نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 10-2-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4545
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (2 من 3)
…………….
……………..
وتمضى ساعة وساعة، ونقترب أكثر من باريس، ومن إشارة الموتيل معا، وأقول فى نفسى: كيف يا جدع أنت، ستدفع فى الموتيل الشئ الفلانى لمجرد قضاء ساعتين… نصفها فى عمليات بيولجية، وأخجل من أننى مازلت أحسب كل شىء، وكل قرش، وأقارن، وأفضل، الطريقة ذاتها التى اعتدتها وأنا فقير وأنا جائع، لماذا؟، وأكتشف أننا فى باريس قد نقع فى المطب ذاته، إذ قد ندفع ليلة كاملة إذا شغلنا الحجرة قبل الظهر، ثم إن هذا الموتيل بعيد عن العاصمة، فلابد أنه أرخص، فاخـَتـْر وما فيهما حظ لمختار، ولا أعلن عن أفكارى هذه لأنى أعلم أنها نابعة من كومبيوتر الفقر القديم، حتى لو كان كل واحد من أفراد الرحلة مسئولاً عن ماليته مستقلا كما اتفقنا.
ظـَهـَر الموتيل، ليس كغيره مما جربنا فى هذه الرحلة، فهو ضخم فخم، يبدو كمجمع خدمات، قهوة.. أو ناد أو بار: صالونات فخيمة، وناس أفخم، محترمين على ما يبدو، أغلب الوجوه هادئة مرسومة، لا يبدو عليها آثار “عدوان” السفر أو المطر، أو جهاد اقتحام العادات القديمة واكتشاف الطبيعة الجديدة، ناس مرتاحون!، فنظرت فى وجوه صحبتى، فوجدت فيها مثل ما طاف بى.. “هذا ليس مكاننا” ـ هكذا قلنا لبعضنا دون كلام. ومع ذلك، فأين نمضى الآن، ولم يبق على باريس سوى بضعة وستين كيلومترا، كما لم يبق على الفجر سوى ساعة أو بعض ساعة؟.
غامرتُ وذهبت أستعلم، و سألت وأجابت موظفة الاستقبال، ونبـّهتنى – ربما بعد التملى فى منظرى – إلى أن كذا ممنوعاً وكذا عيباً. كدت أحتج وأنا أتصور أنها اختصتنى بهذه التعليمات دون سواى. وحين أعلنتْ أسعار الإقامة فى الموتيل، تم قطع المفاوضات من فورنا، قُطعتْ قبل أن تبدأ، فقد كانت أكثر من ضـِعـْف ما تعودنا، بل ضعف فنادق باريس المتواضعة التى اعتدنا النزول فيها، ثم كل هذا الرقم من أجل ساعتين أو ثلاثة، ولكن.. أنا مالى؟ ما أنا إلا فرد من تسعة، وأنا الأقدر، فحملت الرقم ببراءة ظاهرة مطمئنا إلى نتيجة الصدمة على رفقتى محدودى الدخل (أو محدودى الهبة)، وتوجهت لتوى إلى أصغريْنا أحمد وعلى، وقلت لهما ـ على مسمع من الباقى ـ إن هاتين الساعتين سيكلفاننا “كذا” ـ وتم المراد بحكمة الأولاد فى التو والحال؛ فقد استدارا بعد أن وضع أحدهما يديه فى جيوب سرواله، ومط الآخر شفتيه، مضيا دون تعليق. ونظرت فى وجوه الباقى، وانفجرنا ضاحكين.
ألتقطُ ذلك السباب البرئ الذى وصفوا به الموتيل والقائمين عليه، وهو يتخلل موجة الضحك من أمثال تعليقات تقول إن “رزق الهبل… ” أو “بعيد عن شاربهم” ـ وهكذا جمعتنا العربة من جديد فى حنان لا يخلو من شماتة، وكأنها تقول “… كنتم ستتركوننى وتذهبون. فها أنتم عدتم صاغرين”. اعتذرنا لها صامتين، وجلسنا واستعددنا.
أدرت المفتاح فعاد صوت الموتور يعلن نوبة نوم جديدة، ولكنى تدخلت بسرعة متسائلا، بعد أن نظرت إلى الساعة: “والآن.. إلى أين؟” وكانت الإجابة البدهية “إلى باريس ياسيد”. مفهوم مفهوم. ولكن متى؟. ثم الاقامة، ونحن حتى الآن (رغم حلول الشتاء فجأة!!!) لم نقرر هل يقيم الأولاد فى باريس فى فندق فيكسرون شرط الرحلة منذ البداية، فما زالت فكرة “حتم التخييم:” تلاحقنى متصورا أنها تبرر لى ما أحاول أن أوصله للأولاد من فوائد التقشف وزيف الرفاهية. أحاول أن أبين لهم أن المسألة ليست بالساهل، لكن الدنيا برد، وأرد على نفسى: “برد..، برد، مثلنا مثل غيرنا، أعنى مثلهم مثل غيرهم” ويبدو أنهم قرأوا أفكارى فلم يستطع أحدهم أن يقترح النزول فى فنادق أصلا، وحتى هذا الفرض لابد من حسن توقيته، هل نظل فى الشارع حتى منتصف النهار، حتى لا تُحسب علينا الليلة، بلا ليلة؟ وهمست للصغيرين بالخسارة المحتملة، فما إن عبرنا بوابة الطريق السريعة حتى اقترح أحدهما، أو زوجتى (لست أذكر) ـ أنه “وماله لو نمنا فى السيارة هاتين الساعتين داخل العربة هنا، والصباح رباح، والنهار له عينان”، فوافق البعض، وزام آخرون دون تمييز. ولم تكّذب العربة خبرا، فمالت إلى جانب حتى اطمأنت إلى جوار المبنى الخاص بخدمات الطريق (مما جميعه)، فاعتبرناه لخدمتنا الخاصة، وتناوبنا، وعدنا، وتداخلنا فى بعضنا البعض نتقى البرد.
أدرت زرّ السماح بالنوم، فرحت ـ من فورى، بالغيظ فى زوجتى ـ فى سبات عميق.
الأربعاء 5 سبتمبر (1984)
استيقظت على فحيح التململ يلكزنى فى جنبى، يتبادل ذلك مع ضحكات ساخرة، وتعليقات متنوعة تعلن أنها كانت ليلة ليلاء، وهى لم تكن ليلة بل ساعتين وبضع ساعة، وكنت قد نمت وكأنى فى أفخم مخدع. فأنا طول عمرى أتمتع بالقدرة على الدخول والخروج، إلى هذا الجانب الآخر من وعيى بسهولة ومباشرة، سواء كان هذا الدخول لجزء من دقيقة، أم لليلة بأكملها. وفى الحال أقوم وقد شبعت بما يكفينى “لأواصل” حتى أستأذن من جديد، وهكذا، فلم أفهم لماذا كانت الململة واللكز والسخرية والتعليقات، ولكنى أخذت أدرك رويدا رويدا أن هؤلاء الأولاد لا يعرفون معنى التقشف، وربما لن يعرفوه أيدا، فهذا التقشف المخيماتى المصطنع، شئ وذاك الحرمان الحقيقى الذى يعيشه أغلب الناس شئ آخر، فهم لم يستطيعوا أن يتحملوا ليلة واحدة فى داخل سيارة، بل ساعات. وتعجبت من أحوالهم تلك؛ إذ لو أنى واصلت السير وهم نيام، لقاموا يتمطون بالرضا عن سائقهم الذى انتقل بهم إلى مرادهم دون إزعاج، أو على الأقل بلا نظرات سخط مثل تلك التى لكزتنى فأيقظتنى، كنت أشعر وكأنهم يتهمونى بأنى أتعبتهم، لأوفر ثمن سرير الليلة مثلا، على الرغم من أنى إذا كنت قد وفرت، فهو لهم، وليس لى (حسب قانون الاستقلال الرحلاتى الاقتصادى الذى اتفقنا عليه).
زادنى موقفى المتململ هذا تصميما على أن ينزلوا فى مخيم كنت أعرفه فى غابة بولونيا، اللهم إلا إذا كان هذا المخيم قد أغلق أبوابه بسبب البرد، هذا، وإلا فقد خاب سعيى فى تربيتكم من أوله، فيسمعون ما لم أقله لكنّه يصلهم فيصمتون، وتصفر وجوه وتسود وجوه، ثم يعلن الأصغر (والأشجع) أنهم أحرار، وأنهم قد ينامون فى فندق نصف نجمة، ولا يأكلون إلا خبزا “حافا”، وأنه ليس من حقى أن أنظم لهم إقامتهم ماداموا لن يطلبوا أية معونة إضافية، فأوافق من حيث المبدأ، ولكنى أصر على التعرف على ما تبقى مفتوحا من مخيمات، وبالذات فى غابة بولونيا، وقبل الدخول إلى باريس المدينة. من يدرى قد نحتاجه بشكل ما.
دخلنا من الباب الجنوبى لباريس، باب أورليانز، والتقينا قبيله بأفواج السيارات الداخلة إلى المدينة الحنون. فالروعة هناك أن الضواحى تمتد إلى سبعين ومائة كيلو، وكأن باريس للعمل فقط. أما السكن فأمر آخر. واتبعنا الإشارات إلى الطريق الدائرىة حول باريس، متجهين إلى غابة بولونيا حيث أشار كتاب دليل المخيمات الذى معنا، إلى وجود مخيم هناك على نهر السين. وما إن تخلصت من الطريق السريعة وزحام السيارات حتى هبت على روائح كدت أنساها. ستة عشر عاما بالتمام، وابتسمت حتى تخـللت ابتسامتى كل خلاياى إلى نخاع عظمى، فابتسمت لى الأشجار والخضرة الكثيفة والشوارع النظيفة والرجل العجوز الذى دلنا على الطريق إلى شاطئ السين حيث يخترق بولونيا وحيث سوف نجد المخيم فى الأغلب، وقد عدت أأتنس بهذه الحضارة الدمثة التى تجعل هذا الكهل يتوقف ويستمع ويلتفت ويشرح ويخطط، ويشير، بكل إخلاص وتواضع، لا يبغى جزاء إلا احترام الآخر وبذل ما عنده، طالما لا يعيقه، وكلما سألت عن المخيم بإصرار مطلق، سمعت الهمهمة تتعالى من ورائى تصك أذنى فى تصاعد يكاد يصل إلى الأنين المكتوم، ولسان حالهم يقول ما يعلنه بعضهم: “أنت وأمنا ستذهبون إلى الفندق حتما كما تعودنا منذ البداية، ومادمنا قد قررنا ألا نخيم فى هذا البرد مهما كان الإغراء، فلماذا تبحث لنا عن مخيم أيا كانت ظروفه؟ ولكنى أصر على أنه ليس من حقهم أن يقرروا “الرفض”، قبل أن يروا بأعينهم “ماذا يرفضون” و”لماذا”؟.
أواصل السير فى بولونيا، وكنت أحسب أن لفظ “بولونيا” هذه، هى اسم الغابة فقط، وإذا ببولونيا هى الضاحية التى تحتوى الغابة. أواصل السير فألمح شيئا أشبه بالخيمة الكبيرة، ولكنها على الجانب الآخر، وليست على الشاطئ مباشرة، وحين نقترب منها أجدها أكثر من واحدة، ومساحة كل منها عشرات الأمتار، فأتعجب لهذا المخيم الغريب، وأتصور أنه هو، وأنه معد هكذا اتقاء للبرد حيث لابد أن الخيمة الأصغر تقع فى داخل الخيمة الكبيرة، ويرتعد الأولاد خوفا من أن أفرض عليهم التخييم هنا؛ حيث لا عربات ولا كرافانات ولا خدمات، ولا ناس، اللهم إلا بضعة عمال يقومون بما يشبه الزراعة حول هذه المخيم العملاقة. أتوقف بالسيارة ـ وأكاد أسمع قلوب الأولاد تخفق خوفا وتوجسا، وأرى نظرات العدوان تطل من عينى مصطفى غريمى المتحفز، وكأنه يعلن أنه “للصبر حدود”، فأتغافل وأنزل من السيارة، وأنادى على أحد العمال فلا يجيب، فألف حتى أقترب أكثر، وأعاود النداء بإصرارى المعتاد، والجميع فى السيارة يستعدون لمعركتهم معى فى الأغلب ـ فيرد العامل، فأسأله: “أليس هذا مخيما للرحالة والمصيفين؟” فيبتسم فى شفقة، ويقول بالفرنسية السريعة التى ألاحقها بالكاد، ما أفهم منه أن هذا مشتل زهور أو ماشابه، وأن هذه الخيم تحمى الزرع الصغير من الصقيع والتقلبات (شئ أشبه بالصوبات التى عُرفت عندنا فيما بعد). وأرجع بخفى حنين، وتنفرج أسارير الجميع فيما يشبه الشماتة حين يقرأون فى وجهى ـ قبل أن أخبرهم ـ خيبة أملى، ويتصورون أنى همدت، ولكن: “أبدا”، وأعاود المسير بحذاء نهر السين، وأكرر السؤال بإلحاح، حتى تبدو لى من بُعد الألوان الدالة على خيام الرحل وسياراتهم ومقطوراتهم، وأقول فى نفسى متوعدا “لسوف أريهم هؤلاء المرفهين المدعين”، وينتقل الغيظ إليهم مع اقترابى المنتصر من ضالتى، ولا أفهم كيف يتصورون أنى سأفرض عليهم رأيى فى نهاية النهاية، ومع ذلك فكل شئ جائز، وأنا لا أضمن نفسى، فكيف يضمنوننى هم؟
ندخل المخيم، ونجده، يكاد يكون شاغرا إلا من خيمة هنا وخيمة هناك. وينظر الواقف على البوابة إلى أرقام سيارتنا العربية، فيبتسم ابتسامة نعرفها، ويشير صائحا: “أهلا” بالسلامة، ثم كلاما كثيرا باللهجة ذاتها، ولا نفهمه، أستعلم، وأقرر، وأرفض ولا أعلن رفضى، فأتركهم يتوجسون.
فى الطريق إلى باريس المدينة، أتعجب لصلابة هؤلاء الخواجات، المخيمين بالقياس إلى ميلنا إلى الدفء والاستكانة؟. أليس هؤلاء مصيفين مثلنا؟. أليسوا أغنى منا؟. فلم يقبلون التخييم هكذا بهذه البساطة؟. وأولادى أكثر شبابا وأوفر حركة، وأفقر، فما بالهم يقاومون هكذا؟ أهى العادة أم خطأ التربية الأساسى فى علاقتنا بمعنى النعيم ودغدغة الدعة؟
فجأة تقفز إلى عقلى ثلاث صور متلاحقة:
الأولى فى جبل عتاقة فى شتاء 1954، وأنا فى “نوبة حراسة” مع مخيم الجوالة، والعاصفة الرملية لا تهدأ، وأنا لا أشكو ولا أغفو.
الثانية،أعلى جبال الأرز فى لبنان قرب طرابلس، فى صيف السنة ذاتها مع الجوالة عينها أيضا. والصقيع العربى يذكرنى بالتقشف الحقيقى الذى كانت الجوالة تعنيه لنا جميعا، ثم ذلك الأتوبيس الذى يكاد يسقط وهو يلف (ماذا دهاك يا لبنان!!! ماذا دهاك؟ مازلنا 1984 تذكّر).
الثالثة صورتى وأنا مخيم فى فينسيا بعد أن ودّعت زوجتى وابنى وأركبتهم المركب المتجهة إلى مصر سنة 1969 فحبسنى المطر ثمان وأربعين ساعة فى خيمة قرأت فيها ـ مضطرا ـ كتابا لم يكن معى سواه فاضطررت لقراءته مرتين فتغيّر موقفى من مهنتى ونفسى، هو كتاب عن العلاقة بالآخر، مدرسة العلاقة بالموضوع (جانترب)، وكأنى كنت على موعد معه لأغيّرفهمى لـلنفس البشرية (نفسى أنا قبل مرضاى(
تذكرت كل هذه المواقف لأزداد يقينا بروعة ما هو صدفة، وما هو تقشف، وما هو عناد، وما هو إصرار، وما يمكن أن يتاح للواحد فى فرص حقيقية من خلال بعض ذلك أو كله، فلماذا لا يشعر الأولاد بقيمة المشقة، ويقبلون التحدى طوعا أو كرها؟. لا.. بل كرها. فما يفجر الطاقة إلا الاضطرار.
إن هذا الذى أحاول أن أعلمه للأولاد هنا هو “كنظام” الفقر والحرمان. فهو إيهام زائف، لذلك فهم يفقسون الادعاء، ويكادن يقولون: “كبّر عقلك… حين نفتقر سنتصرف”. لكن مالى أنا، لابد أن أفعل ما أتصوره مناسبا حتى لو بدا مزيفا أو “كنظام”، أم ينبغى على أن أموت فعلا أو أعلن الفلس الحقيقى حتى يتعلموا معنى جدية الحياة، وشظف الحاجة
تلتقط ابنتى الكبيرة منى يحيى حالتى وأزمتى فتحاول أن ترضينى، فتعرض حلا وسطا، وكنا قد دخلنا باريس فعلا، إذْ تقترح أن تذهب مع مصطفى إلى المدينة الجامعية، حيث سمعت من قبل أنها قد تستقبل نزلاء عابرين من الطلبة بأجر زهيد، فأطمئن أخيرا إلى أن ثَمَّ من يشاركنى موقفى، ولو بدرجة أقل، وتنزل ابنتى مع أخيها فى “الأنفاليد”؛ لتأخذ المترو، ونلقى التحية على نابليون فى قبره، ونواصل السير، وقد تواعدنا على اللقاء أمام الفندق المتواضع الذى ننزل فيه عادة فى الجوبلان.
نصل إلى الحى اللاتينى مارين بميدان إيطاليا ـ بلا مبرر ـ وكأن السيارة كانت تعرف أنى أحتاج لاستنشاق هواء الأماكن ذاتها التى صاحبُتها أثناء مهمتى العلمية، فى مستشفى سانت آن، بالقرب من هذا الميدان.قلبى يدق مثل عاشق مراهق فعلا، فخشيت أن يسمعوا دقاته. وأجدنى أعيش من جديد تلك الفترة البالغة الثراء التى أمضيتها فى باريس، والتى مازلت أعود إليها منذ ذلك الحين، فيعاودنى الشعور عينه، وأكتشف أن باريس قد استقرت تحت جلدى، فى ثنايا عضلاتى، فى رائحة عرقى، سارية مع دمى، إذ يبدو أن هذا العام 68 / 69 كان عام تحوّل فى حياتى خلال إقامتى بها، وتجوالى فيها. ماذا حدث تماما حينذاك؟. لست أدرى على وجه التحديد، لكنى عشت تلك الفترة بكل ثقل المواجهة، مواجهة مع الناس والحجارة، مع القديم والمجهول، مع الوحدة والتساؤل، فكان ماكان مما استيقظ فىّ الآن، وهو لم ينـَمْ أبدا منذ ذلك الحين.
مازلنا: 5 سبتمبر (1984)
فندق جوبلان (نجمتان)، فندق الإقامة السعيدة (“بل سيجور” نجمة واحدة) يفصلهما ممر صغير، وهما يقعان على تقاطع طريق جوبلان وطريق راسباى، الحى اللاتينى، أمام أحدهما مطعم جميل ذو ستائر حمراء رقيقة. وأمام الآخر مطعم صينى متواضع ـ هذا هو مكاننا المفضل. يستقبلنا صاحب فندق جوبلان ـ ويتذكرنا، عام مضى منذ كنا عنده، زوجتى وأنا، ونجد عنده حجرة واحدة خالية، وكأنها كانت تنتظرنا، ونجد فى الفندق المجاور ذى النجمة الواحدة حجرة من داخل حجرة، بحمام خاص (ياحلاوة) وحجرة أخرى للابن الأكبر. وبحسبة سريعة يتبين أن الثمن يقارب ثمن المخيم، فيهدأ بال الجميع، وأنا أوّلهم، وخاصة أن فندق الإقامة السعيدة يتميز بكل مزعجات فنادق النجمة الواحدة؛ فكلبٌ ضخم لا يقل طوله عن متر يقبع وراء مكتب الاستقبال بجوار موظف الاستقبال المتجهم، ويبدو أن الكلب يحل محله فى حالة غيابه(!!!) والفندق له رائحة يعرفها كل من لا يملك إلا ثمن الإقامة فيه، وأسلوب التعامل فيه من باب “ساعد نفسك”…” (إن كنت جدعاً). وأطمئن على أن الرائحة فى هذا الفندق، سوف تكون نافية لأى احتمال رفاهية مفسدة!!!، وإن كانت تختلف حتما عن رائحة فنادق أعرفها فى العتبة (الخضراء) وعماد الدين؛ حيث ينزل بعض أصدقائى السودانيين، فلكل بيئة وثقافة رائحتها المميزة…. والعياذ بالله. ومع ذلك، فقد فرح الأولاد فرحا شديدا بكل ذلك، ولولا التهديد الملاحـِـق بالتخييم فى الصقيع، لما تحملوا أيا من هذا بحال.
أخيرا باريس،
هى هى. وبرغم صفعة الحر التى صفعتنى بها العام الماضى، فما زالت هى الغالية بشكل أو بآخر. قلت لى: لماذا؟. أقول لك: لست أدرى، مع أنى استطيع أن أدبج فيها مئات الصفحات. ولكن ياترى هل أنا أحكى عن باريس الآن؟ أم عن باريس 86/96؟. أم عن “باريس/القاهرة/أنا”؟ . لاشك أنى أحكى عن هذا الثالوث المتداخل فى تفاعل متصل، فقد تعريت هنا، فى سن الخامسة والثلاثين، هذا التعرى الذى اعتبرته أروع ما فى السفر، بل لعله المبرر الوحيد للسفر، كما ذكرت. حين يتلقى جهاز استقبالك هذا الكم الزاخر من المعلومات الجديدة (المعلومات بالمعنى الأشمل= كل ما يصل إلى الوعى)، فإذا بك جديد. فإذا كان الأمر كذلك، فإن أى سفر قد يحمل هذا الاحتمال، لمن عنده هذا الاستعداد، فلماذا باريس بالذات؟.
أتصور أن ثمة “علاقة خاصة” بين باريس وبين المصريين المبدعين خاصة: توفيق الحكيم، يحىى حقى، طه حسين، محمد عبده، مصطفى كامل، رفاعة الطهطاوى، وهى علاقة ممتدة حتى الآن: عبد المعطى حجازى، جورج البهجورى، حتى الذى لم يقم بها زمنا تجلّت فى وعيه بدرجة كافية (جمال الغيطانى مثلا). أول ما يشعر به المصرى اليقظ وهو ينتقل إلى باريس إذا كان من عشاق القاهرة، والنيل، والطين، والناس، والدفء، والكلام،…يشعر ذلك المصرى أنه “لم ينتقل” كثيرا، وفى الوقت ذاته أنه “انتقل” كثيرا، فهو يرى النيل (السين) والكبارى، والتلقائية، والأصوات العالية نسبيا، والضحكات المسموعة فى الشوارع أو محطات المترو، وغير ذلك من الارتجال الذى يعلن نظاما غير محكم تماما (جدا) بشكل أو بآخر، فلا يفزع من النقلة، لأن كل ذلك قد تعوده، (وألعن)، وهو فى بلده، وفى الوقت ذاته: هو يجد إيقاع الحركة أسرع، وكّم الحرية وأنواعها أكثر بهرا، وتنوع أذواق أرق، وريح الحضارة أكثر حدة وإيقاظا.
ومن واقع رقة النقلة ودقة التشابه، جنبا إلى جنب مع وضوح النقلة وعمق الاختلاف، تتاح لمن مثلى تلقائية الحركة وشجاعة التعرى، وأحسب أن هذا هو بعض ما أصابنى وبهرنى منذ نزلتها أول مرة عام 1968، فظلَّت علاقتى بها هى العلاقة ذاتها حتى الآن، أدعمها كل عدة سنوات بجرعة منشطة خلال عدة أيام، فأجلس على المقهى ذاته، وأسير وأنا أربت على خدها الندى، فتحتضننى فى رفق مستقبلة مودعة فى آن، مطمئنة إلى عودة وعودة، ثقة منها بهذا التواصل دون تواجد. لكنى لا أخفى على نفسى أنى فى كل مرة كنت ألاحظ على وجهها بثورا جديدة، من مضاعفات الحقن الأمريكانى الذى اقتحمتها بالواجهات الزجاجية، والعمارات العملاقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. حتى مركز بومبيدو، بدا لى سجنا زجاجيا يزحف على جداره ثعبان سام وقد التهم البشرفى جوفه دون خجل، حتى تعيّن لى ما يزعمون من “شفافية”، وكأنها “بجاحة العدوان”.
حين استفزّنى منظرالسلم المنزلق وهو يتحرّك عاريا خلف زجاج قبيح كتبت فيه هجاء غمرنى حتى عنونت به عنوان ديوان مجهول لى اسمه “البيت الزجاجى والثعبان”، كنت أعنى به هذا المركز (بومبيدو). تقول بداية هذا التشكيل “يسعى ثعبان البشر على جدران البلور العارى،
يفضحنا،
فنعود إلينا نتعرّى أكثر،
نتكاثف داخلنا،
نتوارى،
فنرانا أقبح”…..الخ.
كاد هذا التحوّل الذى ضجر منه الفرنسيون أنفسهم يفتّر علاقتى بباريس الجديدة، حين أتصور أنها أقل ترحيبا؛ فأصبح أخف حوارا معها.
حين لطمتنى ـ باريس ـ لطمة حارة لم أتعودها منها فى العام الماضى، أحسست وكأنها تعلن قطيعة من جانب واحد، فخرجت منها بلا وداع ولا وعد بلقاء، وتعمدت ألا أدخلها ثانية إلا شتاء، أو قرب الشتاء. وها هو شتاؤها يلقانا قبل أوانه، ليصالحنى عليها من جديد…، وما تخاصمنا أصلا. اكتشفت ذلك. فى الترحال الثانى “الصلح خير” الفصل الـ 13)
…………………
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net