نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 4 -4-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4599
“طلبَ الغنى شقفة، كسَر الفقير زيره”
مخاطر استيراد الأفكار والمناهج والمشاكل (1)
خطورة استيراد الأفكار، والمناهج، بل والمشاكل، أخطر بكثير من الإفراط فى استيراد حاجاتنا الاستهلاكية. لن أتكلم عن عجز ميزان مدفوعات التبادل الفكرى لصالحهم، لأن أغلبنا يتصور أنه ليس عندنا ما نصدره إليهم أصلا، (إلا ما لا يحتاجونه، مثل الفخر بالماضي، والزعم بأخلاق أحسن، وما شابه)، مع أنهم أحوج ما يكونون إلى ما يمكن أن نضيفه إليهم، وإلى المسيرة البشرية عامة، رغم ما نحن فيه من فقر وبدائية.
سوف أكتفى بالتحذير من ظاهرة استيراد واجتزاء الأفكار، تلك الظاهرة التى تستنزف جهدنا ووقتنا ومالنا (أو مالهم الذى يمنحونا إياه لنفعل ذلك). ثم إنها تخدعنـا فى النهاية، إذ نتوهم من خلالها أننا نبحث، وأننا نفكر، وأننا نتكلم لغة حديثة ما دمنا نتبادل رطانا له نفس أصوات – لا مضمون – لغتهم.
بدايةً أود توضيح ما أعنى بهذا المدخل: استيراد الأفكار غير الإلمام بفكر الغير، وغير الاطلاع عليه، وغير ترجمته، وغير الحوار معه. أعنى بالاستيراد: اقتناء فكرة من عندهم، سابقة التجهيز، كاملة المعالم، نشغل بها وعينا، ووقتنا، فتحل تماما محل ما يمكن أن يتـفتـق فى أذهاننا بما هو نحن.
يختلف استيراد الأفكار اختلافا جذريا عن مواجهة فكر الغير لا ستيعابه، وتحريك ما يقابله أويعارضه أو يكمله أو يعدله. نحن عادة ما نستورد الأفكار والمشاكل دون تمحيص. نستوردها ليس بما هى وإنما: (1) بما شاع عنها، أو (2) بما ذاع منها، أو (3) بما اقتطف منها، أو (4) من خلال شجبها بما ليس فيها، أو (5) بما نتصوره نحن عنها إذ نعيد صياغتها (حسب التساهيل)، أو (6) بما يحقق لنا الغرض من استيرادها، (سدا لنقص، أو إيهاما بحداثة)، أو بكل ذلك، دون الرجوع إلى أصلها.
أغلبنا يعرف عن الشيوعية ما طبقه ستالين لا ما كتبه ماركس ولا حتى ما كتبه ستالين نفسه (فما كُـتب غير ما جرى)، و يعرف عن التفكيكية ما شاع من اللفظ وما ذاع عن دريدا لا ما قاله وكتبه وعدَلَ عنه وطوّره، و يعرف عن فرويد ما تقوله مسلسلات التليفزيون وأحيانا من هجوم خطباء المساجد أو فتاوى بعض الأطباء وهواة التحليل، لا ما ذهب إليه فرويد وعدل عنه، وتجاوزه. و يعرف عن دارون ما كـفـر به لا ما “كانه”. و يعرف عن بيولوجية المرض النفسى ما نقلبه يقينا سبَبَياً، وهو ما زال فرضا تحت الفحص.
ثم إن أغلبنا يجتزئ من الديمقراطية ما يفيداختيار الأقرب والأجهز للخدمات الخاصة والمجاملات، دون معنى المشاركة فى صنع القرار واحتمال تبادل السلطة. كما يجتزئ من الاقتصاد الحر سعار التنافس والجمع التراكمى دون الالتزام الاجتماعي.وفى النقد الأدبى قد تبهرنا ملامح من التفكيكية بعد البنيوية، فنستغنى بهما عن إعادة إبداع النص من خلال قراءة مسئولة. وفى الأمراض النفسية نجتزئ من فكر التحليل النفسى الفرويدى فكر التبرير دون إزالة الوقفة للانطلاق.
استيراد المشاكل (أيضا)
لن أحاول أن أتوقف عند هذا المستوى من اختزال الأفكار أو قصّ بعضها دون الإحاطة بها، لأن ثمة مستويات أخطر للاستيراد ومنها استيرادالمشاكل التى لا تعنينا فى شيء حتى لو كانت الأهم لديهم.
إن الأفكار والمدارس والفروض التى يعلنونها ويبحثون فيها وبها إنما نشأت عندهم نتيجة لتطور طبيعي، فى مواجهة مشاكل قائمة عندهم فعلا. هذه المشاكل عادة كانت مرتبطة بحلول (وأفكار) كانت مطروحة من قبل، وفشلت تلك الحلول فى التعامل معها، فتحرك الوعى وغامر بمخاطرة الإبداع من واقع الممارسة، فخلق لهم، من واقعهم، هذه الأفكار المتجاوزة أو الفروض الواعدة.
ولكى نوهم أنفسنا بأن ما استوردناه من أفكار ورؤى هو صالح لاستعمالنا الخاص (“الاستعمال الآدمى” بلغة الاستيراد) نقوم باصطناع مشاكل مثل التى كانت سببا فى بزوغ هذه الأفكار عندهم، ثم نقوم بحشرها جاهزة فى خيالنا باعتبارها منا، بل إن الاهتمام المتكلف بها، وكثرة الحديث عنها قد ينقلها من هامش هى جديرة به إلى بؤرة انتباه لا تستحقها، لتصبح مشاكلنا نحن دون تمحيص، أو إعادة نظر.
نحن نبتدع اهتماما بمشاكل لم تصدمنا، أو تتواتر لدينا، بالقدر الذى يبرر ما نوليها من أهمية لمجرد أنها أصبحت بدعة مكررة لها ما يبررها لديهم، مشاكل يتواتر ذكرها أكثر فأكثر فى دورياتهم، مما لا يعنى بالضرورة أنها لا بد أن تعنينا فى قليل أو كثير، أو لعلها لا تعنينا أصلا.
يدخل فى مسألة استيراد المشاكل هذه عوامل كثيرة غير مجرد التقليد وادعاء التحديث والرغبة فى الحصول على رضاهم السامى بالسماح لنا بالنشر عندهم بلغتهم، وإنما قد يساهم فى ذلك موقفهم هم من نوعية الدعم المتاح، والتوجيه المباشر وغير المباشر، والفرص التى تتاح لمن يتكلم بلغتهم، وينحو نحوهم، حتى لو ضاع عمره وجهده ووقته فيما يخصهم دون ما يخصه أو يخص ناسه الأقربين.
قد توجد عندنا نفس المشكلة، لكنها ليست بنفس الأهمية ولا بنفس الحجم ولا بنفس المضاعفات التى تجعلنا نترك كل مشاكلنا لنولى هذه المشكلة كل الاهتمام الذى يولونه إياها.
يبدأ الإعلام عندهم بالتنبيه إلى خطورة مشكلة ما، وتفاقمها، وتزايدها، ثم تتبع ذلك الأبحاث العلمية (وشبه العلمية !!)، وهات يا تمويل، وهات يا تخطيط، ثم تمتلئ الدوريات العلمية بالحديث عن الموضوع، ثم ينتقل التسويق للدوريات العامة، و يصل الأمر إلى تفصيل التفصيل، أو ما يسمى لديهم “شق الشعرة”.
يقرأ الحاذق منا، المتابع المطلع، كل هذا، فينتبه، وينبهر، وطالما هو يريد أن يتكلم اللغة الحديثة، ويشارك فى الوليمة الجديدة، وأن يرى اسمه بين أسماء هؤلاء الثقات، فهو يندفع إلى ما اندفعوا إليه، بغض النظر عن قيمة ما يفعل فى مجتمعنا هذا، فى وقتنا هذا. على حساب ماذا (؟!!).
ثم إن السادة الذين قد يمولون الأبحاث هم الذين يجيزون النشر المحكم، وهم الخصم والحكم، (ليس الخصم بمعنى الخصام، ربما بمعنى الاختصام!!) وهم مشغولون بما يشغلهم، وهم يرحبون، أو يوعزون لنا، أن ننشغل معهم بما يشغلهم، ربما من باب اللياقة أو الوجاهة، ثم لعلنا نضيف لهم معلومة شاردة يحتاجونها لتكملة الصورة أوتزيينها، “شقفة” صغيرة تسند زيرهم المليء بما يهمهم، (”الشَّقف الخزف”، أو مـكـسره، الواحدة شقفة. ”الوسيط”). لكننا ونحن نعطيهم هذه الشقفة يسندون بها زيرهم، نكسر من أجل ذلك “زيــرنا” الذى نشرب منه، (طـَلـَبِ الغـنَـى شـَقـفَـْة كـَسَـْر الفقيرْ زِيـُرهْ، كاتِ الفَـقـِيْر وَكـْسـَهْ، يا سـَوّ تدبيرُهْ)، ويا ليتهم يأخذون منا الشقـفة (نتائج أبحاثنا) ليسدوا بها حاجة حقيقية، فهم يعلمون تمام العلم أن الاختلافات الثقافية والحضارية لا تسمح بنقل النتائج بما هي، كما أنهم يعلمون – بوعى أو بدون وعي- خطأ نقطة بدايتنا التى تجعل جهدنا مهما بلغ لا يستأهل إلا الطبطبة، وأنه “برافو”، وقد يولوننا بعض المناصب الشرفية أو الدورية من باب الديكور العوْلَـمي.
إنهم لا يطلبون منا-عادة- أن ندرس مشاكلهم، لكننا نحن الذين نندفع لاختلاق مشاكل مثل مشاكلهم، ونتصور أنها على نفس درجة الأهمية، حتى نضمن أن يسمعوا لنا.
يراودنى – مستعيذا بالله من التفكير التآمرى – ظن سيء يقول : إن بعض خبثائهم قد يطلبون “شقفتنا” المتواضعة، مقابل أن يمولوا الجهد المبذول للحصول عليها، وهم يعلمون أننا سوف نسارع بكسر الزير إرضاء لهم. فنحصل على منحهم، ورضاهم، وجوائزهم، ثم نموت نحن من العطش والتبعية. بعد أن يـسكب على الأرض وقتنا، ووعينا، وفكرنا، وهمومنا بالمرة (فوت هذه الفقرة فهى تآمرية بوضوح!! أو أنت حر).
يمكن التخفيف من هذا التحذير المندفع برد يقول إن العالـَـم أصبح قرية واحدة (مع الشكر)، وبالتالى فإن أى مشكلة فى أى مكان هى مشكلة الإنسان فى كل مكان. هذا الرد فى حد ذاته هو نوع من استيراد الأفكار، فلا العاَلُم أصبح قرية واحدة، مهما تعددت الاتصالات وتسارعت المواصلات، وحتى إذا أصبح قرية واحدة فإن ذلك لا يعنى بالضرورة أن المشاكل واحدة. وحتى لو توحدت المشاكل عبر العالم فإن طبيعتها تختلف، وكذا موقعها على سلم الأولويات.
مشكلة الشذوذ الجنسى -مثلا- ما زالت تمثل قلقا عندنا، وعارا، ورفضا اجتماعيا، ومازلنا نسب بعضنا البعض بألفاظ تـشجب ممارستها، فى حين أنها – والحمد لعلمهم الأحدث وللديمقراطية – لم تعد مشكلة أصلا لديهم، بل إن من يستحق السب والنبذ عندهم هو من يجرؤ أن يتدخل بتعليق عابر على اثنين من نفس النوع يتبادلان الحب والنظرات والهمسات علانية، إن هذا المتوحش الذى يجرؤ أن ينظر إليهما “شذرا”، أو حتى يرفضهما على مستوى النية، لا يستحق إلا الرفض والاتهام بالتخلف وعدم احترام حرية الآخرين وقلة حقوق الإنسان، وقلة الحياء بالمرة.
ثمة مشاكل لم تظهر عندنا أصلا، بالقدر الذى يحتاج أن تصعد إلى قائمة اهتمامنا، نندفع نحوها بكل ما نملك من جهد ووقت ومال (عادة نستدينه من صاحب المشكلة الأصلي، أو يمنحنا إياه بشروطه مع أنه هو الذى طلب الشقفة)، وهات يا بحث، وهات يا صرف، وهات يا نشر، ثم نكتشف، أو لا نكتشف (عادة لا نكتشف ما داموا نشروها) أن الأمر لا يخصنا، أوعلى أحسن الأحوال : هو لا يخصنا إلى هذه الدرجة.
لماذا الطفولة؟
هناك أمثلة بلا حصر توضح ما أردت التنبيه إليه فى مسألة “دراسة جدوى البحث والنظر”، لكننى سأكتفى بالإشارة إلى بعض ما يتعلق بالطفولة بوجه خاص، ذلك لأن مستقبلنا إنما يتحدد بمفهومنا عن الطفولة، وبالتالى بموقفنا منها، وما نقدمه لها. ثم إن الأطفال بوجه خاص يمتصون الثقافة المحيطة بشكل طبيعى وراسخ، فمسئوليتنا عن إحاطتهم بما ينفع ويبقى هى مسئولية مضاعفة. وعلى الرغم من ذلك فإن ما نقدمه لأطفالنا هو مجموعة من المزاعم الأخلاقية المسطحة، والخيال الموصى عليه، والمعلومات المستوردة المنفصلة عن ثقافتنا، حل كل ذلك محل تلقائية وعينا الشعبى والخيال الحرالمغامـر. وأخيرا، ففيما يتعلق بتخصصى، أنبه أننا قد استدرجنا إلى البحث فى مشاكل ليست هى الأولى بالبحث .
الذاتوية الرضيعية (الأوتــزم)
قبل أن أدخل فى المثال الذى اخترته لتوضيح فكرتى تفصيلا، وهو “ضــرار الأطفال” أعرج فى عجالة إلى ظاهرة أخرى تسمى “الذاتوية الرضيعية” (Infantile Autism) بعد أن تزايد الحديث عنها مؤخرا.
الذاتوية الرضيعية متلازمة (زملة (Syndrome=تصف نوعا من الانغلاق على الذات منذ الولادة، حيث يعجز الطفل حديث الولادة عن التواصل مع الآخرين (بدءا من أمه) وإن كان ينجح فى عمل علاقات جزئية (تبدو كأنها سرية رمزية) مع أجزاء الأشياء المادية، وبالتالى يعاق نموه اللغوى والاجتماعى والمعرفي، ومما يميز هذا الانغلاق تلك النظرة الذكية (من تحت لتحت) التى قد يلقيها أحيانا هذا الطفل من طرف عينه.
فى بداية تعرّفى على هذا الاضطراب فرحت به باعتبار أن كثيرا مما يشخص على أنه تخلف عقلى هو ذاتوية، وبالتالى - هكذا كنت أظن آمـلا مغرورا – فإنى قادر على التعامل غير اللفظى مع مثل هذا الطفل، مثلما أفعل مع بعض مرضاى الفصاميين خاصة، أو فى العلاج الجمعي، وكان مدخلى إلى هؤلاء الأطفال من باب تلك النظرة “الذكية” التى يتنافى وصفها بالذكاء مع التخلف المعرفى السائد فى كافة قدرات الأوتيزمي. رحت أبذل مع أطفال هذا التشخيص جهدا فائقا أملا فى أن يمتد ذكاء هذه النظرة (بالصبر، والتدريب، واللعب، والزمن، والرعاية) إلى مجالات القدرات المعرفية الأخري. لكن النتائج لم تأت كما تصورنا. تابعت بعد ذلك ما ينشر عن التكهن بمسار هذه المتلازمة ومآلها، ففوجئت أنها ليست أفضل من التخلف العقلى بصفة عامة، إن لم تكن أسوأ. لكن الأمل ما زال يراودنى رغم المزاعم التى راحت تفسر سوء المآل بأصل هذه المتلازمة العضوى والوراثي. ثم عاد البندول يتحرك فى الاتجاه الآخر نتيجة لبعض النتائج الواعدة من خلال برامج تعديل السلوك وعلاج اللعب، جنبا إلى جنب مع العوامل العلاجية الأخرى. رحت أتساءل : هل وقع الناس (والعلماء) فيما وقعتُ فيه باكرا؟ لماذا عاد الحديث عن هذا الانغلاق الذاتوى هكذا الآن؟ خطر لى تفسيرا يقول:
إن من يـُمْتحن بإنجاب مثل هذا الطفل يفضل أن يتصبـّر بأى وسيلة، ولو بلافتة خادعة، على قضاء الله، فبدل أن يوصم طفله بالتخلف، أصبح يرحب أن يوصف بأنه ذاتوى (أوتيزمى) كأنه – بذلك- ينفى ضمنا أنه متخلف. التقط الأطباء (والإعلام) هذه الحاجة، فاستجابوا لها بسطحية أو حسن نية، ليخففوا عن الأهل آلام المواجهة. من حق الوالدين أن يأملوا ما برح بهم الألم، أو طاب لهم الأمل، لكن ليس من حق مختص أو عالم أو إعلامى أن يعد بما لا يكون. مهما حسنت نيته.
أين نحن من مشكلة الطفل “الأوتيزمي” هذا؟ إن من يصابون بهذا الاضطراب عندنا، وعموما، -هم قلة نادرة، بالقياس إلى نسبة التخلف العقلي. ثم إن ما تمثله عموم الإعاقة نتيحة للذاتوية الرضيعية (الأوتيزم) بالنسبة لمجموع الإعاقات عندنا صغارا وكبارا، (بسبب مرض نفسى أو عقلي، أو بدون سبب!!)، هى نسبة قليلة تكاد لا تذكر. فما هو الأولى بوقتنا وجهدنا ومالنا؟ أن نعطيهم فى الشمال والغرب “شقفة” لمجرد أن يستعملونا “ديكورا” يتوهمون به، أو نوهَمُ ، به أن ثم حوارا، حتى على حساب كسر زيرنا، أم أن نحافظ على زيرنا سليما نغترف منه لنقوم بمسئوليتنا فى محاولة حل إشكال إعاقة الأسوياء، فضلا عن مسئوليتنا تجاه الرعاية الباكرة للمرضى النفسيين قبل أن يزمنوا، ناهيك عن تنمية قدرات الإبداع فالانطلاق. ثم بعد ذلك، وربما أثناء ذلك، متى بقى في”الزير” طاقة، لن ننسى أن نبذل ما نستطيع ونحن نرعى إعاقة المتخلفين والذاتويين؟ (أعلم أن مثل هذا التفكير قد يتـهم بالنتشوية، لكن نيتشة لم يكن شرا كله)، ثم ننتقل إلى المثال التفصيلي:
ضرار الأطفال
المقصود بضرار الأطفال هو إلحاق الأذى بالطفل من – ذويه عادة- بالانتهاك أو الإيذاء أو الاعتداء الجنسى أو الإهمال. (فضلت أن أضع هذه الترجمة لتحل محل تعبير”انتهاك الأطفال، وأيضا” سوء استعمال الأطفال”، لأن مجرد الاستعمال هو ضرار، وقد استلهمتها من القاعدة الفقهية: لا ضرر ولا ضرار). مرة أخرى نتساءل أى المشاكل عندنا أكثر تواترا، وأكثر خطرا، وأكثر حاجة إلى البحث والنظر؟ ضرار الأطفال هذا أم “حرمان الأطفال” من مطالب الحياة الأساسية لا لتقصير من جانب الوالدين ، لكن لأننا فقراء. كم طفلا ينام فى حجرة ليس لها سقف؟ وكم والدين ما زالا فى طور الإنجاب النشط ينامون فى فى نفس حجرة أطفالهم ، لأنهم لا يملكون غيرها، لا لأنهم لا يعرفون أن فى ذلك ما يضر أطفالهم، وكم أسرة تعيش معا (اثنى عشر طفلا لثلاث أسرات مثلا) تستعمل دورة مياة مشتركة ليس فيها طارد (سيفون!)!! مرة أخرى: كل ذلك يحدث دون أى إضرار مقصود أو عفوى من الوالدين، إن الضرار يقع من الدولة، والقدر، والعالم .
ثم ماذا عن ترتيب منظومة القيم عندنا وعندهم فيما يتعلق بما يصل إلى الأطفال والتى بناء عليها نقيم الضرار؟ إن منظومة القيم ليست مسألة أخلاقية فحسب. إن الضرر والضرار قد يقاس بمدى الاتساق أوالبعد عن ترتيب معين لمنظومة القيم فى ثقافة بذاتها فى وقت بذاته.
خذ مثلا قيمة ملتبـسة مثل قيمة “الحرية”، أين تقع على سلم منظومة القيم عندهم، وعندنا، وكيف يتدخل المسئول (طبيبا كان أم ضابطا أم قاضيا) إذا أضير طفل عندهم من خلال حرمانه من هذه القيمة (الحرية)، بغض النظر عن مصداقيتها ومضمونها؟ هل ثم فرق بيننا وبينهم فى هذا الصدد؟
وعلى الجانب الآخر خذ قيمة مثل قيمة الغش، (وليس مجرد الكذب حتي)، ألا يعرف الباحثون والباحثات فى مجال الطفولة والتربية والطب النفسى فى مصر أن هذه القيمة قد انتشرت فى مجتمعنا مؤخرا(بعد أن انعكس مضمونها) بما يحتاج معه إلى كل وقتهم وجهدهم قبل أن نستورد من المشاكل ما لا يعنينا أصلا؟
جاءنى شاب نجح فى الإعدادية، نجح بمجموع خمسين فى المائة، وهذاالرقم بالذات، فى الأقاليم بالذات يدعو إلى الشك الشديد. (أسألوا مديرية التعليم وتعليماتها حول نسب النجاح المطلوبة من الوزارة لتفريغ الفصول، ورشوة الإعلام، بغض النظر عن ملء العقول). كان هذا الشاب من الصعيد الجميل المشهور بقيم الشهامة والنخوة والكرم إلخ، شككت فى ذكائه واستبعدت نجاحه بالطريق الطبيعي. قلت أجرى له اختبار ذكاء. أجرت له زميلتنا النفسية الاختبار بعد أن أوصيتها أن تتأنى وتعيده لظروف تشككى فى تناسب ذكائه مع دروس الشهادة الإعدادية. جاءت النتيجة شديدة التواضع. أعدت الاختبارات بنفسي. جاءت نفس النتيجة التى لا تسمح له أن يجتاز الابتدائية لا الإعدادية، طلبت منه أن يقرأ صحيفة فلم يستطع. سألت والده عن حالته منذ طفولته فأجاب بأمانة بما يفيد أنه كان طول عمره “هكذا”. قبلت الوضع ونصحت الأب أن يوفر نقوده، وألا يتردد على الأطباء أكثر من ذلك، وأن يركز على تدريبه على صنعة متواضعة تحت إشراف، وألا يأمل فى فعل عقاقير لا تفعل شيئا فى الذكاء إلى آخر هذه النصائح التقليدية الموضوعية. شكرنى الرجل وابتسم الشاب، وانصرفا. ترددا على مرة أو أكثر خلال شهور حتى اقتنعا أنه ليس عندى ما أضيفه، علمت أن الوالد لم يأخذ بنصيحتى وجعل ابنه يكمل باسم الله حارسه وضامنه.
بعد أربع سنوات زارنى الرجل فرحا يشكرنى جدا. على ماذا؟ على أن ابنه أخذ الدبلوم (ثانوى زراعي) والحمد لله، فزعت وتصورت أن ثم خطأ فى تقديري، وفى تقدير زميلتي، وفى اختبار الذكاء إلخ، حاولت أن أحاور الشاب لأعرف كيف تحسن ذكاؤه هكذا ضد كل حسابات العلم، فوجدته كما هو تماما، لم يتغير إن لم يكن قد قل قليلا، سألت والده هل استطاع أن يحصل دروسه رغم كل شيء، فأجاب دون دهشة أنه لم يحصل دروسه ولا حاجة، وحين سألته : كيف نجح إذن؟ قال ببساطة وعرفان: “بالتزكية”، وحين استفسرت منه أكثر، قال كلاما موجزه أن البركة فى سعادتى وسعادة البك الناظر الذى رأف بحالته، وأنه (الوالد) لا ينسى فضلي، أو فضل حضرة الناظر، وكلام من هذا. قال كل ذلك بمنتهى العرفان والطيبة دون أى خجل، وإبنه ينظر إليه فى فخر مناسب.
من هذا المثال وخاصة بعد تيقنى من تكراره على مستوى القطر بالسلامة، يتضح للقارئ أن من البديهى أن تكون أولى المشاكل بالدراسة عندنا فى هذه المرحلة من تطورنا هى معرفة القيم التى توصلها السلطة التعليمية للمربين، ثم يوصلها هؤلاء المربون للكبار، ثم يوصلها الكبار للأطفال. وهى هى القيم التى سادت بشكل أو بآخر فى مجالات كثيرة أخرى ، من أول الغش التجاري، حتى البحث العلمى ، مرورا بتنويعات مناسبة على مسلسل الانتخابات فى مختلف المواقع والمناسبات.
هيا نفترض أن باحثا من عندنا آلمه ذلك بالرغم مما يقرأ من اهتماماتهم هم فى دورياتهم، ثم إنه رأى أنها ظاهرة قد تخرب النفوس والعقول والأخلاق جميعا، الآن ومستقبلا، للكبار والصغار على حد سواء. هذا الباحث حاول وضع فرض يقول “إن قيمة الغش” قد أصبحت قيمة إيجابية زيفا وتضليلا، وأن من لا يمارسها علانية قد يوصف بالأنانية أو بالعبط، مع أنها أصبحت أساسا فى التعامل منذ الطفولة إلى النضج، فى هذه الفترة من حياتنا. ثم إن هذا الباحث المنتمى فصل الفرض ليربط بين هذه القيمة وبين اختلال الحالة الاقتصادية، واهتزاز الأداء عامة، وتفاهة التحصيل الجامعي، وسطحية الأبحاث العلمية (وتزوير بعضها)، ثم إنه وضع خطة بحث منضبطة للتحقق من هذا الارتباط.
من ضمن تفاصيل هذا البحث فرض فرعى يقول : إن هذا الذى يحدث فى أطفالنا مبكرا هكذا هو أخطر علينا من أن يضرب أب طفله لأنه تأخر فى العودة إلى المنزل بعد العاشرة، وهو أيضا أخطر من تشغيل الطفل (بلية) فى ورشة ميكانيكا فى سن العاشرة. لو أن هذا الباحث تقدم لأهل الحل والربط فى بلاد الخواجات يطلب منحة تدعم هذا البحث، أو أنه قام بالإنفاق عليه هو (وهذا مستحيل) ثم حاول نشره، هل سيوافقون على تمويل بحثه؟ أوعلى نشره أسوة بما ينشر عن”ضرار الأطفال”؟ أو عن الطفل الذاتوي؟
إن دراسة جدوى الوقت، وجدوى الجهد، وأولويات المشاكل تتطلب أولا: تحديد حجم المشكلة، وليس مجرد حداثتها أو شيوع الحديث عنها فى ثقافة أخرى فى ظروف أخرى. (هذا ونحن لا نعرف حجم المشكلة مما ينشر فى الصحف فى صفحات الحوادث) وثانيا:تحديد أولوية هذه الظاهرة بالمقارنة بظواهر أخرى، موجودة أكثر أو أقل، أخطر أو أخف، ثم: ثالثا: تحديد أدوات دراستها، وإمكانات دراستها.
أجد مناسبا أن أنبه هنا أن إشكالة المنهج (العلمى) بالنسبة للعلوم الإنسانية لم تحل، ولن تحل فى القريب. وأن عدم الدراسة أصلا هو أفضل من الدراسة الزائفة، وأن منهج السؤال والجواب هو من أضعف المناهج بالنسبة للعلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة، ويصبح هذا المنهج أكثر زيفا، وأشد كذبا حين يطبق فى بلد متخلف، ثم إنه يصبح جريمة مع سبق الإصرار إذا طبق فى بلد “قيمة الغش”فيها كما ذكرنا.
إننا نسينا مصداقية المنهج الحكائى مع أننا عشنا (كما عاشت البشرية) قرون عددا بفضله. كذلك أهملنا مصداقية منهج دراسة المحتوى، ولم يعد يبهرنا إلا الأرقام والجداول.
إن مشاكلنا الخاصة جدا لا تتجلى فى مشاهدات العلماء وتقليد السابقين الأولين فى الشمال والغرب. إنها تتجلى فى الواقع المحيط، بكل أشكاله. هذا الواقع ليس فقط واقع الحياة العيانية، ولكنه ينبغى أن يشمل واقع الخيال، وواقع تشكيل هذا الخيال فيما هو إبداع، وواقع الوعى الشعبى الشفاهي. إن والد هذا الشاب الذى حكيت عنه حالا حين قال إن ابنه نجح “بالتزكية”، لم يكن مخطئا تماما، لكنه كان يعلن واقعا ينبغى الوقوف عنده، والبحث عن أدوات تليق بسبر غوره.
فى محاولة لتفسير هذا الاهتمام بظاهرة “ضرار الأطفال” عندهم هكذا ، نتبين أن الدولة هناك كادت تحل محل الأسرة، ثم أن حقوق الراشد قد استكملت أو كادت (على الورق على الأقل، للأغلبية على الأرجح)، فانتقلوا للفئات الأضعف. كما أن فساد الشباب وانحراف المراهقين (بما فى ذلك الإدمان) قد دق ناقوس الخطر، فراحوا يجتهدون فى تقصى الأسباب (الأخرى) فى الطفولة الباكرة. كل هذا لا يتفق مع ما عندنا كما يلى:
إن الدولة عندنا أضعف من أن تدير شئون الدولة، فما بالك بتولى شئون الأطفال نيابة عن ذويهم إذا هم أضروا بهم. وبالنسبة للغالبية الغالبة فإن أقسى والد هو أرحم من أخصائية فى مؤسسة. (غالبا). ثم إن حقوق الراشد عندنا غير مستوفاة بأى درجة، فما بالك بحقوق الطفل؟، وأيضا نعرف حساسية التدخل بين الوالد وطفله بالصورة التى نسمع عنها عندهم (أول رقم تليفون يحفظه الطفل فى مدارس رياض أطفالهم، أو الابتدائى، هوالرقم الذى يستدعى به الطفل السلطات إذا ما نهره والده -جدا- بالسلامة!!!).
مصادر المعرفة الأخرى
انتبهت من خلال اهتماماتى الأخرى إلى أن ثمة مصادرللمعرفة، تعرفنا ماهية الطفولة وأبعادها، مصادرلا تقل مصداقية ولا فائدة عن هذه المصادر شبه العلمية، الملتبسة والمستوردة، ومن ذلك:
أولا: الوعى الشعبى الذى يقوم بأبحاثه بشكل تلقائي، وهو يصدر نتائجه وأحكامه بطريقة يتم المصادقة عليها من مدى انتشار هذه الأحكام وطول مدة بقائها متداولة فاعلة نافعة، صحيح أن هذا الوعى الشعبى قد تراجع عن النمو التلقائى بعد تدخل الإعلام الرسمى والخاص بين الناس وبين خبراتهم، إلا أن النظر فيما وصل إليه هذا الوعى الشعبى فيما مضى ينبغى أن يكون نموذجا نحترم به هذا الوعى وما يفرزه من نتائج.
مثلا : أفرز الوعى الشعبى نتائجه التى تقول : (1) إبن الديب ما يتربـاش، أو (2) إضرب ابنك واحسن أدبه ما يموت إلا ان فرغ أجله. وأيضا (3) إكسر للبنت ضلع يطلعلها اتنين. وفى نفس الوقت: (4) إن كبر ابنك خاويه، ثم على الجانب الآخر بواقعية مؤلمة صادمة (5) إن جاك النيل طوفان حطّ إبنك تحت رجليك. لكن أيضا: (7) لا زرعك ولا ولدك تغضب عليه (8) ومن اطعم صغيرى بلحة نزلت حلاوتها بطنى.
هذه الأمثلة ليست متناقضة، رغم أن ظاهرها يبدو كذلك; لأن لكل منها سياقه، ولكل منها دلالات تختلف باختلاف موقف وموقع ظهورها وانتشارها. أنا لا أذكرها هنا لأستشهد بها، أو لأدافع عن بعضها، وأشجب الآخر، أنا أريد أن أعلن أن هذه الأمثلة هى خلاصة تجارب غير معلـنـة المنهج، لكنها حاسمة النتيجة.
ثانيا: الإبداع (الروائى خاصة) إذ لا يوجد إبداع من فراغ، ولا يصب إبداع فى فراغ، والنص الأدبى هو فى نفس الوقت وثيقة معرفية بطريقتها الخاصة، وهى لا تقاس بعدد ما تعرض من حالات، بل بمدى ما تكشف من طبيعة نوعية.
تتجلى الطفولة بشكل مباشر فيما يسمى أدب السيرة الذاتية، وفى شكل غير مباشر فى كثير من أعمال المبدعين، وسوف أعدد فيما يلى بعض ذلك كأمثلة: أيام الطفولة ( إبراهيم عبد الحليم) حكايات حارتنا (نجيب محفوظ) السقا مات (يوسف السباعي) الأيام ( طه حسين) خالتى صفية والدير: (بهاء طاهر).
ولا يقتصر الأدب فى عطائه وكشفه عما هو طفولة على عصر بذاته، فإن المبدع الذى يكشف عن ما هية الطفولة بتحذير خاص، قد يصل إلى غور يسمح له بكشف الطبيعة البشرية فى كل زمان، بل إن التقاء مبدعين مختلفين من ثقافات مختلفة فى زمن مختلف، التقاءهم على رؤية تسبر غور الطفولة وتكشف عن أبعادها ومتطلباتها ومشاكلها، هذا الالتقاء يمثل نوعا مما أسمتيه “المصداقية بالاتفاق طوليا”.
ديستويفسكى يتناول رسم أبعاد الطفولة بكل التفاصيل والعمق: فى البطل الصغير ثم الطفلة نللى فى مذلون مهانون، ثم الأبله، والطفل “فلالي” فى قرية ستيباتشكوفو وسكانها، وتتجلى أستاذيته قى قصته (روايته) غير الكاملة نيتوتشكا نزفانوفنا (التى تناولتها بالنقد تفصيلا فى مكان آخر) وهو يرسم الطفلة الأم0الطفلة الدمية، الطفلة الحكمـة، إلى غير ذلك.
وبالنسبة لنجيب محفوظ فإنه كان من أكثر المبدعين أمانة حين أعلن أنه حاول أن يكتب قصصا للأطفال، وأنه وجد صعوبة بالغة أوقفته بعد محاولة واحدة أو بضع محاولات، إلا أن حضور الأطفال فى كل إبداعاته كان شديد الحساسية شديد الدلالة، ولعل من أروع تجليات ذلك ما جاء فى وصف طفولة كمال أحمد عبد الجواد فى “بين القصرين”، ولعل المتتبع لنمو كمال أحمد عبد الجواد وتطور أحواله يتعجب – لأول وهلة- مما صار إليه هذا الطفل الظريف الجميل الولع بالغناء المتجرئ حتى على والده بما تيسر، كيف آل هذاالطفل إلى ذلك الشاب الإنطوائى الكثير الفكر البالغ الحياء، لكن هذا التطور هو من عظمة الفن. وقد كنت دائما أخشى أن يـستدرج المبدعون ليستشيروا أهل علم النفس فيما يخطر لهم، أو أن يغالوا فى تصديق ما يـكتب فى التربية وعلم النفس والتحليل النفسي، لأن محفوظ لو كان قد فعل ذلك مثلا فى حالة كمال أحمد عبد الجواد لكان لزاما عليه أن يرسمه طفلا “نموذجيا” مطيعا إلى آخر ما تقوله كتب علم النفس فى وصف “الطفل النموذجي” كيف يتطور إلى الحيى الانطوائى.
فإذا حددنا الحديث عن أعماله التى فيها رائحة السيرة الذاتية (وكلها تكاد تكون كذلك) فإننا نركز خاصة على حكايات حارتنا، (أكثر من المرايا)، “والباقى من الزمن ساعة”، “حديث الصباح والمساء”: كلها زاخزة بما أريد إيضاحه هنا، وهو أن هذا الكاتب يعرف هذه المنطقة – منطقة الطفولة – أعمق ما تكون المعرفة. ثم فجأة تطل علينا طفولته فى أصداء سيرته الذاتية بإضافات معرفية دالة تقول: إن الطفولة ليست مرحلة تاريخية نعيشها ثم ننتقل منها إلى ما بعدها، وإنما هى مرحلة بدئية تتطور فينا وبنا حيث تتداخل فيما بعدها متكاملة فى النضج السوى، أو تختفى منكرة أو منسية، وأصداء محفوظ تعلمنا أيضا أن مرحلة الطفولة قد تظهر مستقلة-الآن- فى الحلم أساسا، أو قد تفبرك إذا زيفناها بذاكرتنا. كذلك نرى فى الأصداء كيف أن الطفولة تظل نشطة نابضة عند المبدعين خاصة، لكنها لا تنشط مستقلة، وإنما تتكامل فى النشاط الناضج الراصد القادر، فيتخلق الناتج الإبداعى الأصيل (وقد نشرت تفاصيل ذلك فى موقع آخر).
أختم هذا المقال بعودة توضيحية تبين لنا كيف يمكن أن يضار الأطفال من اهتزاز منظومة القيم أو تشويهها أكثر مما يضارون من الضرب أو ما شابه. أشرت فى مدخلى إلى هذه النقطة إلى قيمتين هما الحرية عندهم (بما لها وما عليها)، والغش عندنا (وكيف أصبح قيمة شبه إيجابية !!). فهل يتصور أحد أن قيمة “العدل” يمكن أن تكون قيمة تتكون عند الطفل منذ سنيه الأولي؟ وهل طـرح هذا الفرض على وعى العلماء باعتبار أنه يمكن أن يغير العالم؟ ألا نحتاج نحن، مع كل مستضعفى العالم، أن نبحث فى هذه النقطة بشكل قد يلوح بوعد تغيير جذرى فى طرق التربية، ؟ أم أن علينا أن نكتفى بما يلقون به إلينا من بعض الشظايا المتناثرة من امتحانات القدر لبضعة آلاف من الأطفال المعاقين. (الأوتيزم مثلا).
هل يوجد منهج عند العلماء التقليديين يستدلون به على كيفية التعامل مع قيمة العدل أغلى قيمة عند الإنسان طفلا ويافعا؟ ثم ما تأثير التنبيه على أن تصب نتائج مثل هذا الاستقصاء فى تعديل طرق تربية الأطفال عبر العالم؟ وهل يمكن أن نأمل أن تكون نتائج مثل هذا البحث نافعة فى ترسيخ هذه القيمة (العدل) فيكون هذا هو السبيل الواعد بمواجهة أشكال التعصب والاستعلاء والغرور، وإشعال الحروب تحت مزاعم إرساء السلام، كذا الكيل بعدة مكاييل ببجاحة غير مسبوقة.
إن الأقوياء قد أصبحوا يبررون الظلم من جانبهم باعتباره عدلا خصوصيا، عدلا يستعمل بشفرة سرية ، يمارسونه بقواعد ولغة ليست فى مقدورالمظلوم أن يفهمها (يمكن العودة إلى ذلك تفصيلا فى الحديث عن فلسطين، وكوزوفو، والبوسنة، وحتى حملات الناتو على صربيا، وكذا حملات أمريكا وإنجلترا على العراق).
ننظر أخيرافى عينات محدودة تظهر كيف التقط ديستويفسكى حضور قيمة العدل عند أطفال إبداعه:
نيتوتشكلا نزفانوفنا يقول واصفا موقف “كاتيا” الطفلة: “فما كان مسموحا به أمس يصبح اليوم ممنوعا00، وهكذا الشعور بالعدل يفسد لدى هذه الطفلة بلا انقطاع”.
أو على لسان نيتوتشكا: “كان الحزن يمزقنى تمزيقا، ثم أخذت فكرة العدالة تـذر قرنها فى نفسى الجريحة، وأخذ يجتاحنى شعور بالاستياء والاستنكار”.
ولم ينس ديستويفسكي، وهو يعرج إلى الإشارة كيف تتكون قيمة العدل عند الأطفال، أن يشير بطرافة إلى تعرية قيم أخرى زائفة، مثل الإفراط فى تقبيل الأطفال (على العمّال على البطال)، و كأن هذا هوالحب. يقول، فى طرافة، على لسان البطل الصغير: “وهن يضرعن إلى بصوت واحد أن أفتح لهن الباب حالفات أنهن لا يردن بى سوءا وأنهن لا يرغبن إلا فى إغراقى بالقبل، وهل هنالك تهديد أشد هولا من هذا التهديد؟”.
هذا الطفل وهو يتلقى هذا التهديد “بالإغراق فى القبل” أين يوضع فى ما هو “ضرار الأطفال” (نكتة!).
أنا لا أقول أن هذه المصادر الأدبية هى بديلة عما يسمّى البحث العلمى، لكننى أؤكد أنها تعطِى بعدا نوعيا آخر لمسائل ومشاكل لا ينبغى أن تغيب عن وعى الباحث عن المعرفة تحت كل الظروف.
خلاصة القول:
إن مشاكل “ضرار الأطفال” لا يمكن أن تدرس بعيدا عن الثقافة التى تجرى فيها، كما أنها لا يمكن أن توضع على سلم الأولويات إلا من خلال معرفة أبعاد وطبيعة وماهية الطفولة ومشاكلها بصفة عامة.
عندنا مثلا فى مصر، لاحظنا فى الممارسة الإكلينيكية أن كثيرا من أمراض وأعراض الأطفال ليست إلا إسقاط لاضطرابات أعمق لما تحمله الأم بالذات، والوالد بدرجة أقل، على أطفالهما ليمرضوا نيابة عنهما، كذلك لاحظنا أن الضرار الخفى هو أصعب وأخطر على الطفل من الضرار البدنى المعلن. خذ مثلا: استعمال الأطفال كأدوات تبرر استمرار الحياة الزوجية التعيسة لا أكثر، أو تعوض النقص الذى يعانيه الوالد باعتبارالطفل مجرد مشروع استثمارى (هذا يظهر عادة فى صورة رعاية فائقة مشكورة اجتماعيا بشكل أو بآخر، ولكن ….)
إن أبسط ما نحتاجه مما استقرأناه من الممارسة الإكلينيكية والملاحظات الموضوعية داخل وخارج العيادة النفسية، يمكن أن يفرخ فروضا واعدة بما لايقاس، فروضا يجدر بنا فحصها من خلال مناهل المعرفة مجتمعة دون الاقتصار على منهج إحصائى محدود.
لابد أن نحـذر التورط فى لعبة الإلهاء فى الانشغال بدراسة فتات المسائل التى تقع مصادفة تحت موائد ولائمهم الدسمة شبه العلمية.
نحن لم نعد نجرؤ أن نتعرّف على مشاكلنا بعيداعن وصايتهم، ناهيك عن البحث فيها، واحتمال تصدير نتائجها إليهم ، تلك النتائج التى قد تساعدهم فى إثراء مسارهم، بدلا من أن نواصل لعبة ترديد الصدى، وكأنه صوتنا نحن.
* * *
[1] – مجلة وجهات نظر – نوفمبر 2002