نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 25-7-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5076
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (21)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
الفطرة: بين التجريم والتحريم والتشويه والتأثيم (2)
“وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا”! (2 من 2)
ملحوظة:
برجاء من سيقرأ نشرة اليوم أن يبدأ بإعادة قراءة نشرة أمس
…………………
كلما امتد النص ضاقت حركية الإبداع
سوف أكتفى هنا بمثال واضح من واقع مهنتى أدلل به على ما يجرى من ابتداع نصوص قانونية محكمة، لا تخدم فى نهاية النهاية إلا تراكم المال الغبى عند قلة مغتربة، ذلك أنه يتم حرمان المرضى من حقهم فى العلاج الممكن، وأيضا حرمان الأطباء من حركتهم الفنية الإبداعية لمساعدة مرضاهم ، وذلك بتوالى إصدار قوانين وقواعد ملزمة، على حساب سحب الثقة الأساسية بين المريض والطبيب، حدث هذا فى الخارج تحت شعارات كثيرة من أول الاقتصار على حقوق الإنسان المكتوبة إلى ما يسمونه لوائح تنظيم المهنة لصالح المرضى، النتيجة أن زميلنا الطبيب هناك يشعر أنه “مدير آلة الطب”، وليس طبيبا، وذلك بعد أن حرمه القانون من أى حركة “خارج النص” (ولو كانت لصالح مريضه بما فى ذلك إنقاذ حياته) يفعل الطبيب ذلك وهو يقوم بدوره مختنقا خوفا من أن يخرج عن المكتوب، فيرتكب جريمة تلزمه بالتعويض إن لم يكن بما هو أكبر. أصبح الطبيب هناك – كما سيحدث هنا – يمضى أكثر وقته فيما يسمى “أعمال الورقPaper work بدلا من أن يمضيه فى أعمال التطبيب وفن اللأم، وذلك ليحمى نفسه أولا، ثم إن الملاحظات العلمية والفنية المسجلة فى أوراق المرضى قد تضاءلت لأقل من 10%، بعد أن أصبح من حق المريض ومحاميه أن يحصلوا على الملف الأصلى للمريض فى أى وقت ولو بعد سنوات، فتراجع الأطباء عن تسجيل أية ملاحظات جادة، أو حتى علمية قد تفيد مستقبلا، واكتفوا بالملاحظات الشكلية الروتينية، خوفا من أن يتصيد محام شاطر ملاحظة غامضة هنا أو هناك تجرّم الطبيب بغير وجه حق!!
القانون غير المكتوب مُلزم أكثر
من موقع شخصى، توقفتُ عن المشاركة فى الامتحانات بكل مستوياتها، من طلبة البكالوريس حتى درجة الدكتوراة، ذلك لأننى مع وبعد كل امتحان، كنت أصاب بأرق وغم مزعجين، كنت أشعر أننى قاض فاشل، وأن الله سيحاكمنى على جريمة أنى أجيز طالبا لمجرد أنه أتقن الانحناء تحت سقف نصوص أنا أعرف لماذا تقزمت وكيف أحُكمت، حتى التشخيصات الكلينيكية اصبحت محددة بقائمة من الأمراض والتفاصيل دون ربط ذلك بتنويعات العلاج واحتمالات استخدامه، كل هذا يـُـسـَـخـَّـرُ لخدمة أغراض تجارية وقانونية تأمينية وتعويضية على حساب المريض والعلاج والحقيقة.
ليس معنى أنى اعتذرت عن عدم المشاركة فى الامتحانات أننى توقفت عن التدريس على كل المستويات، لكننى لجأت إلى وسيلة طريفة لأبين للدارسين على مختلف مستوياتهم أن هناك قانونا آخر، غير المكتوب، لا بد أن يحاسبوا أنفسهم به، وهو الذى سوف يحاسبهم ربهم به، قانون حمل المسؤولية ونفع الناس حقيقة وفعلا، قانوناً نطبقه ونحن نستعمل مقاييس ثقافية محلية محددة، وعلمية منطقية مؤكده. أدت هذه الخبرة إلى أننا كنا ننتهى من عرض الحالة أثناء الدرس، لنتساءل: ما هو التشخيص الذى ينبغى أن نقوله لننجح فى الامتحان، وما هو التوصيف الذى سنقوله لربنا حين نلقاه ويسألنا عن الوقت، والجهد، والمقابل، والمنطق الذى تعاملنا به مع المريض لصالح صحته؟ بدت المسألة فى أول الأمر أشبه بطـُـرفة، لكن بالإصرار ومواصلة المحاولة والتصحيح، استطعنا أن نتبين معا كيف أن تقديس نص “دليل علمى” (هكذا اسمه بالضرورة) موصى عليه سرا من شركات الدواء، قد يكون فى النهاية – شعوريا أو لا شعوريا – جريمة تخدم شركات الدواء على حساب المرضى.
بالغتْ شركات الاستغلال أيضا فى زعم الإعلاء من قيمة وتكاليف الأبحاث التى تقوم بها لصالح مكاسبها وليس لصالح المرضى، من أول الأبحاث التى تبالغ فى الأعراض الجانبية للأدوية التقليدية الرخيصة، حتى الأبحاث التى تتبنى نظريات وفروضا كيميائية ميكانيكية مختزلة، فيقفز ثمن عقار من عشرة جنيهات إلى عقار آخر يعمل عمله لكن ثمنه هو ثمانمائة (800 جنيه) إلى ثلاثة آلاف فقط لا غير، ولا يأتى العقار الجديد بنفس النتيجة أو قد يأتى بنفس النتيجة مع فارق السعر، والطبيب الذى يساهم فى هذا التوجه يشارك فى جريمة ليست مُجَرّمة، وقس على ذلك حين يتم التخويف من مخاطر الأجهزة القديمة الناجحة لدرجة تجريم استعمالها، ليقفز ثمن الجهاز، “القانونى” الأحدث – باتفاق بين الشركات وبعضها – إلى ما يدور حول المائة ألف جنيه، فى حين أن ثمن مكوناته لا تزيد عن بضع مئات من الجنيهات مثلا.
هذه الجرائم المبرأة من العقاب، والتى تسهلها وتبررها نصوص قانونية تحت مزاعم شبه علمية هى أخطر وأبشع من جريمة فردية تقع تحت طائلة القانون.
أصول مستويات المحاسبة
إذا سمح لك القانون بحدود معينة تتحرك داخلها وترضى بها، أو تضطر إلى الالتزام بمداها، فعليك أن تعرف أنها ليست هى غاية الحدود التى عليك أن تقف عندها، أمام نفسك، وأمام ربك، الآن، أو فيما بعد، إن أردت أن تغامر باستلهام النص مباشرة، فثمة آيات بينات كثيرة تعلن بوضوح أن المسألة ليست هى كما تظهرها نصوص القوانين أو الأحكام الشرعية الرسمية. إن حسابك الحقيقى (كما قال الشيخ الجنيدى فى اللص والكلاب) هو حسابك لنفسك، وأمام الله، وليس بالمادة كذا من القانون الفلانى، أو الفقرة كيت، من المرجع العلانى، حتى لو كان هذا المرجع هو تفسير التفاسير، أو فتوى الرسميين. اكتشفت شخصيا أن ثمة مستويات ثلاثة عليك أن تتذكرها، هى موجودة فى معظم الأديان غالبا، لكننى أستشهد بدينى الذى أتعرف عليه مجددا وباستمرار. (طبعا يوجد غيرها لكننى أكتفى بها)، هاك مجرد عناوينها:
1) “إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا”.
“وكلهم آتيه يوم القيامة فردا”
أنت قاضى نفسك، ليس لك محام يتلاعب بالحجج والإجراءات ، ثم إن المحامين سوف يكونون مشغولين بقضاياهم الخاصة “لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ”.
2) “بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره”
ولن يعفيك أن يكون عندك عذر قانونى أو تفسيرى (لنص مقدس)، فكل التفاسير قد تكون من باب المعاذير التى إذا ألقيتها لتخفى جريمتك الحقيقية، فستـُلقى فى وجهك أمام الله، بل ستكشفها بصيرتك أنت بنفسك.
3) “ِاذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا ..”
إن الذين أفتوْا لك أية فتوى، (أكرر أية فتوى دينية أو علمية) بالتجريم أو التحريم، لهم الحق أن يتبرؤوا منك إن كنت قد اتبعتهم دون إعمال رأى، أو تحمل مسؤولية.
الورطة والبداية الفردية
لأول وهلة، تبدو المسألة كما أوضحناها هنا حتى الآن، أنها قد تسيبت حين يصبح كل واحد قاضى نفسه، فتسيح الأمور، ولا يكسب فى هذه الحال إلا الأخبث والأقوى، هذا تنبيه طيب وحقيقى، ومع ذلك فلا مفر من التمسك – ولو من حيث المبدأ – بكل ما جاء فى المقال. قد نُضطر ونحن نحسبها بالعقل والممكن أن نكتفى مرحليا بالتجريم الرسمى، والتحريم السلطوى التفسيرى الاحتكارى، هذا على المستوى العام، الذى لا بد سوف يتغير ويجد حلولا أقدر وأعدل مع تطور الوعى البشرى أفرادا فجماعات، لكن هذا لا يعفى أى واحد منا من مسئوليته الفردية المطلقة، هى مسؤولية كل واحد على حدة، خاصة وأننا لن نحاسَب (هنا أو هناك) جماعات، أو دولا أو جنسيات، أو بالتوكيل الجماعى الرسمى فى الشهر العقارى، وإنما الحياة بالنسبة لكل منا فى البداية والنهاية هى مسئولية كل واحد فرض عين واحد واحدا، “وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا”.
ما العمل؟
لنتذكر أولا أن النمل والنحل والسحالى والقردة لم ينقرضوا بعد، برغم أننا نزعم أننا تطورنا منهم.
لا بد أن سبب بقائهم، هو تنظيم لمسألتى التجريم والتحريم بغير قانون مكتوب، أليس كذلك؟
وما دمنا نزعم أننا أرقى منهم – والله أعلم – فلا بد ونحن ننظم حياتنا بما هو مكتوب، أن نتحمل مسئولية ما هو ليس مكتوبا، هذه واحدة، الثانية – حتى لو كررنا – هى مسألة أن علينا أن نتذكر طول الوقت أن تنظيم الدولة شىء، وتنظيم الذات شىء آخر، صحيح أنه إذا كان نظام دولة ما هو أقرب إلى العدل، وأحرص على تنمية الفطرة، بالإبداع والاختلاف والجدل، فإن ذلك سوف يسهل مهمة كل منا أن يكتشف فطرته، وأن يحافظ عليها فى مواجهة أى تشويه أو ترهيب أو فتوى أو تبرير، لكن: حتى وإن افتقر نظام الدولة إلى هذين البعدين: العدل، و فرص تنمية الفطرة، فعلى كل واحد أن يجتهد فى موقعه، لأنه سيحاسب نفسه الآن، وغدا إذ يلقاه، فردا، بلا معاذير، ولا محام، وسوف يتخلى عنه من أفتى له مهما بلغت مرتبته، فقد لا يكون إلا “رؤوف علوان” فى عالم “سعيد مهران”.
محكات ليست مثالية
هل ثم محكات لتقييم المحاسبة الذاتية، وقياس الفطرة النقية؟
طبعا توجد محكات ومقاييس، لا يتسع لها هذا المقام ولا هذا المقال، وسوف أكتفى بمجرد تعداد علامات قد تبدو مثالية، وهى أبعد ما تكون عن ذلك، وهاكُم بعض عناوين ما خطر لى:
المحكات الأبقى والأنقى
نفع الناس وحساب النفس:
والمنطق السليم ، ثم المنطق الخاص، ثم كلاهما، والجدل بينهما،
والحفاظ على القدرة على الدهشة،
والتمتع بالجمال، والقدرة على تجميل القبيح،
والحركة المتجددة، وإعادة التشكيل ما أمكن ذلك (الإبداع)،
والتواجد مع “آخر” حقيقى،
والقدرة على تركه لتعود إليه، أو لا تعود،
والبدء من جديد مهما كان الزمن أو تعملق الخطأ،
والعدل حتى لو بدا مستحيلا،
وحمل هم الناس (ناسك وغير ناسك) حتى آخر الدنيا، وآخر الزمان (دون نعابة أو خطابة أو بطولة)،
والنوم القوى المبدع مع كل أنواع الأحلام الممكنة،
والجنس الحوار التكاملى، بلا عجز أو استعمال أو صفقات،
والفرحة بالنفس آخر النهار، وأول الليل، ثم أول النهار، وآخر الليل،
والألم الحقيقى لك ولهم دون محو الفرحة ومعها.
هذا يكفى حاليا،
………
………
والحق سبحانه وتعالى هو المستعان على ما يصفون.
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد مارس 2006)