أحلام نجيب محفوظ تعد من قبيل المنامات..
مجلة إبداع العدد الأول
– يناير- مارس 2002
أحلام نجيب محفوظ تعد من قبيل المنامات..
أم هى أحلام يقظة([1])؟
أحلام نقاهة نجيب محفوظ هى إبداع نجيب محفوظ، لا أكثر ولا أقل. كونه أسماها أحلاما، أو أنه استلهم نسيجها من بعض مادة حلمه، أو أنها تحركت فى مساحة هيأها له الحلم، أو أنها تشكلت فى زمن لوح به حلم ما، فهى فى نهاية الأمر عملية إبداعية فائقة، تجلت فى وعى مبدعها من أى من هذا، بل من كل هذا. هذا إبداع مبدع حقيقى بغض النظر عن الاسم، وعن أصل الانبعاث. إذن هى ليست منامات بمعنى أنها حدثت أثناء النوم، ولا هى حلم يقظة بمعنى أنها لعب خيال انشق على ناحية، وانطلق.
الحلم الذى يحدث فعلا أثناء النوم، هو نشاط نوبـى يشغل حوالى ربع ساعات النوم بانتظام الإيقاع الحيوى (عشرون دقيقة كل تسعين دقيقة)، ونحن لا نعرف عن محتواه شيئا. إلا أن الدراسات الحديثة قد أوضحت – من خلال تجارب الحرمان من النوم، والحرمان من الحلم بالاستعانة برسام المخ الكهربائى- أوضحت لنا الكثير عن وظائف الحلم: كصمام أمن، وأداة صقل لما نجمعه أثناء اليقظة، وأيضا كخطوة جوهرية فى تكامل الإبداع الفائق. بل إن هذا النشاط الحلمى المتميز يمكن أن يعتبر نوعا من الإبداع فى ذاته (إذا وسعنا تعريف الإبداع- أنظر بعد). كل ذلك وصل إلينا من خلال دراسة نتائج وظائف النشاط الحالم. أما مضمون هذا النشاط تحديدا، فهو ما لا نعلم عنه شيئا، وبالتالى فهو -ككل- أبعد عن تناول المبدع وغير المبدع.
الحلم المحكى شئ آخر. هو ما نخلـقه نحن من المتاح من بقايا ما تحرك من معلومات أثناء النشاط الحالم فعلا. من هذه البقايا الأقرب، التى تكون فى متناولنا قبيل الاستيقاظ أو أثناء الاستيقاظ. يحدث ذلك فى بضع ثوان، أو جزء من ثانية (حتى إذا بدا زمن نقلات الحلم المحكى سنوات).
أما أحلام اليقظة فهى أسطح من أن تكون إبداعا. المبدع هو الذى ينجح أن يصيغ من الأبجدية التى تلقاها وعيه أثناء اليقظة أو أثناء الحلم توليفا جديدا يلملم فيه ما تناثر بطريقة أصيلة غير مسبوقة، فتتجلى لنا من خلال إبداعه منظومة جديدة. نشطة، طازجة، مقلقلة، جميلة، فننسج منها بدورنا ونحن نتلقاها، ما نستطيع، بما هو نحن.
هل معنى ذلك أن أحلام فترة النقاهة ليست من واقع أحلام نجيب محفوظ؟
علاقة نجيب محفوظ بطبقات وعيه علاقة وثيقة رائعة، لدرجة أن الفصل بين مستويات وعيه وبعضها يصبح تعسفا يحرمنا من سيمفونية إبداعه المتداخلة، محفوظ ليس من الروائيين الذين أفرطوا فى كتابة ما يسمى تيار الوعى، أو أدب الحلم، على الرغم من أن له عمل سابق كان مباشرا أيضا فى عنوانه بما يشير به إلى رؤى النائم، وهو مجموعة “رأيت فيما يرى النائم” وقد كتبت فيه نقدا مسهبا (نشر أولا فى مجلة الإنسان والتطور سنة 1983ثم فى كتابى قراءات فى نجيب محفوظ الصادرمن هيئة الكتاب صدر سنة 1992) بينت فيه الطبيعة الإيجابية لما هو حلم باعتبار أن ”.. الحلم ليس وجودا سلبيا، أو هو ليس نفيا للوجود، ولكنه وجود آخر، وجود مناوب”، إلى أن قلت “ولا يمكن تصنيف هذه المجموعة- رأيت فيما يرى النائم- تحت ما يسمى أدب الحلم،،” ثم أضفت “…. ولعل تجربة محفوظ فى هذا العمل، ومن قبل فى ليالى ألف ليلة هى محاولة للتزاوج بين أدب الأسطورة وأدب الوعى الآخر، أو دعنا نتقدم لنسميه أدب تعدد مستويات الوعى”.
كنت أريد أن أوضح أن المبدع القادر ليس هو الذى يطلق وعيه الآخر طليقا يتداعى (مثل التداعى الحر فى التحليل النفسى) ولا هو الذى يصقل ما يصله من وعيه الآخر بوصاية وعيه الطاغى مهما كان الصقل لامعا جميلا، لكن المبدع الحقيقى هو الذى يستطيع أن يضفر أكثر من مستوى من مستويات الوعى فى ضفيرة إبداع كلية متماسكة، رغم تعدد خصلاتها، هذا ما حذقه نجيب محفوظ من قديم. نقتـطف مقطعا واحدا استشهدت به فى نقدى الباكر لهذه المجموعة، يقول محفوظ في”العين والساعة” “… ومع أن الموقف كله تسربل بغشاء منسوج من الأحلام..” إلى أن قال “..وظل خيالى يجوب أرجاء الزمان الشامل للماضى والحاضر والمستقبل معا ثملا بخمر الحرية المطلقة”. لاحظ كلمة “معا”، ثم انتبه لحدود الثمالة بالحرية رغم وصفها بالمطلقة لتعرف ما أعنيه من قدرة المبدع على تضفير مستويات الوعى والزمن.
ثم يأتى نجيب محفوظ بعد حوالى عشرين عاما، وبيده التى عادت إليها الحياة بفضل تدريب ست سنوات متصلة، بعد فضل الله، يأتى ليبدع لنا فى سطور معدودة، هذه الصور الشعرية المفتوحة النهاية بكل هذا التكثيف المحرك للوعى. هذا إنجاز بشرى فريد ليس له علاقة بنوبل، بل بمحفوظ هذا الذى تشرف به نوبل، فلماذا سارع المتعجلون ليحكموا على عمل بهذه المفاجأة فى هذه الظروف؟ ليس أسهل من الاستسهال إلا خدر الأحكام المسطحة.
ولكن كيف عاد نجيب محفوظ إلى الكتابة بنفسه، رغم هذه الإعافة .
إن فرحتى بأحلام فترة النقاهة لها ثلاثة مستويات على الأقل: الأول انتصارشيخى الجليل على الإعاقة بتدريب يومى طوال خمس سنوات، حتى استطاع أن يكتب بنفسه ما يكتب، هذه خبرة مستقلة تحتاج إلى رواية مستقلة، لا يوجد طبيب أعصاب فى الدنيا يمكن أن يتصور أن العطب الذى لحق بالعصب المسئول عن حركة يد أستاذنا اليمنى وأصابعه يمكن أن يتراجع أمام إصرار هذا الشيخ العظيم أن يواصل الحياة، ليواصل العطاء، ويواصل الإبداع، فعلها شيخنا بمثابرة معجزة عاصرتها يوما بيوم. بعد الحادث الغادر كانت يده أعجز من أن تمسك أى شئ بأى درجة من الاتزان، ناهيك عن أن تمسك بقلم يتحرك سنه على ورقة ..إلخ، لكنه فعلها، كل يوم، كل ضحى كل يوم، راح يدرب نفسه على التحريك الطليق (شخبطة)، ثم على التحريك البطئ، ثم راح يتصور أنه يكتب شيئا ما، واكتفينا بملء صفحة واحدة فى كراسة تلو الكراسة، كانت الصفحة تأخذ فى البداية سطرين أو ثلاثة على الأكثر، ثم أربعة، لم أكن أتبين فيها حرفا واحدا يمكن قراءته، وكنت أتابع تقدمه ساعة بساعة، وأسأله عن الواجب يوميا تقريبا، فيبتسم مداعبا وينبهنى إلى أنه تلميذ حريص على التقدم، فأخجل من سؤالى الخائب، وأنا أتعلم منه كيف يكون حب الحياة مثابرة وإصرارا، راح يتدرب يوميا، وما زال حتى بعد أن نجح أن يكتب ما يمكن قراءته (كما تطالعنا به الأديبة الرقيقة سناء البيسى بذكائها الصحفى المبدع إذ تنشره مصورا حتى أننا صححنا من كتابته سطرا ساقطا فى الطباعة).
فى السنة الأولى كنت أفرح فرحا لا يخفى حين أنجح أن أقرأ حرفا واحدا بين كل ما “شخيط”. بدأت الحروف تتميز فى شكل هلامى أسفل يسار كل صفحة. لم أسأله، تبينت بعد شهور طويلة أنه توقيعه، اسمه، لكن ماذا تحت ما يشبه التوقيع، أشكال أخرى ليست حروفا، وبعد شهور تبينت أنها أرقاما. ثم بعد عام وبعض عام عرفت أنه التاريخ. وكان يشاركنى فرحتى وأنا أبلغه بعض ما نجحت فى قراءته، أعنى كنت أشاركه فرحته، وحين استطاع بعد أكثر من عامين أن يكتب جملة على بعضها كان هذا هو عيدنا الكبير، ورحت أميز فى بعض الصفحات “رب اشرح لى صدرى”، وحبا لسعد زغلول، والنحاس باشا، وبعض الحكم القديمة، ثم تعليقا فى نصف سطر على حدث سياسى آنى، وتدرج الحال حتى ظهرت الأحلام بخط يده للناس.
ذكرتنى هذه الخبرة بخبرة المرحوم أ.د.أبو شادى الروبى بعد أن فقد النطق نتيجة لجلطة فى شريان الدماغ المغذى لمركز الكلام فى النصف الطاغى من المخ، لكنه استطاع أن يتحدى ليستعيد أبجدية الكلام، كلمة كلمة، كان ذلك عن طريق اكتشافه مصادفة حقيقة علمية لم يكن يعرف عنها -نظريا- شيئآ وهى أن النصف الآخر (غير الطاغى) مختص بحفظ الصور الكلية والأنغام. اكتشف د. أبو شادى ذلك بالصدفة فعلا. ذلك أنه بعد أن فقد النطق تماما,اكتشف أنه يميز إحدى السيمفونيات التى يحبها، لكنه لا يعرف أن يسميها، فأخذ يعيدها مئات المرات، وهو يستعيد الاستمتاع بكل مقطع فيها دون اسمها، حتى نجح فجأة فى تسميتها، فعرف الطريق، وراح يواصل العناد ويحب الحياة، فيسمع سيمفونية أخرى، فأخرى، فكونشرتو، فلست أدرى ماذا، ثم بعد أن جمع أبجدية مناسبة من الألفاظ، راح يكمل معجمه الجديد بحل الكلمات المتقاطعة بمثابرة منقطعة النظير، حتى استعاد كل أبجديته وأغلب ذاكرته، قال لى يوما أنه حين نجح أن ينطق الرقم ثمانية “8” بعد أن ظل يرسمه عشرات المرات .كان يعرف معناه وترتيبه والرقم الذى قبله والذى بعده دون أن يعرف نطقه تحديدا، نطق الرقم “ثمانية ” هو الذى كان عصيا عليه، راح يحاول كل يوم، كلما صادفه، راح يكتبه مئات المرات، وهو عصى عليه لا يستطيع نطقه، وحين نجح فجأة أن ينطقه شعر أنه ولد من جديد (هكذا كان نص ألفاظه يرحمه الله). كنت أعيش مع شيخى نجيب محفوظ مثل هذه الاحتفالات بولادة أى حرف جديد وسط “الشخبطة” العنيدة المتكررة، كنا نتهته على الورق، هو كتابة وأنا قراءة، ومع ذلك لم يكن الحمل عسيرا، وغلبت فرحة إعادة ولادة الأولاد الحروف، والبنات الكلمات، على كل المصاعب.
أما فرحتى الثانية بأحلام فترة النقاهة فسببها أن ظهورها فى مجلة عامة قد أعادت له تواصله مع ناسه، هذا التواصل الذى هو المبرر الحقيقى للوجود وللاستمرار، صحيح أن نبل أصدقائه الكرام لم يترك له ثانية فراغ واحدة، وأن عائلته الكريمة تحيطه بكل ما يحلم به أب فاضل وزوج وفى، لكن كل هؤلاء شئ وناسه، كل الناس، شئ آخر، هذا رجل لا يستطيع أن يعيش إلا للناس، ليس فقط لمن حوله من الناس، ولكن لكل الناس، لا يكفى أن يعيد الناس قراءة ما سبق أن كتبه، فهو إنسان يتفجر طزاجة مدهشة مبدعة ناضجة فائقة متجددة، واستمراره يتوقف على ما يصل من هذا الجديد لأصحابه، كل الناس.
هاتان فرحتان وقد ذكرت أنهم ثلاثة، فما هى الفرحة الثالثة؟
هى فرحة فيها بعض ما هو شخصى، وكثير مماهو فرحة بملامح إثبات فرض علمى، كنت قد وصلت إليه من واقع ممارستى المهنية والنقدية وخبراتى الذاتية المتعددة، وقد نضج هذا الفرض حتى أصبح أقرب إلى النظرية، فسجلته ونشرته فعلا (الجدلية الحيوية ,ونبض الإبداع. مجلة فصول العدد الثانى يناير- مارس 1985) . أتاحت لى عودة نجيب محفوظ لهذا النوع من الكتابة مناقشته المرة تلو المرة حول خطوات وطبيعة ما يعيشه فى هذه الخبرة، ووجدت من خلال ذلك أن فرضى القديم الذى لم ينتبه إليه أحد هو فرض يستحق العودة للمراجعة. نعم: يستحق النظر، كانت أطروحتى هذه تزعم أن الحلم هو الإبداع الدورى المنتظم لكل الناس، وأننا لا نحكى ما نراه فى الحلم، ولكننا نخلق ما نحكيه فى جزء من الثانية قبيل اليقظة مباشرة، نخلقه مما بقى فى متناول وعينا هذا من معلومات تحركت أثناء إعادة التنظيم بنشاط الحلم. يتكرر هذا الإيقاع بانتظام كما ذكرت فى البداية.
وقبل أن أقتطف ما كتبته ونشرته سنة 1985 نستمع إلى ما قاله شيخنا الجليل شخصيا ونشره فى وجهة نظر فى أهرام الخميس 16 نوفمبر2000، قال ردا على أسئلة الأديب محمد سلماوى حول هذه التجربة “أحلام فترة النقاهة”
”..إن الأساس المحرك فى هذه القصص هو حلم حقيقى لكنه حلم ليس مساويا للقصة كما تنشر، فالحلم قد يمنحنى الفكرة لكنى أعمل على هذه الفكرة طويلا، إلى أن تتحول إلى قصة، فمثلا ما أخرج به من الحلم قد يكون إحساسى فى مكان عظيم الاتساع، ولكن ماذا يجرى فى هذا المكان وما هى الأحداث التى يمكن أن تنقل للقارئ إحساسى بالمكان خلال الحلم، كل ذلك يجئ فى مرحلة تالية للحلم … ولو التزمت بالحلم وحده لاقتصرت فى مثل هذه القصة على وصف لهذا المكان الذى رأيته فى الحلم، تلك لا تكون قصة، إذن فالحلم قائم فى كل هذه القصص، …كل قصة منهم تتعدى الحلم إلى أن تصبح أدبا. ..” كنت فى السابق تأتينى أفكار الكتابة من حديثى مع الناس، أو من جلوسى على المقهى أو غير ذلك من مخالطتى اليومية للحياة، وقد تصورت بعد أن انقطعت عن هذا الاختلاط بسبب ظروفى الصحية بأن مصدر إلهامى قد ذهب بغير رجعة,لكنى فجأة وجدته يطل على من جديد فى أحلامى وكأنه يقول لى لا تقلق، سآتى لك بالأفكار والقصص دون أن تخرج إلى الشارع”
رجعت إلى فرضى الباكر، وجدت أننى زعمت أن الأحلام هى إبداع الشخص العادى، إبداع متكرر إيقاعى متواضع، نمارسه جميعا بشكل راتب، ذلك بعد أن وسعت تعريف الإبداع بداهة، وبينت أن ذلك يتم على المستوى الفسيولوجى والبيولوجى بغض النظر عن محتوى الحلم أو مدى قدرتنا على تذكره أو حكيه. قلت بالحرف الواحد، (مجلة فصول العدد المذكور ص 19):
”… يمكننا، إذن، صياغة الحلم فى مراحل ثلاثة أساسية: المرحلة الأولى: يتم فيها الحلم، دون إمكان حكايته، وهى ما نسميه “الحلم بالقوة”، والمرحلة الثانية يغلب فيها الرصد على التأليف مع احتمال حكاية الحلم..”هكذا” بقدر هائل من تناثره وتكثيفه ونسميها “الحلم بالفعل؛ ثم المرحلة الثالثة وهى التى تسمى حلما من حيث إنها الحلم كما يحكيه الحالم وهى الحلم بالتأليف .
ثم أضفت ” على أن هذه المرحلة الأخيرة ليست واحدة، لأن التأليف يختلف أصالة وتزييفا، بحسب درجة وصاية نوع التفكير اليقـظ على عملية إبداع الحلم، من المادة المتاحة”، وتقل جرعة الإبداع الأعمق كلما اقتربت حكاية الحلم من اللغة العادية والتسلسل العادى حتى تصل بعض الأحلام إلى حد ألا تكون لها علاقة أصلا بالنشاط الحالم، وكأننا يمكن أن نتصور مدرجا يتدرج عليه إبداع الحلم، يبدأ فى أقصى ناحية من فرض نظرى يقول : إن المادة التى نشطت سوف يلتقطها الحالم كما هى (كالتصوير الفوتوغرافى العادي) ليحكيها على أنها الحلم، وينتهى فى أقصى الناحية الأخرى بفرض أن المادة المنشطة سوف تختفى تماما من وعى اليقظة، وتحل محلها مادة مزيقة تماما، وأعنى بذلك الأحلام البسيطة المفسرة، والمواكبة مباشرة لأحداث اليقظة، وبلغتها، ولا يوجد على أقصى المدرج من الناحيتين إبداع أصلا، لا فى التصوير المباشر(المستحيل عمليا) ولا فى التزييف المطلق، من حيث إنه نسج خيال وليس مواجهة تنشيط مادة متاحة وإعادة تركيبها وكل ما يقع بين هاتين النقطتين القصويين هو نوع من الإبداع الذى تختلف درجات أصالته باختلاف قدر تحمل المواجهة الغائرة لكل المستثار ”معا”.
………وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم المستوى الأخير (الحلم بالتأليف)، إلى مستويات فرعية على الوجه التالى:
-الحلم شديدالتكثيف، سريع النقلات متعدد الطبقات، واهى العلاقات، وهو الأقرب إلى الحلم بالفعل، ومن ثم الحلم بالقوة، وفعل الإبداع فيه قوى وصادق، لأنه ليس تصويرا بسيطا، ومن ثم فإن حكايته ليست إملاء سلبيا، بل هى إحاطة لامة لتناقضات مواجهة.
يلى ذلك الحلم المركز، الحلم اللقطة، ويجعله مفهوما بعض الشئ أن شدة قصره تخفف من النقلات والتكثيف بدرجة تجعله فى حدود زمنه متماسكا بعض الشيء، ثم يتدرج الأمر رويدا رويدا ..لحساب سلسلة الأحداث وتنسيق الحوار…حتى “ينتهى الطيف إلى الحلم المزيف (الحلم اللاحلم) وهو استبدال مطلق بتأثير الخيال اليقظ، بالحلم الحقيقى، حكاية منسوجة من وعى منشق، وهو أشبه بوعى اليقظة . (وهو ليس مزيقا بمعنى أن حاكيه يكذب، لكنه مزيف بمعنى أن جرعة التأليف أو التلقيق التلقائى بعيد أو بعد اليقظة طغت على مادة الحلم المتاحة كلية تقريبا)
انتهى المقتطف بحروفه، وأعتذر عن الإطالة التى لا غنى عنها.
فكانت فرحتى بفضل أحلام نقاهة نجيب محفوظ لما أتاحته لى من إحياء أمل تحقيق بعض ما ذهبت إليه، وهكذا يكمل أفضاله على شخصى المحظوظ بمعرفته بكل هذا القرب,بأن يسمح لى بالعودة إلى وعود المعرفة المتفقة دون خوف.
أسأل الله أن يعيننى أن أسد ما على له من ديون هو وديستويفسكى، على الأقل.
هل تلقى هذه الأحلام أضواء جديدة على إبداعات أديب نوبل العالمى نجيب محفوظ ؟
أولا نجيب محفوظ هو نجيب محفوظ، بنوبل وبغير نوبل، ويكفى ليكون كذلك أنه، مع كل الصعوبات القديمة والجديدة، التى ذكرنا بعضها، لم يـتردد فى نشر ما رأى أنه يستأهل، لم يخف على اسمه، ولا على نوبل، ولم يحدد له هدفا إلا أن يسجل ما رآه يستأهل، فهو يستأهل.
حين سمعنا أنه بدأ يحاول كتابة هذه الأحلام، سألته هل ثم شئ فى الطريق حقيقة؟ أجابنى مبتسما وهو يشير إلى دماغه أنه يشعر “بنغبشة” ربما يتمخص منها شئ ما، وقد كان.
من كل هذا أخلص إلى أن المبدع الملتزم مثل نجيب محفوظ لم يعد له أى هدف من الكتابة والنشر، إلا أمانته مع نفسه. هو لا ينتظر تقديرا أكثر مما ناله، لا من ناسه، ولا من العالم، وهو لا ينتظر والحمد لله عائدا ماديا من مثل هذه الكتابات، فلماذا يكتب إن لم يكن يبدع، ويتواصل، ويحترم الحياة بما تستحق، ويقدر عليها؟
ثم إننى أشرت فى عيد ميلاده السادس والثمانين فى الأهرام كيف أنه يبدعنا من حوله بأحاديثه المتجددة، أو بإنصاته الخلاق، وأسميت جلساتنا معه “إبداع حي*=*حى، واستلهمت منها فكرتى عن إبداع الحياة دون تسجيلها فى عمل بذاته. يقول نجيب محفوظ فى أصداء السيرة “تذكرت كلمات بسيطة لا وزن لها فى ذاتها مثل “أنت”، “فيم تفكر”، “طيب”، “يا لك من ماكر” لكن لسحرها الغريب الغامض جن أناس، وثمل آخرون بسعادة لا توصف”. هل عرفت إجابة لسؤالك عما كانت هذه الأحلام تلقى جديدا على إبداعه أم لا. إن نجيب محفوظ يبدع جديدا وهو يقول لك صباح الخير، وهو يضحك، وهو يصمت ويهز رأسه، لأنه يفعل كل ذلك بطريقة ليست مثل التى فعلها بالأمس.
ما هى دلالات تلك الرموز الواردة فى أحلام نجيب محفوظ …وهل نجحتم كمحلل نفسى فى الوصول إلى معانيها؟
دعك أولا من حكاية محلل نفسى هذه، سامح الله فرويد، وغفر له، وجزاه عنا خيرا، رغم كل ما أصاب الفكر بسبب غوايته، ثم تعال أقول لك إن مسألة الإسراع بترجمة الإبداع عامة، والإبداع الفائق (الإبداع التكثيف، الإبداع الصورة الشعرية -الإبداع الشعر المتداخل الأزمنة) ترجمة أى من ذلك إلى رموز، هى اختزال قبيح، وقد رفضت دائما أن يستدرج نجيب محفوظ تحت ضغط ظروف واقعية، أو إلحاح رؤية نبوية، فيلجأ إلى الإفراط فى استعمال الرمز، لكننى عذرته إلا قليلا، ولم أعذر النقاد – رغم فائق جهدهم وعظيم تميزهم -أولئك النقاد الذين بالغوا فى اختزال أغلب أعماله إلى رموزهم من أول أستاذنا محمود العالم حتى محمد حسن عبد الله مرورا بغالى شكرى وجورج طرابيشى، كما رفضت الرمز عند محفوظ نفسه إذا فرض نفسه بحضور ملح، حتى أننى اعتبر أولاد حارتنا المفرطة فى الرمز من أقل أعمال محفوظ إبداعا اللهم إلا فى حبك الحرفة، ثم خذ عندك “قسمتى ونصيبى”، أو “الفأر النرويجى”، كأمثلة رفضت فيها زمز محفوظ، لكن إذا إلى: رأيت فيما يرى النائم، أو ليالى ألف ليلة و الحرافيش فحدث ولا حرج عن الطلاقة والتلقائية والتخليق والمغامرة دون حاجة إلى رموز وصية.
ثم نرجع بسرعة إلى هذا الإبداع الأحدث ,أحلام فترة النقاهة، فهو أبعد ما يكون عن الرمز (إلا نادرا) هو أقرب إلى التشكيل الشعرى، الذى يشمل كلا من الصورة والموسيقى الداخلية والتكثيف والحضور المتعدد التجلى، وهى صورة تؤدى وظيفتها الجمالية والتحريكية على مستويات وعى كل متلق بما يستطيع. هى صور حافزة لإبداع المتلقى حيث أغلبها مفتوح النهاية، أنظر مثلا إلى نهاية حلم “4”
وقلت لصاحبى:
“سنفتح الباب عن سد لا منفذ فيه.”، وتقدم الزعيم وسط هتاف متصاعد وتحذير مستمر حتى فتح الباب ودخل مختفيا عن الأنظار,”، ترجم هذه النهايةإن شئت إلى رمز لعبد الناصر,أو للسادات، أو لغيرهما، ولن تضيف شيئا بهذه الترجمة المختزلة، لكنك لو نظرت إلى صورة الحلم فى سياقها المتكامل والحالم لم يفتح بابا إلا وكان وراءه جدار سد ..قبل ظهورالزعيم…إلى آخرصورة الحلم، إذن لعدلت عن هذا التسرع غير المبرر، ولعدت لتقف أمام كلية الصورة تنظر لها من الزاوية تلوالأخرى لترى نفسك والحياة أكثر مما ترى هذا الزعيم أو ذاك.
ثم انظرإلى نهاية حلم “16” علامة على طريق”
وتراءى أمام عينى طريق طويل ملئ ملئ بالمتاعب” (هذه نهاية وليست كما تظن بداية !! فاعلم فقهك الله كم هى نهاية بلا نهاية)
أو انظر إلى نل; النهاية المفتوحة أيضا هربا من الغرق إلى سماء مجهولة
” ومضت المياه ترتفع حتى غطت أقدامنا، وزحفت على سيقانن، وشعرنا بأننا نغرق تحت المطر، ونسينا نكاتنا، وضحكاتنا، ولم يعد لنا أمل فى الخلاص إلا أن نطير فى الفضاء. (حلم 10)
إن الأهم من البحث عن الرمز هنا وهناك هو رصد هذه النهايات المفتوحة بشكل تشكيلى محرك لوعى المتلقى، حتى الأحلام التى تنتهى بحوار واعد، أو لقاء غير مدبر، أو مدبر بفاعل خفى (القدر، أو اللاشعور) تجد أن الحوار يتفرع فجأة إلى غير ما تعد به مقدماته، حين تعتذرالفتاة – مثلا – كاتبة الآلة الكاتبة غير الجميلة بماحولها من شبهات، تعتذر عن قبول عرض للخطبة من رئيسها الذى استطاع أن ينتصر على إحباطه السابق بتنازل محسوب، تعتذر بعد أن طمأنها على حالته المالية، بأن” المال لا يهمها”، وينتهى الحلم بسؤال لم ينطق لفظا عما يهمها حقا، لم ينطق لأنها كانت قد اختفت (حلم 15).
إن الإلحاح فى البحث عن ما يرمز له الحلم تحديدا هو من أسطح ما أضر به فرويد ظاهرة الحلم (رغم تحفظاته ضد التعميم)، وقد زاد النقد الأدبى التحليلى هذا التسطيح بتسطيح أكثراختزالا فيما يتعلق بالإبداع، ونجيب محفوظ فى أحلام فترة النقاهة لم يعرج إلا نادرا إلى الرمزية أو إلى الحكى المسلسل.
أحلام فترة النقاهة عمل كما قلت أقرب إلى التشكيل الشعر، وأحيانا إلى تركيبة السيناريو. لاحظ كيف يتجلى التشكيل المكانى فى بداية كثير من الأحلام، حتى يكاد الحلم يستغنى عن الحوار مكتفيا بالصورة المكانية والحركة ونقلات الزمن. مثلا يبدأ الحلم بوصف المكان مباشرة بهو رصت على جوانبه” (حلم 15) وأيضا: “يا له من ميدان مترامى التساع مكتظ بالخلق” (حلم 11)، وأكتفى بهذا القدر فالأمر يحتاج عودة تفصيلية .
ما مدلول ارتباط هذه الأحلام بفترة النقاهة؟
لا أظن أن للاسم مدلول غير أنه إعلان بطمأنينة شيخنا أنه انتصر على الإعاقة إلا قليلا، لأن بعد فترة النقاهة يأتى الشفاء الكامل بإذن الله
كيف يتعامل التحليل النفسى مع هذه الأحلام؟
للأسف، إن التحليل النفسى على ما له من سمعة وغواية أعجز من أن يتعامل مع هذه الأحلام، التحليل النفسى أرقى قليلا من تفسير ابن سيرين لأنه أقل حسما فى تعميم و ترجمة الرموز، ثم إنه لا يقوم بتحليل حلم منفرد إلا فى سياق التداعى الحر (وفى النقد الأدبى فى سياق كلية النص)، وكل هذا تأليف لاحق لا علاقة له -عادة – بالحلم.
الحلم بعد الاكتشافات الفسيولوجية ودراسات التعلم والإبداع الأحدث هو أهم وأكثر دلالة وأعمق توظيفا من كل ما جاء فى التحليل النفسى الكلاسى مما لا مكان لتفصيله (يمكن الرجوع إلى مجلة فصول.المقال المشار إليه عن الإيقاع الحيوى) .
لا أخفى عليك أننى تصورت أن ناقدا من هواة التحليل قد ينمو إلى علمه ما يرجحه فرويد يالنسبة لأحلام الطيران من مغزى جنسى مباشر، فيترجم- مثلا – نهاية حلم (10) من أحلام نقاهة شيخنا إلى هذا المفهوم الجنسى تعسفا.
وأخيرا كيف يتعامل التحليل النفسى بشكل عام مع الإبداع ومع المبدعين؟
إن التحليل النفسى بمستواه المتواضع، أكاد أقول المسطح، المبالغ فى التأويل أضر النقد الأدبى بقدر ما أضاء بعض زواياه.
[1]– أضاء بعض زواياه (يمكن الرجوع إلى ما كتبته تفصيلا فى هذا الشأن (فصول العدد الأول المجلد الرابع أكتوبر- ديسمبر 1983 إشكالة العلوم النفسية والنقد الأدبى) .
2002-03-09