; ونجد الضجر كله منتشرا منذ البداية:
“كثيرا ماأضيق بالدنيا وبالناس وبالأسرة”.، وأنه: “ماأجمل كل زمان باستثناء الآن”.، وأنه: شد ماكرهتـها (الدنيا) فى الأيام الأخيرة” !
هو ينظر إلى كل شيء من خلال منظار قاتم يناجى ابنته فى سره، وهو يتأمل فلا يرى فيه إلا سور السجن.
“هاهى ذى أمك تحاكى البرميل..، …والأفق يحاكى السجن.،….فقد كل شيء طعمه الأصيل”
ويــسقط الاكتئاب على مباهج الطبيعة فلا يرى فيها إلا السكون والهمود:
فـ “النيل يبدو من ثغرات الشجر ساكنا هامدا شاحبا معدوم المرح” وتصل قمة الضيق إلى ترجمة حاسمة للحالة النفسية:، “ذكريات معادة كالقيظ والغبار”، “ضجر يضجر ضجرا فهو ضجر وهى ضجرة والجمع ضجرون وضجرات” ! ولاينطق لسانه إلا بالضجر ومشتقاته.
وبعد كل هذا.
وبرغم كل هذه الأعراض الظاهرة منذ البداية، فما زالت النصيحة الطبية (المشكورة) ترن فى أذنى أنه:
“بالرجيم والرياضة يحل كل شيء…’.، ‘ وأنه (المريض) طبيب نفسه”
ويطمئن الطبيب مريضة حين يبدى مخاوفه من أن يصبح
“سجين العيادات النفسية بقية عمره”.، “لا نفسى… ولا دياولو” ! !
أى أنه “بلا كلام فارغ”[10]
ونعود إلى ما أصاب تفكير عمر وإرادته وسلوكه الحركى منذ البداية:
“ماتت رغبتى فى العمل بحال لا تصدق”، “مازلت قادرا على العمل ولكنى لاأرغب فيه”، “أشعر بخمود غريب”، “لا أريد أن أفكر، أو أن أشعر، أو أن أتحرك.. كل شيء يتمزق ويموت”.
إذن لابد أنه المرض.
ومادامت حدة الأعراض تبلغ هذا المبلغ فإن المريض نفسه تصور أنه لابد أن سيكون لذلك سبب ملموس، تغير عضوى مثلا، إذن فالأمل فى القضاء عليه قائم، لابد من وجود سبب عضوى ينفى أن يكون هذا الذى هو فيه لعنة الشياطين مثلا، أو سخط آلهة الشر بما يترتب على ذلك من استسلام للمقادير فهو يقول:
فخطر لي-على سبيل الأمل- أننى سأجد سببا عضويا. ولكن الطبيب الكبير يقول:
“عزيزى المحامى الكبير لاشيء ألبته”
ما أشد صدق المريض، وما أشد حسن نية الطبيب (على أحسن تعبير)
ويعجب المريض: ‘ البته ؟ “
فيؤكد الطبيب.
“البته !”
ولو كررها المريض عشرين مرة لأعادها الطبيب مثلها، دون أن يجد فى كل هذا حرجا أو ما ينبهه إلى أى احتمال آخر، أو يهز ثقته بنفسه وبتشخيصه، ولعل أصدق تعليق على هذا النوع من التطبيب ( بالرجيم والرياضة) هو قول مصطفى صديق عمر.
“ياله من علاج هو باللعب أشبه” !.[11]
كل هذه الأعراض برغم وضوحها وصراحتها فإنها مبكرة.. فما زال المريض يأكل ويشرب ويشارك الناس حياتهم بشكل أو بآخر.
وتستمر النصائح بتغير الهواء، وتغير البيئة، بالقراءة، وبالرياضة.. وهو يحاول جميعها ولا فائدة. وينذر الجميع بعدم الاستهانة بحالته:
“إنى أشم فى الجو شيئا خطيرا، وأرعبنى إحساس حركة داخلى بأن بناء قائما سينهدم”.
ولكن من يسمع ومن يفهم ؟
هل يمكن تصوير الانهيار بأبدع من هذا التعبير ؟ لا أظن.
ثم تنتقل المرحلة إلى ماهو أكثر خطورة: فيبدأ التفكير فى الجنون[12]
يبدأ بالإعجاب الخفى بما يتضمنه الجنون من التحرر من القيود …ثورة على سجن العقل:
“لماذا يثيرنى الكلام العاقل فى هذه الأيام ؟
” الشخص الوحيد الذى أعجبت بحديثه رجل مجنون يرفع يده على طريقة الزعماء طول الطريق..’، وتمنيت أن أتسلل إلى رأسه..،..ونحن الذين نعيش فى السماجة المجسمة لانعرف لذة الجنون”
وهو فى هذه المرحلة يدخل باستبصاره إلى “ديناميات” النفس، ليشرح كيف يكون الجنون لذة وأملا، وكيف يكون تحررا وانطلاقا، وكيف يمكن أن يكون حلا لضجر وضيق لايحتملان، ولكنه الجنون.
وبالفسحة والفيتامينات والمشهيات يتحسن جسمه، ويحس ذلك التقدم الجسمانى الظاهري، ولكنه يقول لصديقه فى سخرية:
“إننى أتقدم نحو شفاء جسمانى واضح، ولكنى أقترب فى الوقت نفسه من جنون ظريف والعقبى لك”.
ويستمر إحساسه بفقدان معنى الأشياء، وأنه لا حقيقة ثابته إلا الموت.
“لم يعد القلب يفرز إلا الضياع، ولا حقيقة ثابتة فى الصحف إلا صفحة الوفيات”.
وتعود النصائح للظهور: بالمثابرة والصبر، بالإرادة والعزم.، ويؤكد كل ذلك عجز من حوله عن إدراك طبيعة ما يدور فى داخله وخطورته.، ويبدأ التوسل للسر الإلهي.. ويستمر استجداء الوحي; لعل ذلك يشفى من المرض.
أتريد أن تعرف سرى يا مصطفى ؟
إسمع:
” عندما أمضنى الفشل جريت نحو القوة التى آمنا من قبل بأنها شر لابد أن يزول”.
وهو يشير إلى أنه كان هو ومصطفى فى صدر شبابهما يعتنقان المبدأ الذى يقول بأن الدين أفيون، وأن الله شر معوق لتقدم الإنسان.
ثم تأتى الفكرة عفوا، وهى ليست بنت الساعة، ولكنها اللمسة الأخيرة التى ظهرت من قصته الطويلة مع اليأس والضجر والضياع، فلعل الحل فى ‘ الهرب”.
ولكن إلى أين يهرب والصراع كله بداخله ، وكيف يهرب منها، “وقد كتب عليه أن يناطحها” ؟
ويحاول الهرب فى أحضان اللذة.. ولكنه هرب وقتى ينتهى فى حقيقة الأمر إلى عكس ما بدأ منه فى أول الأمر على أنه حل سريع.
“تلك الدفعة الغادرة إلى الوراء… مجرد رد فعل مضاد بقوة مضاعفة. وها أنت ذا فى سباق حاد مع الجنون”.[13] ويتطور الاكتئاب إلى لامبالاة بشيء ولا رغبة فى شيء.
“ماذا أريد ؟: الفقه: لايهم ، والحكم لصالح موكلي… لايهم.، وإضافة مئات جديدة لحسابي..، لايهم”. و… لايهم.. و… لايهم”.
لم تعد أمامه غاية يتطلع إليها.
ويصل الوصف الذاتى والتأمل الباطنى إلى قمة روعته:
“حبست الروح فى برطمان، ذبلت أزهار الحياة وتهاوت على الأرض ثم انتهت إلى مقرها الأخير فى مستودعات القمامة، أى نهاية مروعة، قتل الضجر كل شيء، وانهارت قوائم الوجود
ويستمر فى محاولاته اليائسة:
“إنى أدفع عن نفسى الموت.، إنى أدفع عن نفسى ما هو أشد”.[14]
ويفيق أحيانا قليلة إفاقه تشبه سكرات الموت.. ولكن يعاوده المرض فيهجر رفيقته، ويعاود ضراعته وتسوله للوحي، للسر الإلهى ..ويأخذ فى البحث عن شيء، شيء ما، فيه كل شيء:
“لابد من شيء، الشيء أو الجنون أو الموت”.
ويجد الشيء[15] مرة واحدة لا تتكرر.
يجده فى الصحراء حيث السكون واللانهاية.. ولكنها مرة لا تتكرر:
“نظر إلى الأفق وأطال وأمعن فى النظر، وثمة تغير جذب البصر، رقص القلب بفرحة ثملة، واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، وشد البصر إلى أفراح الضياء، وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة”
ثم يعود كل شيء ويعود الحال كما كان.
ماهذا الذى حدث ؟ وأى تفسير له؟ إن كان ثمة تفسير؟
إن كان المرض هو “الاكتئاب” بكل ظلامه وعبوسه، فما هذه النشوة الحقيقية التى لم تستغرق سوى لحظات ؟
الحقيقة أن مرض الإكتئاب هو أحد وجهى مرض ذى وجهين يسمى “جنون الهوس والاكتئاب” ويمتاز وجه المرض الآخر وهو الهوس، بكل هذه الفرحة والنشوة والسعادة دون مبرر[16] وهذا المرض كما ذكرنا يصيب عادة شخصية نوابية تعيش نفس التناوب بين المرح والاكتئاب فى الأحوال العادية…وما يحدث أحيانا فى بعض الأنواع المختلطة من المرض أن يتخلل الاكتئاب لحظات من الهوس أى أن الوجه الآخر للمرض يظل لحظات ثم يختفى تحت وطأة الشعور الحزين المسيطر، وقد تظهر بعض زوايا الوجهين أحيانا فى نفس الوقت، ولكن سرعان مايغلب أحدهما، كما كان الحال عند صاحبنا الذى انتهى به الأمر إلى جنون الاكتئاب عندما تطورت الأعراض إلى مظاهر الذهان التام وأخذ يحس أنه “جثة منسية فوق سطح الأرض“.
ولكنه يشعر-على خلاف معظم الذهانيين- بخفايا نفسه وبعض دوافعه إلى الجنون، فما دفعه إلى ذلك إلا ضياع محاولاته لإثبات ذاته أو معرفة هدف لحياته”.
“أنت إن لم تستطع أن تستلفت أنظار الناس بالتفكير العميق الطويل، فقد تستطيع أن تجرى فى ميدان الأوبرا عاريا”.
ومن مظاهر الجنون المتأخرة أن يفقد المريض بصيرته[17] فينكر مرضه ويأبى استشارة الطبيب:
-“ألا تفكر فى استشارة طبيبك؟
-“لا أستشير أحدا فيما يجهله”
وهو رد بالغ الدلالة والصدق فى كثير من الأحيان .
-“إن المرض ليس بعيب.
-إنك تظن بى الظنون”.
ويهرب من كل شيء، ويتقوقع فى ذاته، ولايعود يتحدث عن أعراضه خوفا من مستشفى الأمراض العقلية، وهو الذى كم سعى فى أول المرض إلى الطب يحدوه الأمل أن يكون مابه مرض.. ولكن !
ويختل التفكير وتظهر النزعات العدوانية والإنتحارية:
-“أفكر فى تفجير الذرة.
فان تعذر ذلك ففى القتل.
فان تعذر ذلك ففى الانتحار”..
وهكذا يظهر التسلسل الجميل (آسف للتعبير غير المناسب) فى أعراض المرض: فهو يطلب أن يثبت ذاته بالمستحيل [18] ثم يعجز، فينطلق التوتر الناشيء عن الإحباط إلى العدوان، فإذا عجر انقلب الدافع العدوانى إلى داخل نفسه، وهذه هى نفس الخطوات التى تنتهى بالتفكير فى الانتحار فى كثير من الأحوال، ولكن معظم الحالات لاتدركها ولاتصورها بهذه الدقه والروعة.
ويستمر نجيب محفوظ فى وصفه للجنون الصريح بنفس الدقة التى وصف بها الحالة النفسية فى أولها، وذلك بعد أن تبدأ الهلاوس (رؤية أشياء لا وجود لها) والضلالات (مثل إنكار كيان قائم).
“إنه يخاطب الجماد والحيوان، وهو يرنو إلى شجرة أو إلى النيل وتتحقق للمنظور شخصية حية، وتتخذ هيئة ملامح خفية لايعوزها الشعور أو الإدراك”.
“وأسدل عمر على وجهه ستارا أصفر من اللامبالاة وتحول شخصاهما (محدثيه) فى نظره إلى مجموعة من الذرات انمحت ذواتها.
ويموت إحساسه !
“ألم تلاحظى يا ابنتى أننى أصــــم”.
وفى موضع آخر.
“ألم تدرك أننى ميت الحواس”.
ثم يخاطب النجوم ويسمع ردها:
“ورنوت إلى نجم متألق بين النجوم”.
أريد أن أري”
فأهمس:
أنظر:
فنظرت فرأيت فراغا-فانحسرت هالة من الظلام عن رجل عار وحشى الملامح”.
ليس هذا مايريد ولكنه يريد وجهه.
ويكاد يفيق من كل هذا، هل يمكن أن يفيق ؟ بم يفيق ؟ صدمة ؟
أية صدمة ؟ نعم رصاصة فى الكتف، هجوم بوليسى يبحث عن صديقه (الذى تزوج ابنته).
ويخامره شعور بأن قلبه ينبض فى الواقع لافى الحلم، ويكاد يعود يقينه. ويرن فى أذنه شطر بيت شعر:
“إن كنت تريدنى فلم هجرتني”.
ويهذه اللمسة الصوفية يحاول الكاتب أخيرا أن يلقى بتبعة هذا الضياع على اهتزاز إيمانه، ولا أخاله إلا يصف عرضا ضمن ما وصف من أعراض المرض[19] ، ألا وهو السعى إلى التمسك بالإيمان هربا من الضياع، وهو بذلك لم يبعد عن الحقيقة، فالإيمان الراسخ كثيرا مايحمى من الهزات والضياع. والله أعلم إن كانت هذه الصحوة مثل ماسبقها من صحوات سوف تنتهى إلى نكسة ثانية فى جب الاكتئاب الرهيب، أم أنها كانت البشير بانتهاء طور الاكتئاب الذى يتصف أساسا بأن نهايته ذاتية لاسيما إذا أصيبت المريض بصدمة أيقظته (ولكن بعد ماذا ؟).
ولكن ماعلاقة تلك الصدمة التى أصابته بهذه الإفاقه التى أملنا أن تكون صحوة الشفاء ؟
فى الواقع أن هذا المرض رغم شدة سواده وعنف أطواره، يستجيب للعلاج استجابة سريعة وكاملة فى كثير من الأحيان، ومازال علاجه المفضل هو نوع من الصدمات، يشبه فى طبيعته ومفعوله تلك الصدمة التى انتابت عمر نتيجة للهجوم البوليسى والرصاصة فى الكتف ومااعتراه إثرها من غيبوبة ثم من إفاقة.
ولو اتفق أن الطبيب الذى رآه عرف ذلك ونصح به منذ البداية، وعرف أن كثيرا من أنواع الاكتئاب -حقيقة لاسخرية- قد تحله ملعقة بعد الأكل أو ملعقة قبل الأكل، كما كان يتمنى عمر، لو حدث ذلك لما حصلنا على هذه الروعة والإبداع، ولانتهت الرواية فى بضع صفحات، إذا لما كانت رواية[20].
* * *
فلا انزعاج من حتمية هذا المرض ومصيره، فما أسهل علاجه فى أكثر الأحيان، وإنما الإنزعاج هو من تصور هذه الخبرات الإنسانية العميقة مثل الإنفلونزا أو الصداع، وبالتالى احتمال تشويه طبيعة كل هذه الروائع الخالدة التى تصور الإنسان من الداخل فى عنف مأساته مع الحياة، ولكنه انزعاج نظرى بحت، فلايوجد سحر طبى يمحو التجارب الإنسانية ولا أقراص أسطورية تغير المشاعر الأصلية، ولكن مايعمله التطبيب ليس سوى علاج الاضطراب إذا وصل إلى أقصى غاياته: وهو المرض بهذه الصورة.
ولن تفقدنا المتعة النفسية أن نشعر أن واجبنا الأساسى هو ألاندع إنسانا يقاسى ماقاساه عمر. فهى معاناة نهايتها التصدع والتحطيم والإنهيار، وإنما أن تضبط القوة الهدامة لتصبح قوة بناءة.. تقتل الزيف وتسهم فى تطور الإنسان. هذا هو الطب النفسي.. كما أعرفه أو كما ينبغى أن يكون.
إن وصف المرض جميل.. ولكن وصف الصحة أجمل[21]
إن المرض غنى بكل ماهو عميق مثير.
ولكن الصحة الإيجابية -وليس مجرد انتقاء المرض- أروع وأمتع، وقد يبدو أن هذه الدعوة قد تحرمنا من مثل هذا الصدق والإبداع فى رؤية تجربة إنسانية مرضية.. ولكن هذا احتمال نظرى بحت، لأن مثل ذلك الطبيب الكبير الذى ينكر كل ذلك. كثير وكثير، وضحاياه ستملأ أعمال الأدباء … ولن نعدم أبدا أعمال كاتب عظيم مثل نجيب محفوظ وهو يرى هذه الإنسانيات، ويتأثر لها، فينفعل بها ليتحفنا بكل هذه الروعة[22]
إن الصحة الإيجابية فيها من الثورة والألم والبناء والتطور ما يهز أركان النفس نشوة وانفعالا وهى تقلب إهتزازة المرض وارتعاشاته إلى نبض الحياة وقوة الفن.
[1] – [ كتبت هذه الهوامش فى : 14/3/1990] الآن’ تشير-طبعا- إلى ما حول سنة 1970 حين كـتبت هذه الدراسة.
[2] – أحسب أن المرحلة الأخيرة التى كنت أعنيها أيام كتابة هذا العمل , لم تكن أخيرة , وإن كان هذا التعبير ينطبق تماما على ما تلاها, وأظن أن ما قمت بدراسته بعد ذلك, مما هو منشور فى هذه المجموعة , وما لم ينشر , هو من هذا المنطلق الأكثر رحابة وأعمق غورا.
[3] – لكلمة ‘مفاجئ’ هنا أهمية خاصة , سواء بالقياس بدلالتها لما تبين لى من معالم بدايات التحول المرضى كما أشرت إليه فيما أسميته بداية البداية ( دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979) أم فى إرهاصها بما أتى بعد ذلك من إلحاح التركيز على طفرات التحول النوعي, والتى تكررت بشكل خاص فى الدراسات المشتملة فى هذا العمل, عدا هوامش السراب).
[4]- بدء الناقد بإبداء الأسف لتسمية المرض لا يغنى , ولا يغفر له إلحاحه بعد ذلك على التسمية تلو التسمية كما سيرد بعد, وإن كان يدل – كما ستدل النهاية – على أن رفض هذا العمل, بهذه الصورة كان ماثلا فى مساحة ما من وعى آخر يعايشه دون إفصاح طول الوقت تقريبا.
[5] – تطور الأمر بعد ذلك فى رؤيتى لما هو انفعال أصلا , وما هو وجدان فعلا, ثم ما هو اكتئاب بعد ذلك, ومن واقع خبرتى , ثم نبض لغتى ( العربية : فصحى وعامية) اكتشفت هذا الخداع فى هذه التجزئة المخلة, ووصلت إلى أن ظاهرة الوجدان ليست عاطفة تصبغ ما عداها من سلوك بشرى بهذا اللون أو ذاك, كما أنها ليست دافعا أساسيا يوجه سلوكاما إلى هذه الوجهة أو تلك بقدر ماهى – بدء من مادة ‘ وجد’ فى اللغة العربية- أساس كيانى شامل يحمل مقومات المعرفة والإرادة فى دفع تكاملى نابض بحيث يكاد يستحيل فصلها كأساس مستقل يترتب عليه ما يترتب من إسراع, أو إبطاء, بالإيقاع التفكيرى ( أو السلوكى عامة), وإنما يمكن أن نقترب منها كمحور مواكب دائما أبدا, لسائر محاورالسلوك الأخرى فى الصحة والمرض على حد سواء , وقد اتضح هذا الأمر لى حتى أصبحت أصنف بعض أنواع الاكتئاب إلى مايسمى اكتئابا وجدانيا فى مقابل الاكتئاب غيرالوجداني, بل إن الفصام نفسه أصنفه حاليا إلى فصام وجدانى وغير وجداني.
هذا بالإضافة إلى أنى قدمت لاحقا تصنيفا تفصيليا لما هو اكتئاب ( دراسة فى علم السيكوباثووجى ,1979), وهو تصنيف له علاقة مباشرة بهذه الرواية وهو منطلق من القيمة التطورية لهذا العسر الوجداني, ولو عدنا نقيس هذه الرواية بهذا المفهوم الأحدث, لاهتز ذلك المفهوم الشائع عن هذا المرض حتما بما لا تصلح معه هذه الدراسة أصلا من المنطلق الذى أعلنته : شيوعا وكلاسية.
كل ذلك وغيره يجعل التحفظ أوجب ما يكون على بداية هذا النقد, ورغم التحذيرات والاستطرادات الواردة جنبا إلى جنب مع تعريف المرض, فالأعراض, هذا التعريف التقليدي, رغم هذا وذاك فإن سطحية هذا المنطلق وما ترتب عليه لا يخفيان.
ثم إنى لاحظت لاحقا, وغالبا, أن للقارئ – للأسف- استعداد شديد للتوقف عند هذه التعريفات التقليدية, والقياس عليها, والقياس بها, مما يجعل أى استطراد أو تحفظ يتوارى وراء هذه اللهفة الملحة على تقديس مصطلحات علمية تفرض نفسها فرضا مهما قدمنا من تحذيرات أوألحقنا من تحفظات.
بل إننى لاحظت أن استقبال كثير من المختصين (من النقاد والروائيين) لمثل هذه اللغة التشخيصية الوثقانية (والتحليلية النفسية!), هو أرحب وأكثر قبولا من استقبالهم للنقد (النفسي!!!) الذى يتعمد أن يتجاوز هذه المسميات قصدا.
وقد بلغنى مثل هذا تحديدا عن بعض من استقبل منهم هذا العمل (الشحاذ) فى حينه, نفس هذا العمل الذى عدت الآن, (وقد كنت كذلك منذ صدوره), أتحفظ عليه كل هذا التحفظ , وقد أكدت لى هذه اللهفة على هذا النوع من اللغة الوصفية المتخصصة , أكد لى ذلك مقارنة فتور استقبالهم لأعمال نقدية أخرى كتبهتا مجاهدا معاندا, عن محفوظ وغيره, ومازلت أعتز بها أكثر, وأنتمى إليها أكثر , إن لم أكن أفخر بها أكثر, لكن هذه الدراسة (الشحاذ) ظلت هى ما أوصف به ناقدا, فكان هذا بعض ما دفعنى إلى تعريتها فى هذه الهوامش, هكذا. .
وقدتيقنت أخيرا من خطورة هذا التشويه المحتمل -مهما بدا من اجتهاد وحسن نية- التشويه الناتج عن اختزال الخبرة إلى أسماء أمراض وأسماء أعراض, حين بدأت عملا نقديا مقارنا بين هذه الرواية (مع نقدها هذا), وبين مالك الحزين (إبراهيم أصلان). مما لا مجال لتفصيله, ولاحتى لإجماله هنا.
[6]- لا حظ أيضا هذه الوثقانية فى حكم الناقد ( ليس فيها لبس أوغموض أو التواء!!!) الدالة على ما أزعجنى من هذا النقد لاحقا
[7] – ماهو هذا الذى هو بيت القصيد ؟؟ !, أن طبيبا صديقا لم يشخص المرض, وهون من الأمر وذكر أنه لا شيء البتة ؟ ألا يشعرنا هذا أننا فى درس فى كلية الطب نحاول فيه أن ننبه الطلبة أنه لا يجوز الحكم على هذه الأعراض باعتبارها مرضا, فنفهم فى هذه الحال معنى بيت القصيد؟! أما فى هذا السياق النقدى , فكلا سيدى (أنا)
[8]- يكاد هذ النقد-هكذا-, رغم ما تلى ذلك من استطرادات وتأملات, أن يختصر المسألة إلى امتحان تشخيصي, ينجح فيه هذا الطبيب ويفشل ذاك, ومع أنه الناقد (الطبيب) تظاهر بالفرح لخطأ التشخيص : حتى تكون رواية , إلا أن هذا الموقف لا يعفيه من أن يبدو لابسا منظاره الطبى المحدب طول الوقت.
[9]- تكرار أنه : ‘هو كل ذلك’.. , لا يحل إشكالا متحديا بهذا القدر من التناقض والتداخل.
[10] – يبدو هنا أن ما يهم الناقد !! هو الدفاع عن مهنته وتخصصه ( طبيبانفسيا !!), أكثر من أن يقرأ النص ناقدا, لأنه ليس نقدا بالضرورة أن نترجم حوار بطل رواية ما إلى هذا العرض أو ذاك, ثم نذهب ننحو باللائمة على الطبيب (فى الرواية) أنه أخطأ التشخيص وسطح النصيحة.
[11] – ثم ينتقل الناقد – من نفس المنطلق- لينتقد العلاج (بالمعنى الدارج لكلمة نقد) أكثر من نقده للعمل الإبداعي, ينتقد العلاج الذى نصح به طبيب الرواية, وكأنه فى ‘ كونسلتو’ مثلا, (ويدافع فى نهاية الدراسة عن العلاج الذى كان ينبغى أن يأخذه عمرالحمزاوى , ولا يعفى الناقد أنه تحفظ ضد كل هذا كما ذكرنا)
[12] – بالرغم من أن الدراسة تناولت الجنون بطريقة أقل تقليدية مما تناولت به سائرالأعراض الظاهرة , إلا أنها استمرت فى ذلك البعد الوصفى , وتكرار ذكر الأعراض الواحدة تلوالأخري, رغم أن حدس محفوظ قد أوضح المسألة بما كان يمكن أن يتيح للناقد أن يضيف , ليس فقط إلى قراءته الناقدة, وإنما أيضا إلى معلوماته عن الجنون ذاته.
فالخوف من الجنون غير الإعجاب به, غير مصاحبته ومؤانسته, غير السباق معه, وإذا تمادينا فى المنطق الوصفى الذى قدمت به الدراسة أصلا باعتبار أنهاوصف لاكتئاب تقليدى , لكان يمكن أن نواجه ما ذهب إليه الناقد الطبيب , بأن ما يميز الاكتئاب الأصيل هو الخوف من الجنون, أكثر من أى شى ء آخر من كل هذه التباديل الرائـــعــة والمكثفة .
[13] – كذلك حجب الالتزام الوصفى عن الناقد الطبيب أن يغوص أكثر ليتأمل هذا الدفع الذى كان يدفعه عمر الحمزاوى عن نفسه, كان يدفع عن نفسه الموت, بل يدفع عن نفسه ما هو أشد .فما هو هذا الأشد مما هو فيه؟
ثم كيف يدفع المكتئب عن نفسه الموت, ونحن الذين نعرف عن المكتئب – تقليديا- أنه يتمنى الموت, حتى ليقدم على الانتحار !! ؟
إن الغوص فى هذه المنطقة لنتعلم منها العلاقة الحقيقية بين الموت , والجنون, لهو النقد الأولى بالدراسة, ذلك أنه يطرح مفاهيم للموت قد تكون نقيض الانتحار, ثم هو يفتح آفاقا لما بعد , الذى ليس له اسم فعلا, وكأنه ( محفوظ) يذكرنا صمنا بحتمية احترام هذه المنطقة التى لم تتسم بعد.
[14]- فهو يسمى هذه المنطقة ‘ الشيء’ هكذا بكل تحديد , لا بد من الشيء أو الجنون, أو الموت, وبدلا من أن يتلقى الناقد (النفسي) الرسالة تتفتح بها آفاقه حقيقة وفعلا, فإنه اختزل هذا الشيء إلى ما أسماه عرض من أعراض الهوس, وكالعادة تحفظ تجاه المبالغة فى هذا الاختزال, إلا أنه مضى فى شرح هذه الخبرة الصوفية بألفاظ طبنفسية كادت تخلع عنها روعتها, وتحشر الشيء الذى ليس كمثله شيء تحت اسم ظاهرة من مظاهر الوجه الآخر للاكتئاب وهو الهوس
[15] – وحتى ندرك خطورة ما يسمى النقد النفسى الوصفى بهذه الطريقة, تعالوا نقرأ هذه الفقرة:’ بكل هذه الفرحة والنشوة والسعادة دون مبرر’. فأى مبرر يريد هذا الناقد أن يذكره الروائي, أو أن يعرفه عمر الحمزاوى حتى يبرر له فرحته ونشوته وتوحده مع اللانهائى ؟ هنا يكمن الخطر , لأن مثل هذا النقد قد يصل به الأمر إلى أن يعتبر كل ما لا يفهمه حتى لو كان سهما يشير إلى المابعد, أو أفقا يتفتح ليتجاوز, أو وعيا ينتشر ليستكشف , يعتبر ذلك بلا مبرر, طالما هو لم يجد له مبررا فى كتبه النفسية ناهيك عن تقاليد الحياة الراتبة العادية, التى ما أصيب عمر بما أصيب به إلا من جراء أنها كانت دائما أبدا , كلها, بمبرر.. , ومبرر دامغ, ومعروف مسبقا !!
[16]- ثم انظر إلى ما وصل إليه التفسيرالوصفى حين اعتبر أن عمر الحمزاوى قد وصل إلى مظاهر الجنون المتأخرة ,حيث فقد بصيرته , فأنكر مرضه , إذ أبى أن تستشير طبيبا ‘ فيما يجهله’ , ومرة أخرى نرى تحفظا ضمنياحين يعتب هذا الرد من فاقد البصيرة كما أسماه : ردا ‘بالغ الدلالة فى كثير من الأحيان’ , لكن يبدو أنها كانت دلالة لم تكف لتنفى عن عمر هذا التطور الخطر الذى عده ‘ فاقد البصيرة ‘ لمجرد أنه رفض استشارة طبيب.
ونكاد نعلن أننا مازلنا أما طبيب أكثر منا أمام ناقد , هو هونفس الطبيب الذى حاسب زميله فى الراوية على أنه أخطأ التشخيص,ثم راح ينتقد علاجه, ثم هاهو يدمغ بطلنا بفقد البصيرة لمجرد أنه تجرأ واعتبر أن الطبيب يمكن أن يجهل ما ألم به
[17]- وحين يقرأ الطبيب أن عمر يفكر فى تفجيرالذرة , يتصور أنه عد نفسه أينشتاين مثلا , وأنه بذلك قد تخطى حدوده إذ فكر فى المستحيل , ثم يربط عجزه عن هذا الطموح المستحيل بتفجر طاقات عدوانه , ثم بعد ذلك بانقلاب عدوانه على ذاته, هكذا بكل بساطة, وهو يعتبر ذلك التسلسل إدراكا دقيقا ورائعا وغير مألوف, فنرى محظورا جديدا أوقع نفسه فيه لنفس الأسباب: الالتزام بترجمة الإنسان واختزاله إلى عرض وصفى محدود.
ومثل عمر الحمزاوى حين يفكر فى تفجير الذرة , لا يشير أصلا إلى ذرة خارج ذاته, فقد تفجرتالذرة منذ الأربعينات والذى كان قد كان, لكنه يستشعر داخله هذا الذى ينهار, أو يوشك على ذلك, ويريد له أن يكون انهيارا متفجرا بالطاقة المغيـــرة, لا تحطيما وتناثرا فى شظايا الضياع, والمجنون فى قمة صراعه مع الموت والحياة يريد أن يستوعب الواقع/المستحيل بأن يصبح سيده , فما دام التناثر يتقدم حتما, فالأولى أن يبادر بقبول التفجير ليقوده إلى ما يمكن, فهو الوعى يلتقط تفجر الطاقة, فإن لم تصبح الإرادة سيدة هذه الطاقة , فهو القتل حيث اندفاع الطاقة بلا مسئولية ليس وراءه إلا الإيذاء والإبادة , ثم ترتد هذه الطاقة المدمرة فتشمل الذات, وكأن الإنتحار هنا, خاصة إذا تذكرنا أن عمر كان يدفع الموت, ويدفع ما هوأشد, أقول يكون الانتحار هنا تدميرا ضمن التدمير الشامل, أو انعكاسا بعد العجز عن التفجر إلى أعلى , وأيضا العجز عن القتل بما يعنى التخلص من الآخر الذى يذكرنا بنبض الحياة.
[18] – وإذا كانت هذه الدراسة قد اختزلت الخبرة الصوفية غير المكررة بكل ما تحمل من دلالات إلى بعض مظاهرالهوس الذى يتخلل الاكتئاب إن كان من النوع المختلط !!! ,فإنها عادت تختزل هذا النداء الوارد مؤخرا ‘إن كنت تريدنى فلم هجرتني’ , تختزله إلى عرض جديد, ورغم أنه ذكر صراحة وباللفظ : أن الإيمان الراسخ كثيرا ما يحمى من الهزات والضياع, إلا أن ذلك كان بعد أن ذكرأنه ( محفوظ) ‘..يصف عرضا من أعراض المرض , ألا وهوالسعى إلى التمسك بالإيمان هربا من الضياع’ فما سر هذا التناقض الصارخ ؟
أحسب أنه لا بد أن يكشف على ما وصل به الالتزام الوصفى من تعسف, حتى اختلط الهروب فى التدين, بالإبداع الإيماني, فالأول قد يكون عرضا خاصة إذا أعاق, والثانى هو الإبداع المجدد للوجود سعيا إلى التناغم مع الكون الأعظم, ولا يمكن لدراسة التزمت بترجمة المظاهر إلى أعراض سطحية بهذه الصورة إلا أن تقع فى محظور مثل هذ االتناقض الذى لا أميل إلى اعتباره خطأ بقدر ما أرجح دلالته على أنه مأزق التزام يعلن , ضمن كثير من الاستطرادات السابقة واللاحقة, ضجر الناقد الكامن فى هذه الدراسة , بوصاية الطبيب الجاثم على أنفاسه , المعيق لحركته إلى درجة أوصلته إلى مثل هذا التضارب الظاهر.
[19] – ويختتم الطبيب (حيث لم يعد يجدر أن نذكر الناقد أصلا) دراسته بأن يعتبر نهاية الرواية برصاصة فى الكتف أشبه بصدمة الكهرباء القادرة على إعادة المصاب إلى صحته , ورغم احترامى المطلق- طبيبا- لهذ النوع من العلاج, ورغم اعتباره أكثر إنسانية وأرق تدخلا فى وعى المرضى ومسارهم, فإن هذا التشبيه هو قياس سيء, وخاصة إذا ما قيس برفض كلمة صدمة الذى أتبناه (الرفض) مؤخرا بعد تحديث هذا العلاج بما لا يجعله صدمة أصلا, دون أن يفقد أيا من فاعليته.
ومهما كان انتماء الطبيب كاتب هذه الدراسة أيام أن كتبها متأثرا بفكرة الصدمة فى ذاتها كعلاج مفيق, فإن هذا القياس قد اختزل خبرة نهاية الرواية إلى رجة عفوية , مثلما اختزل مظاهر عديدة طوال الرواية إلى أعراض بذاتها. نفس الموقف .
[20]- - ثم تأتى نهاية الرواية بموقف يخفف -قليلا- من وطأة هذا الوصف اللحوح, بما أقرمعه أن بداية تطور موقفى النقدى كانت لا بد كامنة فى السطرين الأخيرين دون سائرالدراسة.
[21]- ومن البديهى أننى لا آسف على هذه الدراسة أقل الأسف, ولا أتبرأ منها أدنى التبرؤ, وإنما أوردتها لتعلن مرحلة تطور تجاوزتها بإصرار, وإن كنت أعلم يقينا أن كثيرين لا يرجون من مثلى سواها, ولهؤلاء أقدم اعتذارى بهذه الأعمال اللاحقة التى أوردتها فى هذه المجموعة , وبما أنوى أن أكمله إن كان فى العمر بقية