نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 6-4-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5696
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) [1]
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى” واحدة واحدة (120)
الفصل الثالث
“إبن حظ”: طفل تائه (يا أولاد الحلال)
فى ثوب كهل يعبد ربه
مقدمة:
ظهر عبد ربه التائه فجأة- دون مناسبة – من وجهة نظرى – فتغير مزاج التلقى عندى بعض الشئ، لست أدرى لماذا، وقد جاء حضوره وحواراته قبل ظهوره فى ما نشر مسلسلا فى الأهرام، حيث نشرت الأهرام-خطأ- حلقات قبل حلقات، كان من بينها حلقات يتكلم فيها عبد ربه التائه مباشرة دون أن نعرف ما هى علاقته بالأصداء أو بالسيرة ولا متى أو من أين جاء، حتى حسب من يسمون بأصحاب الحداثه أن ذلك مقصود، وأن محفوظ أصبح حداثيا (حداثيتهم يعنى)، وحين حصلت على الأصل وسألته شخصيا أطلب تفسيرا لما نــشر: ضحك وأخبرنى على خطأ الأهرام في نشر حلقة تالية قبل السابقة، ثم أعطانى العمل مكتملا بعد ذلك، وهو نفس الشكل الوارد فى هذه الدراسة الحالية.
أما لماذا تحفظت على ظهور عبد ربه حتى الرفض أحيانا، فهذا مالم أدركه حتى الآن تحديدا، وإن كان لابد سيظهر بعض مايفسر ذلك فى قراءتى التالية، وبداية أعدد تحفظاتى على الشيخ عبد ربه هذا، مجتهدا غير مصر عليها.
أولا: تصورت أنه بظهوره سنقترب أكثر من السيرة الذاتية، المباشرة، وأنا كنت ومازلت أفضل أن أعيش الأصداء أرددها وأتردد معها، رافضا أن أواجه مصدرها الأصلى مباشرة. بحضور الشيخ عبد ربه اقترب محفوظ شخصيا من وعى القارئ وأصبح بالنسبة لى أقرب إلى سرد أفكار ووجدانات الرؤى، أكثر من أنه أصداء، فتراجع خيال التلقى نسبيا.
ثانيا: توقعت درجة ما من المباشرة، وربما الخطابة أو إلقاء الحكم أو الأحكام (وقد تحقق بعض ذلك نسبيا).
ثالثا: ساورتنى مشاعر غامضة نحو حضور بدء الشيخ بالبحث عن الطفل التائه هكذا، وقد تبينت سبب ذلك بعد ذلك، كما سترد مع قراءة الفقرات.
الأصداء عودة إلى النص:
120 – عبد ربه التائه
كان أول ظهور الشيخ عبد ربه فى حينا حين سمع وهو ينادى “ولد تائه يا أولاد الحلال”
ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال.
- فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عنى جميع أوصافه.
فعرف بعبد ربه التائه، وكنا نلقاه فى الطريق والمقهى أو الكهف، وفى كهف الصحراء يجتمع بالأصحاب حيث ترمى بهم فرحة المناجاة فى غيبوبة النشوات، فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وأن يسمى كهفهم الخمارة.
ومنذ عرفته داومت على لقائه ما وسعنى الوقت وأذن لى الفراغ، وإن فى صحبته مسرة وفى كلامه متعة، وإن استعصى على العقـل أحيانا.
أصداء الأصداء
لم أتصور لحظة أن محفوظ الطفل تاه ولا ثانية واحده، ولا أن ملامحه غابت عن محفوظ عبد ربه، فإن كان قد تاه حتى ضاعت ملامحه فهو تاه “فى” الشيخ (أكرر “فى“) فأصبح الشيخ هو هو الطفل، ولم تعد ثمة حاجة به إلى طفل بداخله، وبالتالى فقد تصورت نداء الشيخ “ولد تائه يا أولاد الحلال” ثم إنكاره معرفة أوصاف الولد هو نوع من التمويه الشعورى أو اللاشعورى، حتى يصدق الناس أن الطفل اختفى، وبالتالى يأخذون الشيخ باعتباره شيخا ليس إلا، وهو ليس إلا الطفل الذى أوهمهم أن يبحثوا عنه ليمارس طفولته على راحته، يجتمع بالأصحاب فى كهف الصحراء، ويستعذبون المناجاة فى غيبوبة النشوات.
ثم إن هذا الذى يحكى عن عبد ربه وهو ينادى -تمويها – عن طفله التائه، الذى أخفاه بتقمصه كما ذكرنا، هذا الذى يحكى هو ثالثهم، أى أنه -فى تقديري- هو شخص ثالث (حالة ذات ثالثة) وبالتالى يكتمل ثالوث “إريك بيرن “صاحب مدرسة التحليل التفاعلاتى بظهور حالات الذوات الثلاث: الطفل (التائه) /الناضج(الحاكى)/ الوالد (المنادى)[2] ثم يمسك الناضج (الكاتب) بالقلم ليقوم بدور الراصد الذى يصف الاثنين الآخرين: وهو إذ يصف عبد ربه الشيخ، يصفه وهو يتصالح معه أشد التصالح وأنقاه، “وإن فى صحبته مسره، وفى كلامه متعة”
ثم نأتى للجملة الأخيرة “وإن استعصى على العقل أحيانا” فيكاد محفوظ أن يعترف بغموضه المقصود نسبيا، وهو يختبيء فيه قصدا أو عفوا وعلينا نحن الباقي.
ليكن، قبلنا أن نلقف الكرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net
[2]- مدرسة التحليل التفاعلاتى لـ ‘إريك بيرن” هى المدرسة التى تقدم التركيب البشرى ليس باعتباره من أجزاء متكاملة أو حتى متصارعة، ولا من قوى دينامية متداخلة.، وإنما باعتبار الكيان البشرى مكون من عدة ذوات، كل ذات تمثل شخصا بأكمله، وعادة تتولى إحدى حالات الذات القيادة لسائر الذوات الأخرى فى لحظة بذاتها، ثم يتم تبادل القيادة باستمرار بين النوم واليقظة، بين العمل والترويح، بين الرعاية والاعتمادية، والذوات كثيرة لا تعد، لكن أهم ثلاث ذوات رئيسية هى: الذات الطفلية، والذات الوالدية، والذات الناضجة وقد ظهرت هنا هكذا.