نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 10-11-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4454
كتاب: الطب النفسى
بين الأيديولوجيا والتطور (1) (الحلقة 9)
الفصل الرابع: تشكيلات من الطب النفسى السلبى
(والطب النفسى الإيجابى: ما أمكن ذلك!)
مقدمة:
نشرنا فى الأسبوعين الماضيين أحدى عشر من أنواع من الطب النفسى، وبصراحة لم ندمغ أيا منها بأنها سلبية بشكل مباشر، برغم تلميحاتنا بقصورها.
واليوم ننشر مناقشة بعض مواصفات الطبنفسى الإيجابى
مناقشة بعض مواصفات الطبنفسى الإيجابى
أولا: يعرف الطب النفسى الإيجابى تقليديا، ويمارس على أنه فرع من الطب يركز على التشخيص والعلاج للأمراض النفسية، بناء على تنامى الأدلة من الممارسة الكلينيكية، وكما يزعم هذا الطب النفسى الإيجابى، فإن هذا التعريف يحتاج إلى توسيع الخلفية الثقافية حتى نفهم ونحقق الحياة السوية الجيدة للبشر من خلال الدعم والتداخل الهادف لتنمية العافية السلوكية والعقلية.
المناقشة:
الطب النفسى هو أحد فروع الطب، لا أكثر ولا أقل، وبالتالى فإن مهمته المباشرة هى تشخيص علاج الأمراض الخاصة به، أما فهم ودعم الحياة السوية الجيدة لتنمية العافية، فهذه مهمة التربية والسياسة والمجتمع الصحى ثم الطب الوقائى الذى يقع جزء منه فقط فى مجال الطب النفسى فعلا.
المفروض أن النقد الذى يوجَّه للطب التقليدى كما ورد فى هذا التعريف يقتصر على التنبيه على الكف عن المبالغة فى التركيز على التشخيص على حساب التخطيط العلاجى الأشمل، وألا يقتصر العلاج على الإسراع بالتداوى لإزالة الأعراض دون أن يضع بقدر كاف احتمال إتاحة الفرصة (وليس فرضها) لإطلاق قدرات النمو، أما أن تزاح المهمة الأساسية هكذا ليحل محلها ما ليس طبا، فعذرا.
ثانيا: (تعريف آخر) يمكن تعريف الطب النفسى الإيجابى أنه علم وممارسة الطب النفسى الذى يسعى لفهم ودعم العافية شاملا السمات النفسية الإيجابية فى الذين يعانون من المرض أو يكونون مستهدفين لخطر أن يصابوا بمرض عقلى أو جسدى، وهكذا يمكن أن يعود ذلك بالفائدة على الأسوياء الذين لم يلجأوا بعد للاستشارة الطبية.
المناقشة:
مرة أخرى نلاحظ تجاوز العلاج والمداواة والمواساة (وهو التعريف الأصلى لما هو طب) إلى دعم العافية والسمات الإيجابية، طبعا هذه مهمة رائعة، لكنها مرحلة لاحقة لمن شاء من “المرضى” واستطاع أن يواصل رحلة النمو من خلال ما أتاحته له فرصة المرض، أو هى مرحلة سابقة (وقائية) لمن لم يمرض أصلاً، ولكنها ليست حرفة التطبيب الأساسية.
إن الاهتمام بالأسوياء ابتداء فى المقام الأول إنما يخرجنا عن دائرة المهنة والتعاقد المتعدد المراحل بين الطبيب والمريض على مسار العلاج، ثم العمل على منع النكسة ما أمكن ذلك، ثم يضاف التأهيل للوقاية، بهذا الترتيب.
ثالثا: إن الطب النفسى الإيجابى مثل الطب التقليدى يركز على البحث عن أسباب الأمراض العقلية، لنتمكن من إعطاء العلاج الناجع والإقلال من مصاحبات المرض من معاناة أو إعاقة
المناقشة:
طبعا يركز ونصف، هذه هى مهمة أى طب خاصة إذا كان السبب قائما وكافيا وحاضرا، وخاصة إذا كان سببا مُدِيما Perpetuating أى أنه عامل فى استدامة المرض، إذا كان السبب كذلك: فلابد من إزالته أولا، أما إذا كان السبب ماضيا وحكْياً وتثبيتا فالتقليل من الاهتمام بالأسباب بالصورة التبريرية التى شاعت هو شىء جيد، ذلك لأن المبالغة فى التركيز على الأسباب سواء من منطلق تحليلى أو تفريغ ذكرياتى قد راح يروِّج له التحليل النفسى (السطحى) ووسائل الإعلام والمسلسلات والعامة حتى أصبح معوِّقا لا مساعدا، ومؤخرا فإن الطب النفسى وخاصة العلاج الجمعى وعلاج الوسط أصبح يركز أكثر فأكثر على “هنا والآن” وحلت – كما ذكرنا– “إذن ماذا” بدلا من “لماذا”.
نعم لابد من البدء بتخفيف المعاناة وإزالة الإعاقة، ثم حسب ما وصل المريض بعد ذلك، وحسب خبرة المعالج وظروف المجتمع المحيط الواقعية يبدأ التأهيل من “الآن” لتدعيم الإيجابيات.
رابعا: ويؤكد الطب النفسى الإيجابى على مساندته لتعريف الصحة النفسية الإيجابية كما أوردته منظمة الصحة العالمية وأنها ليست مجرد ما ليس مرضا أو وَهـْنا، ولكنها حالة من تمام الصلاحية (الرفاه) الجسدية والنفسية (العقلية) والاجتماعية.
المناقشة:
(لاحظ كلمة “تمام”) هذا التعريف للصحة النفسية هو تعريف على العين والرأس، لكن علاقته المباشرة بالتطبيب ينبغى أن تتم بخطوات عملية متدرجة مختارة، ولا ينبغى الخلط بين تعريف الصحة وبين تعريف مهنة الطب عامة التى لها قواعدها وأصولها.
ثم نلاحظ أيضا حكاية “تمام” الصحة العقلية والاجتماعية Complete، وهل يوجد شىء فى الحياة الواقعية مع كل هذه الاختلافات الثقافية والاختلافات الفردية اسمه “تمام”، إن هذا يتجاوز ويهمل النظر إلى الكائن البشرى ككيان دائم النمو والتطور والمحاولة والخطأ والإبداع، وأن مسيرته دائما ناقصة، بما فى ذلك تطور مستويات صحته مع كل أزمة نمو، إن الاعتراف بهذا النقص هو من أهم محركات الإنسان نحو المراحل الأرقى فالأرقى من مستويات الصحة (كما أشرت فى فرضى الباكر) (2) .
خامسا: يؤكد هذا الطب النفسى الإيجابى على السمات التى ينبغى أن تتوافر حتى يستحق الشخص أن يكون صحيحا ويضمها تحت هذا المسمى ويسميها “السمات النفسية الإيجابية” وهى (حسب المقتطف):
المرونة، والاهتمام، والروحانية، والتدين، والحكمة (التى تتضمن التعاطف: والمواجدة) (3) والتفاؤل، والشجاعة، وأخلاقيات العمل، والتوجه العقلى المستقبلى، ومهارات التواصل البيننشخصى، والقدرة على الفرح، والبصيرة، والمسئولية الاجتماعية.
المناقشة:
حاضر حاضر: هل هذا طب أم هى شروط التقدم لوظيفة فى مسرحية “السكرتير الفنى” أم أنها المواصفات التى يستحيل ان يدعيها المرشح لمجلس الشعب!
عذرا
لكنها فعلا مواصفات أدعو الله أن أستطيع التمتع بما تيسر لى من نصيب منها قبل أن ألقاه سبحانه وتعالى ليغفر لى ما لم أستطع تحقيقه.
الخلاصة:
بعد مناقشة هذه المقتطفات المحدودة عن الطب النفسى الإيجابى هناك ملاحظات عامة كنت قد أشرت إليها فى البداية وأود أن أؤكد عليها مرة ثانية:
– هذا التوصيف هو توصيف عام لا يضع فى الاعتبار النقلات والتطور الدائم
– وهو توصيف عام لا يضع فى الاعتبار اختلاف الثقافات
– وهو توصيف جامع لا يعمل حساب الفروق الفردية ولا حتى الفروق فى مراحل المرض وأنواع الأمراض.
– وأخيرا فهو توصيف “جاهز” لم يعط الاهتمام الكافى لحركية الإبداع على مسار الفرد بكل مستويات نموه وتطوره.
لكل ذلك، وبرغم الحماس، فيستحسن النظر إليه نقدا بهذه الصورة أولاً.
……….
ونكمل الأسبوع القادم: الفصل الخامس: “الطبنفسى التطورى”
[1] – يحيى الرخاوى: “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2]- مستويات الصحة النفسية على مسار التطور الفرضى.
– يحيى الرخاوى: (“مستويات الصحة النفسية” من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة) منشورات جمعية الطبنفسى التطورى الطبعة الأولى 2017 .
[3]- المواجدة هى الكلمة التى اقترحها الابن د. إيهاب الخراط ترجمة لكلمة Empathy وتميزاً لها عن كلمة Sympathy التى تعنى الشفقة وليس بالضرورة التقمص والمشاركة اللتين يميزان “المواجدة”