الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” اللوحة الثامنة “نايم فى العسل” (1 من 2)

“فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” اللوحة الثامنة “نايم فى العسل” (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 12-8-2023

السنة السادسة عشر

العدد: 5824

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3)[1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الثالث:

 “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)

اللوحة الثامنة:

 نايم فى العسل (1 من 2)

تكاد تكون هذه الحالة تطبيقا أكثر مباشرة وتوضحيا لما أسميناه “تسول الحب”، يتجلى ذلك هنا فى موقف علاجى محدد، يكاد يعرض مقارنة حادة بين العلاج النفسى الفردى التسكينى بالكلام، وبين العلاج الجمعى الذى نمارسه من منظور إيقاعحيوى تطورى أساسا.

هذه الحالة بوجه خاص، كانت لها تاريخ طويل فى العلاج النفسى الفردى معى، أنجزتْ من خلاله درجة معقولة من التكيف، والتسكين حتى تخرّج صاحبها من كلية قمة، واختفت الأعراض البادئة،  ثم إنه طلب بوضوح أن يواصل العلاج الجمعى، فأعطيته الفرصة، باعتبار أنها مرحلة لاحقة قد تفيده فى استكمال النمو، خاصة وأنه – بتخرجه – لم يعد فى حاجة إلى جرعة زائدة من آليات الدفاع العامِية، وقد كان صادق النية فى أن يحاول  أن يكمل.

الذى حدث هو العكس تماما، فقد عرّت تجربة العلاج الجمعى المواجِهِى الجرعة المفرطة من الاعتمادية التى ربما اعتادها صاحبنا أثناء العلاج الفردى، وقبله، لكنه أصر على مواصلة المحاولة، وكلما تقدم فيها، أكد موقف “المتفرج” دون مشاركة، وازدادت ميكانزمات العقلنة والاعتمادية، حتى صار واضحا للجميع أنه لا ينوى أن يتقدم إن لم يتراجع.

كان صاحبنا شاطرا تماما فى وصف ما به، بل وما بغيره، كما كان حاذقا فى الإعجاب بما يجرى حوله فى المجموعة العلاجية من محاولات وتجارب، ومفاجآت مخاطر، لكنه كان دائما يحمى نفسه بمزيد من الطلبات من موقف سلبى متلق، بلا محاولة جادة من جانبه لأى حركة نحو التغير الكيفى الحقيقى.

كان صاحبنا مثابرا منتظما فى حضور اللقاءات كلها تقريبا، دون أى تغيير من جانبه، وحين تكررت المواجهة، وتعرى موقفه أكثر فأكثر، بدأ العدوان الاحتجاجى يحل محل المقاومة الاعتمادية، ليختم تجربته بالاحتجاج على قائد المجموعة، معالجه القديم، وكان احتجاجه موضوعيا منبها، مؤكدا ما ذهبنا إليه فى العلاج النفسى بأنواعه، من ضرورة ضبط جرعة الرؤية الجديدة، لتتناسب مع فرص احتوائها، وظروف واقعها، على مسار النمو.

المتن أيضا تعرض لمقارنة مباشرة – ساخرة – ما بين الاقتصار على العلاج بالتسكين والضبط والربط باستعمال العقاقير أساسا، وبين العلاج التكاملى الذى يستعمل العقاقير دعما لمسيرة النمو بجرعات متغيرة حسب مسيرة الحالة كما ذكرنا دائما.

والآن إلى القراءة فالتداعى:

(1)‏

‏ ‏والعيون‏ ‏التـَّانـْيـَه‏ ‏دى ‏بتقول‏ ‏كلامْ‏،‏

زى ‏تخاريف‏ ‏الصيامْ؛

الصيام‏ ‏عن‏ ‏نبضِة‏ ‏الأَلـَم‏ ‏اللى ‏تِـبْنى، ‏

الصياْم‏ ‏عن‏ ‏أىَّ ‏شئ‏ ‏فيه‏ ‏المُـغـامْـرَهْ،‏

الصيام‏ ‏عن‏ ‏إن لازم كل ‏ ‏بـنِـى ‏آدم‏ ‏يـِفَتّح‏، ‏

مش يتنَّـح

الصيام‏ ‏عن‏ ‏أى ‏حاجة‏ ‏فيها‏ ‏إنى: ‏عايز‏ ‏أكونْ:

‏ ‏زىّ ‏خلقةْ ‏ربنا‏”‏

مسألة أن أكون “زى خلقة ربنا” تكررت كثيرا فى هذا العمل، وأنا – بصراحة – لا أجد لذلك  بديلا، حتى كلمة “الفطرة” أجدها بديلا أكثر غموضا فعلا من “زى خلقة ربنا”

يتحفظ العلماء عادة على هذه اللغة، وربما عندهم حق، فما أن تنطق بهذا التعبير “زى خلقة ربنا” أو “كما خلقنا الله” ينبرى أهل السلطة الدينية ليستولوا على كل ما بعد ذلك لصالح تعميق سلطتهم، وترصين أبجديتهم الخاصة، وليس لصالح إطلاق المسيرة البشرية لتكمل مشوارها “إليه”، وأيضا ينبرى العلماء المحدودون يتهمونك بالقفز وراء الحقائق العلمية المحددة إلى ما يسمونه الميتافيزيقا، الذى أقصده، وغالبا يقصده الناس، بهذا التعبير، هو أن يكون الإنسان إنسانا، كائنا متميزا، يحمل تاريخ تطوره كله، لا يلغى أوله لصالح آخره، ولا يطلق لأوله العنان على حساب مكاسب تطوره، هذا ليس حلا توفيقيا وسطا، لكنه تاريخ الحياة وتاريخ الإنسان، هو الحركة الدائبة، المتناوبة، لتحقق الجدل فى دوراتها المتعاقبة، هذا تحديدا ما أتصور أن الحق تعالى من خلال التطور قد هيأه لهذا الكائن الفائق الرقى، الظالم نفسه برقيه المنقوص.

حين يقول المتن إن صاحبنا قد أغلق وعيه فَصَام عن أى احتمال أن يكون كذلك، فإن المقصود (وهو الذى حدث فى هذه الخبرة) أنه راح يقاوم كل محاولة تفاعل يمكن أن تهز ما استقر عليه من دفاعات مجمّدة، (مريحة!!) وربما بالذات تلك الدفاعات التى قويت أثناء العلاج الفردى، وكذلك، وحتى انتهت الخبرة (القصيدة) كان يضع اللوم على قائد المجموعة معالـِـجـُـهُ الفردى السابق: كل ذلك وهو لا يتحرك من موقعه، خوفا من: “نبضِة‏ ‏الأَلـَم‏ ‏اللى ‏تِـبْنى“، من “‏أىَّ ‏شئ‏ ‏فيه‏ ‏المُـغـامْـرَهْ”، من الرؤية الجديدة “إن لازم كل ‏ ‏بـنِـى ‏آدم‏ ‏يـِفَتّح‏، ‏مش يتنَّـح“.

حتى لو كنت قد حددت هذا التعبير “زى خلقه ربنا” بفكرى التطورى ضمنا بأن ربنا خلقنا نحب بعضنا، حتى من واقع برامج التطور للبقاء، وأن ما يحدث بعد ذلك ليحول دون ذلك، هو بفعل فاعل، حين يرفض هذا الصديق أن يكون “زى خلقة ربنا”، فإن هذا يعنى أنه متمسك بميكانزماته التى اكتسبها لتحميه من التهديد بعلاقة مغامِـرة ربما فيها شطح غير محسوب حتى لو كان على مسار النمو، هذا ليس عيبا ولا نقصا فى مرحلة معينة، أما أن يكون هذا هو نهاية المطاف، فهو الأمر الذى نتوقف عنده، ونتعلم من مثل هذه الحالة أن المسألة ليست كذلك.

حين أتيقن من مثل هذه الحالات أن موقفها صلب وحاسم، أتراجع عن الحماس للنصح بالعلاج الجمعى خاصة، وأحيانا، ولو أنها نادرة، أنصح مثل هذا الشخص بالتوقف فعلا عن المشاركة فى علاجات تعرضه لما ليس فى حسبانه، نعم، أن يتوقف – ولو لفترة–  عن‏ ‏التردد‏ ‏على ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏الجمعى، لكن الذى يحدث عادة هو أن يصر مريضٌ ما على أن يخوض التجربة، وله كل الحق، وفى هذه الحالة أستسلم للانتقاء الطبيعى، فكم من مريض تصورت أنه لن يتحمل أن يكمل معنا المسيرة، وإذا به يفعلها ونصف، وكم من آخر بدا متحمسا جاهزا للتغير، لكن ما إن تبدأ الخبرة حتى يتراجع بسرعة إلى دفاعاته المتينة تماما، حتى ينقطع عن العلاج المهدد بخلخلتها.

أهم‏ ‏صفة‏ ‏تصف‏ ‏هذه‏ ‏الوقفة الحالية فى هذه الحالة‏ ‏هى ‏الاستسهال،‏ ‏ومحاولة تجنب‏ ‏الألم،‏ ‏وتصور‏ ‏العلاج‏ ‏تصورا‏ ‏سحريا‏ ‏يحل‏ ‏المشاكل‏ ‏بدون‏ ‏ألم‏ (‏بالبنج‏).

‏ورغم‏ ‏انبهار‏ ‏صاحبنا‏ ‏الكلامى بما يجرى، وإعلانه البدئى أنه يريد أن يكمل المسيرة، إلا أنه، ومن البداية، يحدد طريقه الذى يؤدى به إلى عكس ما يعلن دون أن يدرى. ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏الاعتمادية‏ المرفوضة من حيث المبدأ لها ‏ماوراءها‏ ‏من‏ ‏مبررات، أهمها،  كما بدَت وفى هذه القصيدة بالذات: تجنب الألم مهما ضؤلت درجته، ناقشنا فى الحالة السابقة “ألم البصيرة”، لكن الذى مر بجرعة مفرطة من الألم (يحدث ذلك عادة فى بداية أزمات التطور الحادة أو بداية الخبرة المرضية) ثم لم يجد أحدا بجواره، ولم يجد دفعا بداخله لتحمله أو تجاوزه، ثم لملم نفسه بدفاعات أيا كانت، إن من مر بمثل هذه الخبرة يأبى – عادة – أن يعود إليها تحت أى إغراء، ولو رأى أن هذا هو السبيل الوحيد لاستعادة دفع الخطى على مسار النمو. لكن العجيب فى مثل هذه الأحوال أنه لا يستسلم لدفاعاته – مثل أغلب العاديين – بل يظل يتصور أن فى الإمكان أن يحقق أمنيته النظرية، بجرعات جاهزة من الهدهدة والتفريغ والاعتمادية. ويظل الموقف هكذا طول الوقت، كما تبين القصيدة: لا هو يكف عن إعلان المحاولة دون محاولة، ولا هو يحاول فعلا، ولو بأى درجة كانت، صاحبنا كان يبدو، دون بقية المجموعة، مرتاحا، حالما، مستقرا، لكنه دائم الإعلان عن نيته فى المشاركة، ولكن بشروطه.

(2)‏

العيون دى صرّحت إنِّ صاحبنا

عمره ما حايعلن يسيبنا

بس شرطه يَتّنه نايمْ ‏فى ‏العسل، عمال ‏بيحلَم‏،‏

بَسْ‏ ‏عامل نفسه بيحاول‏، ‏ويتكلمْ‏، ‏ويحكُـمْ‏،‏

شرطِ‏ ‏إنه‏ ‏لمْ ‏يـِـخـَـطـىِّ ‏أو‏ ‏يِسلّـمْ

مشْ‏ ‏على ‏بالُه‏ ‏اللى ‏جارِى،‏

‏”‏كل همّه، ‏ ‏يستخبَّى ‏أو‏ ‏يدارى‏”.‏

وان‏ ‏وَصلُّه‏، ‏غَصْب‏ ‏عَنُّهْ

‏ ‏يترمى ‏سْطيحَهْ‏ ‏ويُطْلُبْ‏ ‏حتّه‏ ‏مـِنُّـهْ‏:‏

شرط‏ ‏إنه‏ ‏يجيله‏ ‏فى ‏البزازة‏ ‏دافْيَةْ‏، ‏جَنْب‏ ‏فُمُّهْ‏.‏

أعتقد أن هذا الجزء من المتن، هو المقابل الشعرى المباشر لما سبق شرحه حالا قبل عرض النص، إن الذى كان يميز هذا الموقف بوجه خاص هو إلحاح صاحب هذه العيون لإعلان “نيته” فى المشاركة، وفى نفس الوقت طلبه المباشر أن يعطيه أحدهم ما يتصور أنه حقه دون سعى من جانبه.

هذه الرؤية المعقلنة هى مكافئة تماما للعمى ‏الدفاعى النفسى، “مشْ‏ ‏على ‏بالُه‏ ‏اللى ‏جارِى”، لأنها رؤية مع وقف التنفيذ إلا بهذه الشروط التى هى ضد كل قواعد ما يسمى “مسيرة النمو”.

مرة أخرى: إن مما يستدعى العجب هو تساؤل يقول: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يصر صاحب كل هذه الدفاعات القوية، على استمرار المحاولة بهذا الإلحاح والانتظام فى طرق الأبواب؟ ‏بالرغم‏ ‏مما يصله من‏ ‏صعوبات‏، وما يرى ‏من‏ ‏مشقة‏ ‏وألم‏ ‏لازمين‏ ‏للخوض‏ ‏فى ‏التجربة‏؟

إن التفسير الأقرب هو نجاح آلية (ميكانزم) العقلنة بشكل فائق بما يجعله يواصل الرصد لما يجرى من على مسافة آمنة، بحيث يصبح العقل النشط المتفرج مصدًّا قويا طول الوقت، ضد التغير، ويصبح صاحبه غير مهدد فعلا بالتغير الفعلى، وكأنه يكتفى بالفهم المعقلن، فهو لذلك يواصل المطالبة بالتغيير ألفاظا منطوقة لا أكثر.

ويمكن إيجاز الخطوط البدئية لهذا الموقف كالتالى:

أولاً: لا يكتشف صاحبنا أن المسألة لا تقتصر على قناة التوصيل بالكلمات والرموز المعقلنة، فالجسم يتلقى، والوجدان يتلقى، والوعى – بمستوياته – يتلقى، ومن هنا تأتى أهمية البيت فى المتن “وان وصل له غصب عنه”، نعم الذى يحدث أن الرسائل التى تصل لمثل صاحبنا من وراء ظهره، تصله فعلا غصبا عنه، وهو لا يرفضها بل يمحوها فورا بعكس ما نتصوره، يمحوها بأن يتقبلها ويطلبها من الوضع مستلقيا رضيعا فاهما.

وان‏ ‏وَصلُّه‏، ‏غَصْب‏ ‏عَنُّهْ

‏ ‏يترمى ‏سْطيحَهْ‏ ‏ويُطْلُبْ‏ ‏حتّه‏ ‏مـِنُّـهْ‏:

ثانيا‏:‏ فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏يستغنى صاحبنا عن فعل التغيير ‏بمتابعة‏ ‏كل‏ ‏ما يجرى، وبالتالى يتجنب‏ ‏مواجهة‏ ‏داخله‏ ‏وكأن‏ ‏أفراد‏ ‏المجموعة‏ ‏تحقق‏ ‏بالنيابة‏ ‏عنه‏ ‏أمانيه‏ ‏وتحل‏ ‏صراعاته‏ ‏أما‏ ‏هو‏ ‏فيتصور‏ ‏أنه‏ “‏عرف‏” ‏الحكاية‏ ‏فلا‏ ‏توجد‏ ‏مشاكل‏ ‏ولا‏ ‏خطوات‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏.‏

ثالثا‏:‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ يجد صاحبنا نفسه ‏فى ‏موقف‏ ‏المقاومة‏ ‏العنيفة‏ ‏بإعلان‏ “‏عدم‏ ‏الفهم‏” ‏متى ‏ما‏ ‏اقتربت‏ ‏الرؤية‏ ‏الذاتية‏ ‏منه‏، ‏أو متى‏ ‏تهدد‏ ‏بضرورة‏ ‏التفاعل‏.‏

رابعا‏: ‏هذا لا ينفى أبدا أن‏ ‏يصله‏ ‏ما‏ ‏يغيرّ‏ ‏تركيبه‏ ‏الدفاعى ‏ولو‏ ‏من‏ ‏خلف‏ ‏ظهره‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الانتباه‏ ‏السلبى، ‏فلاشيء بهذه الجدية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يُهْدَرُ‏ ‏بلا‏ ‏جدوى ‏تماما‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏توقف‏ ‏وصوله‏ ‏عند‏ ‏مرحلة‏ ‏التنظير‏ ‏والعقلنة‏.

خامسا: ‏وبسبب‏ ‏هذه‏ ‏الزحمة‏ ‏من‏ ‏المتناقضات‏: (‏مثل‏ ‏الحضور‏ ‏مع المقاومة‏، ‏والفرجة‏ برغم الاستيعاب‏ ‏السرى‏) ‏يستمر‏ هذا ‏الموقف‏ ‏ربما‏ ‏إلى ‏أجل‏ ‏غير‏ ‏مسمى، ‏وينبغى ‏على ‏المعالج‏ ‏أن‏ ‏ينتبه‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏كله‏ ‏وأن‏ يتعامل معه على هذا الأساس‏ ‏فى ‏حينه‏.‏

‏(3)‏

كان ‏صاحبنا حلو خالص فى الكلام‏

كان بيتفرج، وهوه بعيد تمام،

كل ما نديله حتـّه، يترسم ويقول كمان.‏

عايز أخطى، بس شرطى، فى الأمان

كان مركـِّـز عاللى كان واخد عليه

‏ لما كان بيحكَّى للى شافُهْ “بيهْ”:

كلٌّه “مين”، و”زمان” و”ليه”!!

‏ بس ده ياناسْ لقاهـَا حكاية تانية ـ

يعنى شغل “هنا” و “حالا” كل ثانية

كل ما واحد يهمّ

نفسه يعنى يهم زيّه، بس لأْ، من غير ألمْ !!

يقلب الخبرة مشاهدهْ كإنه فيلمْ:

قالُّهْ‏ ‏سمَّعْنَا‏ ‏كمان‏ ‏حبّةْ‏ ‏نغَمْ‏:

‏كِيدِ‏ ‏العدَا‏،‏

‏ ‏يا‏ ‏سلامْ!! ‏هوا‏ ‏جوّاك‏ ‏كلّ‏ ‏دا‏!‏؟

أنا‏ ‏نِفْسِى ‏ابقَى ‏كده؟

بس‏ ‏حبُّونِى ‏كمانْ‏.‏

حُط‏ ‏حتَّهْ‏ ‏عالميزان‏.‏

أصلِى ‏متعَّود‏ ‏زمانْ‏:‏

إنى ‏انام‏ ‏شبعان‏ ‏كلامْ‏.‏

تأكيد جديد لنفس الموقف، لكن يضاف إليه الحذر من موقف المتفرج، الذى انفصل عن المشاركة حتى بدا مستلذا بألم الذى يحاول، “بس سمعنا كمان حبة نغم”، أما إضافة “كيد العدا” فقد تكون إشارة إلى أنه يقر أن هذه المحاولة يرفضها أغلب الناس، بل وقد يدمغونها باعتبارها اختلافا يصل إلى درجة مخاطرة الجنون، لكن صاحبنا يتصور أنه يربأ بنفسه أن يكون من هؤلاء، فهو يصفق لمن خاض هذه التجربة الجديدة، وبالتالى هو “يكيد العدا” بالتصفيق والانتظام فى الحضور فحسب

ليس هذا فقط، بل إنه يبدى إعجابه بالمؤدى ويقصد أى فرد فى المجموعة، “يا سلام!! هوه جواك كل ده!!”، وكان يعلن أمنيته (الكلامية) أن يتقمصه “أنا نـِـفـْـسِى ابقى كده”.

هذا الموقف يعتبر أكثر سلبية بكثير من موقف الشخص الذى رضى بالعادِيـّـة، أو حتى بفرط العادية كنهاية للمطاف، فصاحبنا هنا لا يرفض المحاولة كما قلنا، لكنه حتى وهو يعلن أنه يتمنى أن يمر بمثل ما يمر به زميله هذا المتقلب على جمر الحقيقة، يلحق نفسه بما يكشف أن هذا التمنى نفسه هو الذى يخدعه ويحول بينه وبين المحاولة الحقيقية، فهو يلحق أمنيته فورا بأن يمد يده “متسولا”:

بس‏ ‏حبُّونِى ‏كمانْ‏.‏

حُط‏ ‏حتَّهْ‏ ‏عالميزان‏.‏

وهو يعزو ذلك إلى خبرته السابقة فى العلاج الفردى الكلامى التسكينى التأويلى

أصلِى ‏متعَّود‏ ‏زمانْ‏:‏

إنى ‏انام‏ ‏شبعان‏ ‏كلامْ‏.‏

الذى حدث أن المجموعة وقائدها انتبهوا إلى كل هذه السلبيات التى جعلت وجود صاحبنا مثيرا للدهشة من ناحية – لماذا يستمر؟ – ومانعا للمشاركة الزائفة السطحية التى كان يمثلها أصدق تمثيل، حتى أن الباقين لم يكتفوا بتنبيهه والتفاعل معه لإفاقته، بل خافوا ورفضوا أن يسلكوا سبيله.

ويتكرر الموقف وكأنه سوف يهم أن يفعلها، لكن سلوكه، وإعلانه، وإصراره على التمسك بموقع المتلقى طول الوقت، يكشفه بسرعة هائلة:

هذه الفقرة بالذات، وتعبير “بنج اللذاذة، كله دايب فى الإزازة”، هى من أصرح الفقرات نهيا عن المفهوم الشائع: أن العلاج النفسى هو ترييح وتسكين وتفريغ. معظم المرضى، وأهلهم أكثر منهم، لا يطلبون من الاستشارة النفسية، أو العلاج النفسى وبالذات فى البداية إلا “أن يرتاحوا”، وقد ناقشنا ذلك فى هذا الكتاب مرارا، (وغيره) ونكرر هنا أن هذا حقهم، ولكن ليس على حساب رحلة نموهم.

 كل هذا لا يعنى أن يمتنع المعالج أن يعطى جرعة “الترييح ” الضرورى بين الحين والحين، وخاصة فى البداية، ولو على سبيل الرشوة حتى تستمر مسيرة العلاج إلى أن يعاد التعاقد لدفع عجلة النمو.

المقطع التالى يمكن أن نقرأه على لسان حال المجموعة، أو على لسان حال قائدها وهو يبدأ بتنبيه صاحبنا أن يكف عن التسول ويشرع فى المبادأة، إن كان صادقا فى أنه “أنا نـِفـْـسـِى ابقى كده”.

(4)‏

‏”‏يا‏ ‏أخينا‏ ‏مِدّ‏ ‏إيدك

يا‏ ‏أخينا‏ ‏هِـمّ‏ ‏حبَّـهْ‏.‏

الحكاية‏ ‏مِش‏ ‏وِكالة‏ ‏بْتَشتِرِى ‏منها‏ ‏المَحَبّةْ‏”.

قام‏ ‏صاحبنا‏ ‏بانْ‏ ‏كإنه‏ ‏مشْ‏ ‏مِمَانـِعْ‏،‏

بس‏ ‏قاعد‏ ‏ينتظر‏ “‏بِنجِ‏ ‏اللذاذة‏”‏

كـلّه‏ ‏دايب‏ ‏فى ‏الإزازة‏

رضعة الحب اللى جىّ جاهز ودافى

رضعه كامـِلـَةْ إلدّسم، سـُكـّـرها وافى !!

‏(5)‏

والمعلّم‏ ‏صْبُرهْ‏ ‏بحباله‏ ‏الطويلةْ، ‏

قال‏ “‏لا‏‏بد‏ ‏أشوفْ‏ ‏لُه‏ ‏حيلهْ‏”:‏

قال‏ ‏لـه‏ ‏يا ابنى تعالى جنبى

إنت تطلب، وانا الـــَــبّى،

راح صاحبنا معرّى جوعه، نطّ كل اللى مْدَارِيهْ

عرضحال كاتب جميع ما نـِفـْسُه فيه:

“.. ‏بعد‏ ‏موفور‏ ‏السلامْ‏،‏

نِفْسِى ‏حبِّةْ‏ ‏حُبْ، ‏أو‏ ‏حتِّةْ‏ ‏حقيقهْ‏،‏

نفسى ‏أشارك‏ ‏فى ‏اللى ‏جارى ‏ولو‏ ‏دقيقهْ‏،‏

نفسى ‏أعرف‏ ‏فى ‏اللى ‏بتقولوا‏ ‏عليهْ‏،‏

نفسى ‏اشوف‏ ‏دا‏ ‏إسمه‏ ‏إيه‏”‏

‏موقف صريح آخر لإعلان التسول، لكن التسول هنا يتجاوز تسول الحب، فهو يتسول أيضا المشاركة كما يتصورها، فهو يدرك – من بعد أعمق – أن كل رؤيته لحقيقة الجارى، بما في ذلك معاناة من  يحاول أن يخوض التجربة جادا ، ليست إلا رؤية زائفة، بل إنها يمكن أن توصف بأنها حتى: “ضد الرؤية” (قارن الحالة السابقة)، وقد عرى المتن داخل صاحبنا حين يقرن تسوله للحب، بتسوله للحقيقة، ويلحق ذلك مباشرة بإعلان جهله بما يجرى حوله برغم كل مزاعمه أنه يراه ويعرفه، وبالتالى يطلب منه، ويحاول أن يكونه، بل إنه يعترف أن كل الأسماء التى أطلقها على هذه الخبرة أو الخبرات، غير كافية للإحاطة بها:

نفسى ‏أعرف‏ ‏فى ‏اللى ‏بتقولوا‏ ‏عليهْ‏،‏

نفسى ‏اشوف‏ ‏دا‏ ‏إسمه‏ ‏إيه‏”‏

‏فى ‏خبرتى ‏كنت‏ ‏أترك‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏وكأنى أهمله، لعله يُستثار‏ ‏من‏ ‏بعيد‏ ‏لبعيد‏، ‏وبعد‏ ‏فتره‏ ‏تطول‏ ‏أو‏ ‏تقصر‏ ‏حسب‏ ‏حساباتى ‏أحاول‏ ‏بداية‏ ‏الحوار‏ معه، ‏ومن‏ ‏ثم الأمل فى‏ ‏التفاعل‏، ‏ولكنه‏ ‏فى ‏العادة‏ يعود ‏يكرر‏ ‏الكلمات‏ ‏الجارية‏ ‏فى ‏المجموعة‏، ‏دون إحاطة كافية بمضمونها، أو تحمل مسئوليتها، أو حتى محاولة احترام حفزها.

الذى حدث –  كما قلنا سابقا – أن المعالج السابق لصاحبنا  (أنا) كان هو هو الذى ظهر فى المتن وكأنه يحاور صاحبه القديم، وهو يحاول أن يظهر له الفرق بين خبرة العلاج الفردى، وخبرة العلاج الجمعي.

الفقرة التالية من المتن تظهر محاولات هذا المعالج استدراج صاحبنا إلى كشف مدى ما يريد من هذه الاعتمادية، التى حلّت محل المواكبة التى لوّح المعلم بها:

“المعلّم‏ ‏قالّه‏: “‏ماشى، ‏يالله‏ ‏بينا‏”، ولكن …..،….،

‏(6)‏

المعلّم‏ ‏قالّه‏: “‏ماشى، ‏يالله‏ ‏بينا‏”‏

‏ ‏يالله‏ ‏بينا‏!!! ‏يالله‏ ‏بينا؟‏ ‏على ‏فين؟

دانا‏ ‏مستنى ‏سعادتكْ.‏

روح‏ ‏وهاتْ ‏لى ‏زى ‏عادتكْ.‏

أى ‏حاجة‏ ‏فيها‏ ‏لذّة‏،‏

الكلام‏ ‏الحلو‏، ‏والمنزول‏، ‏ومزّة‏.‏

أنا‏ ‏أحكى، ‏وانت‏ ‏تتصرف‏ ‏براحتكْ.‏

أنا‏ ‏تعجبنى ‏صراحتك‏،

يبدو فى هذه الصورة من جديد الأثر السلبى للإصرار على مفهوم أن العلاج النفسى ليس إلا تفريغا بالكلام، الحنين هنا ‏إلى ‏مرحلة‏ ‏العلاج‏ ‏الفردى ‏الكلامى التسكينى‏ واضح بصورة صارخة.

كثير من المرضى يتصورون أن دورهم ينتهى عند الحكى، والباقى على المعالج “آنا أحكى، وانت تتصرف براحتك”، وإعجاب صاحبنا بصراحة المعالج وتعليماته قد يكون إشارة إلى استقباله هو وليس إلى دور المعالج الحقيقى، فأى معالج مهما بلغ تعاطفه مع مريضه، وتأثره بفكرة الترييح والتسكين والتفريغ، لا يمكن أن يقبل أن يطول هذا الوضع، وإلا انتهى إلى السلبية، صراحة المعالج حتى فى رفض القيام بهذا الدور، قد يقلبها مثل هذا المريض إلى تصفيق للمعالج دون أن يصله رفض المعالج لكل هذه الاعتمادية.

‏وهنا‏ ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏التحسن‏ ‏الظاهرى ‏الذى ‏قد‏ ‏يتوهم‏ ‏المريض‏ ‏والمعالج‏ ‏معا‏ ‏أنه‏ ‏تم‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏الفردى‏، ‏قد‏ ‏تتبين‏ ‏طبيعته‏ ‏الهروبية‏ ‏والدفاعية‏ ‏إذا ما أتيحت الفرصة لاختباره فى ‏بوتقة‏ ‏العلاج‏ ‏الجمعى ‏بما‏ ‏يحمله‏ ‏من‏ ‏مواجهة‏ ‏وتفاعل‏ ‏ومقارنة‏ ‏واختيار‏، خاصة حين يتصاعد موقف المعالج حتى يرفض مثل هذا المريض، وكأنه يعاقبه “يزعل منه” يهمله، يكشفه، يواجهه، يلوّح بقطع العلاج، لكن صاحبنا يكاد يكون على يقين من حقه فى ألا يتغير مهما تغيّر نوع العلاج، وهو يواصل طلب المعونة، ولكن بشروطه.

نقرأ المتن (وهو يواصل):

إٍوعَى ‏تزعلْ ‏منّى: ‏دنَا‏ ‏عيّل‏ ‏باريّل‏،‏

لسَّه‏ ‏عندى ‏كلام‏ ‏كتير‏ ‏أنا‏ ‏نفسى ‏اقولهْ،‏

عايِز‏ ‏اوْصف‏ ‏فى ‏مشاعرى ‏وإٍحساساتى،‏

واقعد‏ ‏اوصفها‏ ‏سنين‏،‏

مش‏ ‏حا‏ بَطّلْ‏، ‏خايف‏ ‏ابطّلْ‏،‏

لو‏ ‏أبطّل‏ ‏وصف‏ ‏فى ‏الإحساسْ‏ ‏حَاحِسّ،‏

وانا‏ ‏مِش‏ ‏قد‏ ‏الكلام‏ ‏دهْ‏.‏

…………………

………………….

ونواصل غداً في استكمال قراءة اللوحة التامنة: “نايم فى العسل”

ـــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *