نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 13-8-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5825
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3) [1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الثالث:
“قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)
اللوحة الثامنة:
نايم فى العسل (2 من 2)
استكمالا لما بدأناه أمس فى قراءة اللوحة الثامنة “نايم في العسل” نواصل اليوم:
نقرأ المتن (وهو يواصل):
إٍوعَى تزعلْ منّى: دنَا عيّل باريّل،
لسَّه عندى كلام كتير أنا نفسى اقولهْ،
عايِز اوْصف فى مشاعرى وإٍحساساتى،
واقعد اوصفها سنين،
مش حا بَطّلْ، خايف ابطّلْ،
لو أبطّل وصف فى الإحساسْ حَاحِسّ،
وانا مِش قد الكلام دهْ.
يلاحظ هنا أن الخطاب هو بلغة الجزء الأعمق من النفس. كما هو الحال فى هذا العمل كله، لأن كل هذه الدفاعات تحدث – طبعا – بعيدا عن وعى المريض الظاهر، أمّا الطبيب “أو المعالج” فإنه يلتقطها من خلال تقمصه بالجزء الأعمق لمريضه، ثم قد يتبينها المريض فيما بعد، أو لا يتبينها.
عندما أستشهد بهذه الفقرة التى تقول “لو أبطل وصف فى الإحساس حا حس”، لا يصدقنى أغلب تلاميذى أو زملائى الأصغر، ناهيك عن مرضاى.
المعتقد العام هو فى الاتجاه العكسى (كما أشرنا سابقا غالبا)، معظم الناس يعتقدون أن وصف الإحساس هو سبيل إلى تعميق الإحساس، النص هنا ينبه إلى أنه فى كثير من الأحيان، ولا مجال للتعميم بداهة، يكون وصف الإحساس بالألفاظ هو بديل عن معايشة هذا الإحساس، وفيما يلى مشهدان يؤكدان ذلك، الأرجح أننى أشرت إليهما سالفا أيضا، وهما:
أولا: فترات الصمت التى تحدث مصادفة فى العلاج الجمعى، فتتفجر خلالها أحاسيس مختلفة، لمن يحمى نفسه بسبات خفيف أو عميق، أو على الأقل بسرحان ممتد، قد تكسره زيادة فترة الصمت أكثر وأكثر، فى هذه الحالات التى عايشتها فى العلاج الجمعى عددا متوسطا من المرات، كانت المشاعر الحقيقية التى تظهر خلال الصمت أعمق، مما يسهـِّل علينا التقدم إلى طبقات أخرى من الوجدان، ومستويات أخرى من الوعى.
ثانيا: تلك التجربة التى وصفتها أيضا فى حلقات سابقة: حين أعرض على مريض فى لقاء إكلينيكى – تعليمى فى الغالب – أن يسمح لحزنه أن يظهر دون (ا) أن يعزوه إلى سبب، حالى أو سابق، وأيضا (ب) دون أن يعبر عنه بالألفاظ، (أحيانا أستعمل تعبير: يمارس حقهُ فى “الألم”)، وإذا بنوع آخر من الأحاسيس يطل من العينين والوجه والجسد دون ألفاظ مؤكدا الفكرة التى جاءت فى المتن هنا: أنه “لو أبطل وصف فى الإحساس حا حس”.
داخل “صاحبنا” هنا، يعلنها : أنه لن يسمح لمشاعر أصدق أن تطل منه رغما عنه.
ينبغى أن ننبه هنا إلى أن وصف الإحساس ليس منهيا عنه على طول الخط، فالقدرة على ترجمة الأحاسيس إلى ألفاظ هى أداة للفنانين والشعراء خاصة، وإن كانت قد مرت علىّ فترة شعرت فيها أن الشعر بالذات قد يكون ضد الثورة، اللهم إلا شعر التحريض، وهو ليس شعرا جدا، أو على الأقل ليس من أفضل الشعر، وإذا كنا نشجع الطفل فى نموه العادى أن يتعلم الرموز (الكلام) فى طريقه إلى التفوق الإنسانى، فإن الرموز اللفظية التى تصف الانفعال بوجه خاص هى من أعجز الرموز وأكثرها غموضا وتداخلا. إن النمو عند الأطفال وغيرهم لا يعنى أن يحل الرمز محل الخبرة، الكلام يساعد الطفل ليستطيع وصف بعض خبراته بما تيسر من رموز.
فى هذه الصورة التى أقدمها هنا يخرج اللفظ عن هذه الوظيفة – كما ذكرنا – ويصبح بديلا عن الخبرة، يصبح اغترابا عن الوجود.
حين يتأكد هذا الموقف هكذا، من داخل داخل المريض، يصبح الاستمرار بنفس شروط التعاقد البدئى مضيعة للوقت فى أغلب الأحوال، وهنا يحق للمعالج أن يفرض توقف العلاج الأمر الذى قد يحتاج إلى إعلان فرصة “إعادة التعاقد” حفزا للمريض بالحرص أكثر على المشاركة.
المقطع التالى فى المتن يعلن مثل هذا الموقف من المعالج ببساطة “شوف لك حد غيرى”، ولعل هذا يبين أيضا أن النصح بإيقاف هذا العلاج بالذات ليس حرمانا للمريض من العلاج عامة، وإنما هو اقتراح بعلاج آخر، قد يكون المريض فيه أقل مقاومة، وأكثر استفادة حسب شروطه.
المقطع التالى يعرض أيضا مقارنة ساخرة بين العلاج التسكينى بالعقاقير المهدئة أو القامعة (مع أنها هى هى التى تستعمل منظّمة، ومنسِّقة مع اختلاف الطريقة والجرعة والتوقيت بحسب مسيرة العلاج التكاملى)، وهذا المقطع يشير أيضا إلى وسائل هروبية أخرى، من أول الهجرة الهروبية إلى التوقف عن مسيرة النمو تماما مما نسميه أحيانا – برغم قسوة الاسم – الموت النفسى، وهو يقابل الاغتراب المزمن، وما يسمى “فرط العادية” أحيانا.
المقطع التالى لا يصرَّح به الألفاظ طبعا، وإنما هو يترجم لسان حال المعالج المسئول الحريص على إنهاء الموقف السلبى بشكل أو بآخر.
(7)
المعلم قالُّه: شوفْ لَكْ حد غيرى،
جَنْبِنَا دكّانة تانيةْ،
فيها “بيتزا” مِالّلى هيَّهْ،
أو “لازانْيَا”.
فيها برضكْ وصفهْ تشفى مالعُقدْ،
إسمها “سيبِ البلد”.
فيها توليفةْ حبوب من شغل برّة.
تمنع التكْشيرهْ، والتفكيرْ، وْتمِلاكْ بالمسرّة.
فيها حقنةْ تخلِّى بَالَكْ مِستريـَّـحْ.
تِنتشِى وْتفـضَلْ مِتَنَّحْ.
فيها سرّ ما يِتْنِسِيشْ.
لِلـِّى “مِشَ عايز يــعـــيش”!!
المتن يظهر لنا كيف استجاب صاحبنا لهذا الطرد الصريح بأن أعلن مقاومته للتغيير رغما عنه، وهذا لا يتعارض مع إصراره البدئى على التغيير مثل الآخرين “أنا نِفْسى ابقى كده”، لكن حين وصل الأمر إلى التهديد بـ “إنهاء التعاقد” هكذا، استثار هذا الموقف مقاومة صاحبنا فراح يكشف عن أسبابه للمقاومة.
هذا النوع من العلاج بالمواجهة والتعرية، إن لم تضبط جرعته، ويمتد زمنه إلى درجة كافية، ومهما كانت حسن نية من يشترك فيه، وموافقته على شروطه، وأيضا مهما سمى أنه علاج من منظور النمو والتطور ومثل هذا الكلام، فإن فيه خطورة أن يطغى عليه فكر مثالى، تحت تأثير معالج له حضور قوى، أو منظومة ذاتية طاغية ظاهرة أو خفية، وبالتالى، فإن المريض الذى يلتقط أيا من هذا مهما كان حماسه، يخشى على هويته، على منظومته الخاصة من الاهتزاز، سواء كانت منظومة دينية، أو أيديولوجية سياسية، أو ذاتية ظاهرة أو خفية، يخشى عليها لدرجة أن أية دعوة للمخاطرة بالتغيير تترجم لديه بانها إغارة من منظومة المعالج الأقوى، أو من منظومة المجموعة ككل، وهنا تقفز المقاومة (المشروعة بصراحة)، ولا تهدأ إلا حين يكتشف المشارك أن له حق الاحتفاظ “بنفسه وهُويته كما هى”، وأن المطلوب هو السماح بإضافة جدلية من خلال الاختلاف الموضوعى المقيس بمقاييس النمو والتكيف والإنجاز معا.
هذا ما أعلنه صاحبنا بصريح العبارة هكذا:
(8)
قام صاحبْنَا إِتقَمَصْ، بسْ ابْتَسَمْ.
قالْ عليكْ نور يا معلم،
”بسّ انا مش ناوى اسلِّم”
قال لـِنَفْسُهْ: مشْ حاشوفْ غير اللِّى انا قادر أشوفه.
هيـّا لعبهْ؟
هوه عايزنى أكون من صنع إيده؟
واللى بيْقُولُهْ، أعيدُهْ؟
إنما بعيدْ عن شوارْبُـهْ،
مشْ مِصاحْبُهْ.
حا نزل اتدبّر شُؤونى
وسط هيصةْ الناس حاَضِيـعْ.
لما أصِيعْ،
زنقة الستات ألذْ.
مالِحقيقه اللى تهزْ.
بس ياخْسَاره مانيش راجل يِسـدْ،
والنِّسـَا واخداها جَدّ.
الاحتجاج هنا والمقاومة يعلنهما “داخل” صاحبنا، وليس ظاهره، كما أشرنا سالفا، وحين تـُـرفض علاقة الاعتمادية العلاجية بهذا الوضوح، سواء بسبب لاجدواها، أو بسبب تناقضها مع قيم هذا النوع من العلاج وأهدافه، تتجلى فى داخل المريض بدائل استسهالية ليس فيها مخاطر الرؤية، ولا أشواك العلاقة الموضوعية، ومن أهمها الاعتماد على المواد أو الاكتفاء بالجنس المنشق، وهذه البدائل الهروبية لا ينبغى الحكم عليها بأحكام أخلاقية أو دينية ابتداء، وإنما بمدى سلبيتها أو إيجابيتها على مسيرة النمو، فقد يكون فى مثل هذا الاستسهال تنازل عن الهوية الحقيقية بقبول الضياع وسط كتلة الناس الممتزجة “وسط هيصةْ الناس حاَضِيـعْ”.
مثل هذه الحلول الواردة على لسان حال صاحبنا ليست بالضرورة سلبية على طول الخط، حسب الثقافة التى تتم فيها، وحسب العائد منها على المشاركين فيها، وعلى المجتمع الأوسع، فى ثقافتنا هنا، الأرجح أنه يتم استعمال المرأة بشكل يخلو من العدل نظرا لظروفها الأكثر انسحاقا، تاريخا وحاضرا.
صاحبنا هنا يأمل أن يجد مَنْ تقبله هكذا مستسهلا، أو حتى مُستعمِلاً، لكن يبدو أنه حتى هذا ليس متاحا لمثل هذا الشخصيات الاعتمادية المرتعدة، وها هو داخله يعلنه أنه لن تتحقق ذاته، ولا حتى لذته، وهو بهذه الصفات، لأن المرأة التى يمكن أن تمارس علاقة حقيقية، لا تريد هذا النوع من الاعتماد من ناحية، ولا تستطيع أن تملأ احتياجا مثقوبا هكذا، من ناحية أخرى.
المقطع التالى يعلن أن هذا الحل “الدون جواني” هو فاشل أيضا لأن صاحبنا (وأمثاله) ليس حتى دون جوانا.
كثيرا ما ينخدع الناس فى مثل هذه التصرفات الدون جوانية وكأنها تصرفات ناجحة مثرية، إلا أنى فى خبرتى المهنية على الأقل، كنت أتبين من خلال معلومات متراكمة أن كثيرا من هؤلاء الذين يلجأون إلى هذه الوسائل لتأكيد الذات، كثير منهم يعانى من ضعف جنسى إن عاجلا أو آجلا بشكل أو بآخر، وتفسير ذلك عندى أن هذه المحاولات الدون جوانية تتم بشكل نكوصى منشق (وليس نكوصا واعيا) وبالتالى تأتى الإعاقة من جانب من النفس فى مواجهة الجانب الناكص على المستوى اللاشعورى، وكأن أحدهما يقول للآخر: إذا كنت نجحت فى الإغراء فسأُفْشِـلـك فى التواصل، ومن ثمَّ ستعرف ما هو الفشل الحقيقى، مع استمرار السعار وراء تعدد العلاقات، واستبدالها وتكرارها بلا جدوى.
ها هو المتن يعلن على لسان “داخل صاحبنا الناقد” احتمال فشل هذا الحل هكذا:
بس يا خْسَاره مانيش راجل يِسـدْ،
والنِّسـَا واخداها جَدّ.
“النِّسَا عايزالْها راجل يِملى راسها،
مش يبيع روحه لِها علشان ما باسْها.
النِّسَا عايزهْ اللى عيبُه مش فى جيبه، وماشِى حالُهْ،
عايزهْ واحد يِنْتبه لِلِّى فى بالها، زى مايشوف ما فى بالُهْ،
النِّسَا عايزهْ اللى يعرف امتى بيقولْهَا “انّ لأَّه”،
أيوه “لأهَّ”، بس “لأهَّ” ليهَا بيهَا.
عايزهْ واحد تحِتويهْ، بس تضمن إنُّه قادرْ يِحتويَها.”
وانا مش قد الكلام ده!!
الاعتراف هنا صريح من جانب هذا “الداخل الناقد” برغم كل ظاهر اعتماديته، اعتراف بأن هذا الحل الذى لاح له فى البداية سوف يفشل أيضا، والمتن هنا يعبر عن أن العلاقة الحقيقية التى تبنى الطرفين، هى علاقة نـِـدّية بها من العدل والرؤية ما يؤكد أنها علاقة بين اثنين من جنس البشر، وليس بين مُلتهمٍ ومأدبة، ولا بين مستعملٍ وأداة، من هنا، وعلى لسان نفس الناقد الداخلى، وليس المعالج، ولا زملاء التجربة، يـُظهر المتن بوضوح فشل الهرب فى اللذة العاجلة بالمقارنة بحاجة مثل هذا الشخص وغيره لامرأة تقبل وتستطيع أن تمنحه الاعتراف، وليس مجرد اللذة والتفريغ، مثل هذه المرأة تريد شريكا يمثل لها آخر حقيقيا، بما يشمل تواصلا متعدد القنوات، من أول أن يملأ كل منهما وعى الآخر، “يملا راسها“، وليس من يذل نفسه طلبا لرضاها، أو رشوة للحصول عليها، أو يشتريها بما فى جيبه ليس إلا، وأيضا: تتعدد قنوات التواصل لتشمل الحدس المتبادل “عايزهْ واحد يِنْتبه لِلِّى فى بالها، زى مايشوف ما فى بالُهْ”.
وأيضا: صاحبنا ينبهه داخله إلى أن العدل المتبادل يسمح له أن يعترض على شريكته بأمانة موضوعية، وليس مجرد دفاعا عن النفس، فلا يتنازل عن حق الاعتراض المسئول لمجرد إرضائها، ويكون حق الاعتراض “إن لأه” متبادلا ومسئولا بقدر ما يعود عائده على دفع العلاقة أكثر فأكثر إلى علاقة إنسانية حقيقية،
النِّسَا عايزهْ اللى يعرف امتى بيقولْهَا “انّ لأَّه”،
أيوه “لأهَّ”، بس “لأهَّ” ليهَا بيهَا.
وأخيرا، فيبدو أن داخل صاحبنا يعرف مدى بعده عن كل ما تتطلبه المرأة التى تجاوزت أن تكون مجرد جسم أنثوى منحشر فى “زنقة الستات”، بهذا الشكل، والمتن ينهى هذه الرؤية بإظهار أن العلاقة الحقيقية، سواء مع امرأة، أم فى العلاج الجمعى، وما شابه، هو تبادل الاحتواء لتعميق حركية “الدخول والخروج”، بديلا عن الالتهام، أو الاستعمال،
“عايزهْ واحد تحِتويهْ، بس تضمن إنُّه قادرْ يِحتويَها”.
يعود صاحبنا الذى نحمد له استمراره هكذا، ينتبه إلى أن هذا الوعى الناقد الذى كشف له شخصيا فشل مهاربه، هو ناتج من خبرته فى هذا النوع من العلاج، وبالتالى جعله كمن رقص على السلم، فلا هو أعمى تماما يمشى حاله مثل غيره، ولا هو يواصل رحلة النمو ويدفع ثمنها، حتى الحل الهروبى اللذّى الذى يبدو أنه أفشله قبل أن يبدأ، مع ملاحظة أن الإفشال لم يأتِ من نصائح المعالج، ولا من القياس على خبرة الذين يحاولون فى المجموعة، لكنه جاء من واقع رؤيته الأمينة، برغم أنها لم تنفعه حافزا لاستمرار تجربة نموه، فهى رؤية صادقة وكاملة، برغم أنها عاجزة، وذلك لأنها معقلنة تماما.
هل هذه الرؤية الناقدة دفعت صاحبنا، أو تدفع مثله، أن يواصل رحلة النمو الصعبة، من خلال المغامرة المحفوفة بالمخاطر، والألم الواعد بالتجاوز؟ الإجابة هى أن الوعى المعقلن، حتى من داخل الداخل ناقدا قويا هكذا، ليس كافيا – عادة – للتغلب على مثل هذه المقاومة القوية.
وها هو صاحبنا يعلن أسفه أنه لم يستطع أن يتخلص مما وصله من رؤية، وفى نفس الوقت لم يستطع أن يكمل، فيروح يضع اللوم كل اللوم على من عرّضه لهذه الجرعة المفرطة، دون أن يتأكد من قدرته على تحملها، هذا هو ما تناولناه سابقا مكررا عن ضرورة ضبط الجرعة، ليس فقط جرعة العقاقير وتناسبها مع مسيرة النمو، وإنما أساسا جرعة الرؤية، وتناسبها مع الألم، والحركة.
نسمع عتاب صاحبنا الهجومى على المعالج، وهو محق فيه، برغم احتمال عدم موضوعيته:
(9)
كله منَّكْ يا مِعلمْ:
ليه تفتَّح عينىٍ وِتْوَرينى نَفْسى؟
ليه تلوَّح باللى عمره ما كانْ فِى نِفْسِى؟
واحده واحده، كُنت هَدِّى،
قبل ما تْحَنِّسْنِى، يعنى، بالحاجاتْ دِى.
ليه تخلِّى الأعمى يتلخبط ويرقص عالسلالم ؟
كنت سيبْنِى فى الطَّرَاوةْ، يعنى صاحى زى نايمْ.
داهية تلعنْ يوم مَا شُفتَكْ.
يوم ما فكرت استريحْ جُوّا خيمتكْ.
يوم ما جيتـْلَكْ تانى بعد ما كنت سبتكْ.
يا معلّم: إما إنك تقبل الركاب جميعاً
اللى واقف، واللى قاعدْ، واللى مِتشعبط كمان،
أو تحط اليافطةْ تعلن فين خطوطْ حَدّ الأمانْ.
كل واحد شاف كده غير اللى شايفُهْ،
يبقى يعرف إنه يمكن لسّه مِشْ قَدّ اللى عِرْفُهْ.
ثم نختم بشىء من الإعادة، وهى إعادة تتعلق بنفس القضية الخطيرة التى تبدأ بالتساؤل: إلى أى مدى يحق للمعالج أن يغير من نوع وجود المريض، وقيمه؟
إن احتجاج صاحبنا الأخير هذا هو إعلان من جانبه محذر رائع، الاختلاف حول هذه القضية شديد، وأغلب الآراء ترجح صراحة أنه ليس من حق المعالج أن يتدخل بأية صورة فى نوعية وجود آخر، أو منظومة قيمه، وبرغم أننى مع هذا الرأى ابتداء إلا أننى أعيد صياغة التعبير هكذا:
ليس من حق المعالج من حيث المبدأ أن يتدخل فى نوعية وجود آخر، أو منظومات قيم من يعالجه، أو نوع وعمق رؤيته بشكل مباشر، ولكن أيضا ليس مطلوبا منه أن يخفى عن مريضه نوع وجوده هو (وجود المعالج)، خاصة مع المريض الذهانى، فالأرجح أن هذا الأخير سوف يلتقط منه ما يشاء دون إذنه، وعلى ذلك: فكلما كان التدخل واعيا كان آمن وأكثر انضباطا.
وأضيف: إن الحديث عن المعالج والعلاج يختص بدائرة محدودة فى المجتمع، وإن الذى قد يسمح للمعالج بهذا التدخل الواعى المسئول هو عاملان أساسيان:
أولا: وجود أعراض ضاق بها المريض وبالتالى فهو ساع إلى التغيير ابتداء.
ثانيا: حضور المريض باختياره النسبى للعلاج، ثم تأكيد حضوره هذا بانتظامه فى الحضور برغم كل شىء.
إذا ما توفر أحد هذين الشرطين فهو اعتراف ضمنى بأن المريض يوافق على تغيير ما، والمعالج عادة – كما تبينت أثناء خبرتى – يعرض تغييرين:
أحدهما تغيير على مسار النمو والتطور (وعليه أن يكون ناجحا شخصيا فى ممارسة هذا السبيل ولو جزئيا، وإلا فالخدعة أخطر من كل تصور)، فهو يقف مع هذا التغيير ويساهم بالمشاركة فى استمراره، وهو يشير ضمنا، من واقع ممارسته إلى نتائجه.
أما التغيير الآخر الذى يعرضه المعالج – بطريق غير مباشر – فهو تعديل ما استجد من أحوال مرضية (أعراض وإعاقة) بالرجوع إلى نوع الوجود القديم شريطة اختفاء الأعراض والاستمرار فى الأداء على أرض الواقع.
على المعالج أن يترك المريض يلجأ إلى هذا التغيير الأخير بنفسه – وربما ضد محاولات دفعه لمواصلة النمو – حتى يتحمل مسئولية نتائجه، أما الذى ينبغى أن يرفضه المعالج فهو الحل الوسط المائع المتذبذب فى صورة استمرار الأعراض أو استمرار الاعتمادية أو استمرار الخداع “بالرقص على السلم” بين الاختيارات المطروحة.
الخلاصة:
نستنج من كل هذا أن المطلب الذى انتهى به المتن على لسان صاحبنا المحتج، هو مطلب حر فى ظاهره، لكنه تبريرى سلبى فى نهاية الأمر، لأنه لم يدفع المريض للانسحاب من الخبرة، وتحمل مسئولية ذلك.
صاحبنا هنا يتمنى – ويطلب ويعمل على – أن يوقف المسيرة، لكنه يفتح الباب بأمانة شديدة، لاحتمال استمرار النمو إذا أحسن ضبط الجرعات جميعا، وتناسب البصيرة، مع الألم، مع الحركة، مع المواكبة، مع النمو.
يا معلّم: إما إنك تقبل الركاب جميعاً
اللى واقف، واللى قاعدْ، واللى مِتشعبط كمان،
أو تحط اليافطةْ تعلن فين خطوطْ حَدّ الأمانْ.
كل واحد شاف كده غير اللى شايفُهْ،
يبقى يعرف إنه يمكن لسّه مِشْ قَدّ اللى عِرْفُهْ.
****
وأخيرا هاكم المتن مكتملاً:
(1)
والعيون التـَّانـْيـَه دى بتقول كلامْ،
زى تخاريف الصيامْ؛
الصيام عن نبضِة الأَلـَم اللى تِـبْنى،
الصياْم عن أىَّ شئ فيه المُـغـامْـرَهْ،
الصيام عن إن لازم كل بـنِـى آدم يـِفَتّح،
مش يتنَّـح
الصيام عن أى حاجة فيها إنى: عايز أكونْ:
زىّ خلقةْ ربنا”
(2)
العيون دى صرّحت إنِّ صاحبنا
عمره ما حايعلن يسيبنا
بس شرطه يَتّنه نايمْ فى العسل، عمال بيحلَم،
بَسْ عامل نفسه بيحاول، ويتكلمْ، ويحكُـمْ،
شرطِ إنه لمْ يـِـخـَـطـىِّ أو يِسلّـمْ
مشْ على بالُه اللى جارِى،
”كل همّه، يستخبَّى أو يدارى”.
وان وَصلُّه، غَصْب عَنُّهْ
يترمى سْطيحَهْ ويُطْلُبْ حتّه مـِنُّـهْ:
شرط إنه يجيله فى البزازة دافْيَةْ، جَنْب فُمُّهْ.
(3)
كان صاحبنا حلو خالص فى الكلام
كان بيتفرج، وهوه بعيد تمام،
كل ما نديله حتـّه، يترسم ويقول كمان.
عايز أخطى، بس شرطى، فى الأمان
كان مركـِّـز عاللى كان واخد عليه
لما كان بيحكَّى للى شافُهْ “بيهْ”:
كلٌّه “مين”، و”زمان” و”ليه”!!
بس ده ياناسْ لقاهـَا حكاية تانية ـ
يعنى شغل “هنا” و “حالا” كل ثانية
كل ما واحد يهمّ
نفسه يعنى يهم زيّه، بس لأْ، من غير ألمْ !!
يقلب الخبرة مشاهدهْ كإنه فيلمْ:
قالُّهْ سمَّعْنَا كمان حبّةْ نغَمْ:
كِيدِ العدَا،
يا سلامْ!! هوا جوّاك كلّ دا!؟
أنا نِفْسِى ابقَى كده؟
بس حبُّونِى كمانْ.
حُط حتَّهْ عالميزان.
أصلِى متعَّود زمانْ:
إنى انام شبعان كلامْ.
“قام صاحبنا بانْ كإنه مشْ مِمَانـِعْ،
بس قاعد ينتظر “بِنجِ اللذاذة”،
كـلّه دايب فى الإزازة”.
(4)
”يا أخينا مِدّ إيدك
يا أخينا هِـمّ حبَّـهْ.
الحكاية مِش وِكالة بْتَشتِرِى منها المَحَبّةْ”.
قام صاحبنا بانْ كإنه مشْ مِمَانـِعْ،
بس قاعد ينتظر “بِنجِ اللذاذة”
كـلّه دايب فى الإزازة
رضعة الحب اللى جىّ جاهز ودافى
رضعه كامـِلـَةْ إلدّسم، سـُكـّـرها وافى !!
(5)
والمعلّم صْبُرهْ بحباله الطويلةْ،
قال “لابد أشوفْ لُه حيلهْ”:
قال لـه يا ابنى تعالى جنبى
إنت تطلب، وانا الـــَــبّى،
راح صاحبنا معرّى جوعه، نطّ كل اللى مْدَارِيهْ
عرضحال كاتب جميع ما نـِفـْسُه فيه:
“.. بعد موفور السلامْ،
نِفْسِى حبِّةْ حُبْ، أو حتِّةْ حقيقهْ،
نفسى أشارك فى اللى جارى ولو دقيقهْ،
نفسى أعرف فى اللى بتقولوا عليهْ،
نفسى اشوف دا إسمه إيه”
(6)
المعلّم قالّه: “ماشى، يالله بينا”
يالله بينا!!! يالله بينا؟ على فين؟
دانا مستنى سعادتكْ.
روح وهاتْ لى زى عادتكْ.
أى حاجة فيها لذّة،
الكلام الحلو، والمنزول، ومزّة.
أنا أحكى، وانت تتصرف براحتكْ.
أنا تعجبنى صراحتك،
إٍوعَى تزعلْ منّى: دنَا عيّل باريّل،
لسَّه عندى كلام كتير أنا نفسى اقولهْ،
عايِز اوْصف فى مشاعرى وإٍحساساتى،
واقعد اوصفها سنين،
مش حا بَطّلْ، خايف ابطّلْ،
لو أبطّل وصف فى الإحساسْ حَاحِسّ،
وانا مِش قد الكلام دهْ.
(7)
المعلم قالُّه: شوفْ لَكْ حد غيرى،
جَنْبِنَا دكّانة تانيةْ،
فيها “بيتزا” مِالّلى هيَّهْ،
أو “لازانْيَا”.
فيها برضكْ وصفهْ تشفى مالعُقدْ،
إسمها “سيبِ البلد”.
فيها توليفةْ حبوب من شغل برّة.
تمنع التكْشيرهْ، والتفكيرْ، وْتمِلاكْ بالمسرّة.
فيها حقنةْ تخلِّى بَالَكْ مِستريـَّـحْ.
تِنتشِى وْتفـضَلْ مِتَنَّحْ.
فيها سرّ ما يِتْنِسِيشْ.
لِلـِّى “مِشَ عايز يــعـــيش”!!
(8)
قام صاحبْنَا إِتقَمَصْ، بسْ ابْتَسَمْ.
قالْ عليكْ نور يا معلم،
”بسّ انا مش ناوى اسلِّم”
قال لـِنَفْسُهْ: مشْ حاشوفْ غير اللِّى انا قادر أشوفه.
هيـّا لعبهْ؟
هوه عايزنى أكون من صنع إيده؟
واللى بيْقُولُهْ، أعيدُهْ؟
إنما بعيدْ عن شوارْبُـهْ،
مشْ مِصاحْبُهْ.
حا نزل اتدبّر شُؤونى
وسط هيصةْ الناس حاَضِيـعْ.
لما أصِيعْ،
زنقة الستات ألذْ.
مالِحقيقه اللى تهزْ.
بس ياخْسَاره مانيش راجل يِسـدْ،
والنِّسـَا واخداها جَدّ.
“النِّسَا عايزالْها راجل يِملى راسها،
مش يبيع روحه لِها علشان ما باسْها.
النِّسَا عايزهْ اللى عيبُه مش فى جيبه، وماشِى حالُهْ،
عايزهْ واحد يِنْتبه لِلِّى فى بالها، زى مايشوف ما فى بالُهْ،
النِّسَا عايزهْ اللى يعرف امتى بيقولْهَا “انّ لأَّه”،
أيوه “لأهَّ”، بس “لأهَّ” ليهَا بيهَا.
عايزهْ واحد تحِتويهْ، بس تضمن إنُّه قادرْ يِحتويَها.”
وانا مش قد الكلام ده!!
(9)
كله منَّكْ يا مِعلمْ:
ليه تفتَّح عينىٍ وِتْوَرينى نَفْسى؟
ليه تلوَّح باللى عمره ما كانْ فِى نِفْسِى؟
واحده واحده، كُنت هَدِّى،
قبل ما تْحَنِّسْنِى، يعنى، بالحاجاتْ دِى.
ليه تخلِّى الأعمى يتلخبط ويرقص عالسلالم ؟
كنت سيبْنِى فى الطَّرَاوةْ، يعنى صاحى زى نايمْ.
داهية تلعنْ يوم مَا شُفتَكْ.
يوم ما فكرت استريحْ جُوّا خيمتكْ.
يوم ما جيتـْلَكْ تانى بعد ما كنت سبتكْ.
يا معلّم: إما إنك تقبل الركاب جميعاً
اللى واقف، واللى قاعدْ، واللى مِتشعبط كمان،
أو تحط اليافطةْ تعلن فين خطوطْ حَدّ الأمانْ.
كل واحد شاف كده غير اللى شايفُهْ،
يبقى يعرف إنه يمكن لسّه مِشْ قَدّ اللى عِرْفُهْ.
…………………
………………….
ونواصل السبت القادم لقراءة اللوحة التاسعة: “نيجاتيف”
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
أوحشتنى يا مولانا :
المقتطف :والمعلّم صْبُرهْ بحباله الطويلةْ،
قال “لابد أشوفْ لُه حيلهْ”:
قال لـه يا ابنى تعالى جنبى
إنت تطلب، وانا الـــَــبّى،
راح صاحبنا معرّى جوعه، نطّ كل اللى مْدَارِيهْ
عرضحال كاتب جميع ما نـِفـْسُه فيه:
“.. بعد موفور السلامْ،
نِفْسِى حبِّةْ حُبْ، أو حتِّةْ حقيقهْ،
نفسى أشارك فى اللى جارى ولو دقيقهْ،
نفسى أعرف فى اللى بتقولوا عليهْ،
نفسى اشوف دا إسمه إيه”
(6)
المعلّم قالّه: “ماشى، يالله بينا”
التعليق : قرأتها مرارا وتكرارا ، وفى كل مرة ،أرى عيناك تطل من داخلى لتسألنى : ليه كده يا ماجده يا بنتى ؟!ثم يتردد صدى صوتك بداخلى من عمق الأعماق قائلا : حارمه نفسك من نفسك …….،ولا أجد ما أقوله سوي : يارب ،يامولانا