نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 7-1-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5607
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية” (1)[1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
العلاج النفسى (مقدمة)
بين الشائع والإعلام والعلم والناس (3)
الفصل الثانى
صعوبة الكتابة فى “العلاج النفسى” ومضاعفاتها
انطلاقا من المتن [2]
بالله عليكم هل يحتاج هذا المتن كما ورد فى الفصل الأول: إلى شرح؟ هل يصِحّ أن يضاف إليه ما يشوِّهه؟ علما بأنه صدر مستقلا فى الديوان طبعا، وعلى من يكتفى به أن يكتفى، على شرط أن يقرأه بموسيقاه التى تنبعث منه، أما أولئك الذين لم يعتادوا الاستمتاع بجمال شعر العامية الفصحى، فسوف أضيف ما تيسر فى هذا الكتاب المقدمة بما يسهل المتابعة لسلسلة الكتب التى ذُكِرتْ فى المقدمة الشاملة.
المتن واحدة واحدة!!:
-1-
كل القلم ما اتقصف يطلعْ لُـه سن جديدْ،
”وايش تعمل الكـلْمـَةْ يَابَـا، والقدَرْ مواعيد”؟
خلق القلم مِالعَدَمْ أو راقْ، وِ.. مَــلاَهَا،
وانْ كان عاجبْنٍى وَجَبْ،
ولاّ أتنّـى بعيدْ.
الكتابة فى العلاج النفسى تكاد تكون مستحيلة، بل إنها تكاد تكون ضد العلاج النفسي، تماما مثل الكتابة فى الجدل وعن الجدل التى هى بالضرورة ضد الجدل.
العلاج النفسى عملية حيوية مَعيشة لايمكن للكلمات أن تستوعبها، ومن أغلط الغلط أن يتعلم أحدهم العلاج النفسى من قراءة الكتب عنه، مهما بلغت دقة هذه الكتب وإحاطتها. إن قراءة ألف كتاب فى العلاج النفسى لا تساوى الجلوس مسئولا أمام مريض أمى يحضر مرة أسبوعيا لمدة ساعة خلال سنة أو أقل أو أكثر وهو يتحسن (أو يتذبذب فى طريقه إلى التحسن، أو يتدهور رغم الجهد والصبر).
إن “قصف القلم” المشار إليه هنا هو إعلان عن بعض حلقات جهادى فى محاولة “الكتابة فى العلاج النفسي” أو “عن العلاج النفسى”، ولعل هذا هو بعض ما أخر صدور هذا العمل.
تبينت لى صعوبة المسألة من قديم عندما كان يطلب منى زملائى الأساتذة فى كلية الطب، قصر العينى، أن أضع سؤالا تحريريا فى العلاج النفسى (على أساس أنهم يعتبرون أنه من أهم ما يتصورون أنه تخصصى الدقيق) كنت أشكر، وأبتسم، وأعتذر، وأرفض ما أمكن الرفض. تصور معى – مثلا – سؤالا يقول: “قل ما تعرفه عن العلاج النفسى بالإيحاء”، فيأتى الجواب متضمِّنا أنواع الأمراض التى تستجيب للإيحاء، والشخصيات الأكثر قابلية له، وطرقه المباشرة وغير المباشرة، ونتائجه المحدودة، يجيب عن ذلك طالب شاطر حافظ إجابة لا تخر الماء (ما تخرش المية)، فيضطر الممتحـِن المصحـِّح أن يعطيه عشرة على عشرة!! (وربما نجمة)، قارن ذلك بمباشرة أسبوعيه للإشراف على طبيب صغير متدرب، يجرى تتبع خطوات نمو خبرته، ونموه، وهو يحكى مع زملاء له فى جلسات الإشراف المنتظمة، يحكى ما يرى أنه يحتاج إلى إشراف، أو حوار، من خبير أكبر، أو زملاء أقدم، يحكى أيضا عن ماذا حدث له أثناء جلوسه مع المريض قبل ومع وبعد الجلسة، وهو يحتار، وهو يحاول، ثم ماذا حدث للمريض أثناء العلاج ونتيجة له، خطوة خطوة، ومأزقا فاجتيازا، أو مأزقا فوقفة، ثم يسأل ويتساءل ويناقش الإجابة عن كل ذلك، هذا هو بعض ما عرضناه مرارا وتكرارا فى باب “التدريب عن بعد”، فى نشرات “الإنسان والتطور” اليومية.([3]) وهو هو ما يجرى فى واقع الحال فى قسم الطب النفسى كلية الطب قصر العينى منذ أكثر من أربعين سنة مرة أسبوعيا وفى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية ضمن علاج الوسط طول الوقت والمفروض فى أى مركز يمارس ما يسمى العلاج النفسى([4]).
إذن: فماذا يفيد أن أكتب عن أصول أو قواعد أو معنى أو هدف ما يسمى “العلاج النفسى”؟ وكيف أضمن أن يسير ما يصل من ذلك جنبا إلى جنب مع التدريب والإشراف طول الوقت؟
ومع ذلك فهذه محاولة اجتهاد أرجو منها الخير الممكن.
هذه هى بعض معالم مأزقى المتجدد: كلما هممت بأن اكتب فى العلاج النفسى ينقصف قلمى فعلا، فأتوقف، وأتردد، وأتراجع، لكننى لم أكف أبدا عن الإعداد لهذا الاحتمال (الكتابة عن العلاج النفسى)، وأنا أكاد أكون على يقين معظم الوقت من أننى أعـِدُ بما قد “لن يكون أبدا”.
ومن بين ما جمعتُ تمهيدا لهذا الاحتمال ما يلى:
1- تسجيل صوتي، ثم تفريغ التسجيل كتابة، لما تيسر من مناقشات مع الأطباء الأصغر الذين يمارسون العلاج النفسى تحت إشرافى، وهو ما ظهر بعضه فى النشرة اليومية فى باب التدريب عن بعد.
2- تسجيل المناقشات بعد كل جلسة ”علاج نفسى جمعى” أقوم فيها بمسئولية العلاج فى مستشفى قصر العينى، جنبا إلى جنب مع مهمة تدريب الأصغر. وقد نشرت بعض معالم نظام التدريب فى بعض النشرات بموقعى، وتشمل هذه المناقشات أسئلة وتعليقات المشاركين داخل المجموعة العلاجية، بالإضافة إلى أسئلة وتعليقات المشاهدين الحاضرين([5]) فى الحلقة الخارجية المحيطة بأعضاء جلسة العلاج الجمعى. وكان الواجب الذى يقوم به المتدرب فى قصر العينى هو أن يقوم بتفريغ تسجيلات هذه المناقشات البعدية – بعد كل جلسة – أولا بأول، وظل هذا يحدث، ولمدة سنوات، ثم توقف التسجيل بعد ذلك بعد أن تراكم دون تحرير أولا بأول، ثم حين سألت عنه مؤخرا، اكتشفت أنه فـُـقـِـدَ أغلبه، ولم أجزع كما ينبغى، فقد تأكدت أن ما تبقى منه عندى الآن يكفى وزيادة (يكفى ماذا؟ يكفى من؟) وعموما فإن ما نشر مؤخرا فى “باب التدريب عن بعد”([6]) فى نشرات “الإنسان والتطور” اليومية به عينات مهمة، وإن كانت محدودة، لبعض ما تم فى السنوات الأخيرة فى مستشفى دار المقطم أساسا، وأيضا فى قسم الطب النفسى قصر العينى.
3- تسجيل مواز للمناقشات بعد الجلسات الجماعية فى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية ثم تفريغ التسجيل مباشرة، استمر ذلك لمدة تزيد عن عشر سنوات وقد اختفى أغلبه أيضا، لكننى أعتقد أن ما تبقى يكفى، وزيادة (يكفى ماذا؟ يكفى من؟)
4- تم تسجيل أغلب جلسات العلاج الجمعى فى قصر العينى، وذلك لعدد من المجموعات العلاجية المتلاحقة، بالصوت والصورة وهى جلسات العلاج والتدريب التى تجرى فى قصر العينى أسبوعيا منذ سنة 1971 (وحتى الآن 2017) (بعد إذن صريح من كل المشاركين مرضى وأطباء) بالإضافة إلى تسجيل المناقشات اللاحقة التى أشرنا إليها حالا([7]).
5- من خلال الإشراف على رسائل للماجستير (اثنتان) والدكتوراه (أربعة)، تم تسجيل صوتى لأغلب جلسات العلاج الجمعى موضوع الرسالة، لتكون مادة للاستشهاد ودراسة المحتوي. (على سبيل المثال لا الحصر: رسالتى أ.د. عماد حمدى غز فى الماجستير والدكتوراه – رئيس قسم الطب النفسى بطب القاهرة سابقا – ورسالة الدكتوراه أ.د. عزة البكرى رئيس القسم حاليا، ورسالة أ. د. نهى صبرى، ورسالة الدكتوراه فى الفلسفة – فرع علم نفس – المرحومة د. نجاة النحراوى).
هذا، وتبلغ كل هذه التسجيلات مئات الأشرطة حتى الآن، لم يفرغ أغلب ما تبقى منها بنظام يسمح باستعمالها فى مثل هذا الكتاب، أو أى كتاب، وقد وجدت أن الاعتماد عليها الآن وأنا أكتب هذا العمل، أو مجرد تصوُّر إمكان نشرها بعد رحيلى هو أمر يتراوح بين الاستحالة، وترجيح الاختزال والتسطيح بكل المخاطر المترتبة على ذلك، خصوصا إذا قام بالتفريغ والتبويب من لم يعاشر التجربة شخصيا.
وهكذا: تزاحمتْ وتكاثفتْ وتداخلتْ وتراكمتْ كل هذه المادة، وبدلا من أن تكون حافزا للكتابة أصبحت عائقا لمجرد البداية فى كتابة خبرتنا فى موضوع العلاج النفسى.
أمام هذا الكم الهائل من المادة الخام قُـصِف قلمى المرة تلو الأخرى تلو الأخرى تلو الأخرى.. فعلا، فأعاود المحاولة وأنا أشعر أنه لا مفر من مواجهة الالتزام بالكتابة مهما كانت الصعوبات أو المضاعفات، وهكذا ظل الواجب ضاغطا، والكتابة لحوح ملوِّحة طول الوقت، مرة أخرى:
كل القلم ما اتقصف يطلعْ لُـه سن جديدْ،
تأكد لى من خلال هذا التحدى المتجدد: إلحاح “الكتابة” فى العلاج النفسى، حتى وضعت لنفسى (وربما لغيرى إن شاء) بعض الشروط والتحفظات التى أنصح بالالتزام بها لمن شاء أن يخوض هذه المخاطرة، ومن ذلك:
أولاً: ألا تكون الكلمة المكتوبة هى الأصل: ذلك أننى – كما ذكرت – ما زلت أنصح المتدربين معى على العلاج النفسى ألا يقرؤوا أصلا فى موضوع العلاج النفسى خلال السنة الأولى من الممارسة على الأقل، ولكن هذا لا يمنع من القراءة فى نظريات علم النفس ومدارسه، وبالذات فى “علم النفسمراضية: السيكوباثولوجي”، وبالتالى لا تكون الكتابة (فالقراءة) هى المرجع الأول أو الأوحد لمعرفة ماهية “فن العلاج”. فالمرجع الأول هو المريض ومسار العلاج، أما المرجع الأصل فهو الإشراف من أستاذ (معلم مدرب) بشكل منتظم. ثم الإشراف من الأقران Peer Supervision، ثم الإشراف الذاتى، فضلا عن الإشراف غير المباشر من المرضى. ([8])
ثانياً: أن تتناسب جرعة القراءة مع حجم الممارسة تناسبا ترجح فيه كفة الممارسة على كفة القراءة طول الوقت (كلما زاد عدد المرضى، زاد احتمال الاستفادة من القراءة لاحقا)، فقد لاحظت أنه كلما زادت جرعة القراءة عن فعل الممارسة تعرض الممارس إلى ما يسمى العـَقـْلـَنـَةْ. ذلك لأن فن العلاج هذا إنما يمارَس “بكلية وجود المعالج نفسه“، وليس بتنفيذ أوامر العقل الحاسب المنطقى فحسب.
حدود ومعالم:
من كل هذا يمكن أن نستنتج ابتداء حدود ومعالم هذا النقد فى هذه الأعمال، وهو ما يمثله بعض هذا العمل، حتى لا نتوقع منه غير ما يعد به، وأيضا حتى لا نسىء فهم أو تطبيق بعض ما يصلنا منه.
هذا العمل – بكل أجزائه إذن – لا يعدو أن يكون:
1- إطارا عاما لا يغنى عن الممارسة، ولا يحل محلها، وإن كنا نأمل أن يؤنـِس من يمارس العلاج النفسى ويضيف إليه.
2- خبرة محلية لا تنفصل عن أحدث ما توصل إليه العلم والفن الطبى عبر العالم، لكنها فى النهاية تنطبق أكثر على المجتمع العربى خاصة وعلى المجتمع المصرى بشكل أكثر تخصيصا.
3- كتابا حواريا أكثر منه تعليمات تلقينية أى أن المعلومات التى يطرحها جديرة بأن تثير ما يقابلها ويعدلها لا أن تمثل للقارئ توليفة جاهزة للتطبيق الحرفي.
4- تطبيقا تنظيريا للفكر الذى ينتمى إليه المؤلف ([9])، الذى يمكن أن نوجز بعض معالمه فيما يلى:
(1) النمو عملية مستمرة من الولادة حتى الموت (وبعده) ([10]).
(2) النمو يتم فى دورات، تتصل هذه الدورات بالدورات البيولوجية الحيوية (الإيقاعحيوى) وخصوصا دورات اليقظة والنوم، ودورات النوم الحالم متناوبا مع النوم غير الحالم.
(3) النمو يتضمن فرص ومسيرة التغير الكيفى بعد أزمات طفرية.
(4) الإنسان مكون من شخوص (ذوات) متعددة تعمل كذات واحدة فى لحظة بذاتها أثناء اليقظة، وتتبادل لتتكامل من خلال كل من الإيقاع الحيوى، والتناسب الأدائى، بما يحقق عملية جدلية لا نهاية لها.
(5) المرض النفسى هو خلل فى الطبيعة البشرية ومسارها بأى من:
(أ) الانحراف أو
(ب) التوقف أو
(جـ) النكوص أو
(د) التشوّه (بالتكلس أو التفسخ أو الاندمال)،
وهو عادة خليط من كل ذلك: بما يعيق عملية النمو المشار إليها سالفا وهو يظهر فى شكل نشاز يتجلى فى ظهور الأعراض من جهة، وفى عجز الأداء الحياتى واضطراب العلاقات البشرية (البينشخصية) من جهة أخرى.
(6) علاج المرض النفسى هو استعادة نشاط مسيرة النمو بانتظام واتساق، أى استعاده سلامة استيعاب توظيف النبض الحيوى الذى يؤدى إلى تكامل مستويات الدماغ (منظومات الذات – مستويات الوعي.. إلخ) فى كلٍّ حركىٍّ متسق، مما ينتج عنه اختفاء أعراض النشاز، ونتائجه المعيقة.
إعادة تنبيه
إذا كان الأمر محفوف بكل هذه المحاذير فمن حقـنا بعد كل ذلك أن نعيد التساؤل عن جدوى الكتابة فى مثل هذه المواضيع للقارئ العادى غير المتخصص، بل وعلينا أيضا أن ندرس ما هو الضرر الممكن إلحاقه بالشخص العادى أيضا إذا ما أساء فهم المكتوب أو أساء تطبيقه؟ هذا تساؤل موضوعى وأخلاقى، حتى كدت أرجح أن ضرر الكتابة فالقراءة قد يكون أكثر من الفائدة ما لم يـُـبذل الجهد الكافى فى احترام المكتوب والتعمق فيه، بل إنه يراودنى الشك أيضا فى نوعية استقبال المتخصص ومدى رحابة صدره وقدرته على المراجعة معنا.
بعد فترة من الحيرة استقر رأيى على مخاطبة الشخص العادى والمريض والمتخصص معا دون حرج، وأبين تبرير ما انتهيتُ إليه فيما يلى:
أولا: إن من حق مريضنا وأهلنا، وعامة الناس عندنا (نحن جميعا مشروع مرضي) أن يعرفوا وجهة نظر تــمارس فى بيئتهم، من واقع ثقافتهم بدلا من ترديد مقولات أجنبية وأفكار وتجارب مستوردة معظم الوقت، هذا علما بأن الخبرات الخاصة تتضفر لتصب فى المعرفة العامة ما أتيحت الفرصة لذلك.
ثانيا: أنه مادام هناك ما هو فى متناول الناس تحت اسم “العلاج النفسي”، أو اسماء قريبة من ذلك، فينبغى أن تتاح لهم معلومات “أخري”، من واقع التجارب الفعـلية، حتى تتعدد المصادر أمامهم، وبالتالى يمكن أن ترجح اللغة الأصح والأنفع.
ثالثا: إن الأفلام والمسلسلات تتناول موضوع العلاج النفسى بشكل متواتر، وهى تقدم من خلال ذلك أسطح وأغلط ما يمكن تقديمه فى هذا الصدد (مثل التركيز على فك العقد، والغوص فى الماضى بحثا عن الأسباب حتى التبرير،. وتشويه صورة المريض العقلي، وتتـفيه [من التفاهة] صورة الطبيب النفسي) كل ذلك لا يصح السكوت عليه ولا يكفى التوقف عند شجبه أو مطالبة السلطات بمنعه، وإنما ينبغى أن يقابله ويوازيه فكر آخر يقدم المعلومات الصحيحة البديلة للشخص العادى.
رابعا: أثناء الممارسة لاحظت أن المرضى يفهمون النظريات التى أنتمى إليها، أو الفروض والتفسيرات التى أضعها بتلقائية ومباشرة ووضوح، أكثر من ذويهم، وأحيانا يلتقطون عمق مغزاها أكثر من الزملاء الأطباء التقليديين. (يحدث ذلك بوجه خاص بالنسبة لما يتعلق بالمرض النفسى والعقلى كلغة واختيار له غاية، وأيضا بالنسبة لما يتعلق بتعدد الذوات فى الكيان البشرى).
خامسا: التسجيلات التى تحت يدى تؤكد أن هذا التلقى المتميز عند المرضى لا يشترط أو يتطلب أيـًّا مما يلى:
(أ) درجة عالية من الذكاء،
ولا: (ب) قدرا من القراءة السابقة الكافية فى العلوم والنظريات النفسية،
ولا: (جـ) معالجا متميزا له قدرات خاصة أو نظرية محكمة، اللهم إلا طول خبرته ودوام تعلـُّـمه.
سادساً: إن هؤلاء المرضى (الذهانيين خاصة = المرضى العقليين) يستجيبون لمجرد الإشارة ولو من بعيد، ولو بلغة غامضة، لمفهوم “الغائية” فى المرض النفسى: ذلك المفهوم الذى يركز على معنى المرض، ومعنى الأعراض وما تريد تحقيقه، مثل الاحتجاج على ما هو اغتراب “عادى”، دون المساس بجوهر ما هى الصحة، برغم أنهم لا يعترفون بسهولة بدورهم فى اختيار “الخلل المرضى”.
سابعاً: كثيرٌ من هؤلاء المرضى يتقبلون (ويمارسون أثناء بعض أنواع العلاج. انظر بعد) حركية وإيقاعية “تعدد الذوات”، حتى تظهر استجابتهم بشكل ملفت حين يكملون بشكل عفوى رائع تعرية النفسمراضية بمجرد أن يبدأ المعالج فى الإشارة إليه.
ثامناً: إن استجابة هؤلاء المرضى هى فى الأغلب- أكثر جاهزية من استجابة الشخص العادى الذى يحتمى عادة وراء دفاعات تمنع هذه الرؤية الأعمق.
مخاطر ومضاعفات محتملة
أما عن المخاطر والأضرار التى يمكن أن تترتب على حضور هذه المعلومات فى متناول الشخص العادى (جدا)، والمريض أيضا، فهى حقيقية، ولا يخفف من أثارها إلا أنها أقل من الفوائد السابق ذكرها،
ومن بعض هذه المخاطر المحتملة ما يلى:
(أ) أن تزيد جرعة العقلنة (الفهم المجرّد) فتحول دون المعايشة الحقيقية، التى هى محور العلاج، حتى تحل محله، بمعنى أن تصبح المعلومات المقدمة هى السبيل إلى فهم عقلانى دون فعل أو تغيير فى الذات سلوكا وتركيبا.
(ب) أن تتاح الفرصة لممارسة ما يسمى “هواية التطبيب النفسي” على حساب المرضى والأصحاء على حد سواء.
(جـ) أن يتلقى هذا العمل قارئ متعجل مع ما يترتب على ذلك من درجات مختلفة من التعميم والتبسيط، مما قد يؤدى إلى غير ما قـُـصد منه، وأحيانا عكس ما قصد منه.
(د) أن يفهم البعض غائية المرض النفسى والعقلى (اختيار المريض لمرضه، بما فى ذلك اختيار الجنون) على أنه نوع من الادعاء أو حتى نوع من المبالغة والاستسهال (الدلع)، فيتصور أننا نتهم المريض إذْ نحمّله مسئولية اختيار مرضه، فى حين أن هذا التوجه إلى اعتبار المرض اختيارا يحمل دعوى ضمنية أنه مَنِ اختار المرض، يستطيع أن يختار العدول عنه والعودة إلى الصحة عن طريق العلاج المشارك.
كل هذا الذى ذكرته فى الصفحات السابقة هو الذى جعل القلم يتوقف (ينقصف) المرة تلو المرة، وهو الذى جعله يعاود المحاوله (يطلع له سن جديد). والتحذير(فى البيت الثاني) من عدم جدوى الكلمات فى مواجهة مسيرة الأحداث التى تبدو حتميه (والقدر مواعيد) هو تحذير نسبي، لأنه ليست كل الكلمات لها نفس الفاعلية، أو اللافاعلية، والكلمة الكاشفة المخترقه هى نفسها جزء من القدر وخاصة حين تلتحم بتوقيتها ودلالته.
عن القدر والمصادفة
كلمة القدر هنا (وربما فيما بعد) لها تفسير فى هذا السياق العلمى ليس له علاقة بنفس الكلمة “القدر” حين تستعمل فى سياق دينى (مثلا) – فمن ناحية يمكن أن نتصور أن حتمية فرويد (الحتمية السببية = لكل حدث تفسيره وأسبابه فيما سبق من أحداث) هى نوع من القدر بشكل أو بآخر، وبالتالى فإن هذه الحتمية لا تغيـّـرها الكلمات، وإنما يغيرها إعادة تنظيم مقومات الحتمية التى جمّدت التركيب البشرى بهذه الصورة، وهذا ما يزعمه التحليل النفسى، غير أن التحليل النفسى قد أشيع عنه أنه “علاج بالكلام” وهو ليس كذلك فى عمق أفكاره، فهو قد يستعمل الكلام بشكل غير نمطى ليحقق هدف التغيير الحقيقي. وعلينا أن نقرّ أن الكلام ومحتواه هو ضرورة من أهم الوسائل للتواصل والتفريغ والإبلاغ ومن ثم إمكانية التفكيك لإعادة التشكيل، أما أن يكون العلاج بالكلام هو الغاية والوسيلة بهدف خفض التوتر أساسا، فهذا ما لا نتفق معه، (وسوف يأتى نقد ذلك بالتفصيل فى الكتاب الثانى([11]).
أما المعنى الأخر المحتمل للقـَدَر (هنا) فهو ما قد يشير إلى التركيب الجينى المبرمج فى الدنا DNA ([12]) داخل الخلية (التناسلية بالذات). هذا التركيب الخلوى لا يحمل فقط السمات الوراثية سليمة كانت أم مرضية، وإنما هو يحمل برامج مسار النمو حتى نهايته بما فى ذلك مدى العمر Life Span لكل نوع من الأحياء. هذا القدر البيولوجى (الدنا) ليس حتما مطلقا غير قابل للتغيير وإلا لما تطورت الأنواع، ولا ظهر الابداع، إن وصف القدر بأنه “مواعيد” قد يشير إلى ما يحمل الدنا من توقيت مناوِب للبسط والاستيعاب عبر دورات الإيقاعحيوى المستمر، كذلك العمر الافتراضى للبرامج النوعية ([13]).
فهكذا ظهر هذا الكتاب رغما عنى، من هذا المنطلق انتصر (وينتصر) حتم الكتابة على الاكتفاء بالممارسة والنقل المباشر من فرد إلى فرد، وهو الأمر الذى يتعرض للتشويه وسوء الفهم والاستعمال من خلال الانحرافات المحتملة.
خلق القلم مِالعَدَمْ أوراقْ، وِ.. مَــلاَهَا،
وانْ كان عاجبْنٍى وَجَبْ، ولاّ أتنّـى بعيدْ.
هأنذا أقر وأعترف انه مهما بلغت عندى المقاومة والتحفظ ضد تسجيل الخبرة، فإن إلحاح إبلاغها إلى أصحابها رغم احتمال سوء استعمالها أو تشويهها لا يتوقف، وربما كان هذا هو ما خرج شعرا يعلن تخليق الأوراق من العدم الذى حاولت أن أهرب فيه، وهكذا يبدو أن كل محاولاتى فى القص والشعر والنقد أحيانا: لم تكن إلا تخليقا لأدوات (أوراق) لأملأها بما يمكن أن يوصل رؤيتى بشكل أو بآخر.
لو أننى استسلمت لهواجس نفسى وكتبت مثل المتهم الذى يحاول أن يدافع عن نفسه بالاستشهاد بالقرائن (المراجع، والأرقام والإحصاء) قبل أن يقول كلمته إذن لما خططت حرفا واحدا فى العلاج النفسى خاصة.
كذلك لو أننى عملت حساب النقد (القاسى المتعسف أو حتى الموضوعى ظاهريا) ليحاسبنى على خبرتى بما أورده من مراجع، وعلى الشعر بمعيار الشعر (فقط) وعلى النقد بمعيار النقد التقليدى أو حتى بمقاييس ما سمى مؤخرا “علم النقد” (فقط). إذن لما كتبت حرفا أيضا.
أعتقد أن هذا هو السبب الذى جعلنى لا أحرص على التأجيل حتى أتقن الأداة “جدا”، وهو الذى جعلنى أرضى بتواضع عطائها وهى تبزغ (إن كان عاجبنى وجبْ)، فإذا لم أفعل: فإنها (الأداة) تنطلق منى ضاربة عرض الحائط باعتراضاتى وتحفظى وخوفى من النقد وعمل حساب الزملاء وأهل كل صنعة من الخواجات خاصة، وكأن أدواتى تعمل بالتسيير الذاتى وتدفعنى بعيدا عن الحيلولة دون التسجيل (ولاّ أتنى بعيد).
وبعد
كل هذا التحدّى والانطلاق المقتحـِـم لم يقلل من خوفى،
وهذا التردد والحساب، هو ما عبرت عنه فى الفصل التالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية (1) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى.
[2] – كان هذا العنوان الفرعى المكرر فى المسودة هو “شرح على المتن” وهو نفس العنوان الذى ظهر يحدد معالم كتابى الأول “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”: شرح ديوان “سر اللعبة”، لكننى عدلت عن ذلك إذ شعرت أن الشرح – مهما لزِم – إنما يفسد الشعر، فاستبدلت به هذا العنوان الحالى “انطلاقا من المتن” مفضلا إياه عن عنوان آخر خطر لى وهو “استلهاما من المتن”، وذلك لأسباب لا تخفى. 2018.
[3]- نشرة يومية من مقالات وآراء ومواقف تعتبر امتداداً محدوداً لمجلة الإنسان والتطور (1980 – 2001)، تنشر على الموقع الخاص بالمؤلف: www.rakhawy.net.
[4]- تم مؤخرا فى (نوفمبر 2017) إن فتحت أ.د. منى الرخاوى (ابنتى) الباب لكل من يرغب فى الانتظام فى جلسات إشراف على العلاج النفسى أقوم بها مرة أسبوعيا فى المركز الذى أنشأته “مركز الرخاوى للتدريب والأبحاث“
وعنوانه: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم – القاهرة. info@rakhawycenter.com
[5] – www.rakhawy.net ، علما بأننى سوف أقوم بنشر ما يصلح منه فى طبعة ورقية قريبا.
[6] – النشر تم بإذن المرضى والمعالجين طبعا دون ذكر الأسماء الحقيقية أو ما يميز هويتهم تحديدا، وذلك فى باب التدريب “التدريب عن بعد” الذى صدر بانتظام خلال أكثر من عام فى نشرة الإنسان والتطور اليومية (من تاريخ 5-2-2008 حتى 13-10-2015)
[7] – كان تسجيل مثل هذه المناقشات بعد الجلسات مباشرة، مصدرا أساسيا لمادة بحث الدكتوراه التى قامت بها أ.د. نهى صبرى تمهيدا للحصول على الدرجة بعنوان “ تبدل الأعراض ووظائف الأنا واحتمال تبدل تشخيص الزملة المرضية فى الاضطرابات النفسية خلال العلاج النفسى الجمعى”، 1996
[8] – يمكن الرجوع إلى مستويات الإشراف على العلاج النفسى فى موقعى الخاص: نشرات الإنسان والتطور اليومية نشرة: 1-2-2009 ، 15-2-2009) www.rakhawy.net
[9] – والذى أصبح الآن يسمى “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”
[10] صرت أتعامل مع الموت باعتباره “أزمة نمو” أنظر إن شئت فى www.rakhawy.net
[11] – يحيى الرخاوى، الكتاب الثانى من سلسلة فقه العلاقات البشرية “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟
[12] – “دنا” هو لفظ نحته المرحوم أ.د. أحمد مستجير تقريبا لما هو DNA وهو الوحدة التى تمثل المورّثات والتركيب الجينى لكلَّ منا ولها خصوصيتها المتفردة.
[13] – لاحظت فى خبرتى أن البرنامج الوراثى، البقائى غالبا، أو ما دون ذلك من برامج وراثية، لا يحمل فقط معالم ما يوَرَّث من صفات واستهداف لأمراض بذاتها، وإنما له عمر افتراضى خاص كذلك، وقد تابعت هذه الملاحظة برصد مسار الأمراض النفسية فى عائلات بعينها، وخاصة الأمراض النفسية الدورية – فكانت النقهة تأتى لعدد من أفراد الأجيال المتعافبة فى سن متقاربة، وأحيانا ما ينقلب المرض إلى وجهه الإيجابى أيضا حول نفس السن أيضا فى نفس العائلة، ما لم تتدخل عوامل خارجية للحيلولة دون ذلك، منها عوامل طبية تقليدية للأسف.