الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض: بعض فكر يحيى الرخاوى (4) (الحلم …الحرية البديلة)

كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض: بعض فكر يحيى الرخاوى (4) (الحلم …الحرية البديلة)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 9-2-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4544

كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (4)

          بعض فكر يحيى الرخاوى (1)

الحلم …الحرية البديلة (2)

لعل أهم ما يهم الناس هذه الأيام هو محاولة حل هذا الأشكال الماثل فى المواجهة الحادة بين ما يمثلة تعميق النظر فى الحاضر الجاثم، ومحاولة التخطيط للمستقبل، فالحاضر يبدو وكأنه أتاح لنا من الأدوات (التقنيات القادره على مضاعفة سرعة الرصد، والتواصل، والشفافية) ما يسمح لنا بأن تتطور قدرتنا على صناعة مستقبلنا كما ينبغى أو كما نشاء، أو هكذا يلوحون لنا بما يعد به النظام العالمى المزعوم (الجديد)، ليس على مستوى المسار السياسى فحسب، وإنما على مستوى مسارات المعرفة والتقدم، وصياغة، وإعادة صياغة الحياة.

فإلى أى مدى يصح  كل ذلك.

وهل هذا الحلم القديم الجديد (امتلاك الأدوات التى تمكننا من امتلاك ناصية التخطيط للمستقبل حقيقة وفعلا) قد تحقق فعلا أو هل هو على وشك التحقيق؟

وهل يؤدى بنا الانبهار بهذا الإنجاز – الذى ليس لنا فضل مباشر فيه – إلى الوقوف مشدوهين أمام رواده، سواء كان اسمهم قادة النظام العالمى الجديد، أم كانوا من صفوة العلماء والإعلاميين من أهل التواصل والشفافية والتقنية الأحدث، نقف مشدوهين تابعين نردد مع الحسن بن هانئ كيف أنهم قد “.. دان الزمان لهم، فما يصيبهموا إلا بما شاءوا”؟

وهل هذا الزمان الذى دان لهم هو زمانننا أيضاُ؟ أم أنهم احتكروا إنجازاته ورفاهيته كما دارت كئوس خمر أبى نواس على “فتية” بعينهم دون سواهم.

وهل حقيقى أن هذه الأدوات – هكذا – يمكن أن تتيح لنا أن نكف عن الحلم العادى لأن قدراتها فاقت خيالات وشطحات الأحلام نفسها؟

وأين يقع الحلم – حلمى وحلمك كل ليلة ونحن نيام – من كل هذا؟

هل احتوته وصاية هذا النظام الجديد، وهل لاحقته وتلاحقه تلك الأدوات الرائعة القادرة؟

أم أنه هو (الحلم – حق الحلم) هو الذى بقى لنا فى منطقة أمان نسبى من هذه الإغارة؟

وهل هذه الإضافة – إضافة من الحلم: المعرفة الأخرى – لازمة أم هى تزيّد عابث يمكن الاستغناء عنه؟

الإجابة عندى جاهزة وحاسمة ومحدودة، على الرغم من أنها لا تعدو أن تكون فرضا جديداَ، يكمل أو يطوّر فرضا سبق أن طرحته حول هذه المسألة.

الإجابة (فرض هذه الأطروحة) تقول:

نعم، له دور:

للحلم دور آخر، دور باقٍ، وسيبقى، ويزيد، إن كان للإنسان أن يواصل مسيرة تطوره المبدع الممتد.

فالحلم إبداع الشخص العادى، وهو قادر على إثراء حياته بعيداَ عن وصاية غرور اليقظة طول الوقت”

فكيف يكون ذلك كذلك؟

لابد من عودة سريعة (موجزة قدر الإمكان) إلى الفرض القديم، ذلك الفرض الذى قدمه كاتب هذه السطور من قبل، ومقدمات هذا الفرض القديم تقول:

يتناول المخ معلومات (محتواه تركيبه/ ذواته… إلخ) أثناء اليقظة بشكل انتقائى لما هو واقع فى بؤرة وعيه الظاهر ومرتبط بقصدية سلوكه الآنى، لكن المعلومات (بالمعنى الأشمل) تصل إلينا قبل وبعد ومع هذا التحديد الانتقائى، ويقوم الحلم بوظيفة أن يعيد التنظيم، ويحكم التناغم، ويعزز التعلـّم، وقد كان لاكتشاف ظهور النشاط الحالم بإيقاع حتمى منظم (20 دقيقة كل 90 دقيقة أثناء النوم) أثر هائل فى فهم ظاهرة الحلم ووظائفها، قبل وبعد ظهور محتوى الحلم ومحاولات فك وتفسير رموزه.

من أهم ما قدمه هذا الكشف الأحدث هو التأكيد على أن الحلم يحدث حتما، سواء تذكرناه وحكيناه، أم لا، وأن الحلم ليس حارسا للنوم كما قال فرويد، بل لعل النوم هو خادم الحلم، أى أننا لا نحلم لنحافظ على استمرار نومنا، وإنما قد يكون الأصح أننا ننام لكى تتاح لنا فرصة أن نحلم، فالحلم ليس مجرد تنفيذ أو تفريغ، بل هو “يحاول بانتظام أن يعيد التنظيم، ويحكم التناغم، ويعزز التعلم”.

هذا الفرض إنما يضع ظاهرة الحلم المسجلة فسيولوجيا (برسام المخ الكهربائى) فى مرتبة أهم وأكثر دلالة من ظاهرة محتوياته التى شغلت التحليل النفسى والوعى الشعبى قرونا، فحديث العلم الآن يرتبط بنشاط الحلم وأثره، أكثر من ارتباطه بمحتوى الحلم وتفسيره، هذا النشاط الحالم يقوم بتحريك الكيانات الداخلية، أى أنه يقوم بقلقلة المعلومات التى لم تـُـتـَمثل تماما أثناء اليقظة لترتيبها، أى أنه يباشر تفكيك البنية القائمة بهدف تحقيق درجة أكبر من التوازن والتكامل والتماثل والاستيعاب، ويتكرر هذا النشاط إيقاعياً، فى محاولة دائبة لاستكمال مهمة التوازن والنمو البيولوجى (التى لا تستكمل أبداً مادامت الحياة تنمو باستمرار).

ولو أيقظنا النائم فى أثناء هذا التنشيط الإيقاعى، فإنه سيواجه – “وهو يستيقظ” – نتاج هذا الكم الهائل من تحريك مفردات المخ وكياناته ومحتواه وتراكيبه، ثم إنه سوف يتعامل مع هذا الكم المتحرك بقدرة تنظيمية خاصة بنوع وعيه حالة كونه يستيقظ فإذا حاول أن يحكى بعد استيقاظه – فى دقائق أو أقل ما حدث، ربما فى جزء من ثانية، فهو لا شك سوف يؤلف ما يمكن أن ينقله إلى شخص آخر بالحكى، أو ما قد يسجله لنفسة أو يحادث به نفسه، وبديهى أن هذا الذى حدث ولو فى جزء من ثانية لابد أن يحكى بطريقة غير حقيقته، طريقة أكثر تكثيفا من سلسلة التفكير والتألف فى أثناء اليقظة، بما تحمل من تدوير للزمن، أو عكسة، أو تقطيعة، من هذا المنطلق يتطور هذا الفرض الأساسى موضاعنا لهذه الأطروحة وهو يقول:

“إن عملية التنشيط، فالقلقلة والتفكيك، بما يترتب عليها مؤقتا من ترابط عشوائى، وعكس للزمن وتدويره.. إلخ – هذه العملية الناتجة عن النشاط الإيقاعى المسجل برسام المخ، ليست هى الحلم كما نسمع عنه، وإنما هى المورد لمادة الحلم ومفرداته. أما الحلم المحكى فنفترض أنه يـُـحكى فى أثناء عملية إبداعية هائلة السرعة، تتم فى بعض الثانية، أو فى بضع ثوان، فى حالة من الوعى لاهى وعى الحالم، ولا هى وعى اليقظة، ووظيفة محاولة “التذكر” فـ “الحكى” هى ناتج التقاط المتاح من معلومات هذا التحريك الفائق السرعة، ثم بسطه بما تيسر من إعادة تنظيم (إبداع) على مساحة من الزمن والوعى تصلح للحكى أو التسجيل”.

يمكننا، إذن، صياغة عملية الحلم فى مراحل ثلاث أساسية، تبدأ من:

 الحلم بالقوة (كما يحضر فسيولوجيا أساسا).

 ثم الحلم بالفعل حين تصبح مادة المعلومات المتحركة فى متناول الحالم، ثم الحلم بالحكى، وهى المرحلة النهائية التى تصلنا إذا ما تمكن الحالم من أن يرصدها أو يتصور أنه يرصدها، ثم يحكيها، عادة بعد أن يضيف إليها أو ينتقص منها ما شاء كما يشاء مستوى وعيه بين اليقظة والنوم.

فللحلم المحكى وعى خاص يتوسط وعى النوم، ووعى النشاط الحالم، ووعى اليقظة معا.

وبقدر ما تكون المادة المتاحة من وعى الحلم عارية وحاضرة فى الحلم المحكى، يكون التكثيف والتداخل والتدوير والأصالة، فيبدو الحلم أكثر غموضاً وإن كان أكثر ثراء وأقدر تحريكا.

وعلى العكس، بقدر ما يتدخل وعى اليقظة فى حبك مادة الحلم وروايتها يكون الرمز والتنظيم والتفصيل والسلسلة حتى يمكن أن ينتهى الأمر إلى تزييف كامل للمادة الخام المتعتعة أثناء النشاط الحالم الأصلى. وعلى هذا الأساس فإن الحلم، بكل درجاته هو إضافة إلى مساحة الوجود، وليس مجرد حكى أو رصد لما هو موجود.

وأيضاً لزيادة الأيضاح، فإن نشاط الحلم بغض النظر عن ما يُحكى ليس مجرد تفريغ دوافعى، أو انفعال موجـّـه، أو تداع سلبى أو تعبير عن رغبة لم تتحقق فى اليقظة ولكنه إعادة وتنظيم وترتيب وتوجه، أنه عملية إبداع بشكل أو بآخر.

من خلالِ هذا الفرض نرى – كذلك – أن الحلم ليس نشاطاً بدائياً، فعملياته الأولية (فرويد) ليست أولية جداً (بدائية – طفلية – عشوائية) بل إنى رصدت كيف أن الحلم كثيرا ما يستعمل “العمليات الثالثوية” التى وصفها “سيلفانو اريتى” فى الإبداع، حيث تؤلف هذه العمليات الثالثوية بين العمليات الأولية والثانوية فى ولاف إبداعى أعلى. وقد أعلن مثل ذلك “دوستويفسكى “ (3) نصاً:

 “…. تتميز الأحلام ببروز قوى، وشدة خارقة، وتتميز كذلك بتشابه كبير مع الواقع، قد يكون مجموع اللوحة عجيباً شاذاً، ولكن الإطار، ومجمل تسلسل التصور يكونان فى الوقت نفسه، على درجة عالية من المعقولية، ويشتملان على تفاصيل مرهفة جداً، تفاصيل غير متوقعة، تبلغ من حسن المساهمة فى كمال المجموعة أن الحالم لا يستطيع أن يبتكرها فى حالة اليقظة، ولو كان فنانا كبيرا، مثل “بوشكين”، أو “تورجنيف”.

إذن، فالحلم ليس خلطا عشوائيا، وإنما هو إبداع له ظروفه الخاصة، وسرعته الهائلة، كما أن احتمالات تشويهه وتسطيحه متعددة.

ويجرنا هذا إلى الحديث عن “لغة الحلم” التى اختلف حولها المفسرون والحالمونه جميعاً، ولكنهم اتفقوا بشكل أو بآخر، على أن ثمة لغة (متذكرين طوال الوقت أن اللغة غير الكلام، فاللغة بنية، والكلام بعض مظاهرها)، وقد كاد الاتفاق ينعقد على أن لغة الحلم هى لغة مصورة، لها نحوها وبلاغتها الخاصة، وأنه يمكن حل شفرتها من حيث المبدأ بجهد ما.

وهنا لابد أن تثار قضية خطيرة تماماً، وهى قضية إنكار حق “الصورة” فى المثول “هكذا” من حيث هى كيان دال قائم بذاته، قادر على التشكيل الحر حتى لو لم يفد ما اعتدنا أن نفهمه من اللغة الرمز واللغة الكلمات، فالحلم يتكلم بالصورة مباشرة، وهو بذلك لا يقلب التفكير إلى صور بقدر ما يستعمل الصور الحاضرة فى وعيه الخاص للتعبير، وعلينا – ما أمكن ذلك – أن نتلقى الحلم بلغته الخاصة، بدلا من أن نسارع فنترجمه إلى لغتنا السائدة فى اليقظة، ومن هذا المنطلق يمكن أن يتمدد وجودنا وتتعدد مستويات لغاتنا القادرة على التأليف المتصاعد بدلا من أن تظل لغة واحدة وصية طول الوقت على ما سواها (مرة أخرى: هذا من حيث المبدأ على الأقل).

وهكذا نحرر لغة الحلم من وصاية لغة اليقظة كما حررنا غايته من مجرد كونها إكمالاً لرغيات وغايات المستوى السائد فى اليقظة، فالحلم – كما ذكرنا حالا – لا يحدث “خصيصاً” لتحقيق رغبة، أو لتفريغ طاقة” فهو ظاهرة إيقاعية دورية حتمية ينبغى أن نحترم حدوثها لمجرد أنها صفة حيوية للكائن البشرى مثلما وظيفة اليقظة، ولا يوجد مبرر إذن أن نسارع بإسقاط تصوراتنا (وآمالنا) عليها حتى تـُـختزل إلى وجود باهت على هامش اليقظة.

وقد أثبتت تجارب الحرمان من الأحلام، أن الأحلام تؤدى وظائف صمام الأمن، والتفريغ، وإعادة تنغيم (هارمونية) المعلومات، كذلك يقوم الحلم بتعزيز التعلم بطريقته الخاصة، بمعنى تعزيز المادة المكتسبة لتُمثل فى طريقها إلى أن تصبح تحويرا فى التركيب. كل ذلك يحدث حتى لو لم يعرف الحالم أنه حلم أصلا وللحلم علاقة وثيقة بالجنون (الجنون بمعنى التناثر، والاغتراب، واللغة الخاصة، وضرب الزمن) فهو يتفق مع الجنون فى تجازوه وتكثيفه وتفكيكه وغلبة لغة الصورة وفجاجته كذلك، إلا أنه فى الجنون يحدث تنشيط الداخل هذا فى أثناء اليقظة وليس بالتبادل معها، فتقتحم مادة الداخل المنشطة فى وعيها الخاص، تقتحم وعى اليقظة اقتحاما غير متوازن ولا متبادل، فيحدث التشوش والخلط.

وأهم ما يعنينا هنا هو أن وجه الشبه بين الحلم والجنون يزداد كلما اقتربنا من بداية العمليتين: بداية الحلم، وبداية الجنون، أو بتعبير أدق، كلما اقتربنا من عمق المستوى الأول لنشاط كل منهما، أما الإبداع، فهو يشترك معهما فى البداية أيضاً (المستوى الأولى: التفكيك)، ولكنه يختلف مساره، ونتاجه، مع اختلافات نوع الوعى وتكامل مستوياته، واتساع المسئولية، واتجاه الغائية، وفعل الإرادة، وأخيراً الطبيعة الولافية للناتج وآثاره.

فإذا صحّ هذا الفرض الأساسى، وهو يزداد تحققا من خلال الممارسة الإكلينيكية والنقد الأدبى منذ نشر سنة 1985، (4) فإن المطروح – هذه الأيام – على الوعى البشرى من إغارة أدوات الوعى الغالب المحكمة يصبح خطراَ على الجنس البشرى إن هو اقتصر على أن يتمادى بلغة مستوى اليقظة دون سواها، أو بأدواتها (أدوات اليقظة دون سواها). لابد أن نضع فى الاعتبار تلك الثورة الإبداعية فى مجال الأدب خاصة والفن عامة (ربما اندرج تحت مسميات متنوعة مثل الحداثة وما بعد الحداثة والتفكيكية… إلخ) هذه الثورة الإبداعية على الرغم من شطحاتها وغموضها كانت صرخة مناسبة تحاول أن تذكرنا بالجانب الآخر (الأعمق) من وجودنا البشرى، وكأنها محاولة أن تعطى شرعية ما، لمستويات وجودنا الأخرى، وكأنها التقطت خطورة الاستسلام لأحادية القطب فى الكيان البشرى قبل إنذارات خطورة الاستسلام للنظام العالمى أحادى القطب على مستوى السياسة والاقتصاد.

ومع صعوبة الأمر وتحديات اللغة وخطورة الخلط بين إتاحة الفرصة لمستويات الوجود الأخرى للإسهام فى تنمية المعرفة وتكاملها ومن ثم: الإبداع فالنمو، فإن الأمر يستاهل أن نقف وقفة قد يكون فيها إنقاذ للبشرية من التسطح فالانقراض.

ولاشك أن المراجعات والحوار الجارى فى مجال الإبداع الفنى والأدبى فى هذه المنطقة، يواكبه حوار مواز جار فى مجال فلسفة العلوم ومراجعة المنهج، وما يتفتق عنه من تسخير التقنيات الأحدث لعلوم أقرب إلى كسر الاستقطاب أحادى البعد، وتجاوز السببية الحتمية، وذلك مثل علم الشواش والتركيبية Chasos & Compleyity Sciences والعلوم الكموية Quantum sciences، كل ذلك يعلن أن الإنسان فى كل مكان، ومجال، منتبه بشكل أو بآخر إلى ما “ليس كذلك” ما ليس قوة عمياء ساحقة لاغية لما لا يقع فى نطاقها أو يتكلم بلغتها، وما ليس حسابات سوق فوقية، وما ليس رفاهية محدودة المساحة.

نعم، إن الإنسان يقاوم بكل لغة فى كل مجال: وهو يواجه مخاطر كل ما هو “كذلك” بالسعى المستمر لاستلهام كل ما “ليس كذلك” بالسعى الدؤوب فيما وراء السطح الطافى.

وهنا لابد من وقفة تحذير من أن يُختزل هذا المدخل الذى يحاول توظيف (وعى) الحلم فى المعرفة، ومن ثم فى الإبداع، ومن ثم فى صياغة المستقبل، أن يختزل كل ذلك إلى التفسير خاصة بلغة التحليل النفسى التى أدت – بكل إخلاص وعمق للأسف إلى التأكيد المستمر على ترجمة لغة هذا العملاق الغائر إلى السطح الرمزى ترجمتها إلى لغة اليقظة بدلا من تعميق استقلاليتها ثم البحث عن توليف محتمل واعد.

خلاصة القول فى هذه العجالة تؤكد:

إن الحلم – بكل وعوده وغموضه – هو حق الإنسان المعاصر الذى لا يكتمل إلا به.

وإن إنسانا لا يحلم، ولا يستلهم أحلامه (درى بها أم لم يدْر) لابد أن يقع فريسة وصاية خارجه، وأيضاً وصاية من خارجه.

وإذا كانت التجارب الفسيولوجية الأكيدة قد أثبتت بما ليس فيه مجال للشك أن الجنون والتناثر هما النتاج المباشر للحرمان من الحلم، فإن حرمان الإنسان المعاصر من حق الحلم وحق إسهام حلمه – المتجاوز للتقنيات الوصية – فى صياغة مستقبلة، لابد أن تؤدى إلى نفس المآل على مستوى الجنس البشرى، وكأنه حرمان من حرية أعمق وأهم.

وفى يقينى أن أخطر المضاعفات التى لحقت بالجنس البشرى مثل انهيار الاتحاد السوفيتى وأوربا الشرقية لم تكن فى اختفاء توازن القوى، ولا فى إعطاء الشرعية لاحتكار نظام اقتصادى واحد مشكوك فى علاقته بإنسانية الإنسان، وإنما كانت فى حرمان الناس من حلم العدل والحرية، فمهما كان الحال داخل تلك المعسكرات المنهارة من حرمان حقيقى من عمق العدل والحرية، فإنها كانت تمثل بشكل ما – حلم مَنْ هو خارجها، وهذا وحده كان كافيا للحفاظ على الأمل فى تطور أرقى ووجود أعمق.

وأحسب أن تاريخ ظهور اليوتوبيات الواحدة تلو الأخرى منذ جمهورية أفلاطون ويوتوبيا إسبرطة حتى الاتحاد السوفيتى وإعلانات الجماهيرية الليبية ليس إلا تأكيد لحق الإنسان فى الحلم وحاجته إليه.

وأخيرا فإننى سوف أختم هذا الحديث الموجز بالتنبيه على أننى تجنبت عمدا أن أعرج إلى ما يسمى “أحلام اليقظة”، لأننى كنت أعنى غير ما شاع عند الناس مرتبطا بهذا المصطلح (أحلام اليقظة)، فالحلم الذى أدافع عن حق الإنسان فى الاحتفاظ به، واستلهامه، والتكامل من خلاله هو الحلم الإبداع، الحلم الوعى الآخر، والحلم الحرية البديلة، أما أحلام اليقظة، فهى نشاط اليقظة المسلسل بالرموز والمفاهيم الخاصة بوعى اليقظة حتى لو أدرج معها ما يسمى الخيال العلمى.

إن المسألة جد لا هزل، وحق الإنسان فى استثمار مستويات وعيه الأخرى ليس قاصرا على مجال الإبداع الحديث والقديم على حد سواء… حيث يمثل الحلم إبداع الشخص العادى، وحيث يظل نشاط الحلم جزءاً لا يتجزأ من وجوده البشرى المتكامل، وأكاد أختم هذا المقال بصرخة فرحة تقول: افعلوا بنا ماشئتم، بكل ما تتصورون: لكنكم لن تستطيعوا – بغير استسلامنا – أن تغيروا على حقنا فى الحلم بكل ما تعنية الكلمة من معان.

أما ماذا علينا بعد الوعى بروعة وضرورة ممارسة هذا الحق – حق الحلم – وهو مازال فاعلا فى المناطق الآمنة من النوم، بعيداً عن الإغارة الملاحقة لأدوات اليقظة، فهو أمر يعتمد على كل الجهود المبذولة فى كل المجالات للحفاظ على إنجازات الكائن البشرى متكاملة متبادلة متجادلة، وهذا هو التحدى الملقى على كل فرد بشرى معاصر.

 

[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019)  ‏‏‏وصورته الأولى كانت  مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو  1997 إلى يوليو  2006 + 1) والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط

[2] – مجلة سطور: (عدد  أبريل – 1999)

[3] – فيودور دوستويفسكى،  الجريمة والعقاب 1 ـ المجلد8، “الجريمة والعقاب” هى الرواية الثانية التى كتبها دوستويفسكى فى آن واحد مع رواية المقامر، عام 1866.

[4] –  يحيى الرخاوى: “الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏ونبض‏ ‏الإبداع ” مجلة فصول – المجلد الخامس-العدد الثانى- 1985.

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *