يحيى الرخاوى طبيب نفسى
“نشرة” الإنسان والتطور
23-2-2008
العدد: 176
تعتعة
سياسة دى يا يحيى؟!؟!
أفخر بعجزى عن فهم ما لا أفهم، أشعر ان هذا اعتراف أمين سخيف، العجز عن الفهم يدعوك إلى البحث لتفهم سواء بعقلك أو بجسدك أو بكلّك، اختزال العالم إلى أجوبة هو أكثر ما يضر حركية المعرفة، مرضاى علمونى أن أعيش الخبرة، بدلاً أن من أتفرج عليهم من “فوق”، ثم أحكم، وأصنف، وأنام، أتقمصهم الآن – بعد خمسين عاماً وأثناءها- بسهولة أكثر، أستطيع أن أترجم لغتهم، ثم نحدد معاً معنى مرضهم وأهدافه، فأجد كثيرا منها أهدافا مشروعة، فنحاول أن نحققها عن طريق غير طريق المرض، وإذا نجحنا، أو حتى لو لم ننجح، لكننا عرفنا الطريق، تقل جرعة الدواء تدريجياً ونمضى سويا، الدواء يضبط الطاقة المتفجرة فى صاحبها عشوائياً أو من حوله، فإذا نجحنا أن نوجه الطاقة إلى مسارٍ يستوعبها، وأن نحدد هدفاً يجذبها إليه، يجذبنا إليه بها معاً، فما حاجتنا إلى الدواء تدريجياً.وما لزوم المرض؟
أتقمص هؤلاء المعلمين (المرضى) بسهولة ولكننى لا أستطيع – كما أعلنت مراراً: أن أتقمص من يجمع مالا يستطيع أن ينفقه، أو يشترى فيلا فى منتجع جميل جداً، وليس عنده وقت ليقضى فيها ثلاث ساعات كل ثلاث سنوات، لأن عنده مثلها عشرات، غير الفنادق….. الخ
الله!! ما هذا؟
هذا مقال فى السياسة وليس لمثل هذا الكلام المعاد
أحاول أن أتقمص المشتغلين بالسياسة، كما حاولت فى التعتعة السابقة، فأعجز، أنا لم أعرف بعد – على وجه اليقين – معنى محددا لهذه الكلمة “السياسة”. توجد تعريفات كثيرة مهمة، قد يعرفها طلبة وطالبات كلية يسميها البنات خطفا “سياسة واقتصاد”، ويسميها الأولاد “كلية الاقتصاد والعلوم السياسية”، لا أفهم – والحمد لله- أغلب تعريفاتهم الأكاديمية المحكمة، يختلط علىّ الأمر أكثر حين يصرح أحد المسئولين بالسماح أو عدم السماح باشتغال طلبة الجامعة بالسياسة، وكأن الاشتغال بالسياسة ينتظر سماحهم المختوم بختم النسر.
أعتقد أننى ذكرت قبلاً كيف كنت أعرف السياسة صغيراً (8-14سنة) من المصبطة، كان الشيخ محمد عبد الحافض (يعنى عبد الحافظ) وهو كفيف ذكى متابع، لا يرتزق من قراءة القرآن، ولم أعرف أبداً من أين يحصل على ثمن قوت يومه، كان وفديا جميلا يفهم السياسة التى أعنيها أكثر من الدكتور نظيف ولجنة السياسات (غالبا)، كذلك كان أحمد أبو نوار بائع الجرائد، وفديا أيضا جدا، كانت العائلة الأخرى التى تتنافس على العمودية سعدية، أو أحرار دستورية لا أذكر، ثم ظهرت حركة الإخوان المسلمين فى بلدنا وجذبت الشبان ولعلعت، فانطلق كل من الشيخ محمد عبد الحافض، وأحمد أبو نوار (“بتاع” الجرائد)، يتندرون عليهم ويقلد الشيخ محمد صوت شبابهم وهم يرددون هتافاتهم قبيل الفجر ليوقظوا الناس لأداء الصلاة، عرفت آنذاك أن هذه هى السياسة المصطبية، والمشاركة التلقائية، والاختلاف الحوار الحقيقى،
ثم ماتت السياسة بالسكتة الجيشية، وحتى تاريخه.
أبحث عنها الآن فى الصحف القومية والصحف المستقلة، والصحف الحزبية، فأجد كلاما كثيرا “كنظام السياسة”، وليس كما بلغتنى صغيرا، أحترم كل من رأى هذا الفراغ تتردد فيه هذه الأصوات، فانتبَهَ، وفكّر، وتصدّى وعمل حزبا.، هذا مواطنٌ واقعى (غالبا) يأبى أن يظل يتفرج – والدنيا من حوله تنهار – يأبى أن يكتفى بأن يكتب وينقد، وقد يسب ويلعن، لكن ماذا بعد؟
ينشأ الحزب بكل إخلاص وحماس، ثم فجأة يكتشف المخلصون فيه وغير المخلصين أنه يبنى حزبا فى الفراغ السرابىّ الدوامة، أتابع حسن النية، فالتضحية، فالأمل، فالانشقاق فالشتائم، فالمحاكم، فمحاولات الصلح، فتأجير البلطجية، اقتداءَ بالحكومة، حتى فى الأحزاب صاحبة الاسم العريق، فأشعر بتقصيرى وعجزى عن مجاراة هؤلاء المخلصين (أغلبهم) وأبرر هربى فى المستقبل.
أقول لنفسى: أنا أحرّك وعى الناس أفرادا، ربما فى يوم من الأيام حين ينفخ الله سبحانه فى جثة السياسية، سوف تجد من يتعهدها ممن أتصور أنى أحرك وعيهم أفراداً فيستعيدوا: شرف النقد وشرف الرفض الإيجابى وشرف السعى وشرف الكدح وشرف المشاركة، وهم ينتقلون من الضرورة إلى الحرية، (أليست هذه هى السياسة؟) اضبطنى أهرب فى المستقبل البعيد وفى التهديد بانقراض الجنس البشرى، وكأننى شخصيا الذى سيحول دون ذلك، أتذكر مرضاى وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومن تشخيص الأطباء النفسيين، أتلفت حولى وأحاول أن أتابع الجارى، وأنا أقرأ فى اليوم ست صحف، وأدخل بضع مواقع إلكترونية، وأكتب يوميا فى موقعى نشرة “الإنسان والتطور” (وصلنا اليوم العدد 175 يوميا) أنظر إلى كل ذلك وأتساءل:
“سياسة دى يا يحيى”؟!
ولا أجد ردًّا شريفا مقنعاً.