نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 25-2-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5656
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(1)[1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
العلاج النفسى (مقدمة)
بين الشائع والإعلام والعلم والناس (10)
الفصل الخامس
حب للبيع! (1)
مقدمة:
ظهرت هذه القصيدة بهذا الاسم منذ نصف قرن تقريبا، وكتبت عليها “شرح على المتن” فى كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، سنة 1979، بعد ظهورها بسنوات، وسوف أنشرها بنصها هى والشرح بأقل قدر من الإضافة، اللهم إلا فى الفقرة الأخيرة كما نوّهت فى المقدمة، ربما يفيد ذلك فى تسجيل مرحلة باكرة من موقفى من العلاقات العلاجية المفروضة والمتنوعة.
ولعلها كانت حوارا مع عنوان كتاب “صداقة للبيع” الذى كتبه([2]) وليام شوفيلد1964 عن العلاج النفسى.
****
أولاً: القصيدة (الحوار)
– بضعة قطراتٍ من فضلكْ
= لم يبق إلا المتبقى
- جوعانٌ.
محرومُ من نبض الكلمةْ
= ما بَقِىَ لدَىَّ بلا معنى…
مخزونٌ من أمس الأولْ
- آخـُذهُ أتدبـَّرُ حالى
قد يعنى شيئاً بخيالى
= الحجزُ مقدّمْ
– لكنى جائع
= تجد قلوبا طازجة توزن بالجملة
فى “درب سعادة”
- قلبى لا ينبض
= عندى أحدث بدعة
تأخذها قبل الفجر وبعد آذان العصر
وتنام . . . .،
لا تصحو أبدا
- كم سعر الحبّ اليوم ؟
= حسْب التسعيرهْ، الطلبات كثيرهْ،
وأنا مرهق
- لكنى أدفع أكثْرْ
= نتدبرْ
-1-
= من أنت؟
- أنا رقمٌ ما،
= طلباتـُك؟
- قفصٌ من ذهبٍ . . . . ذو قفل محكم
من صـُلـْب تراب السلفِ الأكرم
= فلتـُـحـْـكـِـمْ إغلاق نوافـِـذ َ عقلك
وليصمتْ قلبك أو يخفتْ . .،
تمضى تتسحب لا تندمْ،
- يا ليت! لكنى أمضى أتلَّفتْ
= إياكْ، …
قد تنظر فجأة فى نفسك
قد تعرف أكثر عن كونك
تتحطم،
- ساعدْنىِ باللـَّهـْوِ الأخفى
= أَغلقْ عَـينيكَ ولا تفهمْ.
-2-
= وجنابُكْ؟
- لا أعلم
- طلباتُك ؟
- ” أتناولْ” .. أسْـتَـسـِلْم،
أتَـعـَبـَّدُ فى ما هو كائِنْ
وأبرر واقع أمرى
أتـَكَـلـَّمْ … أتـَكَـلـَّمْ … أتـَكَـلـَّمْ
= تذكرتك؟
- فى أعلى المسرح
= قاعتنا ملأى بالأنعام
- أجلْسْنى فى أى مكان
فى الكرسى الزائد خلف الناس
بجوار التَّيس الأبكمْ
= البطلُ تغيبَ
– . . . . . . لا تحزنْ
ألعـُب دورَهْ ،
وأكرر ما أسمع من خلف الكُوّةْ،
لا تخشى شيئا . . . لا أحَدَ سيفهمْ
= لا ترفع صوتك وتكتمْ
- سمعا .. تـَمْ.. تـَمْ.. تـَمْ.. تـَمْ.. تـَمْ.. تـَمْ
= سلـِّم تغنمْ
- اخترتُ الأسلمْ
= الصفُّ تنظـَّمْ
- ما أحلى السَّـيـْرُ وقوفا .. تـَرَرَمْ ..تررم
رمْ .. رمْ.. رمْ.. رمْ.
-3-
= الثالث يتقدم
-.. سمعا يا أفندمْ
– طلباتك أنت الآخر؟
- أبحثُ، أتألم
- لا ترفع صوتك يسمعك الأبله والأبكم
- أتعلــّــمْ
= لا تتعجل ، وأنا أيضا أتعلم
- .. تصدُقنى أم تسخر منى؟!!
= لا تتعجل ولسوف ترى
- .. دعنا نمضى لن أخسر شيئا
= لا أملك إلا صحبتك “معا”
- غـَـلـَـبـَـنـِـىَ اليأسُ دهوَرا
= لكنك جئت
- ضاعت منى الألفاظ
= نـَـجـْمـَـعُ أحرفها تتكلمْ
- فاح العفن من الرمز الميت
= بالحب يعود النبض إليه
- الناس جهنم
= الناس الأجبن،
– هل يوجد ناسٌ غير الناسْ
= الناس الناس وقود الكدح “إليه”
- وأنا ..؟؟!! وأنا ..؟؟!!
= أنت الناس، وبالناس…، فلا تندمْ
- من لى باليأس الخـِـدْر الأعظم
= لا مهرب بعد الآن
- العودُ على بدءٍ أكرمْ
انطلاقا من المتن[3]:
العلاج النفسى ممارسة مهنية، لها ما لها وعليها ما عليها، وتتوقف أساسا (بعد المرض والمريض) على المعالج والمجتمع معا، وبالتالى فمفعوله يمكن أن يكون:
-
تجميدا (مؤقتا أو دائما) لمسيرة النمو،
-
أو تبريرا لاغلاق دائرة الحركة تحت وهم الفهم والتفسير،
-
أو إطلاقا لمسارها وتنظيما لخطى النضج والإبداع.
”والعلاج النفسي” فى صورته الحديثة يختلط اختلاطا شديدا عند العامة بما هو “التحليل النفسى” وهو ليس كذلك تماما، وعلى أى حال فهو علاقة بين إنسان وإنسان، بين إنسان ذى خبرة مع إنسان فى محنة، يقوم الأول بالوقوف بجوار الثانى حتى تستقيم خطاه ويكمل هو مسيرته كما يستطيع ويرى.
بيع العواطف:
إذا ما طغى الموقف المهنى التقليدى الجاف على الموقف الإنسانى فى مجال العلاج النفسى، أصبحت المهنة على قدرٍ من التسطيح بحيث لا يفيد منها إلا قلة من الناس، تلك القلة التى تفضل التسكين حتى التوقف، أكثر مما تغامر بالعون لمواصلة السير..
– بضعة قطراتٍ من فضلكْ
= لم يبق إلا المتبقـِّى
فإذا كانت العواطف تباع وتشترى، فهى لابد إلى نفاد، وإذا رضى العصابى “بما يتبقي” لخلل رؤيته وضمور بصيرته، فإن الذهانى عادة ما يقف موقفه المتعالى الرافض –العاجز فى نفس الوقت – لهذه العواطف المطروحة للبيع، رغم إعلانه عن ذلك بأعراض الهزيمة لا أكثر ولا أقل، والذى يطلبه الذهانى على وجه التحديد هو ما افتقده فى الحياة العادية، فهو قد افتقد “المعنى”[4] وافتقد الرسالة وافتقد العائد[5] فواجـَـهَ فقر التغذية وسوء التغذية البيولوجية،[6] لذلك فالمريض يذهب للعلاج النفسى أساسا بحثا عن هذا المعنى[7] والطبيب (والمعالج) قد يبلغ درجة من الصدق مع نفسه إذ يدرك أنه أحيانا لا يملك هذه البضاعة بشكل، محدد جاهز للبيع.
العلاج.. والجوع للمعنى:
– جوعانٌ..
محرومٌ من نبض الكلمهْ
= ما بـَقـِىَ لدىّ بـِلا معنىّ.
مخزونٌ من أمس الأول
ومع ذلك، فإن حاجة المريض المـُلـِحـَّة، رغم يقينه الداخلى بأن ضالته المنشودة غير موجودة حيث ذهب يطلبها، قد تضطره إلى القبول بأخذ ما هو موجود، حتى ولو بدا بلا نفع، متصورا أن استقباله له سوف يحوِّر من طبيعة ما أخذ وبذلك يفى باحتياجه، وهذا ممكن علاجيا وعلميا، ذلك لأن التواصل بين البشر إنما يتم على أكثر من مستوى، فحتى لو أن الطبيب صدق فى قوله أنه ليس عنده ما يفيد حالا، فإن المريض قد يستفيد ربما أساسا من هذا الصدق ذاته، وربما من المحاورات المحاذية للألفاظ التى يسمح بها المجال والوقت الممنوح فى ممارسة العلاج النفسى.
– آخذه أتـَدَبـَّرُ حالى
قد يعنى شيئا بخيالى
تشوية العلاقة العلاجية الإنسانية:
على أنه قد نشأت بعض الممارسات التى فرضتها ظروف أتمنى أن تكون مؤقتة، جعلت هذه العلاقة المهنية تعانى من بعض المضاعفات ومن ذلك: مظاهر تأجيل الاستشارة والمعونة، وكأن الألم والجوع إلى المعنى يمكن أن يؤجل([8])، إن التأجيل قد يصلح لممارسة أخرى غير مرتبطة بالضرورة النابعة من “الجوع إلى المعني”، ورغم دلالة هذه العادة السلبية -طوابير الانتظار- إلا أنها قد تفيد بطريق غير مباشر، لأنها قد تـُرجع المريض إلى نفسه، وقد يجد المعنى الذى يبحث عنه – فى داخله- وذلك “أثناء انتظاره”، وبالتالى يموت الوهم الذى يصوِّر له أن السعادة يمكن أن تـُشترى من عند طبيب أو معالج، فتنقلب المسألة من بيع الصداقة إلى بيع العواطف، وهذا ما يكشفه المتن ساخراً:
= الحجزُ مقدَّم
- لكنى جائع
= تجد قلوبـًا طازَجة توزنُ بالجملهْ
فى “دربِ سعادهْ
الإسراع بالتسكين الكيميائى:
لما عجز العلاج النفسى عن الوفاء بالتزاماته وخاصة بالنسبة للأعداد المتزايدة من البشر المحتاجين إليه، كان لزاما أن تظهر وسيلة أسرع وأسهل، وقد غمرت السوق (ونفوس البشر) موجة من الكيميائيات الحديثة تكاد تختلط بماء الشرب بعد المبالغة فى استعمالها، وهنا الخطر الأكبر الذى لن أوضحه تفصيلا[9]، وإن كان لابد من الإشارة إلى بضعة تحذيرات مبدئية تتعلق به:
1- إن استعمال العقاقير بطريقة انتقائية متغيـِّرة هو إجراء لا غنـَى عنه فى معظم الحالات، بل إنه يسهم فى إعاده تشكيل الدماغ (نقد النص البشرى).
2 – إن التسكين الكيميائى المبكر قد يؤدى إلى إجهاض نبضة نمو قبل اكتمالها.
3 – إن موقف الطبيب ودرجة خوفه من تقليب داخله هو، قد يتحكم فى الإسراع بالجرعة، أو فى مضاعفتها.
4 – إن الفروض المبنية عليها المبالغة فى فائدة الاقتصار على استعمال هذه العقاقير هى فروض تحتاج إلى مراجعة مسئولة.
5 – إن تناقص أعداد أعراض الأمراض النفسية الدورية (النوابية)، ونقص مظاهر دورات[10] الحياة النامية لحساب تزايد الأعراض السلبية المزمنة قد يرجع بدرجة أو بأخرى إلى هذا الإفراط، وما وراءه من أيديولوجية الخوف من التغيّر على الجانبين.
– قلبى لا ينبض
= عندى أحدث بدعة
تأخذها قبل الفجر وبعد أذان العصر،
وتنام، …لا تصحو أبدا!
أما قضية العلاج النفسى بمقابل، فهى قضية عملية وهامة، ومبدأ المقابل قد يدل على الاختيار، وعلى جدية العلاقة وحدودها المهنية، ولكن التمادى فى تشويه العلاقة الإنسانية بمزايدات قد تخرج عن ما يسمح به الهدف العلاجى لا شك يعود بأسوأ الأثر على هذه الممارسة.
– كم سعر الحب اليوم
= حسب التسعيرة، الطلبات كثيرة
وأنا مرهق
- لكنى أدفع أكثر
= نتدبَّـر
…………………
…………………
ونواصل الأسبوع القادم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية (1) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى.
[2]- Psychotherapy The Purchase of Friendship, William. Schofield. Hardcover 1964
[3] – كما جاء – تقريبا – فى كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” شرح ديوان سر اللعبة، 1979
[4] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 75
[5] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 60
[6] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 350
[7]- ربما إشارة إلى”علاج إحياء المعنى” أو ”علاج اللوجوس”Logotherapy الذى ابتدعه فيكتور فرانكل . وهو يعتبر “مدرسة فيينا الثالثة للعلاج النفسى جنبا إلى جنب مع التحليل النفسى فرويد وعلم النفس الفردية أدلر .
[8] – قوائم الانتظار للكشف فالعلاج!!
[9] – وقد أوضحته بما أستطيع بعد ذلك وهذه السلسلة الحالية أكبر دليل على ذلك.
[10] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 694
العلاج النفسي علاقة بين إنسان ذى خبرة مع إنسان فى محنة، يقوم الأول بالوقوف بجوار الثانى حتى تستقيم خطاه ويكمل هو مسيرته كما يستطيع ويرى.
أحيانا ارى المريض في موقع ذو الخبرة واقع انا في محنه عجزي عن مساعدته !